المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 24.doc

المبحث الثالث في سلطات الدولة وتركيبة نظام الحكم

وفيه تمهيدان وفصول:

- التمهيد الأول: في سند السلطة شرعاً قد عرفت في المبحث الأول حاجة البشرية إلى سلطة ودولة تقيم العدل فيهم وتوصلهم إلى السعادات المادية والمعنوية كما عرفت سند السلطة عقلاً وعقلائياً.

وأما شرعاً فإن النصوص المتضافرة من الآيات والروايات دالة على لزومها والحاجة إليها بحسب الأمر الشرعي أيضاً والأدلة على ذلك كثيرة:

منها قوله سبحانه وتعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) وإطلاق المعروف في الآية يشمل كل ما يستحسنه العقل ويأمر به الشرع بقرينة المقابلة مع المنكر فهو واسع المعنى والمضمون ومصاديقه كثيرة. ومن مصاديقه ما يرتبط بالشؤون العامة للأمة من إقامة الدولة ونظام الحكم بل إقامة الدولة ونظام الحكم من أجلى هذه المصاديق لأهميتها وخطورتها فيشمل المعروف إذاً أمور:

أحدها:إقامة النظام.

ثانيها: بسط العدل.

ثالثها: الأمن الاجتماعي.

والخير في الآية إن قيل بأن المنصرف منه عرفاً المال والنعم المادية الظاهرة فيدل على الرفاه المادي وهو من أهم أهداف الدول وإن قيل بالإطلاق وتمسك بالأعم منه فيشمل حتى مثل العلاقات الإنسانية العامة وحينئذ دلالته على المطلوب أدل.

والمنكر كذلك فيشمل بقرينة المقابلة أيضاً ما استنكره العقل والشرع من قبيل الفوضى واختلال النظام والظلم والعدوان والفساد وهذه في مجموعها تتضمن أهداف الدولة ومبرر وجودها إذ لا يمكن للمجتمع أن يقوم بها جميعاً ولا فرادى فلا بد من انتداب جماعة يتولون هذه المهمة نيابة عن الأمة فتتسم هذه الجماعة بسمتين:

- الأولى: أن يكون لها المؤهلات الذاتية من الخبروية والكفاءة والعلم ونحوها بداهة توقف الأمر والنهي على معرفة الموضوع لأن الحكم لا ينطبق ما لم يتحقق موضوعه كما هو واضح.

- الثاني: النيابة عن الآخرين في ممارسة هذا الأمر وتطبيقه في المجتمع وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بلسان الإنشاء ولتكن منكم أمة أي جماعة أو هيئة أو حكومة أو جهاز حاكم ما شئت فعبر ومن الواضح أن اقتصار الشارع في بيانه على الأصل وبيان الهدف المطلوب واكتفاءه به عن بيان الوسائل والآليات أنه أوكله إلى العرف والعقلاء لما حقق في الأصول من أن طرق الطاعة عقلائية كما أنه مقتضى الحكمة ودلالة الاقتضاء صيانة لكلام الحكيم عن اللغوية وعليه فالجملة الإنشائية مضافاً إلى الأمر والنهي تدل على الوجوب فيجب على الأمة القيام بهذا الغرض وجوباً كفائياً فلو بادر إلى ذلك جماعة ممن لهم الأهلية والكفاءة سقط عن الباقين وفي صورة عدم التصدي أو عدم كفاية المتصدين أو عدم كفاءتهم أو في صورة الاختلاف أو في صورة التصدي الفائض فإنه لا يبقى إلا طريق الانتخاب محققاً لهذا الغرض فحينئذ يجب وعليه ستمتلك هذه الهيئة سلطة الأمر والنهي وإصدار القرار بحسب النص الشرعي ورضا الناس لكن حيث أن تحقيق هذا الغرض لا يتم إلا إذا لازمته الطاعة والالتزام وإلا انتقض الغرض ولزم الفساد والمنكر الذي أمر الشارع برفعه وانسحب المعروف الذي أمر الشارع به فهو يستلزم مخالفة الحكمة أيضاً ولغوية الأمر والنهي ودفع هذا المحذور يستلزم الحكم بوجوب التصدي للانتخاب من قبل الأمة أيضاً كما يحكم العقل بوجوب الطاعة أيضاً دفعاً لهذه المحاذير وأيد ذلك الشارع في مثل قوله تبارك وتعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) بناءً على أن تفسير أولي الأمر في الأئمة (عليهم السلام) من باب بيان أفضل المصاديق وأجلاها لا من باب الحصر ولذا قالوا بأن الأوامر في مثل هذه الآية إرشادية لا مولوية لأنها مؤيدة أو كاشفة لحكم العقل بوجوب الطاعة وبهذا النص يكتمل وجود السلطة إذ لا معنى لوجود هيئة لها الحق في الأمر والنهي دون أن يكون لها حق الطاعة.

فالطاعة إذاً هي الحلقة المكملة لحلقة الأمة وبهما تكتمل عملية السلطة إذ هناك جهة تصدر الأوامر والنواهي وجهة أخرى تلتزم وتطيع وتنفذ وإذا ما دققنا قليلاً في الآية الشريفة لوجدنا أن مشروعية الطاعة متأتية من أنها طاعة لله أولاً فالآية تقرر كما عرفنا سلفا أن طاعة الله عز وجل أصل كما أن طاعة الرسول أصل وطاعة الإمام المعصوم أصل.

أما طاعة أولي الأمر بناء على شمولها إلى غير المعصوم فهي طاعة تابعة للأصول الثلاثة فالله والرسول والإمام بما لهم من ولاية يجب إطاعتهم والتسليم لهم أما أولوا الأمر فطاعتهم متوقفة على اطلاق الأدلة في المؤهلات والاختيار عليهم وبهذا النص يصبح لمقررات السلطة المنتخبة من قبل الأمة قوة إلزامية على مستوى الأمة وبذلك تكتمل مكملات السلطة العامة فالأمة تمارس سلطاتها من خلال الخلافة فتنتخب الهيئة التي تقوم بما لا تستطيع بمجموعها القيام به من أمور الدولة ونظام الحكم وتمارس هذه الهيئة سلطاتها على الناس بحسب القوانين والشريعة التي أسسها الباري عز وجل وحكم العقل بلزوم إطاعتها ومن الواضح أن السلطة حتى تحقق أهدافها لا بد وأن تستوعب شؤون البشر وتسد حاجاتهم دفعاً لنقض الغرض فكان لا بد من شمولها لمختلف الحاجات البشرية وحيث أن أهم الحاجات البشرية ثلاثة هي:

أولاً: القانون المنظم.

ثانياً: القوة المنفذة.

ثالثاً: القوة الحاكمة في رفع التنازع والتخاصم.

ولولا هذه الثلاثة لا يقوم أمن في المجتمع ولا يقام نظام من هنا كان لا بد للسلطة العامة أن تصنف إلى ثلاث سلطات:

- الأولى: هي سلطة لها الحق في إصدار الأوامر العامة التي يخضع لها المجتمع جميعاً فلها حق التقنين للنظام وهي ما يصطلح عليها بالسلطة التشريعية وإن كان لنا تأمل في هذا التعبير.

- الثانية: السلطة التي تنفذ هذه الأوامر والقرارات.

- الثالثة: السلطة التي تتخصص في فصل المنازعات وهي سلطة القضاء.

- التمهيد الثاني: عرفت ما تقدم أن السلطة المعصومة كسلطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسلطة الإمام المعصوم (عليه الصلاة والسلام) لا تخضع لانتخاب لتقدم النص الإلهي على رأي الأمة وتنصيبها فالولاية المعصومة وطاعتها مضافاً إلى كونها منصب إلهي فهي حكم إلهي أيضاً ولا خيار للمكلف في الأحكام الشرعية بل عليه التعبد والالتزام بل القول بالخيار في العصمة يستلزم الاجتهاد مقابل النص فضلاً عن مساواة الداني بالعالي والراجح بالمرجوح وهما قبيحان عقلاً وحرام شرعاً نعم للأمة إظهار الرضا والتسليم والانقياد بواسطة البيعة للمعصوم التي جرت عليه سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجملة ولذا لا يجب في غير المعصوم البيعة نعم يستحب تأسياً واقتداءً أو رجاء للمطلوبية على ما ستعرفه في الفصول القادمة وعليه فالنص مقدم على الانتخاب رتبة كما أنه مقدم على البيعة إذ لا اجتهاد في مقابل النص فعليه فإنه لا انتخاب في الأسمة وإنما الانتخاب يقال في غير المعصوم على ما ستعرف تفصيله.

- الفصل الأول: في شرعية الحاكم في زمن غيبة الإمام المعصوم:

وتنبع شرعية الحاكم ونظام الحكم من أمرين:

- الأول: ولاية الفقيه الجامع للشرائط.

- الثاني: رضا الأمة.

وقد تقدم الكلام مفصلاً في الشرط الأول في المبحث الثاني.

- وأما الشرط الثاني: فلا إشكال في لزوم تحصيل رضا الأمة في شرعية أي نظام حاكم بداهة ملازمة السلطة للتصرف في شؤون الناس المالية والنفسية نحوها والأصل الأصيل فيه هو عدم الجواز كما هو مقتضى قانون السلطنة والأدلة الخاصة المانعة من التصرف في شؤون الغير إلا بطيب أنفسهم وغيرها من الأدلة التي تعرضنا إلى بعضها في المبحث الأول. وقامت عليه سيرة العقلاء وهذا مما لا كلام فيه وإنما الكلام في طرق إحراز رضا الأمة والمعروف المشهور في ذلك طريقان:

- الطريق الأول: هو الانتخاب وهو اختيار مشهور فقهاء الشيعة من المسلمين.

- الثاني: البيعة وهو اختيار مشهور العامة بل ولعله المجمع عليه بينهم.

وتفصيل الكلام في ذلك يستدعي التعرض إلى الانتخاب وأدلته الشرعية والعقلية وكذا البيعة والنظر في قوة أدلة كل من الطرفين أما الانتخاب فيمكن الاستدلال على لابديته في إعطاء شرعية الحاكم ونظام الحكم بأمور:

- الأمر الأول: حكومة العقل ويمكن بيانها من جهات ثلاثة:

- الأولى: استقلال العقل بقبح الفوضى والهرج والفتنة ووجوب إقامة النظام وحفظ المصالح العامة وبسط المعروف ورفع الظلم والفساد والدفاع عن المجتمع في قبال الهجمات والاعتداءات والمخاطر التي تداهم الأمة ولا يحصل ذلك كله إلا تحت ظل دولة صالحة عادلة نافذة ذات شوكة وقدرة قائمة وتمتلك سيادتها وسلطتها إذ لا يمكن لكل أحد أن يضمن ذلك أو يقوم بمهامه كما لا يمكن أن يقوموا بها متفرقين لأنه نقض للغرض ومستلزم للخبث فلا بد وأن يقوموا به متحدين ومتوحدين في هيئة أو جماعة ينتخبونها ويفوضون لها ذلك وليس ذلك إلا الدولة وأفضل سبيل إلى ذلك هو الانتخاب والاختيار بداهة أن توحيد الآراء وإجماعهم ضراً على رأي واحد مستحيل عادة خصوصاً مع اختلاف الأنظار وتعدد الأذواق والمشارب وترجيح بعضهم على بعض من غير مرجح وعدم الترجيح مستلزم المحذور المتقدم فلم يبقى إلا الانتخاب والترجيح بواسطة الأكثرية للابدية العقلية منه ويمكن حينئذ إثبات ذلك شرعاً أيضاً بواسطة قاعدة الملازمة التي مفادها كل ما حكم به العقل حكم به الشرع أيضاً لكونه من المستقلات العقلية والحكم العقلي هنا في سلسلة العلل للأحكام الشرعية فيتبعه الشرع أيضاً.

- الثانية: الضرورة الاجتماعية بداهة أنه لا بد للناس من دولة وحكومة والدولة لا تخلو من أن توجد بالنصب من قبل الله تعالى مالك الملوك أو من رسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من أولياؤه وحججه(عليهم السلام) وهم الأئمة المعصومون أو تكون بقهر قاهر على الأمة بالظلم والاستبداد أو بتكون بالانتخاب من قبل الأمة وبرضاها فإن تحققت الدولة والحكومة بالنصب الإلهي فلا كلام لما قدمناه وبيناه من تقدم النص على الانتخاب ولكن المفروض في الإمام عدمه لأن الكلام في زمان الغيبة لا في زمان النص وعليه يبقى عندنا خياران أحدهما أن نقول بوجود الدولة التي تستولي على الناس بالظلم والجور وهذا يحكم العقل بقبحه ويتنزه عنه الحكيم في إعطاءه الشرعية فيتعين الخيار الثالث وهو انتخاب الدولة والسلطة من قبل الأمة وهو المطلوب ولأجل ذلك استمرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار والظروف على الاهتمام بذلك وتعيين الولاة والحكام بانتخاب ما هو الأصلح والأليق وبنظرهم وإظهار التسلم والإطاعة له بمختلف وسائل الارتضاء والاختيار ولن تخلو حياة البشر حتى في الغابات وفي العصور الحجرية أيضاً من جماعة أو رئيس ما يحقق كيانهم ويدافع عن مصالحهم ولعل مما يعضد ذلك طائفة من الآيات والروايات:

منها قوله سبحانه وتعالى: (فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) فإن الآية كاشفة عن محبوبية اتباع الأحسن والأفضل وممدوحيته ومن مصاديقه هو الانتخاب الحر وكذلك قوله وأمر قومك يأخذوا بأحسنها وفي الرواية الشريفة إذا رأيت الناس يأخذون بالحسن فخذ بالأحسن وغيرها مما تشير إلى ذلك تضمناً أو التزاماً.

- الجهة الثالثة: شرعية عقلية مستفادة من فحوى قاعدة السلطنة فإن العقل والوجدان يشهدان على تسلط الناس على الأموال التي حازوها أو أنتجوها بنشاطاتهم وأعمالهم واستمرت سيرة العقلاء على التزامهم بذلك في حياتهم ومعاملاتهم فيحكمون بحرمة التعدي على مال الغير ويعدونه ظلم وقد حكم بذلك الشرع أيضاً حتى صار هذا من مسلمات فقه الفريقين يتمسكون بها في الأبواب المختلفة وروى العلامة المجلسي (رضوان الله عليه) في كتاب البحار عن عوالي اللئالي عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال أن الناس مسلطون على أموالهم وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) إن لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حياً الكاشف على أنه مسلط على المال فلا يجوز لغيره أن يتصرف به إلا برضاه إلى غير ذلك من الروايات التي يستفاد منها هذه القاعدة الشاملة.

وعليه فإنه إذا قلنا بأن الناس مسلطون على أموالهم بحيث يكون لهم التصرف فيها إلا ما حرمه الله عز وجل وليس لغيرهم أن يتصرفوا في مال الغير إلا بإذنه فهم بطريق أولى مسلطون على أنفسهم وذواتهم فإن السلطة على الذات قبل السلطة على المال بحسب الرتبة بل هي العلة والملاك لها حيث أن مال الإنسان محصول عمله وعمله نتيجة فكره وقواه فهو بملكه لذاته وفكره وقواه تكويناً يملك أمواله المنتجة منها أيضاً لأن الله تعالى خلق الإنسان مسلطاً على ذاته حراً مختاراً فليس لأحد أن يحدد حريات الأفراد أو يتصرف في شؤونهم بغير إذنهم فضلاً عن ملازمة السلطة للتصرف في أموال الإنسان أيضاً في مجالات الاقتصاد والعمل والتجارة والزراعة ونحوها فعليه للأفراد أن ينتخبوا الفرد الأصلح ويولوه على أنفسهم بل يجب ذلك بعدما حكم العقل بأن المجتمع لا بد له من نظام وحكم وأنهما من ضروريات حياة البشر ولا يخفى أن توافق أنظار المجتمع وتعاضدها في تشخيص لياقة الشخص وكفايته يوجب كون الشخص اقرب إلى الواقع وأوقع في النفوس وأشد بعثاً على الإطاعة والخضوع وانتظام أمر الأمة نعم مع وجود الإمام المنصوص عليه كما هو الحق في مذهب الشيعة الإمامية فلا مجال للانتخاب كما أن شارع الإسلام بعدما شرع في الوالي شروطاً خاصة يجب أن يكون الانتخاب في إطارها ومع رعايتها إذ لا يصح انتخاب الفاقد للشروط والمؤهلات على ما ستعرفه.

فتحصل مما ذكرناه إذاً أن هناك جهات ثلاثة تدل على لزوم الانتخاب وأن شرعية الحاكم ونظام الحكم في زمن الغيبة يرجع إلى رضا الأمة المتقرر بالانتخاب وهناك أدلة أخرى نتعرض إليها في البحث القادم إن شاء الله تعالى.

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى أله بيته الطيبين الطاهرين..