المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 20.doc

كان الكلام في البحث المتقدم حول الفوائد التي توجب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف باليد والقوة وقد ذكرنا جملة من الأجوبة عن الإشكال في ذلك بقي جواباً رابعاً وحاصله أن إجبار فاعل المنكر عن الارتداع هو لطف بالنسبة إلى غيرهم ممن يعيش في المجتمع فإن نشر آثار الفساد وإشاعة الفحشاء مضافاً إلى أضراره الكبيرة التي يسببها في الغير فإنه يوجب تغيير النفوس نحوه خصوصاً عند أصحاب النفوس الضعيفة بل قد يكون لطفاً أيضاً في حق فاعله في الوقائع المستقبلة وإن هو إلا كإجراء الحدود والتعزيرات التي لا يمكن إنكار تأثيرها في تربية النفوس ولهذا قامت الحياة البشرية على جملة من القوانين الرادعة للتهذيب والتأديب وقطع سبيل الفساد نعم ينبغي مراعاة الأهم في أسلوب الردع وحجمه وكيفيته في البين وإطلاقات الآيات والروايات منصرفة إليه كإطلاق كلماتهم وعليه فلا يجوز الضرب والجرح أو الكسر والقتل في كل مورد من موارد ترك المعروف وفعل المنكر بل لا بد من ملاحظة الأهم والمهم ومن هنا يظهر الحال وأنه يجب أن يراعى الأيسر فالأيسر فما دامت المواعظ الحسنة مؤثرة لا يجوز الإنكار بالكلمات الخشنة وما فيه هتك وتحقير وإيذاء وما دامت هذه الأخرى مؤثرة لا تصل النوبة إلى الضرب وقد يكون الضرب أهون من بعض الكلمات الخشنة وهكذا الحال في الإقدام على الجرح أو الكسر أو القتل ويتفاوت ذلك في جميع ذلك بحسب الأشخاص والمقامات والظروف والأحوال والشرائط المحاطة بالقضايا إذ أن الأمر والنهي لا يخضع إلى ضابطة واحدة في كل القضايا وإنما تلحظ الأمور بظروفها والدليل عليه ما عرفت من التزاحم بين أدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأدلة حرمة الإيذاء والضرر وما أشبه واللازم الأخذ بالأهم وكذا بالأيسر ثم الأيسر كما هو مقتضى سيرة العقلاء مضافاً إلى ما يظهر من الآية الشريفة في قتال طائفتين من المؤمنين فقد قال عز وجل: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) فقد ذكر فيها الإصلاح أولاً ثم الاقتتال إذا لم ينفع الإصلاح وكذا ما يظهر من بعض الروايات السابقة الظاهرة في الترتب نعم لا إشكال في أنه يشترط في إجراء ذلك إذن الإمام كما هو المحكي عن نهاية الشيخ أن الأمر بالمعروف باليد بمعنى حمل الناس عليه أما القتل والضرب من الجراحات فهو لا يجوز إلا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرئاسة العامة فالمراد باليد في الأخبار هو الجري العملي على المعروف ليتأسى به الناس هذا وقد يقال إن الضرب جائز ولكن الجرح أو القتل لا يجوز إلا بإذن الإمام كما عن الفخر والشهيد والمحقق الثاني والفاضل المقداد بل في المسالك أنه الأشهر بين الأصحاب وهناك أقوال أخرى قد تصل في مجموعها إلى خمسة لا يسعنا المجال لبيانها وقد ذكرها الفقهاء تفصيلاً في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والظاهر أن القول بعدم جواز شيء من الضرب الجرح و الكسر فضلاً عن القتل إلا بإذن الإمام(عليه السلام) هو الأقوى بما يترتب في إجازة ذلك إلى أحد الناس من دون إذن الإمام من المفاسد العظيمة التي قد يوجب اختلال النظام والهرج والمرج لا سيما إذا كان فيهم جهال لا يقفون على شيء ولا يدرون مواقع الأمور ومقاديرها إذ الجاهل إما مفرط أو مفرط فإعطاء هذه الأمور بأيديهم يستلزم الوقوع في الضرر الأكثر فيستلزم نقض الغرض وقد ورد في الرواية الشريفة كان ما يفسده أكثر مما يصلحه بل قد يكون دخالة أحد الناس في ذلك سبباً لإعمال البغضاء والشحناء عن هذا الطريق فيستلزم الحكم الشرعي والالتزام به حرجاً وضرراً شديداً على الناس وهذا تناقض صريح لا يصح نسبته على الشارع كما أن ذلك يفتح الباب واسعاً إلى التطرق إلى المقاصد السيئة تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خصوصاً عند بعض الناس الذين يستفيدون من مثل هذه الفرص كما لا يخفى على من له تدريب على هذه الأمور فلا بد إذاً في جميع ذلك من الاستئذان من ولي الأمر وهذا هو مقتضى سيرة العلماء لكونه من الأمور التي تقف على إذن الحاكم في جميع المجتمعات البشرية فإذا أذن الشارع المقدس في شيء منها انصرف إليه أيضاً وذلك لأن طرق الطاعة والمعصية عقلائية وما نحن فيه ربما يكون من هذا القبيل فلا إطلاق في الآيات والروايات بعد وجود هذه القرينة الواضحة الظاهرة خصوصاً مع ملاحظة العناوين الثانوية فهو نظير إجراء الحدود والتعزيرات فقد عرفت أنه لا ينبغي الشك في كونها من وظيفة الحاكم الشرعي بل إجراءها من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما لا يخفى على المتأمل فقد ظهر من جميع ذلك أن الأظهر بحسب القرائن العقلية والنقلية عدم جواز شيء من هذه المراتب الأخيرة بغير إذن الإمام (عليه السلام) أو نائبه الخاص أو العام.

وهذا ما صرح به طائفة من الفقهاء قال العلامة في المختلف حاكياً عن سلال بن عبد العزيز أما القتل والجرح في الإنكار فإلى السلطان ومن يأمره فإن تعذر الأمر لمانع فقد فوضوا (عليه السلام) إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدوا واجباً ولا يتجاوزوا أحداً وأمر عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك ما استقاموا على الطريقة ثم قال العلامة (قدس سره) والأقرب عندي جواز ذلك للفقهاء ثم استدل بأن تعطيل الحدود يؤدي الى نشر الفساد وارتكاب المحارم وبما رواه عمر بن حنظلة وغير ذلك من الأحاديث الشاملة لإقامة الحدود وغيرها.

والظاهر أنهم ينظرون إلى إقامة الحدود كأحد مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال صاحب لجواهر (رضوان الله عليه) في جواز الأمر بالمعروف والنهي إلى المنكر إذا أدى إلى جرح أو قتل لنائب الغيبة مع فرض حصول شرائطه أجمع التي منها عدم الضرر والفتنة والفساد قال لعموم ولايته عنهم قوة خصوصاً مع القول بجواز إقامة الحدود له وإن كان ذلك فرض نادر بل معدوم في مثل هذا الزمان ولعل هذا ما يظهر من كلمات جملة من الفقهاء المعاصرين أيضاً كالسيد الشيرازي (قدس سره الشريف) في غير موضع من الفقه وهو متين لما عرفته من أدلة ولايته وعمومها الدالة على جواز إجراء الحدود له الشاملة لما نحن بصدده بطريق أولى هذا ولا يخفى إن المراد بالجواز في جميع هذه المقامات هو الجواز بالمعنى الأعم الشامل للوجوب بل مصداقه هنا هو الوجوب لوجوب الوظيفتين كما عرفت.

- المسألة الثالثة: في ولاية الفقيه على أخذ الأخماس والزكوات ونحوها من الحقوق المالية وظاهر كلام الأصحاب جواز دفع ذلك إلى الحاكم الشرعي في عصر الغيبة وإنما الكلام في وجوبه مطلقاً أي مبادرة وحين الطلب أو عدمه مطلقاً أو الوجوب حين الطلب فقط وهو ما اختاره جمع من فقهائنا قديماً وحديثاً بل في الجواهر الإجماع عليه والكلام فيه تارة في الزكاة وتارة في الخمس أما في الزكاة قال الشهيد الثاني (رضوان الله عليه) في الروضة يجب دفعها إلى الإمام (عليه السلام) مع الطلب بنفسه أو بمساعيه قيل وكذا يجب دفعها إلى الفقيه الشرعي في حال الغيبة لو طلبها بنفسه أو وكيله لأنه نائب الإمام كالساعي بل أقوى ودفعها إليهم ابتداءً من غير طلب أفضل من تفريقها بنفسه لأنه أبصر بمواقعها وأخبر بمواضعها قيل والقائل المفيد والتقي يجب دفعها ابتداءً إلى الإمام أو نائبه ومع الغيبة إلى الفقيه المأمون وقال القاضي ابن البراج في المهذب في مبحث زكاة الفطرة ما يدل على وجوب حملها إليه (عليه السلام) وعند الغيبة إلى فقهاء الشيعة ليضعها في مواضعها لأنهم، أعرف بذلك انتهى كلامه رفع مقامه.

وفي الجواهر بعد اختيار هذا القول أي وجوب دفعها إلى الفقيه عند طلبها والاستدلال بإطلاق رواية التوقيع فصاحب الأمر (عليه السلام) أنه يمكن تحصيل الإجماع عليه من الفقهاء فإنهم لا يزالون يذكرون ولايته في مقامات عديدة لا دليل عليها سوى الإطلاق الذي ذكرناه ولعله من قبيل الإجماع على القاعدة لا الإجماع على خصوص المسألة هذا وفي العروة الوثقى لو طلبها الفقيه على وجه الإيجاب بأن يكون هناك ما يقتضي وجوب صرفها في مصرف بحسب الخصوصيات الموجبة لذلك شرعاً وكان مقلداً له يجب عليه الدفع إليه من حيث إنه تكليفه الشرعي وقد ارتضى ما ذكره في العروة جمع من المحشين كما يظهر من عدم تعليقهم عليها ومن الفقهاء المعاصرين السيد الشيرازي (قدس سره الشريف) في الفقه حيث ذهب إلى وجوب دفعها إلى الفقيه الجامع للشرائط حين الطلب قال في الفقه الزكاة بعد أن قوى الوجوب الظاهر من أدلة النيابة أعم من ذلك بل للفقيه الأمر والنهي على طبق المصالح العامة والخاصة مطلقة ولذا أطلق شيخنا المرتضى (رضوان الله عليه) حيث قال ولو طلبها الفقيه فمقتضى أدلة النيابة العامة وجوب الدفع لأن منعه رد عليه والراد عليه راد على الله تعالى كما في مقبولة ابن حنظلة ولقوله (عليه السلام) في التوقيع الشريف الوارد في وجوب الرجوع في الوقائع الحادثة إلى رواة الأحاديث قال فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ولغير ذلك من أدلة النيابة وبهذا يظهر أن فتوى العروة بأفضلية الدفع إلى الفقيه مع الطلب لم يعلم له وجه صحيح هذا وقد فصل السيد البروجردي (رضوان الله عليه) بينما إذا كان طلب الفقيه للزكاة على وجه الفتوى وبينما إذا كان على وجه الحكم فذهب إلى الظهور في وجوب الدفع في الصورة الثانية سواء كان مقلداً أم لا ووجهه أن الفتوى لا يلزم العمل بها إلا على المقلد وأما الحكم فيجب العمل به على الجميع وهو ما اختاره السيد السبزواري (رضوان الله عليه) أيضاً في مهذب الأحكام قال إن الطلب إما من الإمام (عليه السلام) أو من الحاكم الشرعي في زمن الغيبة أو من الفقيه بنفسه ويجب الدفع في الأول وكذا في الثاني يجب إنفاذ حكمه إن كان بنحو الحكم ويجب على مقلديه إن كان بنحو الفتوى ولا يجب شيء في غير ذلك في الأصل وعموم ما دل على ولاية المالك لكن الظاهر إمكان المناقشة في هذا التفصيل لما عرفت من عموم أدلة النيابة فالعامي يجب عليه إطاعة الفقيه في كل ما يقول لكونه نزل منزلة معصوم (عليه الصلاة والسلام) إلا ما أخرجه الدليل كما هو المستفاد من مثل قولهم (عليه السلام) قد جعلته عليكم قاضياً فإن إطلاق جعل القضاوة يشمل جميع لوازمها وملزوماتها العرفية كالولاية وشؤونها وكذا التوقيع المبارك فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله فإن إطلاق الحجية يقتضي التنزيل من كل جهة كما أن إطلاق الحوادث يشمل جميع الحوادث التي تحتاج إليها الأمة في شؤونهم الدينية والدنيوية التي يرجع فيها المرؤوس إلى الرئيس هذا والمحكي عن أكثر فقهاء العامة إيجاب الدفع إلى الأمراء وإن علم عدم صرفها في محالها ورووا ذلك عن أبي سعدي الخدري وعبد الله بن عمر وأبي هريرة وعائشة والحسن البصري وإبراهيم النخعي وغيرهم بل حكي عن بعضهم أنه سئل عن الزكاة فقال ادفعوها إلى الأمراء ولو أكلوا بها لحوم الحيات وهو كما ترى من الإشكال فيه عقلاً وشرعاً ثم إن الظاهر أنه لم يرد في المسألة نص خاص يعين كيفية الأداء بل المستفاد من كلماتهم في المقام استنادهم في مسألة جواز دفع الزكاة أو وجوبه أمور:

- الأول: لكون الفقيه أعرف بمواضع الصرف وموارده كما صرح به غير واحد والظاهر أن هذا الاستدلال أعم لأن مجرد كون الفقيه أعرف بذلك لا يدل على وجوب الدفع إليه بل ولا على جوازه إلا أن يكون الفقيه وكيلاً عن المالك مضافاً إلى أنه لا يختص الحكم به بل بكل عارف بمصارفها ولو تقليداً وربما بعض الناس من المقلدين أيضاً يعرفون بموارد الصرف والموارد.

- الأمر الثاني: أولوية الفقيه من الساعي حيث يجب الدفع إليه إذا طلبها وفيه ما حكي عن الأصفهاني في شرحه على الروضة من أن الساعي إنما يبلغ أمر الإمام (عليه السلام) فإطاعته إطاعة الإمام (عليه السلام) بخلاف الفقيه ولا يجدي كون الفقيه أعلى رتبة من الساعي إذ اللازم إثبات عموم ولاية الفقيه في هذا الأمر أولاً حتى يمكن أن نقول هو أفضل من الساعي فيشغله حكمه فمجرد كون الفقيه أعلى رتبة من الساعي لا يفيد شيئاً بعد كون يد الساعي يد الإمام المعصوم (عليه السلام) بالتنصيب الخاص بخلاف الفقيه الذي ينصب بالتنصيب العام.

- الثالث: قوله تعالى: ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) والأمر دليل الوجوب ولا أقل من جوازه خصوصاً إذا كان في مقام دفع توهن الحظر وفيه أن الاستدلال بها فرع ثبوت نيابة الفقيه عنه (عليه السلام) ومعه لا يحتاج إلى هذا الاستدلال لأن جواز أخذه (صلى الله عليه وآله وسلم) الزكاة من الضروريات التي هي غنية عن البرهان.

- الرابع: تحصيل الإجماع عليه كما عرفته من الجواهر ولكن قد عرفت أنه من قبيل الإجماع على القاعدة بناء على كونه من باب الإجماع على إطلاق التوقيع وشبهه وإلا فالمسألة خلافية ذات أقوال متعددة وربما بلغت الأقوال إلى أكثر من ثلاثة وبالتالي فهي ليست إجماعية من ناحية الصغرى.

- الخامس: أن الفقيه نائب عام عن الإمام (عليه السلام) بأمثال هذه الأمور ووكيل عن الفقراء وربما يعضد هذا الاحتمال ويقويه بعض المؤيدات وذلك لأن المستفاد من أدلة تشريع الزكاة أنها إنما شرعت لسد حاجة الفقراء ودفع الشدة عنهم مضافاً إلى تأمين حوائج الدولة الإسلامية بل ودفع النوائب عن الفقراء أيضاً من حوائج الحكومة العادلة المنصوبة لإقامة العدل كما لا يخفى عن الخبير ومن أقوى الشواهد عليه المصارف التي نص عليها كتاب الله عز وجل التي منها سهم الغارمين عليها وهم العاملون للحكومة والمأمورون من قبلها وكذا سهم المؤلفة قلوبهم الذين يؤلفهم الحاكم ويجذبهم إلى موافقة المسلمين بل يستبد من قواهم في مقابل الأعداء ويجعلهم من ضمن القوى التي تحمي الدولة الإسلامية كما ورد في تاريخه (صلى الله عليه وآله وسلم) من إعطاء المؤلفة قلوبهم من أهل مكة أو غيرها وأوضح من ذلك سهم سبيل الله والقدر المتيقن منه الجهاد ومن الواضح أن الجنود والعساكر تكون تحت مراقبة الحكومة ولو قلنا بأن مفهومه عام لكل خير يكون منفعة عامة كان أيضاً من الأمور الراجعة إلى الحكومة قبل غيرها لأنها المعدة لمثل هذه الأمور كما لا يخفى بل قد عرفت أن سهم الفقراء والمساكين ذريعة لإقامة العدل وأحق الناس بها هو الحكومة ومن هنا يظهر أن الزكاة في الحقيقة من منابع بيت المال فإن الحكومة لا تقوم إلا ببيت المال لمصارفها وحل مشاكلها وبيت المال يحتاج إلى منافع ولعل حكم بعض العامة لوجوب دفعها إلى الأمراء وإن لم يصرفوها في مصارفها مأخوذة من ملاحظة ماهية الزكاة ومحتواها وإن وقعوا في الخطأ من حيث توهم كون الدفع إليهم موضوعياً مع أنه طريقيٌ فإذا علم بعدم صرفهم إياها في مصارفها فلا بد من منعها منهم قطعاً هذا ويؤيد تشريع الزكاة في المدينة عند بناء الحكومة الإسلامية من ناحيته (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا ما ورد في آداب المصدق وأنه إذا أتى صاحب المال يقول لهم فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه.

أن الحكومة هي أولى بصرفها في مواردها الخاصة خصوصاً عند الطلب وبذلك يظهر أن الإشكال على ذلك بحجة أن المنساق مما دل على حكومة الفقيه وولايته ونصبه عنه (عليه السلام) إنما هو المنازعات والخصومات وما يرجع فيه النوع إلى رئيسهم بالفطرة والشك في ذلك يكفي في عدم سقوط ولاية المالك وعدم الولاية عليه يظهر أن هذا الإشكال محل تأمل وذلك لأمور:

- الأول: أن حكم الصدقات الواجبة ومصرفها أيضاً مما يرجع فيه الناس بفطرتهم إلى رؤساء مذهبهم فيشملها جميع تلك الأدلة.

- الثاني: أن الاهتمام بأموال الفقراء وجمعها من الأغنياء وصرفها في مواردها من أهم الأمور ولا بد وأن يهتم بها الشارع بل لا يبعد القول بأن ذلك هو المتيقن من مجموع الأدلة.

- الثالث: لنا أن نقول بأن الأدلة ظاهرة في العموم إلا ما خرج بالدليل وإلا يلزم الإلقاء في الحيرة في هذا الأمر العام البلوى للأمة في الشريعة الأبدية.

وبالتالي فإن المصرف إذا دار بين أن تحل به مشاكل المجتمع أو يحل به مشكلة لشخص واحد ويدور الأمر بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة فمقتضى بناء العلماء وسيرتهم بل لعله المستفاد من مجموع الأدلة وتقديم المصلحة العامة لكونها أهم من المصلحة الخاصة هذا ما يرتبط بالزكاة.

وأما الخمس فهو أوضح حال من الزكاة ولذا كان المعروف بينهم عدم جواز تصدي صاحب الخمس لصرفه خصوصاً بالنسبة إلى سهم الإمام (عليه السلام) قال العلامة المجلسي (قدس سره) كما حكاه عنه صاحب الجواهر في المجلد 16 أكثر العلماء قد صرحوا بأن صاحب الخمس لو تولى دفع حصة الإمام (عليه السلام) لم تبرأ ذمته بل يجب عليه دفعها إلى الحاكم وظني أن هذا الحكم جار في جميع الخمس وعن المحقق في المعتبر يجب أن يتولى صرف ما يحتاجون إليه من حصة من له النيابة عنه في الأحكام وهو الفقيه المأمون من فقهاء أهل البيت وقال العلامة في المختلف في كتاب الزكاة والخمس اختلف أصحابنا في مستحق الإمام (عليه السلام) في حال الغيبة من الأخماس والأنفال وغيرها إلى أن قال وهل يجوز قسمته في المحاويج من الذرية كما ذهب إليه جماعة من علمائنا الأقرب ذلك إذا ثبت هذا فإن المتولي لتفريق ما يخصه (عليه السلام) في محاويج الذرية من إليه الحكم عن الغائب (عليه السلام) لأنه قضاء حق عليه كما يقضى عن الغائب وهو الفقيه الجامع لشرائط الفتوى والحكم فإن تولى ذلك غيره كان ضامناً انتهى كلامه رفع مقامه.

هذا ويظهر من بعض الفقهاء وجوب دفع الخمس إلى الفقيه الأعلم من العلماء مثل شيخنا كاشف الغطاء في كتابه الفردوس الأعلى حيث قال أما الدليل على لزوم إعطاء سهم الإمام (عليه السلام) للمجتهد فإنه يكفي فيه كون المجتهد هو الوكيل العام للإمام (عليه السلام) فهو مال لغائب يجب دفعه إلى وكيله ولا أقل من أنه هو القدر المتيقن لبراءة الذمة فيجب والواجب دفعه إلى الأعلم فكما يجب تقليد الأعلم كذلك يجب دفع الحق إليه هذا ويقابل هذا القول قول من قال بجواز صرفه من ناحية المالك لكن بشرط إحراز رضا الإمام (عليه السلام) كما في مستمسك السيد الحكيم (رضوان الله عليه) حيث قال نسب إلى أكثر العلماء تارة وأكثر المتأخرين أخرى وجوب تولي الحاكم لحصته (عليه السلام) بل عن الشهيد إجماع القائلين بوجوب الصرف للأصناف على الزمان أو تولاه غير الحاكم ولا سيما إذا كان الحاكم بمرتبة عالية من العقل والعدالة والأمانة والاهتمام بالمصالح الدينية والقدرة على تمييز الأهم والمهم منها فإنه حينئذ يكون أبصر بمواقعه وأعرف بمواضعه فيتعين الرجوع إليه في تعيين المصرف ولعل مما يقرب هذا عبارة المحقق (رضوان الله عليه) في الشرائع من كتاب الخمس وكذا ثاني الشهيدين في المسالك وفي العروة الوثقى قال النصف من الخمس الذي للإمام (عليه السلام) أمره في زمان الغيبة راجع إلى نائبه وهو المجتهد الجامع للشرائط فلا بد من الإيصال إليه أو الدفع إلى المستحقين بإذنه وأما سهم السادة فاحتاط أيضاً بوجوب الدفع إلى المجتهد أيضاً أو بإذنه وعلله بأنه أعرف بمواقعه والمرجحات التي ينبغي ملاحظتها حين الدفع ولعل من وجوه ذلك أن الأمر في حقه (عليه السلام) يدور بين أن يعطل رأساً أو يصرفه المالك في موارد رضاه (عليه السلام) أو يرجع فيه إلى نوابه الأمناء وهم الفقهاء العدول والأخير من أقرب طرق إحراز رضاه (عليه السلام) في التصرف في حقه بل لا يحرز رضاه (عليه السلام) غالباً إلا بذلك ومقتضى أصالة عدم جواز التصرف في مال الغير إلا بالرضا وأصالة عدم الولاية على الإفراز وقاعدة الاشتغال تعين ذلك لأن حصول العلم برضاه في التصرف في ماله (عليه السلام) من دون مراجعة نوابه الفقهاء مشكل بل ممنوع فمقتضى قاعدة الاشتغال عدم فراغ الذمة إلا بذلك ويمكن دعوى بناء العقلاء عليه أيضاً لأنهم إذا لم يتمكنوا من الرجوع إلى المنوب عنه فيما يتعلق به يرجعون بفطرتهم إلى نائبه الذي يحكي أقواله ويتبع أفعاله ويمكن جريان حكم مجهول المالك عليه أيضاً الذي يرجع إلى الحاكم الشرعي فإنه أعم من المالك المجهول أو المعلوم الذي لا يمكن الوصول إليه عادة ولو قلنا بعدم وجوب الرجوع إلى الحاكم الشرعي في مطلق مجهول المالك لقلنا به في خصوص المقام لخصوصية فيه دون سائر أقسامه.

وكيف كان فإن من مجموع كلمات الأصحاب يستظهر لزوم دفع سهم الإمام (عليه السلام) إلى الحاكم الشرعي وكذا لزوم دفع حق السادة أيضاً أو يكون بإذنه لكونه الأعرف بموارد صرفه ولأدلة الولاية العامة حيث أن القدر المسلم منها هو هذه الأمور وأشباهها ولأصالة اشتغال الذمة وعدم اليقين بالبراءة بدونه وذلك لكون القدر المتيقن من رضاه (عليه السلام) ذلك ودعوى العلم برضاه ولو بدون إذن الفقيه أو بدون مصرفه مشكل جداً لا يجترأ عليه الخبير ولعل هذا هو مراد صاحب الرياض (رضوان الله عليه) حيث قال إن مباشرة الفقيه أوثق بالأصول كما يظهر من المجلد الأول من رياض المسائل هذا ولعل مما يحرز فيه رضا المعصوم (عليه السلام) كما هو المستفاد من الأدلة صورة ما لو حرم الناس من لقاءه (عليه السلام) وتصرفه فيهم لم يمنع ذلك من صرف هذه الأموال العظيمة في مصارفها إن كانت الحكومة الإسلامية العادلة قائمة وإلا ففيما يمكن من مصارفها بنشر العلم وتبليغ الإسلام وإدارة الحوزات العلمية وحفظ ضعفاء الشيعة وتكميل سهم الأصناف وغير ذلك من أشباهه ولا يمكن تعطيل جميع ذلك في غيبته فالمراد من صرفه فيما يحرز به رضاه هو ذلك فإن رضاه يتعلق بهذه الأمور وإن كان هو أرواحنا فداه حاضراً شاهداً صرفها فيما ذكر قطعاً.

والمتكفل لهذا الصرف الذي يحرز فيه رضاه على القدر المتيقن هو الفقيه الجامع للشرائط لما عرفت من أدلة ووجوه ولذا قال السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في كتابه الفقه الخمس في الصفحة 435 لو كان هناك احتياط لزم كونه في الصرف في المشاريع الدينية لأنها الأقرب إلى رضا الإمام (عليه السلام) خصوصاً في مثل هذا الزمان الذي انطمست فيه معالم الإسلام وسادت أنظمة الكفر وقد كان النبي والإمام أمير المؤمنين (عليهما الصلاة والسلام) يقسمان حقهما على المسلمين كما سبق بعض الروايات الدالة على ذلك الذين كانوا جيوش الإسلام وحماته ولذا ذهب (رضوان الله عليه) إلى عدم لزوم إفراز السهمين سهم السادة وسهم الإمام (عليه السلام) في مصارف الخمس قال: إن الإمام يأخذ الخمس كله ويصرفه في المصارف المذكورة فكذلك يكون حال الفقيه فلا يحتاج إلى إفراز حصة الإمام وحصة السادة وتخصيص كل بمصرف حتى لا يجوز إعطاء نصف السادة لغيرهم أو لسائر الأمور التي يجوز صرف سهم الإمام (عليه السلام) فيها كالمشاريع الدينية ولذلك كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام لا يفرزان الحصتين بل يبذلانهما جميعاً في مطلق الجيش والفقراء وما أشبه.

وهذا هو الذي كان يفعله بعض الفقهاء المعاصرين من عدم الإفراز خلافاً لجمع آخر منهم الوالد (قدس سره) حيث كان يحتاط بشدة في إيصال حق السادة إليهم وحق الإمام إلى طلاب العلوم الدينية الذين يحرز رضا الإمام (عليه السلام) فيهم أو الفقير المضطر أو المشروع الديني الذي هو مورد ضرورة ولزوم انتهى كلام السيد الشيرازي (رضوان الله عليه).

وبذلك يظهر أن الأقوال الأخرى في تعيين مصارف الخمس لم يستظهر لها وجه قوة كالقول بإباحتها للشيعة في زمن الغيبة كما عن جمع من الفقهاء والمحدثين أو القول بوجوب عزله وإيداعه والوصية به عند الموت كما عن جمع من المتقدمين أو القول بوجوب دفنه كما عن المقنعة والنهاية والمنتهى أو القول بصرف المالك له في المحتاجين مباشرة كما عن جمع منهم المحقق في الشرائع ونسب عن المشهور بين المتأخرين أو القول بالتخيير بين الإيداع والدفن كما عن النهاية أو التخيير بين الحفظ والإيصاء والقسمة بين المحتاجين من الذرية الطيبة أو الصرف إلى الفقراء الشيعة مطلقاً ولو لم يكونوا من السادة فكل ذلك مخدوش بمخالفته لقاعدة الاحتياط وعدم العلم برضائه (عليه السلام) بذلك.

- المسألة الرابعة: عرفت ما ذكرنا أنه يمكن القول بأنه لو قامت الدولة الإسلامية العادلة كان الفقيه الجامع للشرائط المتصدي لها أولى من غيره بحصة الإمام (عليه السلام) لأن المفروض أن مصرف هذه الأموال في الواقع هو إقامة هذا الأمر وكذلك إذا كان الفقيه مديراً للحوزات العلمية ومتكفلاً بشؤونها وقائماً على المشاريع الدينية كان أولى به من غيره وكذا إذا كان مدبراً لغير ذلك مما يهتم به الإمام (عليه السلام) من نشر الإسلام وعلومه في أقطار الأرض عامة وبلاد المسلمين خاصة والدفاع عن أفكار المسلمين وعن شبابهم وعن مناهجهم ومما ذكرنا يظهر الحال في الأوقاف العامة وأن الفقيه هو المتصرف فيها عند فقد المتولي الخاص بل له نصب المتولي للأوقاف التي لا متولي لها أو جعل الناظر للمتولي إذا خاف من خيانته لأن أدلة الولاية تشملها وليست ملك الأوقاف أولى من الأخماس والزكوات التي عرفت حالها

- المسألة الخامسة: المعروف المشهود قديماً وحديثاً عدم انحصار الفقاهة في فقيه واحد بل تعددها في كل عصر في أكثر من فقيه فكيف تعالج مسألة الحكومة والدولة وتولي أمور المسلمين وتدبيرها الاحتمالات هنا عديدة وأهمها ثلاثة:

- الاحتمال الأول: أن نقول بأن الولاية ثابتة لهم لعنوان العام الأفرادي الإستغراقي فكل واحد من الفقهاء له هذا الحق بالفعل ولا يتوقف فعليته على أمر آخر وراء كونه فقيهاً جامعاً للشرائط قالوا والذي استقر عليه سيرة العلماء العاملين والسلف الصالح قديماً وحديثاً والمعاصرين هو هذا الاحتمال بمعنى ثبوت الولاية لكل واحد بالفعل مستقلاً واستشهدوا لذلك بسيرة العلماء الكبار عند بسط يد بعضهم في بعض الأقطار حيث كانوا يقيمون الحدود الإلهية وينفذون الأحكام الإسلامية من غير توقف على رأي الآخرين في البلد وخارج البلد ومن دون توقف على انتخاب الأمة أو رأيها.

- الاحتمال الثاني: أن يقال بأنها ثابتة لهم بالفعل بعنوان العام المجموعي فالمجموع من حيث المجموع لهم هذا الحق ولا بد حينئذ من التشاور والتعاضد مع بعضهم.

- الاحتمال الثالث: أن يقال بأنها ثابتة لهم جميعاً ولكن تعيين الحاكم والحكومة يتم بواسطة الانتخاب على نحو أن يكون الولاية بنحو المقتضي والانتخاب يوصلها إلى مرحلة الفعلية أو يكون الانتخاب شرطاً والولاية مشروط أو يكون الولاية مجرد ترشيح والانتخاب تعيين على تفصل سنتعرض إليه إن شاء الله.

وعليه فإن على هذا الاحتمال تكون أدلة الولاية معينة للفقيه الجامع للشرائط وللأمة الاختيار جمعاً بين أدلة الولاية للفقيه وأدلة السلطنة الشخصية على النفوس والأموال هذا وقد يورد على الاحتمال هذا وقد يورد على الاحتمال الأول باستلزامه الهرج والمرج ونقض الغرض لكون الغرض الأعلى من الحكومة هو حفظ النظام وبسط العدل ولكن ثبوت الولاية الفعلية لكل واحد من الفقهاء مع اختلاف الأنظار والأفكار والاتجاهات يؤدي إلى اختلال النظام وربما يورد على الثاني بأنه لم يقل به أحد لاستلزامه انقسام الولاية على المجموع انقسام الحق على أصحابه وهذا خلاف المستظهر من أدلة الولاية مضافاً إلى أنه غير قابل للتطبيق إلا إذا أعطينا الولاية للمقام والمنصب لا للأشخاص كمجلس الرئاسة أو القيادة وهذا بعيد وخلاف الظهور من الأدلة وربما يورد على الثالث بأنه مخالف لسيرة أصحابنا إذ لم نسمع من أحدهم الرجوع إلى الانتخاب في إثبات الفقيه الحاكم أو تعيينه فإن الانتخاب أمر نشأ في القرون الأخيرة ومأخوذ من بلاد الغربي وليس له في أخبارنا عين ولا أثر ولا يوجد في أي تاريخ من تواريخ الإسلام نعم كان الانتخاب طريقاً وحيداً لتصدي بعض الحكام الأوائل كما في قضية السقيفة ولم يكن بانتخاب الناس جميعاً ولا بأهل البلد ولا بانتخاب جميع أهل الحل والعقد بل كان انتخاب جماعة خاصة سمونه بالشورى عندهم وهم جماعة من الصحابة حضروا في السقيفة موافقون لمقاصدهم هذا هو حقيقة شوراهم وكيفية انتخابهم وقد نتج ذلك للمسلمين حكومة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن لا يخفى أن هذا قياس مع الفارق لأن ما فعله بعض الصحابة في الصدر الأول لم يكن انتخابا بالمعنى الاصطلاحي المقصود لانحصاره في خمسة أفراد أو ستة أو غير ذلك نصبوا رئيساً على الناس وأم القول بعدم الدليل عليه ففيه قيام بعض الروايات التي دلت على ذلك بنحو التضمن أو بنحو التلازم ومن الروايات ما دل على أن للمسلمين أن يختاروا لأنفسهم حاكماً كقوله (عليه السلام): أيها الناس إن أمركم هذا ليس لأحد فيه حق إلا من أمرته وأنه ليس من دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي، ومنه قول أمير المؤمنين (عليه السلام): وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار وإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك له رضاً إلى غير ذلك من الأدلة مضافاً إلى تضمن أدلة الشورى المتواترة له فضلاً عن كفاية سيرة العقلاء وبنائهم وقيامها عليه وكفاية عدم ردع الشارع عنها كاف لإحرازهم رضاها بل وهو مقتضى الجمع بين الأدلة وهناك تفصيل نتعرض إليه في البحث القادم.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين..