المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 17.doc

ومن الروايات الدالة على ولاية الفقيه ما رواه الكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث يذكر فيه فضل العلماء أن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر.

وفي معنى هذا الحديث أحاديث أخر وردت في الكافي أيضاً والبحار وفي ثواب الأعمال.. وغيرها من مصادر الحديث، والظاهر أن سند الحديث قوي ورجاله معروفون، والمراد من القداح هو عبد الله بن ميمون وهو ثقة كما صرّح به غير واحد، بل وصف الرواية المحقق النراقي (رضوان الله عليه) في (العوائد) بأنها صحيحة، كما ويعبد مضمونها طائفة من الأخبار منها ما في نهج البلاغة وقال (عليه السلام): إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به وفي البحار عن العوالي قال النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.

وفي فقه الرضا (عليه السلام) وروي انه قال: منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل، وفي العوائد عن جامع الأخبار عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي، فأقول علماء أمتي كسائر أنبياء قبلي.

ويمكن تقريب الاستدلال ببيانين:

- الأول: ما قيل من أن مقتضى كون الفقهاء ورثة الأنبياء انتقال كلّ ما كان لهم إليهم إلاّ ما ثبت أنه غير ممكن الانتقال، ولا شبهة في أن الولاية قابلة للانتقال كالسلطنة التي كانت عند أهل الجور موروثة خلفاً عن سلف، والتقريب الآخر أن يقال أن كون العلماء ورثة للأنبياء أو أولى الناس بهم أو كالأنبياء يقتضي التشبيه هنا أن ينتقل إليهم ويكون لهم كل ما كان للأنبياء من الشؤون إلاّ ما ثبت عدم صحة انتقاله أو عدم انتقاله، وإن شئت قلت المراد انتقال الشؤون العامة إلى العلماء لا الشؤون الفردية، لأن من الواضح أن الشؤون الفردية مما تنتقل إلى ورثة الأنبياء بحسب النسب كأبنائهم وذرياتهم الحقيقيين، وهذا أخصّ من العلماء.

ولا يخفى أن من الأنبياء نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وإبراهيم وموسى ويوسف وداود وسليمان وغيرهم ممّن كان لهم الولاية العامة، وقد قال الله تعالى في حق نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)، ولا يقصد بالولاية هنا في المقام الولاية التكوينية أو الفضائل المعنوية والكمالات الذاتية لكونها غير قابلة للانتقال كما هو واضح، بل المراد الولاية الاعتبارية القابلة للانتقال والتوارث عند العقلاء كما يشهد له ما في نهج البلاغة بقوله: أرى تراثي نهبا.

وعليه فإن المقصود من وراثة العلماء للأنبياء ليست الولاية التكوينية والكمالات الذاتية وإنما المراد الوراثة في الولاية الاعتبارية التي تقبل النقل والانتقال، فإطلاق الروايات يقتضي انتقال الرواية التي كانت للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علماء أمته.

وبهذا البيان يظهر بأن الفقهاء بعد الأئمة والنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ترجع إليهم السيادة وشرعية السلطة، لكن أشكل على هذا الاستدلال بإشكالات:

- الإشكال الأول: ما أورده السيد الحكيم (رضوان الله عليه) في نهج الفقاهة من قوله بأن ما ورد في شأن العلماء قاصر عن الدلالة على ثبوت الولاية بالمعنى المقصود، فإن الأول أي العلماء ورثة الأنبياء صحيح في إرث العلم، كما وصرح المحقق الإيرواني أيضاً بأن المراد من الوراثة هنا وراثة العلم كما يشهد به عنوان الموضوع، ومع عنوانه فليست القضية مسوقة في مقام البيان، بل هي مهملة والمتيقن حينئذٍ هو وراثة العلم وليس وراثة الولاية والحكومة والسلطنة، مضافاً إلى أن قوله وإن الأنبياء لآخره نص فيما ذكرنا ويبين في وراثة العلم، وبذلك يظهر وجه الفرق بين المستدل المثبت للولاية والمنكر فإن المستدلّ أثبت الولاية بإطلاق الوراثة، فتشمل الولاية العامة، وأما المنكر فأنكر الإطلاق أو أنكر الإنشاء بأمور ثلاثة أحدها يدّعي كون الرواية نصاً في وراثة العلم لما ورد في ذيلها، وحاصله أن ميراث الأنبياء هو العلم والعلماء الآخذون بعلم الأنبياء وارثون لهم، فتخرج موضوعاً عن إثبات الولاية.

- ثانيهما: عدم كون الرواية في مقام البيان حتى يؤخذ بإطلاقها، وإنما تكون مهملة أو مجملة، والدليل المهمل أو المجمل يؤخذ فيه بالقدر المتيقن، وفيما نحن فيه القدر المتيقن هو العلم، ولا يجري في صورة الولاية.

- ثالثها: أن الرواية واردة في مقام الإخبار عن قضية خارجية تكوينية وليست في مقام الإنشاء حتى يستفاد منها الجعل والتشريع للولاية للفقيه، كما ربما يظهر بمراجعة أمثال هذه الرواية التي وردت في هذا المعنى، كما يظهر حينئذ من هذا البيان بأنه ليس المراد من في وراثة الأنبياء للمال النفي الحقيقي، وإنما المراد منه أن العمدة في ميراثهم هو العلم، وهذا لا ينفي أن يورّثوا المال أيضاً لورثتهم فما يظهر من الحديث المجعول في أمر غصب فدك هذا بعيد عن الدلالة.

- الإشكال الثاني: دعوة كون المراد بالعلماء خصوص الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) كما ربما يشهد بذلك ما في خبر جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام): نحن العلماء وشيعتنا المتعلمون وسائر الناس غثاء.

وربما يناقش فيما أوردوا أما على الإشكال الأول فالأمر يرجع إلى الوجدان فإن من ادعى الإهمال أو الإجمال فعهدته على مدعيه إذ لقائل أن يقول ويلتزم بإطلاق الرواية وعدم استظهار الإجمال أو الإهمال فيها كما أنه حصر الوراثة بالعلم بعد الإطلاق الظاهر أنه بعيد عن الفهم العرفي، مضافاً إلى أنه حتى إذا كان العلم هو المورث فإنه بضميمة مقدمة عقلية يستلزم القول بتضمنه للولاية أيضاً كما ستعرفه عن قريب.

وأما كون الرواية واردة في مقام الإخبار لا الإنشاء فالظاهر أنها إخبار عن مراد المولى وأغراضه وليس الإخبار لمجرد الإخبار بداهة أن في التشريع كل قضية خبرية تتضمن الإنشاء من جهة القرينة العقلية الكاشفة عن وجود المصالح الواقعية أو الأغراض المولوية وقد ثبت في محله من الأصول أن تحقيق غرض المولى من الواجبات عقلاً كما ستعرف.

وأما الإشكال الثاني فيمكن دفعه من وجوه:

- الأول: بعدم الدليل على اختصاص العلماء بالأئمة (عليهم السلام)، وخبر جميل لعله يراد به العلماء الكاملون في العلم، وإلا فيكثر ذكر العلماء والفقهاء في الأخبار مع وجود القرائن على عدم إمكان الانطباق على الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام).

- والثاني: بأنه قوله (عليه السلام) في صحيح القداح (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة)، وقوله (عليه السلام) في خبر أبي البختري: فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظاً وافراً، ظاهران في عدم إرادة الأئمة (عليهم السلام) خصوصاً وأن الخبر الوارد وارد في ثواب طلب العلم.

- وثالثاً: أن بهذا المضمون وردت روايات صريحة في إرادة غير الأئمة الهداة صلوات الله عليهم مثل ما في البحار وقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه لولده محمد: تفقه في الدين فإن الفقهاء ورثة الأنبياء، مما يكشف عن أنه هنالك كبرى كلية تدلّ على أن العلماء الفقهاء ورثة الأنبياء.

نعم؛ الأئمة عليهم الصلاة والسلام هم أظهر المصاديق وأجلاها لكن هذا لا ينفي أن يكون سائر الفقهاء الذين جمعوا الشرائط أيضاً من الورثة.

- الإشكال الثالث: قالوا بأن المتبادر من قوله (عليه السلام) ورثة الأنبياء وراثتهم له بما هم أنبياء؛ بمعنى أن الوصف العنواني المأخوذ في الموضوع له مدخلية في الحكم، وشأن الأنبياء بما هم أنبياء ليس إلا الإنباء والتبليغ وحينئذٍ يكون الوراثة بحسب الوصف العنواني فيكون العلماء الفقهاء ورثة للأنبياء في مقام الإنباء والتبليغ، لكن يمكن القول فيه بأن المتبادر من لفظ الأنبياء في المقام كون العنوان عنواناً مشيراً إلى الذوات الخارجية فكأنه قال العلماء ورثة إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلاً.. ولو قيل كذلك كان الظاهر منه الوراثة في جميع شؤونه إلا ما ثبت خلافه، هذا مضافاً إلى أن الموضوع لأولوية نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية الشريفة: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وهو عنوان نبوّته فمقتضى وراثة العلماء منه انتقال الأولوية إليهم أيضاً.

هذا وربما يعضد الاستدلال المذكور طائفة أخرى من الروايات منها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل، ووجه الدلالة أن الظاهر من التشبيه هنا هو العموم إلاّ أن يكون أحد أوجه الشبه أقوى نحو (زيد كالأسد) مثلاً فإن الصفة الظاهرة في الأسد لما كانت هي الشجاعة كان التشبيه ظاهراً فيه بخلاف الحديث فإنه ليس هناك ظهور خاص حتى يمنع من التمسك بالعموم إذ من الواضح أن وراثة العلماء للأنبياء وأن العلماء كأنبياء بني إسرائيل لا توجد هناك صفة في التشبيه صفة ظاهرة بمعنى وإنما هي الصفات العامة، والإشكال بأنه لعل التنزيل كان بلحاظ تبليغ الأحكام كما هو شأن أغلب أنبياء بني إسرائيل غير وارد لعدم الظهور العرفي الموجب لصرف الظاهر عن ظهوره، إن قلت لعل المراد بالعلماء الأئمة أيضاً هنا إذ التشبيه بالأنبياء بالمراتب الأئمة لا العلماء، قلت: بل الأمر بالعكس إذ الأئمة أفضل من الأنبياء بلا خلاف، مع أن العموم لا وجه لرفع اليد عنه فيشمل التشبيه موارد الولاية والحكومة على ما يظهر من كلمات السيد الشيرازي (قدس سره) أيضاً في الفقه الاجتهاد والتقليد في ص228 كما وأن قول أبي عبد الله (عليه السلام): نحن العلماء وشيعتنا المتعلمون، لا دلالة له على المراد من علماء أمتي إذ قرينة المقابلة في الحديث أوجبت اختصاص العلماء بهم لا أن كل إطلاق للفظ العلماء يراد به الأئمة (عليهم السلام).

ومن الروايات التي تعضد الاستدلال المذكور خبر علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها أبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها، ومحل الاستدلال بذيل الرواية فإنه ظاهر في كبرى كلية تجعل العلماء الفقهاء حصون لحماية الإسلام وستره وتقويته، وتوضيح الاستدلال يمكن بتقريبين:

- أحدهما: أنه يدلّ على أن حصن الإسلام وحافظه هو الفقيه، وحيث أن أحكام الإسلام لا تنحصر بالعبادات بل منها أحكام اجتماعية وسياسية واقتصادية وعسكرية وقضائية وجزائية وغير ذلك.. ولا يمكن حفظ تلك الأحكام، وكون الفقيه حصناً يدافع عنها إلاّ من قبل دولة قوية وحكومة ذات سيادة، ويؤيده ما ذكره السيد الروحاني (دام ظله) في منهاج الفقاهة بأن الاستعمار الأوروبي علِم من أول وهلة أن استعماره لا يتم ما دام القرآن هو الكتاب السماوي الذي يتبعه المسلمون ويجرون أحكامه وقوانينه ويتبعون إرشاداته وتعاليمه، وبهذا صرح غلادستون رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت، ومن ذلك الوقت اتجه وجهة أخرى فأخذ يسعى بشتى الطرق والوسائل لتضعيف الإسلام وكان من جملة مصائده وحبائله نغمة التفكيك بين الدين والسياسة، وصارت تلك من أخطر الوسائل في أيديهم وسبباً لما نرى الآن من حال المسلمين والبلاد الإسلامية من الاستبداد والتفرق والتخلف في مجالات مختلفة..

وبالجملة أحكام الإسلام من الجهاد والمهادنة وعقد الذمة والعهود وإجراء الحدود والقصاص وقبول الجزية وما شاكل ذلك لا يمكن حفظها إلا مع كون الفقيه هو الحاكم وبيده الدولة وإليه يرجع مقام السيادة والسلطة، لذلك جعلت الرواية الفقيه حصناً للإسلام وهذا لا يكون إلا بجعله حاكماً مطلقاً نافذ الحكم.

- التقريب الثاني: هو أن الإسلام حيث أنه ليس مقصوراً على أحكام عبادية وأعمال شخصية فقط بل له أحكام كثيرة ومتشعّبة في كل مجالات الحياة؛ في المعاملات والعقود والإيقاعات وتنظيم العائلة وسياسة المدن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد والدفاع وفصل الخصومات والحدود والقصاص والديات ونحو ذلك.. وليس حفظ الإسلام بالاعتزال في زاوية والتفرغ إلى مطالعة الكتب أو كتابتها، وإنما الإسلام يحفظ في مجموعه باستنباط الأحكام ونشرها وتعليمها وتطبيقها على الحوادث الواقعة والموضوعات المستحدثة وإجراءها وتنفيذها وبسط العدالة وإجراء الحدود الشرعية وسدّ الثغور ودفع هجمات الأعداء ورفعها وجمع الحقوق الشرعية وصرفها في مصالح المسلمين، ومن الواضح أن ذلك لا يحصل إلا بإقامة الدولة وتحصين القدرة ونصب العمّال والقضاة ونحو ذلك..

وهكذا صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذا مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد قال سبحانه وتعالى: (ولكم في رسول الله أسوة حسنة)، ولذا قال بعض الأعلام: هل يصدق على فقيه اعتزل الناس وقبع في زاوية من زوايا داره ولم يهتم بأمور المسلمين ولم يسعى في إصلاح شؤونهم بل أطلق المجال والعرصات لأعداء الإسلام والمسلمين فأغاروا عليهم وأراقوا دمائهم وأهلكوا الحرث والنسل ومنعوا مِن بث الإسلام وإعلاء كلمته ونشر كتبه كما صنعت الصهاينة في فلسطين ولبنان، والروس في أفغانستان مثلاً، فهل يصدق على مثل هذا الفقيه أنه حصن الإسلام كحصن سور المدينة لها؟! فالسعي في إقامة الدولة الحقة واجب بلا إشكال والمكلف به جميع المسلمين، والقائد لهم في ذلك والمتصدي لإقامتها هو الفقيه الجامع للشرائط وكما أن الجنود بإذن الله حصون الرعية، وليس تقوم الرعية إلا بهم كما في نهج البلاغة، فكذلك الفقهاء يكون ميزانهم ميزان الجنود في حفظ الإسلام والمسلمين، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) على ما في نهج البلاغة: (لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها) إذ يظهر بذلك أن وظيفة العلماء في قبال تعدي الظالمين وحرمان المظلومين خطيرة جداً ولا يجوز لهم إهمال هذا السنخ من المسائل الاجتماعية والحكومية، فبناءً على هذا يظهر من ذلك أن الرواية دالة على وجوب تصدّي الفقهاء لهذا المقام ويدلّ إذاً بالتلازم على أنهم مبدأ لهذه السيادة ومنشأ لهذه السلطة بالجعل والتنصيب الإلهي.

هذا ولا مجال للخدش في سند الحديث وذلك لأنه ليس في السند من يناقش فيه إلاّ علي بن حمزة لكونه من عمد الواقفة والمشهور بين الفقهاء وعلماء الرجال ضعفه، لكن الظاهر إن كان اعتبار الرواية لكون الراوي عنه هنا هو ابن محبوب وقد عدّوه ممن أجمعت الطائفة على تصحيح ما يصحّ عنه، هذا مضافاً إلى ما عن الشيخ (رضوان الله عليه) في العدة من أن الطائفة عملت بأخبار علي بن أبي حمزة، وعن ابن الغضائري في ابنه الحسن أبوه أوثق منه الدالة على قوّة وثاقته وإن كان واقفياً، وهذا يرجح الاعتماد عليه خصوصاً على مبنى المتأخرين الذين ذهبوا إلى كفاية اعتبار السند بوثاقة الصدور، مضافاً إلى أنه روى عنه كثيراً الأعاظم من أصحابنا كصفوان وابن أبي عمير والبزنطي وابن محبوب وغيرهم من الأجلاء، وهذه في مجموعها قرائن توجب الوثوق بخبره وإن كان فاسد المذهب، مضافاً إلى وجود احتمال أن يكون النقل لمثل هذه الرواية كان في حال استقامته لكون الوقف حدث عنده بعد وفاة مولانا الكاظم (عليه السلام) ثم إن من المحتمل سقوط لفظ الفقيه من صدر الرواية فإن الجهات المذكورة في الرواية تناسب موت الفقيه، والذيل أيضاً قرينة على ذلك كما أن القرينة الثانية على ذلك ما ورد في مرسلة ابن أبي عمير عن الصادق (عليه السلام): إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء.

هذا وقد روى الرواية بعينها في فروع الكافي عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد وعلي بن إبراهيم عن أبيه جميعاً عن ابن محبوب عن علي بن رئاب قال: سمعت أبا الحسن الأول يقول وذكر الحديث وأسقط لفظ الفقهاء، والسند صحيح ولكن إذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة فأصالة عدم الزيادة مقدَّمة عند العقلاء لأن الخطأ بالسقط كثيرٌ بخلاف الزيادة فإنها بلا وجه، وعرفت أن الأمور والجهات المذكورة في الرواية ولا سيما قوله: ثلم في الإسلام ثلمة، وقوله: حصون الإسلام، إنما تناسب موت الفقيه لا موت كل مؤمن، ومرسلة ابن أبي عمير شاهدة على ذلك.

وبهذا يظهر قوة إعضاد هذه الرواية للرواية المتقدمة في الاستدلال.

- الرواية الثالثة: التي ربما تعضد ما نحن فيه ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم.

ورواه في المستدرك أيضاً عن دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورواه أيضاً عن نوادر الراوندي بإسناده الصحيح عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما رواه في البحار عن نوادر الراوندي أيضاً، إلا أن في الدعائم والنوادر (فاحذروهم على أديناكم)، كما وورد مثل هذا الخبر في مصادر العامة أيضاً كما في كنز العمال عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا ويتبعوا السلطان فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم.

هذا والظاهر أن سند الكليني موثوق به قد اعتمد فقهائنا على هذا السند في الأبواب المختلفة من الفقه، كما أن الرواية ذكرها طائفة من الفقهاء ولم يناقشوا في سندها مما يكشف عن اعتبارها عندهم مضافاً إلى أن الإشكال في النوفلي والسكوني غير وارد لكفاية وثاقة الصدور في حجية الخبر.

وأما بيان الاستدلال فالظاهر أن الأمين من فوِّض إليه حفظ ما فوض إليه وقد فوِّض إلى الفقهاء الأحكام الشرعية وقد مرّ فيما تقدم أن حفظ الأحكام الشرعية لا يمكن إلا من قبل حكومة إسلامية عادلة وقوية، وقوله: ما لم يدخلوا في الدنيا، يمكن أن يكون إشارة إلى أن الإهمال في تشكيل الحكومة وصيرورة المتبوع تابعاً والمخدوم خادماً خيانة يخرج بذلك عن كونه أميناً، ويعضده أن من أهم شؤون الرسل ومنهم رسولنا الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما مرّ سابقاً ثلاثة أمور:

- الأول: بيان أحكام الله عز وجل.

- الثاني: القضاء وفصل الخصومات.

- الثالث: تطبيق الأحكام الإلهية وإجراء العدالة الاجتماعية بإقامة دولة حقة على أساس أحكام الله وقوانينه العادلة كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، وليس شأن الرسل مجرد بيان الأحكام الإلهية فقط.

وعلى هذا فالفقيه إذا جعل أميناً للرسل صار أميناً لهم في جميع شؤونهم العامة على ما يقتضيه إطلاق اللفظ إلا ما أخرجه الدليل، كما وربما يعضد ذلك ما قيل في تفسير قوله عز وجل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) من أن الأخبار ظاهرة في أن الولاية من أوضح مصاديق الأمانة، وفي رواية العلل في بيان علل جعل أولي الأمر قوله (عليه السلام) منها أن الخلق لما وقفوا على حدٍّ محدود وأمروا أن لا يتعدّوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلاّ بأن يُجعل عليهم فيهم أميناً يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم، فعبّر في الرواية عن الوالي بالأمين وهذه تصلح أن تكون قرينة على أن المراد من الأمانة هنا أيضاً ما يشمل الولاية. لكن أشكلوا على الاستدلال المذكور بإشكالين:

- الأول: أن كون العلماء أمناء الرسل بنفسه غير كاف للإثبات لاحتماله كونهم أمنائهم على الأحكام الشرعية والمعارف الدينية بل هو ظاهر في ذلك، وفي صورة الشك فهو القدر المتيقن.

- الثاني: ما ورد في ذيل الحديث ينادي بأعلى صوته بأن المراد منه هو الأمانة على الدين ومعارف الدين وأحكامه ولا يمكن التمسك حينئذ بإطلاق الأمناء مع قوله (عليه السلام) فاحذروهم على دينكم فالعلماء حافظون لتراثهم هذا وأمناءهم عليه.

وعليه فإن التأمل في ذيل الرواية يظهر منه أن المراد بيان الفقيه الذي يعتمد عليه في بيان أحكام الله لا إقامة الدولة وسند السيادة، وكأن الرواية في مقام تصنيف الفقهاء إلى صنفين؛ بعضهم أمين يصح الاعتماد عليه في الأحكام الشرعية، وبعضهم خائن. فالفقيه الملتزم بالدين المستقل بالرأي يكون أميناً ويعتمد عليه في بيان الأحكام، وأما الفقيه الداخل في الدنيا المتبع للسلطان يجب الحذر منه في الدين، فإن علماء السوء المرتزقة من السلاطين يحرّفون كلام الله ويؤوّلونه على وفق أهواء السلاطين فلذا هم ليسوا بأمناء ولا اعتبار لآرائهم وفتاواهم، وعليه فتخرج الولاية والحكومة موضوعاً عما نحن فيه.

لكن ربما يمكن الجواب عن هذين بأمور:

- أولاً: بإطلاق الرواية الشامل لبيان الأحكام والولاية وكون بيان الأحكام من أوّليات مهمات الأنبياء والفقهاء أمناء عليها لا ينفي الأمانة على الولاية والحكومة مع أنها أيضاً من شؤون الأنبياء.

- ثانياً: القرائن العقلية الدالة على شمولها للحكومة حتى لو قيل بالظهور في الأحكام أو العلم، وأبرز هذه القرائن اثنان؛ الأولى إن هم كل من يريد صلاح أمته ولا تصلح الأمة ولا تبقى إلا بدولة عادلة تدبر أمورها وتضمن بقائها، فمعنى كون الفقهاء أمناء الرسل كونهم أمناء في حفظ الأمة، والأمانة المفوضة إلى الفقيه هي أمة الرسول، بل أمة الرسول من أجلى مصاديق الأمانة فيجب تأمين صلاحها وبقاءها بإقامة الدولة العادلة إما من جهة الوجوب الأوّلي وإما من جهة الطريقية لحفظ الأمانة وهي الأمة.

الثانية حتى لو سلمنا بأن العلماء ورثة للأنبياء في مجال العلم وبيان الأحكام وهم أمناءهم على ذلك فيمكن إثبات شمولها أيضاً للولاية والحكومة لجهة طريقية العلم والعمل، ومن العلم علم السياسة وتدبير أمور الخلق بل هو من أعلى مراتب العلم ومهام الأنبياء لما يترتب عليه من تطبيق قوانين الخالق وإجراء أحكامه وهداية الناس إلى سعادتهم الدينية والدنيوية.. وغيرها من أهداف الأنبياء والرسل، بل لو لم يقل بذلك للزم ترجيح المرجوح ونقض الغرض في الكثير من التشريعات والأحكام الإلهية لتوقفها على السلطة وقوة التنفيذ.

ومن الروايات أيضاً حديث الغُرر الوارد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): العلماء حكّام على الناس، وفي البحار أيضاً عن الصادق (عليه السلام): الملوك حكام الناس والعلماء حكام على الملوك، والظاهر أن المحتملات في الرواية متعدّدة أبرزها اثنان:

- الأول: أن تُحمل الجملة على الإخبار لبيان فضل العلم والعلماء وأهمية رجوع الناس إليهم في تدبير أمورهم لكونهم القدوة والأسوة فتكون الرواية إرشادية إلى سيرة العقلاء وبنائهم من رجوع الجاهلين بالأمور إلى العاملين بها في مختلف الشؤون، وحينئذ لا تثبت لنا الولاية والحكومة للفقيه إلاّ بنحو قضية خارجية واقعية تؤكد حكومة العلماء على قلوب الناس وقدوتهم لهم من غير فرق بين المذاهب والملل وبين طبقات المجتمع، فأهل كلّ مذهب وجميع طبقات المجتمع حتى الملوك يكون الحاكم على عقولهم وأفكارهم وقلوبهم العلماء. وبالجملة فهي نظير قوله (عليه السلام): العلم حاكم والمال محكوم عليه، فتخرج موضوعاً عما نحن فيه.

- الاحتمال الثاني: أن نحملها على كونها جملة إنشائية يراد بها جعل منصب الحكومة والولاية للعلماء نظير جعلها لمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث الغدير المتواتر بين الفريقين الذي تضمن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): من كنت مولاه فعليّ مولاه والاستدلال بالرواية على نصب الفقهاء أولياء بيدهم زمام الولاية والحكومة وسند السلطة وشرعية السيادة يتوقف على الاحتمال الثاني وأن يراد بالعلماء فيها خصوص فقهاء الإسلام، لكن أشكلوا على ذلك من جهة تردد المعنى المحتمل من الرواية وأنها في مقام الإخبار أو في مقام الإنشاء فلا تصلح للإثبات لكون الاحتمال يبطل الاستدلال، لكنك ستعرف ما ربما يقال فيه.

كما لا يناقش فيه من جهة القول بأن مقتضى حينئذٍ أن يكون مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الجملة قد جعل منصب الحكومة لجميع العلماء في جميع الأعصار بنحو العموم الاستغراقي الشمولي فلو كان في عصر واحد ألف عالم مثلاً يكون الجميع حكاماً منصوبين وهذا بعيدٌ بل مقطوع الفساد لما يترتب عليه من التنازع والخلاف المخالف لغرض الولاية والحكومة، لأنه يمكن المناقشة فيه من جهة أن الحديث في مقام بيان أصل الجعل على نحو القضية الحقيقية وإثبات أن الحكومة للعلماء مضافاً إلى إمكان دفع الإشكال والفساد المذكور بالحكم بالشورى بينهم في الحكم وفي تدبير أمور الناس في صورة تعددهم كما هو مقتضى الجمع بين الأدلّة كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.

هذا وفي البحار عن كنز الكراجكي قال: قال الصادق (عليه السلام): الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك، والظاهر أن قوله: الملوك حكام على الناس، ظاهر في الإخبار في مقام الإنشاء، بل حتى لو كانت للإخبار الصرف فإنها تثبت المطلوب أيضاً لما أثبتناه في الأصول من أن كل جملة خبرية ترد في التشريع فالأصل فيها أنها تخبر عن غرض المولى أو عن المصلحة الواقعية وهما مما يحكم العقل بوجوب تحقيقهما فيثبت حينئذٍ المطلوب.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.