المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 16.doc

ومن الروايات الدالة على ما للفقيه من السلطنة والولاية الجعلية التوقيع المبارك المعروف، وهو ما رواه الصدوق (رصوان الله عليه) في كتابه (إكمال الدين) عن محمد بن محمد بن عصام عن محمد بن يعقوب عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي، وورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام): أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك.. إلى أن قال: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)، والحديث طويل ومفصل ذكرنا منه مقدار الشاهد، وقد رواه العلامة المجلسي (رصوان الله عليه) مفصلاً في كتابه (بحار الأنوار) في الجزء الثالث والخمسين والكلام فيه من حيث السند وقع في محمد بن محمد بن عصام، والظاهر أنه لا مجال للخدش فيه لكونه من مشايخ الشيخ الصدوق (رصوان الله عليه) مضافاً إلى أن الحديث متضافر في هذه المرحلة من نقله، إذ رواه الشيخ في كتاب (الغيبة) عن جماعة عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الرازي وغيرهما.. وكلهم عن محمد بن يعقوب الكليني، وهذا التضافر لعله كاف في الاعتماد عليه مع نقله في الكتب المعتبرة، مضافاً إلى أن العلامة الطبرسي (رصوان الله عليه) أيضاً رواه في كتابه (الاحتجاج) وأما إسحاق بن يعقوب فلم يرد في كتب الرجال ما يدل على حاله، بل لعل عمدة روايته منحصرة بهذا التوقيع لعدم نقل حديث آخر عنه في (جامع الرواة)، نعم قال الاسترآبادي صاحب الرجال الكبير بأنه قد يستفاد من هذا التوقيع علوّ رتبته خصوصاً وقد رواه الشيخ الكليني (رصوان الله عليه) والشيخ الصدوق (رصوان الله عليه) الكاشف عن قبولهما للحديث من ناحية الاعتماد والاعتبار.

وأما الكلام في الدلالة فمن جهات:

- الأولى: في تعيين كون رواة الحديث يشمل الفقهاء أيضاً.

- الثانية: في تعيين المراد من الحوادث الواقعة.

- الثالثة: في تعيين المراد من الرجوع إلى الفقهاء ورواة الحديث.

- الرابعة: في دلالة حجيتهم على الناس المجعولة من قبل الإمام (عليه السلام).

أما الأولى فالظاهر أن المراد برواة حديثنا في التوقيع المبارك ليس الرواة لألفاظ حديثهم فقط بلا تفهّم وتفقه لمفاده، نظير ضبط المسجلات والأجهزة الصوتية مثلاً، بداهة أن الإمام لم يرجع أصحابه إلى الروايات بل أرجعهم إلى الرواة لخصوصية في الراوي أيضاً مضافاً إلى الرواية حيث قال إنهم حجتي ولم يقل رواياتهم حجتي بداهة أن رواية المعصوم لو ثبت سندها إلى المعصوم فهي حجة بلا إشكال، وإنما الكلام في حجية كلام الراوي ولا معنى لإرجاع الأصحاب إلى حفاظ الألفاظ وإعطاء الحجية لهم بلا درك لمفاهيم الرواية فلا محالة إذن، يراد بذلك الرواة بما هم فقهاء يفقهون الحديث ويفسرونه إلى الناس ويبينون معانيه وحدود دلالاته.

بناءً على هذا لا محالة يراد بذلك الفقهاء المستند فقههم إلى روايات العترة الطاهرة الحاكية لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قبال الفتاوى الصادرة عن الأقيسة والاستحسانات الظنية وأقوال غير الرواة الحقيقيين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الأئمة كالروايات المجعولة من قبل الحكام والأنظمة المستبدة على ما أثبته التاريخ، وإلا فإنه لو كان الرجوع لخصوصية مضافة إلى الرواية في الراوي لكان جعل الحجية له تحصيل للحاصل، ومضافاً إلى اللغوية بداهة حجية الرواية الواردة عن المعصوم لو صح سندها إليه (عليه السلام).

وأما الجهة الثانية فالظاهر أن المراد بالحوادث من جهة كونها جمعاً محلى باللام يفيد كل حادثة يرجع فيها الرعية إلى رئيسهم من غير فرق بين كونها من الأمور السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الأمور الشرعية، ومن غير فرق بين أن تكون مرتبطة بشخص خاص في الأمور الخاصة، أو بالمجتمع من الأمور العامة فتشمل ما كان من قبيل إخراج الأجانب النفط وسائر المعادن وعقد المصالحات مع الدول والمعاهدات، وكذلك إقامة الحرب أو السلام وتنظيم شؤون البلاد والدفاع عنها فيما لو توجه الخطر إليها من قبل الدول الأخرى وما شاكل ذلك.. فيدلّ على أن راوي الحديث المجعول حجة على الأمة هو الفقيه الجامع للشرائط، وإنه هو المرجع في جميع ذلك وليس معنى الحكومة وكون الشخص حاكماً ونافذ الحكم إلا ذلك، ومنه يظهر بأن راوي الحديث ليس هو المقصود هنا بما هو راوي بداهة أنه لا مجال للرجوع إلى الراوي في مثل ذلك لكونه راوياً فقط ولم يكن فقيهاً عارفاً لحدود كلمات المعصومين ودلالاتها.

- وأما الجهة الثالثة: في تعيين المراد من الرجوع فالظاهر أن الدلالة في مثل ذلك لها احتمالات:

- الاحتمال الأول: المراد الرجوع إليهم في الأحكام الكلية والفتاوى وقوله (عليه السلام) إلى رواة أحاديثنا قد يكون قرينة عليه، فإن الرواية قد تكون مرجعاً في الفتوى غالباً.

- الثانية: الرجوع إليهم في القضاء في المنازعات.

- الثالثة: الرجوع إليهم في تدبير أمور الأمة ونظامها والأحكام الولائية.

- الرابعة: الرجوع إليهم في جميع ذلك.

ولا ريب أن إطلاق الحديث يشمل الأخير أيضاً بل قد يقال أن الرجوع إليهم في الأحكام الشرعية لم يكن يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب الذي روى الرواية ولا يناسب التعبير بالحوادث أولاً، وكذا لا يناسب التعليل بكونهم حجة على الناس ثانياً فإن حجية نقل الأحكام المستفادة من الكتاب والسنة لا يحتاج إلى هذا المعنى بل هي ثابتة بلا حاجة إلى جعلهم حجة على الناس.

وعليه فالحوادث إما ناظرة إلى مسائل القضاء أو الولاية أو الأعم منها وهو الذي ارتضاه جمع من الفقهاء، ولعله المشهور كما يظهر من كلمات الشيخ الأعظم والسيد الأستاذ الشيرازي في (الفقه) والسيد السبزواري في (مهذب الأحكام) حيث أنهم ذكروا الرواية من دون مناقشة في السند مما يكشف عن اعتبارهم لها حيث اكتفوا ببيان الدلالة قال الشيخ الأعظم في (المكاسب): إن المراد بالحوادث ظاهراً مطلق الأمور التي لابد من الرجوع فيها عرفاً أو عقلاً أو شرعاً إلى الرئيس مثل النظر في أموال القاصرين لغيبة أو موت أو صغر أو سفه، وأما تخصيصها بخصوص المسائل الشرعية فبعيد من وجوه منها أن الظاهر وكول نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها مباشرةً أو استنابة لا الرجوع في حكمها إليه.

ومنها التعليل بكونهم حجتي عليكم وأنا حجة الله فإنه إنما يناسب الأمور التي يكون المرجع فيها هو الرأي والنظر فكان هذا منصب ولاه الإمام من قبل نفسه لا أنه واجب من قبل الله على الفقيه بعد غيبة الإمام وإلا كان المناسب أن يقول إنهم حجج الله عليكم، كما وصفهم في مقام آخر بأنهم أمناء الله على الحلال والحرام.

ومنها أن وجوب الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء الذي هو من بديهيات الإسلام من السلف إلى الخلف مما لم يكن يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب حتى يكتبه في عداد مسائل أشكلت عليه بخلاف وجوب الرجوع في المسائل العامة إلى رأي أحد ونظره فإنه يحتمل أن يكون الإمام (عليه السلام) قد وكله في غيبته إلى شخص أو أشخاص من ثقاته في ذلك الزمان.

إن محمد بن عثمان (قدس سره) كان الثاني من الوكلاء الأربعة لمولانا صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) والظاهر أن السؤال على يده منه (عليه السلام) عن الحوادث الواقعة إشارة إلى ما ذكره الشيخ الأعظم (رصوان الله عليه) من الحوادث التي يرجع فيها كل واحد إلى رئيسه، ولم يكن الوصول في ذاك الوقت إلى ناحيته (عليه السلام) ممكناً لغالب الناس، فكان من اللازم أن يكون هناك مرجع يرجعون في الحوادث إليه بدلاً عن الرجوع إلى ولاية الجور، لكن مال جمع من الأعاظم إلى إجمال الحديث من هذه الناحية، منهم السيد الحكيم (رضوان الله عليه) حيث احتمل الرجوع إلى الرواة لمعرفة حكم الحوادث أي الأحكام الكلية الشرعية كما ورد في حق غير واحد من أصحابهم عليهم السلام أنهم إذا لم يقدروا الوصول إليه في كل وقت فاللازم عليهم الرجوع إلى بعض أكابر الرواة على ما ورد في الروايات أيضاً وصرح السيد الخنساري (رصوان الله عليه) أيضاً في جامع المدارك بإجمال الحديث نظراً إلى أن اللام في الحوادث في العهد والمعهود هنا غير معلوم واستظهر المحقق الإيرواني في حاشيته على المكاسب كون الرواية ناظرة إلى مجرد أحكام شرعية لما فيهما من التعليل بقوله عليه السلام فإنهم حجتي عليكم فإن الظاهر من الحجة كونه في الأمور التي تحتاج إلى التبليغ والبيان ولذا قالوا الأعلام الثلاثة بعدم شمول الرواية لولاية الفقيه لكن الإنصاف أن هذا الإشكال غير تام لكون قبول الأحكام من العلماء إنما كان من باب رجوع الجاهل إلى العالم وهو أمر لا يحتاج إلى النصب ولا إلى التصريح بكونهم حجج المعصومين عليهم السلام على الخلق لكونه مقتضى بناء العقلاء وسيرتهم ولما عرفت سابقاً من احتمال أن يكون جواز ذلك من باب الحكم والتكليف وليس من التنصيب الإلهي وجعل المناصب الإلهية فهذا التعليل دليل على أنه ناظر إلى القضاء والولاية كما أن كون اللام في الحوادث للعهد لا ينافي العموم وذلك لقرينتين القرينة الأولى توصيف الحوادث بأنها واقعة ومن الواضح أن الحوادث الواقعة مستمرة في كل زمان ومكان ، الثانية: أنه لا خصوصية للحوادث إذا جاز الرجوع في بعض الحوادث إلى الفقهاء وما أشبه ذلك جاز الرجوع في غيرها أيضاً حتى ولو كانت الحوادث المقصودة بالرجوع مشخصة وكانت اللام فيها للعهد والحاصل أن مقتضى إطلاق الرواية شمولها للقضاء والولاية والتعبير بالحادثة والواقعة وكونهم حجة شواهد ثلاثة ظاهرة على ما ذكرناه ومنه يظهر إشكال فيما أفاده المحقق النائيني (رضوان الله عليه) في منية الطالب بعد نقل الوجوه التي ذكرها الشيخ الأعظم في المكاسب قال فلعل المراد من الحوادث هي الحوادث المعهودة بين الإمام (عليه السلام) والسائل وعلى فرض عمومها فالمتيقن منها هي الفروع المتجددة والأمور الراجعة إلى الإفتاء لا الأعم لما عرفته من قرائن التعميم نعم قد يقال بأنه تضمن الرجوع في الحوادث إلى الفقيه ولا يدل على وكول نفس الحادثة إلى الفقيه ليباشرها بنفسه أو بمن ينصبه والظاهر من ذلك الرجوع في حكمها إليه لا إيكالها إليه لكن يدفع ذلك بأن الرجوع في كل حادثة إلى الفقيه وكسب الوظيفة منه ولزوم العمل بكل ما يعينه ولو كان الدفاع عن الدولة الإسلامية وحفظ حدودها وما شاكل ذلك وعبارة أخرى عن كونه حاكماً مطلقاً ويناسب هذا المعنى التعليل بأنه حجة من قبل من له حجة من قبل الله سبحانه المسلط على العالم وما فيه وعليه فإن قيل بأن الدليل على التخصيص هو أصالة عدم الولاية والحجية إلا في المتقين إلا في الإفتاء والحكومة يقال فيه لا وجه للأخذ بالمتيقن مع ظهور الإطلاق في الرواية ومع وجود القرائن على التعميم نعم لو بني الكلام على التشكيك فلنا أن نشكك حتى في الضروريات ولم أرى تشكيك في الإطلاقات في كلمات القدماء فيما تفحصت عاجلاً وإنما حدث ذلك عن بعض متأخر المتأخرين كما ذكره السيد السبزراوي (رضوان الله عليه) في مهذب الأحكام مضافاً إلى أنه لو أمكن التمسك بالقدر المتيقن على الرغم من وجود الإطلاق والظهور فيه لما أمكن التمسك بإطلاق لدليل مطلق لأن الظاهر بأن كل دليل مطلق له مقدار من القدر المتيقن وهذا ما لا مجال للالتزام به وكيف كان فإن الظاهر من الرجوع هو الرجوع مطلق في مختلف شؤون الحوادث الواقعة وأما الجهة الرابعة وهي انه (عليه السلام) جعل الفقهاء حجة على الناس والمقصود من جعلهم حجة أن ما كان يجب على الناس من التكاليف اتجاه الإمام المعصوم (عليه السلام) من لزوم الطاعة وحرمة المعصية في الحكم والولاية مضافاً إلى الإفتاء والقضاء وجب عليهم أيضاً تجاه الفقيه الجامع للشرائط وإطلاق التنزيل لحجية الفقيه على الناس تشمل كل الشؤون العامة والخاصة إلا ما أخرجه الدليل إما من جهة اختصاصه بالمعصوم (عليه السلام) كالولاية على الأنفس والأموال أو من جهة عدم اختصاصه بالفقيه كالموضوعات الصرفة ونحوها على ما عرفت وأما في غير هذين من الشؤون العامة من السياسة والاقتصاد والإدارة والحكومة والقضاء وغيرها فإن للفقيه الحجة والولاية فيه لكون المنساق من إطلاق الحجة والرجوع في الحوادث الواقعة إنما هو التنزيل منزلة النفس من كل جهة إلا ما خرج من الدليل ويعضد ذلك الفهم العرفي على ما ذكره السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في كتابه الفقه الاجتهاد والتقليد حيث قال بأنه لو كان هناك وكيل عن السلطان مفوض إليه جميع الأمور ثم سأل بعض عن الوكيل إلى من يرجع في الواقعة الفلانية أو في جميع الوقائع وقال زيد وكيلي وأنا وكيل السلطان لا يرتاب العرف في الوكالة المطلقة والمؤيد الثاني الفطرة وهو ما ذكره السيد السبزواري (رضوان الله عليه) في مهذب الأحكام حيث قال أن الفطرة تحكم بأنه إذا انقطع يد الرئيس عن رعيته ظاهراً وجعل شخصاً نائباً منابه تعم النيابة جميع مال الرئيس من الجهات والمناصب إلا ما دل الدليل على التخصيص والخروج ومن الروايات ما رواه في تحف العقول عن أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في خطبة طويلة يخاطب بها علماء عصره قال ويروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه فأنتم المسلوبون تلك المنزلة وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة ولو صبرتم على الأداء وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم إلى آخر الحديث والظاهر أن المقصود بالعلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه هم الفقهاء العدول والاستدلال بالرواية في المقام مبني على كون المراد بالجملة نصب العلماء لتدبير أمور المسلمين والظاهر أن الجملة خبرية وقعت في مقام الإنشاء وبيان التكليف فيستفاد منها أن المرجع لأمور المسلمين يجب أن يكون العلماء الملتزمين ولكن تفرقهم في الحق واختلافهم في السنة وفرارهم من الموت وانغمارهم بالحياة هو الذي أدى إلى عدم التزامهم بمسؤولياتهم مما مكن الظلمة منهم وسلطهم على المسلمين وذلك ربما يستفاد منها أيضاً بأن المقصود أن جريان الأمور يجب أن يكون بيد العلماء بالله بأن يتحدوا ويتعاونوا مع المسلمين فيقيموا دولة عادلة وبقيادتهم وثورتهم يخرجوه الظلمة من عرصة السياسة والحكم هذا لكن أشكل في الرواية من جهة السند للإرسال ولكن ظاهر جمع من الفقهاء كما يظهر من السيد الشيرازي قدس سره في كتابه الفقه الاجتهاد والتقليد والسيد السبزواري (رضوان الله عليه) في مهذب الأحكام والسيد الروحاني (دام ظله) في منهاج الفقاهة هو قبوله وذلك إما لجهة اشتهاره الجابر لضعفه أو لارتفاع مضامينه أو اعتضاده بالمتون الإسلامية الأخرى أو لغير ذلك من جهات تقوية السند الموجبة لرفع ضعف الإرسال وتارة أشكل إليه من جهة الدلالة إما للإجمال كما ذهب إليه السيد الحكيم أو تردده الدلالة لجهة انحصار المواد بالأمور بين الإفتاء أو القضاء كما يظهر من المحقق الإيرواني (رضوان الله عليه) في حاشيته على المكاسب قال إن المراد بالأمور إما الإفتاء فيما اشتبه حكمه أو القضاء فيما اشتبه موضوعه أو كان الإشكال في الدلالة من جهة التخصص لكون المقصود من العلماء هنا هم الأئمة (عليه السلام) لا غير كما يظهر ذلك من كلمات المحقق النائيني (رضوان الله عليه) وغيره من الفقهاء الذين أشكلوا بذلك قال النائيني ما ورد في منية الطالب في هذه الخبر وخبر العلماء ورثة الأنبياء ونحوها من الأخبار الواردة في علو شأن العامل انه من المحتمل قريباً كون العلماء فيها هم الأئمة كما أورد على دلالة الحديث المذكور بأن الظاهر من أمناء الله على حلاله وحرامه الأمانة في الأحكام الواقعية إذ المشتبه حاله في أداء الأمانة لا يسمى أميناً وكثرة اشتباهات المجتهدين مما لا يخفى فالأمانة على الحلال والحرام الواقعيين مختص بالإمام فيخرج الفقهاء تخصصاً عن مورد الدلالة والظاهر إمكان المناقشة في هذه الجهات خصوصاً إذا لوحظ الجمع بين صدر الرواية وذيلها فإنه يستفاد منها الإطلاق الذي يمنع من الإجمال فإن العلماء في الرواية هم العارفون بدين الله وحلاله وحرامه كما أن المراد بالأمور ما يشمل الولاية والحكومة فإن الحديث الوارد إشارة إلى غلبة أهل الباطل إلى الولاية ومنع أهل الحق عن محالها ولو صبروا عادت الأمور إلى محالها فتكون الحكومة بأيديهم كما أن الرواية صريحة في أن المخاطب فيها هم العلماء الساكتين غير الآمرين بالمعروف وغير العاملين بالوظيفة والمستفاد منها بأن مجاري الأمور على أيديهم ولا معنى لمجاري الأمور في مقابل مجاري الأحكام سوى الأمور المربوطة بالحكومة الإسلامية ويؤكد ذلك ما في ذيله من قوله (عليه السلام): واستسلمتم أمور الله في أيديهم فإنما استسلموا هم الحكومة وما يرتبط بها كما هو واضح وأيضاً يتضمن الخبر بأن العلماء قد غصب حقهم ومن المعلوم أن المغصوب منهم ليس غير الحكومة بداهة أن مقام الإفتاء ونحوه مما لا يغصب وكافة السيرة جارية قديماً وحديثاً على أن العلماء هم الذين يفتون الناس ويحكمون بينهم بالأحكام الشرعية وإنما الذي غصب عنهم مقامات الحكومة وعلى ذلك فلا يبقى مجال للتردد والإجمال وعلى الجملة من تردد في الخبر صدراً وذيلاً يظهر له أن مراد الإمام الشهيد صلوات الله عليه بأن العلماء هم الحكام وأن تشكيل الحكومة من وظائفهم وقد غصب الظلمة هذه المنزلة من جهة ترك العلماء العمل بوظائفهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم المصانعة عند الظلمة وما شاكل ذلك وأما إشكال الخروج التخصصي للعلماء من جهة اشتباههم فيرد فيه ما ذكره السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) في كتابه الفقه الاجتهاد والتقليد من أن معنى الأمانة هو أداء ما يصل إليه من دون زيادة ولا نقيصة وأما الاشتباهات المتعارفة فلا يضر بالأمانة ويدل على هذا ما ورد في بعض الروايات من قول مولانا الرضا (عليه السلام) بالنسبة إلى زكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا مع بداهة عدم خلوه عن الاشتباهات اللازمة للبشرية لكونه غير معصوم وأما إشكال المحقق النائيني فالظاهر إمكان القول فيه بعدم التنافي بين دلالة الحديث على الأئمة المعصومين (عليه السلام) وشموله للعلماء نعم الأئمة عليهم الصلاة والسلام من باب المصداق وأجلى المصاديق لمراعاة اختلاف الرتبة فإن كون الأمور بيد الأئمة أولاً وبالأصالة في حال حضورهم وهذا لا يمنع من أن يكون للفقهاء في حال غيبتهم بالجعل والتنصيب لكون العلماء ورثة الأنبياء وأنهم وكلاء الأئمة ورواة حديثهم وأقرب الناس إليهم ويدل على ذلك أيضاً بعض الأخبار التي منها ما ورد في الاحتجاج عن الحسن العسكري (عليه السلام) في حديث طويل قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام) من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ومصابيح الدجى قال العلماء إذا صلحوا ومنها أيضاً التوقيع الشريف الذي رواه الكشي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال اعرفوا منازل الرجال منا على قدر روايتهم عنها ومثل هذه الروايات تدل على أن مجاري الأمور بعد الأئمة (عليه السلام) هي للعلماء خصوصاً إذا ضمنا لها القرينة العقلية إذ يدور الأمر في زمن الغيبة بين أن يتولى الأمور الفقهاء العدول أو يتولاها غير الفقيه العادل أو يتولاها الظالم ولا إشكال في أن الفقيه العادل هو الأقرب إلى الإمام وهو العكس لرأيه ونظره والمتبع لسيرته وسنته والمقتدي به وهذا أولى من غيره كما هو واضح ومن الروايات ما رواه الصدوق بأربعة طرق عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) اللهم ارحم خلفائي ثلاثاً قيل يا رسول الله ومن خلفاؤك قال الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي وزاد في بعض الروايات فيعلمونها الناس من بعدي وحيث أنه عند دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة الأصل هو البناء على وجود ما نقص كما حقق في محله وبعض طرق الحديث مرسلة وبعضها مسندة كما أن للحديث أسناد مختلفة مروية في كتب متعددة كما يظهر من المستدرك ومنية المريد والبحار وقد يقال أن كثرة أسانيدها توجب الاطمئنان بصدورها لا سيما وأنها مروية من طرق الفريقين فقد رواها في كنز العمال مع تفاوت يسير قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رحمة الله على خلفائي قيل ومن خلفاؤك يا رسول الله قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس هذا ولا يخفى عليكم بأن الصدوق في الفقيه إذا أسند الحديث بنحو الجزم على المعصوم (عليه السلام) كما في المقام ظهر منه انه كان قاطعاً بصدوره عنه أو كان له حجة شرعية على ذلك نعم لو عبر بقوله روي عنهم مثلاً أمكن قول الإرسال مضراً وعليه فإن رواية الصدوق للحديث بلسان قوله النسبة المباشرة لرسول الله كاشفة عن اطمئنانه وحجيته في السند قال في أول الفقيه ولم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وتحكم بصحته وأعتقد فيه انه حجة فيما بيني وبين ربي وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول واليها المرجع انتهى كلام الصدوق وفي هذا يظهر بأن الإشكال في سند الرواية بما لا مجال له وأما من جهة الدلالة فالظاهر أن إطلاق الخلافة فيها يشمل جميع مناصب النبي (صلى الله عليه وآله) وقد كان له منصب تبليغ آيات الله سبحانه والقضاء والولاية فهذه الشؤون الثلاثة تكون للعلماء من بعده كما هو مقتضى الاستخلاف والخلافة بل قد يقال بظهورها في الأخير فالخلافة أمر معهود من أول الإسلام ليس فيه إبهام فلو لم تكن ظاهرة في الولاية والحكومة فلا أقل من أنها القدر المتقين منها وإن شئت قلت الظاهر أن متن الحديث مع هذه الزيادة أي يعلمونها الناس وظهوره حينئذ في إرادة الفقهاء من الرواة في غاية الوضوح بداهة أن راوي الحديث والسنة هو من يعلم الناس أحكام الإسلام لا مجرد الراوي مع لقلقة اللسان ومن الواضح أن الرواية مع التعليم يلازم الفقاهة فيدل الخبر أيضاً على أن الفقيه خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن الخليفة بقول مطلق من يقوم مقام من استخلفه في كل ما هو له فإن كون الرئاسة والحكومة حق خليفة رسول الله ومنصبه المفوض إليه كان من الأمور الواضحة المسلمة عند الجميع ولذلك كان كلاً من ملوك بني أمية وسلاطين بني العباس بل ومن قبلهم من رؤساء الحكومة الإسلامية مدعياً لخلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتصدي ذلك المقام وعلى ذلك فتعيين رسول الله (صلى الله عليه وآله) العلماء خلفاؤه يكون دالاً بالملازمة البينة على جعلهم حكاماً نافذي الحكم ورؤساء للدولة الإسلامية ومما يؤيد هذه الملازمة بين جعل الخلافة لشخص وجعل الحكم والرئاسة أيضاً قوله سبحانه وتعالى يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق فإن كون الحكومة مترتبة على جعله خليفة مفروغ عنه كأنه في الآية وإنما أمر فيها بالحكم وعدم اتباع الهوى كما هو ظاهر الآية وكيف كان فالقرائن الداخلية والخارجية في الرواية تعضد بعضها البعض وتدل على إطلاق الخلافة عنه (صلى الله عليه وآله) الشاملة لجميع الشؤون الثلاثة من التبليغ والخصومات والقضاء والولاية وتدبير الأمور إذ المعهود من لفظ الخلافة عنه (صلى الله عليه وآله) في صدر الإسلام كان هو الخلافة عنه في الرئاسة العظمى على الأمة وتدبير أمورهم لكن أشكل على الاستدلال المذكور بإشكالات الأول أن المقصود من الخلفاء هم الأئمة الاثنا عشر عليهم السلام لكن الظاهر انه غير تام وإن كان الأئمة عليهم الصلاة والسلام من أجلى المصاديق وذلك لأن التعبير عنهم برواة الحديث لم يكن معهوداً فإن عترة النبي وآله وخزان علمه مضافاً إلى العموم والإطلاق الشامل للفقهاء أيضاً على اختلاف المراتب الإشكال الثاني بأن الظاهر من التفسير هو الخلافة في الرواية والسنة لا الخلافة المطلقة لكن أجيب عنه بأن رواية الحديث والسنة علامة الخلافة كما سأل الراوي عنهما فإنه كما لو قال (صلى الله عليه وآله) بعد الترحم الذي يجلس على منبري أو الذي يجاهد الكفار فإنه لا يفهم من ذلك إلا العلامية لا اختصاص الخلافة به الإشكال الثالث قالوا بأن قوله (صلى الله عليه وآله) يروون حديثي وسنتي وكذلك قوله فإن يعلمون الناس من بعدي قرينة على إرادة الخلافة في خصوص بيان الروايات وتعليم الأحكام وأجيب عنه أولاً بأن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن راوياً حتى يخلفه الرواة في الرواية وثانياً إن الظاهر أن الذيل ذكر معرفاً للخلفاء لا محدداً للخلافة فيكون المراد توصيف من له أهلية الخلافة عنه (صلى الله عليه وآله) وإن كانت الخلافة مطلقة بل النبي (صلى الله عليه وآله) أيضاً كان الملاك المهم لخلافته المطلقة عن الله معارفه وعلومه وتعليماته خصوصاً مع كون الحاكم ينبغي أن يكون معلماً وقدوة وأسوة للناس الإشكال الرابع قالوا إن مقتضى إطلاق الخلافة في الإسلام أن يكون للفقيه مثلما للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) من الولاية والأولوية بالنسبة إلى الأموال والنفوس وبعبارة أخرى يكون الفقيه في خلافته عن رسول الله نظير أمير المؤمنين في خلافته عنه وهذا ما لا يستلزم به الفقهاء على ما عرفته مما تقدم لكن أجيب عنه بأن نبوته (صلى الله عليه وآله) ورسالته من خصائصه التي لا يشاركه فيها أحد كما أن الفضائل المعنوية والكرامة الذاتية له وكذلك للأئمة المعصومين من خصائصهم ولكن البحث ليس في هذا الكمالات الذاتية بل الكلام هنا في الولاية الاعتبارية الجعلية التي بها يتكفل الشخص بتدبير الأمور وسياسة البلاد والعباد وتنفيذ مقررات الإسلام وحدوده وتعيين الأمراء والقضاة وجباية الضرائب ونحو ذلك من وظائف الحكام وليست الولاية الاعتبارية ميزة وإثرة بل هي وظيفة وتكليف ومسؤولية ولا يفرق في ذلك بين النبي والأئمة بل والفقيه الجامع للشرائط الذي يتحمل هذه المسؤولية فله وعليه مثلما لهم وعليهم فيما يرجع إلى الوظائف الأساسية وإلا فهل لأحد أن يحتمل مثلاً أن النبي (صلى الله عليه وآله) يجلد الزاني مئة جلدة بينما يجلده الفقيه أقل من ذلك أو من ما يطلب منه النبي (صلى الله عليه وآله) الزكاة غير ما يطلب منه الفقيه أو أن النبي له أن يعين الأمراء والقضاة للبلاد والفقيه ليس له ذلك إلى غير ذلك من الأمور والحاصل أن إطلاق الخلافة عن النبي (صلى الله عليه وآله) يقتضي شمولها لجميع الشؤون الذي كان يتولها رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الإفتاء والقضاء والحكومة ويخرج من ذلك ما أخرجه الدليل كالولاية على الأنفس والأموال فإنه من مختصات المعصوم ولا تشمل الفقيه الجامع للشرائط وحينئذ يثبت أن للفقيه بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام المعصوم الولاية العامة على شؤون الحكم والدولة.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.