المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 009.doc

بلاغة الحكم

يُعدّ (الحكم) أهم عنصر بلاغي من حيث فاعليّته على تفجير الإثارة لدى تفجير المتلقّي، فهو الذي يمنح النّص حيويّته من خلال إثارته للعواطف التي تتفاعل مع الأحكام الصادرة على هذا الشيء أو ذاك، فعندما يقول النّص القرآني مثلاً: (قتل الإنسان، ما أكفره!!) فإنّ المتلقّي سوف ينفجر عاطفيّاً حيال هذا الإنسان الذي حكم عليه النّص بأنّه يستحق أنْ يُقتل وأنّه بلغ درجة كبيرة من الانحراف.

أساليبه: للحكم نمطان هما:

1- الأسلوب غير المباشر: وقد عرضنا له عند حديثنا عن عمليّة (الوصف): بمعنى أنّ النص الأدبي يتضمّن بالضرورة (حكماً) على الشيء بكونه جيّداً أو رديئاً، وبكونه صواباً أو خطأً، فعندما يصف القرآن الكريم الجنّة بما فيها من ألوان النّعيم، إنّما يتضمّن هذا الوصف (حكماً) هو: إيجابيّة النعيم وإنها مما يتطلّع إليه الإنسان.

وعندما يصف ظواهر الإبداع الكوني من سماء وأرض وشمس وقمر و... و... إلى آخره، إنّما يتضمّن هذا الوصف حكماً هو إيجابيّة هذه الظواهر وتسخيرها للإنسان وهكذا.

2- الأسلوب المباشر: ويقصد به أنّ النّص الأدبي يتضمّن (حكماً) مباشراً على الأشياء بحيث يصفها بكونها إيجابيّة أو سلبيّة، صحيحة أو مخطئة، مثل قوله تعالى: (نِعْمَ الْعَبْدُ إنَّهُ أوّاب) وقوله تعالى: (تَبَّتْ يَدَا أبِيْ لَهَبٍ وَتَبْ) حيث حكم بالإيجاب على الشخصيّة الأولى، وبالسّلب على الشخصيّة الأخيرة مباشرة.

وأمّا الأسلوب الذي يتناول صياغة (الحكم)، فيتمّ وفق مستويات متنوّعة، منها: ما يتّصل بمضمون العبارة الحكميّة، ومنها: ما يتّصل بصياغتها، ومنها: ما يتّصل بموقعها، وهذا يتطلّب طرحها ضمن ثلاثة عناوين:

ونبدأ بالحديث عن:

1- العبارة الحكميّة ومضمونها:

المضمون العام للعبارة الحكميّة هو: الحكم على الأشياء إمّا بكونها إيجابيّة أو سلبيّة أو محايدة، فالأشياء إمّا تكون مفيدة أو ضارّة أو لا مفيدة ولا ضارّة.

بيد أنّ النّمط الثالث - وهو المحايد - لا يخلو من كونه ذا طابع إيجابي أو سلبي، طالما نعرف جميعاً بأنّ الشخصيّة السويّة هي التي تتقبّل الشيء أو ترفضه بحسب ما ينطوي عليه من الفائدة أو الضرر(1).

وفي ضوء هذه الحقيقة، نجد أنّ (الحكم) على الأشياء: إمّا أنْ يكتسب صفة الإيجاب أو صفة السلب.

وكل من هاتين الصّفتين (الإيجاب والسلب) تكتسب إمّا:

1- مضموناً عقليّاً هو: المدح والذم. أو:

2- مضموناً نفسيّاً هو: الفرح والألم.

ولكلٍّ منهما مسوّغاته:

فالمدح والذم تعبير عن كون الشّيء جيّداً أو رديئاً في نظر العقل.

وأمّا الفرح فتعبير عن كون الشيء جيّداً أو رديئاً من حيث الأثر المترتّب على النّفس، فعبارة (نِعْمَ العبد إنّه أوّاب) تعبير عن حقيقة عقليّة هي عبوديّة داود وسليمان للهِ تعالى...

وأمّا عبارة (يا بشرى: هذا غلام) فتعبير عن حقيقة نفسيّة هي: استبشاره بالعثور على يوسف...

وقد يتداخلان فيما بينهما أي المدح والفرح، أو الذّم والألم، مثل عبارة (طوبى) حيث تتضمّن (مدحاً) للشيء وحيث تتضمّن (فرحاً) به، ومثل (بُعداً) حيث تتضمّن ذمّاً للشيء وتألّماً منه.

 مستوياتها:

إنّ كلاّ من ظاهرتي (المدح والذّم) و(الفرح والألم) تندرج ضمنها جملة من المفردات أو (المصاديق).

ونقف عند كل منهما.

1- المدح والذّم:

إنّ كلاًّ من المدح والذّم، يأخذ واحداً من المظاهر التّالية:

1- أنْ يكتسب النّص سمة مجرّدة أو مطلقة: مثل (نعم) (بئس)، حيث تشير هاتان العبارتان إلى ما هو إيجابي وسلبي مطلقاً، بغضّ النّظر عن درجته العالية أو الواطئة.

2- أنْ يكتسب سمة متفاوتة: (أعلى) أو(أدنى) مثل تعظيم الشيء أو تحقيره، ومثل تضخيم الشيء أو تهوينه، ومثل التعجّب منه أو الإشفاق عليه، وهكذا.

2- الفرح والألم:

وهما أيضاً يأخذان واحداً من المظاهر الآتية:

1- أن يكتسب النّص صفة مجرّدة أو مطلقة مثل (يا بشرى هذا غلام) ومثل (يَا أسَفَى على يوسف)

2- أنْ يكتسب صفة (أمل) أو(يأس).

3- أنْ يكتسب صفة رغبة أو هبة.

2- العباره الحكميه وصياغتها:

بما أنّ الحكم على الموضوعات بالإيجاب أو السّلب، هو الهدف الرئيس من صناعة العمل الأدبي، حينئذٍ فإنّ صياغة العبارة التي تتضمّن (الحكم) تكتسب أهميّة كبيرة في حقل البلاغة.

ويمكننا - في البدء - أنْ نشير إلى أنّ صياغة الأحكام تتمّ على نمطين:

ألف - الصّياغة المباشرة.

ب - الصّياغة الاصطلاحيّة.

ألف - الصّياغة المباشرة:

ويقصد بها: أنْ يتضمّن النّص الأدبي حكماً على الشيء من خلال استخدام الألفاظ التي تحمل دلالة لغويّة خاصّة بذلك الشيء المحكوم به، مثل (إنّ الله غفور رحيم) حيث حكم على الله تعالى بأنّه غفورُ رحيم من خلال الّلغة الداّلة على هذا المعنى.

والمسوّغ الفني لهذا النمط من صياغة الحكم هو أنّ النّص يستهدف لفت النّظر إلى صفات معيّنة، وحينئذٍ لا بدّ من استخدام الألفاظ الداّلة على الصفات المذكورة وهذا يتميّز عن النمط الآخر من الصياغات التي أطلقنا عليها اسم:

ب - الصّياغة الاصطلاحيّة:

ويقصد بها أنْ يتضمّن النّص ألفاظاً قد اكتسب طابعاً اصطلاحيّاً ينطبق على مطلق الإيجاب أو السلب، مثل عبارات (نعم، بئس) حيث يستخدم في جميع ما هو إيجابي أو ما هو سلبي دون أنْ تتحدّد في صفات خاصّة كالغفران والرحمة، بل تتجاوزها إلى كل ما هو إيجابي من الصفات.

وهذا النّمط من الحكم، يتميّز بأهميّة بلاغيّة خاصّة: نظراً لكونه (قاعدة) فنيّة تُستخدم لغرض خاص، بحيث تنسحب على كل مورد يستهدف منه مدح الشّيء أو ذمّه، فعبارة (نعم) مثلاً تستخدم بالنسبة إلى الأشخاص المصطفين كالأنبياء مثل (نِعْمَ العَبْدُ إنّه أوّابُ)، وتستخدم بالنسبةِ إلى الظواهر العامّة مادّية كانت أو معنويّة مثل قوله (عليه السلام): (نعم الزاد التقوى).

من هنا يكتسب هذا النمط من الاصطلاحات أنماطاً متنوّعة من الصّياغات فيما يمكن درجها ضمن عنوان:

مستوياتها:

الملاحظ أنّ هذا النمط من الاصطلاحات (الحكميّة)، يتّخذ صياغات متنوّعة منها:

- اصطلاحات خاصّة بالله تعالى: مثل (سبحانه) (تعالى) إلى آخره.

- اصطلاحات تخصُّ الغير، ولكنّها تستند في صياغة الحكم إلى الله تعالى، مثل (للهِ درّه).

اصطلاحات خاصّة بالمدح والذّم، مثل (نعم) و(بئس).

وتندرج ضمنها ألفاظ قد اكتسبت من خلال الاستعمال اصطلاحاً خاصّاً بالإيجاب أو السّلب مثل (طوبى، مرحى، ويل...)

- اصطلاحات خاصّة بالتعظيم والتحقير مثل: صيغة الجمع بالنسبة إلى مخاطبة الفرد، تعظيماً، ومثل تصغير الاسم: تحقيراً.

3- العبارة الحكميّة وموقعها:

الملاحظ أنّ (الحكم) الذي يصدر على الموضوع، يأخذ واحداً من المواقع الآتية:

- البداية: أي أنّ النّص يبدأ تناوله للموضوع بعبارة (حكميّة) مثل قوله تعالى: (سبحان الذي...) وقوله تعالى: (تبارك الذي...)

ومثل قوله (صلى الله عليه وآله): (طوبى: لمن تواضع لله تعالى)

- الوسط: أي، إنّ النّص يطرح الموضوع أوّلاً، ثمّ يحكم عليه، ثمّ يتابع حديثه عن الموضوع، مثل قوله تعالى: (وقالوا اتّخذَ الرحمن ولداً - سبحانه - بل عباد مكرمون)، ومثل (ويجعلون لله البنات - سبحانه - ولهم ما يشتهون).

- الختام: أي أنّ النّص يطرح الموضوع أوّلاً، ثم يحكم عليه في الختام، مثل قوله تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامَاً، فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً، ثُمَّ أنْشَأناهُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الْخَالِقِينَ).

ومثل قو له: (وَجَعَلُوْا للهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمّا يَصِفُونَ).

فالملاحظ أنّ عبارة (سبحان) وهي حكميّة وردت أوّل الموضوع (سبحان الذي)، ووردت وسط الموضوع (سبحانه)، ووردت آخر الموضوع (سبحانه وتعالى عمّا يصفون)...

والمسوّغ الفنّي لهذا التفاوت في مواقع العبارة الحكميّة، يرتبط بطبيعة السّياق الذي يفرض حيناً أن يحكم على الأشياء ابتداءً أو وسطاً أو نهاية. فقد ابتدأت عبارة (سبحان الذي) في سورة الإسراء لتوضِّح العمليّة الإعجازيّة بالنسبة إلى إسراء الله تعالى محمّداً (صلى الله عليه وآله) حيث تتحدّث عن قدرة اللهِ تعالى وعطائه. أمّا مجيئها وسطاً فيتّضح تماماً حينما تُعرف بأنَّ هذه العبارة جاءت (جملة معترضة) حيث جعل المشركون للهِ تعالى البنات، وجعلوا لهم ما يشتهون، حينئذٍ فإنّ النّص أراد التأكيد على نفي هذا الشرك، فاعترض عليه بالعبارة (سبحانه) ثمّ تابع حديثه عن الموضوع.

وأمّا مجيئها في الختام فأمرٌ يتّضح بجلاء إذا عرفنا (التعقيب) على الشيء هو الأصل في الموضوعات، فعندما يطرح النّص ظاهرة من الظواهر إنّما يطرحها بصفتها واقعاً قد حدث، وحينئذٍ إمّا أنْ يكون هذا الواقع إيجابيّاً أو سلبيّاً، وهذا ما يتطلب التعقيب عليه في الختام. فالنّص تحدث عن المشركين وما زعموه من إشراك الجنّ والبنين، حيث عقّب على ذلك بقولهِ تعالى: (سبحانه وتعالى عمّا يصفون)...

عنصر السخرية وعلاقته بالحكم:

إنّ الحكم على الشيء يتّخذ عادة صفة (الجدّ)، إلاّ أنّ بعض المواقف تتطلّب عدم الجدّ بل (السخرية) من الشيء، مثل قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ ألِيْمٍ).

والمسوّغ الفنّي لعنصر السخرية هو ما تتطلّبه طبيعة الموقف حيال المفارقات التي تصدر عن سلوك الإنسان، بخاصّة سلوك المنحرفين الكفّار، حيث نجدهم حيناً يسخرون من الشريعة مثلاً، أو يصدرون عن أفكار مضحكة، أو يخادعون، أو يتميّزون غيظاً من رسالة الإسلام... إلخ، أولئك جميعاً تتطلب نمطاً من الرّد، يتناسب مع مواقفهم المذكورة، حيث تجيء (السخرية) منهم تعبيراً عن التناسب المذكور، أي تشكّل جزاءً للمفارقات المشار إليها، سواء أكان ذلك جواباً في دنياهم أو جواباً في أُخراهم.

ومن أمثلته ـ من النّمط الأول ـ قوله تعالى: (أمْ تَأمُرُهُم أحلامُهُمْ) حيث يسخر القرآن الكريم من الجاهليّين الذين وُصِفوا برجاحة العقل في تصوّر مجتمعاتهم، بمعنى أنّه تعالى يتساءل: هل أنّ عقولهم الموسومة بالرجاحة تقتادهم إلى إنكار الرسالة على محمد (صلى الله عليه وآله)؟ كما أنّه - يسخر منهم من جديد - حينما يتساءل: (أم لهم سلمٌ يستمعون فيه، فليأت مستمعهم بسلطانٍ مبين)، أي: هل أنّ موقعهم المذكور يستند إلى وجود قدرة خاصّة لديهم بحيث يمتلكون سلّماً يصعدون من خلاله إلى السّماء ليستمعوا إلى الحقيقة؟ إذنْ: فليأت مستمعهم بسلطانٍ مبين!!.

وفي ميدان نزاعاتهم الحاقدة على محمد (صلى الله عليه وآله) وانزعاجهم من انتصاراته، يخاطبهم النّص ساخراً: (مَنْ كانَ يظنُّ أنْ لن ينصرَهُ اللهُ فِي الدّنيا والآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسببٍ إلى السّماء، ثُمَّ ليَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ...) أي فليمددوا أيّة وسيلة تمكّنهم من الصعود إلى السّماء ليقطعوا نصرة اللهِ تعالى عَنْ الرّسول (صلى الله عليه وآله).

وأمّا السخرية منهم في الآخرة، فتمثّل في أساليب متنوعة، منها: مطالبة المؤمنين مثلاً بأن يضحكوا من الكفّار جواباً على ضحكهم من المؤمنين في الحياة الدنيا، ويتساءل قائلاً: (هل ثوّب الكفار ما كانوا يفعلون) حيث جعل (معاقبتهم) ثواباً: سخريةً منهم.

ويتّضح عنصر السخرية من الكافر، حينما يصف القرآن الكريم أهوال الجحيم ويخاطب الكافر قائلاً: (ذق إنّكَ أنت العزيز الكريم) حيث يسخر منه ومن عزّته وكرامته الموهومتين،... وبهذا تبلغ السّخرية منتهى جماليّتها ـ كما هو واضح.

ـــــــــــــــ

الهامش

(1)- ينبغي ملاحظة أن النمط الثالث من الأشياء، أي الأشياء التي لا ضرر فيها ولا فائدة، هذه الأشياء تكتسب صفة سلبية أيضاً بحسب العقل والشرع. فالمشرّع الإسلامي يطالب بأن يُوظّف عمل الإنسان من أجل الخير، حتى أنه ليطالب بأن تكون (المباحات) موظفة للخير أيضاً، مثل مطالبته بأن يُجعل لكل شيء نيّة حتى في الأكل والنوم فالمباح بالرغم من كونه لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، إلا أن الأفضل هو توظيفه للثواب.