المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 008.doc

العنصر المعنوي

عندما ننتخب فكرة من الأفكار، ونجسّدها في (موضوع) من الموضوعات، حينئذٍ فإنَّ الجزئيّات التي يتكوّن منها الموضوع، أو لنقل: الدلالات أو المعاني التي يتكوّن منها، تتطلّب صياغة خاصّة من حيث ترتّبها في أذهاننا، وهذا ما ندرجه ضمن عنوان هو:

العنصر المعنوي

يُقصد بالعنصر المعنوي: المعاني أو الدلالات التي يتضمّنها النّص الأدبي من حيث الطّريقة التي تترتّب من خلالها المعاني في ذهن المنشئ الأدبي، فنحن عندما نعتزم أنْ نعبِّر عن شيء في الذّهن، حينئذٍ نرتِّب معانيه وفق طريقة خاصّة كما لو أردنا أنْ نعبّر مثلاّ عن إشراق الشّمس، وحينئذٍ نسند عمليّة الإشراق إلى الشّمس فنقول (الشّمس مشرقةٌ) أو نقول (أشرقت الشمسُ) أو نقول (إشراق الشمسِ) أو نقول (الشمس مشرقة). وعندما نريد توكيد هذا المعنى، نصدِّر الجملة المذكورة بكلمة (أنّ)، ونصدّر كلمة (مشرقة) بحرف الّلام، فنقول (إنّ الشمسَ لمشرقة)... وهكذا... ومن الواضح أنّ ترتيب المعاني في الذّهن يتطلّب تقديماً، أو تأخيراً للكلمة أو الجملة أو الفقرة أو المقطع، ويتطلّب حذفاً أو ذكراً، ويتطلّب إجمالاً أو تفصيلاً إلخ... لذلك، فإنّ النّص الأدبي يكتسب بعداً بلاغيّاً بقدر ما يراعي فيه المنشئ طريقة ترتيبه للدلالات المتنوّعة حسب ما يتطلّبه الموقف على نحو ما نبدأ بتوضيحه الآن...

العنصر المعنوي والإسناد

إنّ ترتيب المعاني في الذّهن يعتمد أساساً على عنصر رئيس هو عمليّة (الإسناد).

 تعريف الإسناد:

والإسناد هو حمل شيء آخر، أي: جعل الشيء مستنداً إلى شيء آخر، مثل جعل الإشراق مستنداً إلى الشمس في قولنا: (الشمس مشرقة)، ومثل قوله (عليه السلام): (الندم توبة) حيث جعل (التوبة) مستندة إلى (الندم).

أركانه:

ولعميلّة الإسناد ركنان هما:

1- المسند: وهو الشيء الذي نريد أنْ نسنده إلى شيء آخر، ومثاله (الشروق) و(التوبة) في النموذجين المتقدّمين.

2- المسند إليه: وهو الشيء الآخر الذي أسندنا إليه الشيء، ومثاله (الشّمس) و(النّدم) في النموذجين المشار إليهما.

 أقسامه:

ينقسم الإسناد إلى قسمين رئيسين هما:

الإسناد المفرد، والإسناد المركب:

1- الإسناد المفرد:

ويقصد به أنْ يكون المسند والمسند إليه شيئين مجرّدين عن الدلالات الثانويّة التي تلحق بهما، ومثاله: النموذجان المتقدّمان، حيث نجد أنّ المسند وهو الشروق شيء مفرد غير مقرون بأوصاف أخرى، وكذلك المسند إليه وهو (الشّمس) لم تقترن بأيّة أوصاف أخرى... والأمر نفسه بالنسبة إلى (التوبة) و(الندم).

وينقسم الإسناد المفرد إلى قسمين: تام وناقص.

- الإسناد التام: ويقصد به أنْ تكون عمليّة الإسناد منطوية على جملة مفيدة، كالنموذجين المتقدّمين.

وهو قسمان:

- إسناد اسمي: وهو أنْ يكون المسند اسماً مثل (الشمس مشرقة).

- إسناد فعلي: وهو أنْ يكون المسند فعلاً مثل (أشرقت الشمس).

أما المسند إليه فيكون اسماً بالنسبة إلى الإسناد المفرد.

- الإسناد الناقص: ونعني به أنْ تكون عمليّة الإسناد منطوية على جملة غير مفيدة، مثل قولنا (إشراق الشَّمس) و(الشمس المشرقة)(1) حيث نواجه هنا إسناد (الشروق) إلى (الشمس) على نحو ما لحظناه في الإسناد التّام بقسيمه: الاسمي والفعلي، إلاّ أنَّ الإسناد هنا لا ينطوي على جملة مفيدة نظراً لاقتصاره على المضاف والمضاف إليه والموصوف والصفة. أو على فاعل وفعل متعدّ بالنحو الذي سنوضّحه لاحقاً.

وهذا الإسناد على ثلاثة أنماط:

1- إضافي: مثل عبارة (شروق الشمس) في جملة (شروق الشمس جميل).

والإضافي نمطان: مفرد ومتعدّد:

- المفرد: ما يتألف من مضاف ومضاف إليه مثل (إشراق الشمس).

- المتعدّد: هو ما يتألف من إضافتين وأكثر مثل (جمال إشراق الشمس)

2- وصفيّ: مثل عبارة (الشمس المشرقة) في جملة (الشمس المشرقة جميلة)

3- فعلي: مثل (أقمت) حيث أسندنا الإقامة (وهي فعل متعدّ) إلى ضمير متكلّم (الفاعل) في جملة (أقمت الصّلاة).

ويلحق بهذا النمط من الإسناد: كلّ من البدل والتوكيد وعطف البيان: بصفة أنها تنطوي على عمليّة إسناد وعلى كونها إسنادات ناقصة.

2- الإسناد المركب

وهو ما يتألف من إسنادين متداخلين فصاعداً، بحيث يكون أحدهما إسناداً رئيسيّاً، وغيره إسناداً ثانويّاً يندرج ضمن الإسناد الأوّل، مثل (الصّلاة عمود الدّين) حيث تتضمّن هذه الجملة إسناداً رئيسيّا هو إسناداً (عمود الدّين) إلى (الصلاة)، وتتضمّن إسنادا ثانوياً هو إسناد (العمود) إلى (الدين). ومثل (أقيموا الصّلاة) حيث تتضمّن إسناداً رئيسيّاً هو إسناد (أقيموا) إلى (الصلاة)(2) وإسناداً فرعيّاً هو: إسناد (الإقامة) إلى ضمير المخاطب، وهم الناس.

والإسناد المركّب على قسمين:

1- بسيط: وهو ما تألّف من إسنادات (مفردة) لا تتجاوز المعاني الإضافيّة والوصفيّة والفعليّة التي لحظناها في الإسناد المفرد...

وهذا على ثلاثة أقسام:

-أنْ يكون المسند إليه عبارة مفردة، مثل: (سوء الخلق: شؤم) و(أقاموا الصلاة).

- أنْ يكون المسند عبارة مفردة، والمسند إليه جملة، مثل (النساء حبالات إبليس).

- أنْ يكون المسند جملة، والمسند إليه جملة أيضاً، مثل (كمال الدين: طلب العلم).

2- مفصل: وهو ما تألّف من إسنادات بسيطة ولكنها مقرونة بإسنادات مفصّلة للإسناد الأوّل، ترتبط بكيفية وزمان ومكان الإسناد... إلخ، وسائر الأوصاف المترتّبة على الإسناد الأوّل، مثل قوله تعالى: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُون).

فالآية الكريمة تتألّف من إسناد مفرد هو جملة (جاءوا) وإسناد بسيط هو (جاءوا أباهُم)، إلاّ أنّ هذه الجملة قد اقترنت بإسنادات مفصّلة لمجيء الأخوة أباهم، مثل كونه (عشاءً)، ومثله كونهم (يبكون)(3).

وفي ضوء هذه الحقيقة، تكون المفاعيل والتمييز والحال والشرط إسنادات مفصّلة: كما هو واضح.

 أدواته

تنقسم الأدوات التي تستكمل بها عمليّة الإسناد إلى:

1- أدوات رابطة:

ويقصد بها الأدوات النحويّة التي تربط بين المسند والمسند إليه في شتّى مستوياته، وفي مقدّمتها: الحروف، فقوله (صلى الله عليه وآله): (العجلة من الشيطان) يتضمن مسنداً ومسنداً إليه وهو: إسناد (العجلة) إلى (الشيطان). ولكن الأداة الحرفيّة (من) قامت بعمليّة ربط بين طرفي الإسناد، حيث أوضحت (النسبة) بينهما.

2- أدوات بيانيّة:

ويقصد بها الأدوات التي تبيّن ما يقترن مع الإسناد من حالات تتّصل بالاستفهام والتعجب والحث وغيرها، حيث تستخدم أدوات خاصّة بها، ومنها: الأدوات الناسخة (كان) وأخواتها، و(أنّ) وأخواتها... إلخ.

أساليبه

ويقصد بها: الأساليب أو الطرائق التي يتمّ الإسناد من خلالها من حيث العرض، وهذا ما ندرجه ضمن عنوان:

أساليبه الوصفيّة والمعياريّة

كل تعبير أدبيّ أو ترتيب للمعاني يتضمّن بالضّرورة عمليّة (وصفية) للأشياء، أو (معياريّة) لها، أو كلتيهما(4).

ويقصد بمصطلح (الوصف): عرض الحقائق بطريقة محايدة، بحيث تصفها دون أنْ (تحكم) عليها بالجودة أو الرداءة. وهذا كما لو وصفنا حادثة حريق مثلاً أو رسمنا ملامح شخص من حيث طوله وحجمه وعمره إلى آخره... ومثاله (من النّص القرآني الكريم) قوله تعالى عن الحوت: (فَاتَّخَذَ سَبيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) حيث قدّم لنا النّص وصفاً يرتبط بانسراب الحوت في البحر، دون أنْ يحكم على هذه الظاهرة بالإيجاب أو السلب أو الصحة أو الخطأ.

وأمّا المعياريّة فيقصد بها: أنْ (نحكم) على الحقائق المعروضة بالجودة أو الرداءة أو الخطأ أو الصواب. ومثال ذلك قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِين...) حيث حكم على عمليّة التطفيف التي وصفها فيما بعد (بالويل)، وهو حكم سلبي على الشيء.

 المسوّغات الفنيّة:

ولكّلٍ من (الوصفيّة) و(المعياريّة) مسوّغاتها البلاغيّة.

فللوصف مسوّغاته المتمثّلة في عرض الحقائق بنحوها الواقعي، طالما يميل الإنسان ـ بحكم التركيب النّفسي والعقلي والحيوي لدوافعه ـ إلى إشباع حاجاته المذكورة، أنه يشبع حسّه الجماليّ حينما يواجه عمليّة وصفيّة للطبيعة من شجر وماء وجبل.. إلى آخره، ويُشبع حاجته النفسيّة حينما يواجه وصفاً (واقعيّاً) للشيء الذي يخبره في حياته، ويشبع حاجته العقلية حينما يواجه عمليّة وصفيّة لحقائق الحياة المختلفة سواء أكانت حقائق معنويّة كالقيم أو غيرها...

يُضاف إلى ذلك أنّ حقائق الحياة في حدّ ذاتها تحمل خصائص ذات طابع (وصفي)، فمحاوراتنا اليوميّة مثلاً تعتمد على ما يصفه أحدنا للآخر، ونشاطاتنا العلميّة تقوم على وصف الحقائق المطروحة في (البحث) وهكذا...

طبيعيّا أنّ الوصف وحده لا يكتسب قيمة بلاغيّة إلاّ إذا اقترن بـ(هدف)، وإلاّ أصبح عملاً عابثاً، كلّ ما في الأمر أنّ الوصف قد يقترن حيناً بهدفٍ مباشر، وحيناً بهدف غير مباشر كما سنوضِّح ذلك لاحقاً، وهذا هو الفارق بين التصوّر الإسلامي للمبادئ البلاغيّة التي تصبح مجرّد (وسيلة) إلى هدف عبادي وبين التّصوّرات البشريّة (في بعض اتجاهاتها التي تعزل الفن عن وظيفته الإصلاحيّة).

وبما أنّ العملية (الوصفيّة) تتضمّن بالضرورة، هدفاً مباشراً أو غير مباشر، حينئذٍ فإنّها تتضمّن بالضرورة عمليّة (حكم) على الأشياء، ولكنّه غير مباشر. وهذا ما يفسّر لنا المسوّغ الذي نجده في العمليّة الثانية من التعبير الأدبي وهي (المعياريّة).

فللمعياريّة مسوّغاتها التي لا تحتاج إلى تعقيب، طالما نعرف جميعاً بأنّ الهدف من عرض الحقائق ليس مجرّد عرضها، بل ما تتضمّنه من خطأ أو إصابة، ومن رداءة أو جودة، حتّى يُستثمر ذلك لتعديل السلوك البشري كما هو واضح.

والآن: إذْ عرفنا المقصود من مصطلحي (الوصفيّة) و(المعياريّة) ومسوّغاتهما، نبدأ بتفصيل الحديث عن كلّ منهما، فنتحدّث أوّلاً عن:

 مستويات الوصف والمعياريّة:

إنّ كلاًّ من هاتين العمليّتين يتمّ على مستويين:

1- التعبير المجرّد: ويقصد به أنْ يتمّ الوصف أو الحكم على شكل إخباري لا يتضمّن استدلالاً على طبيعته أو على جودته ورداءته. ومثاله من الوصف قوله تعالى: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمّ تَوَلَّى إلى الظِّلِّ...) فالوصف هنا يتضمّن عرضاً لعمليّة السعي والذهاب إلى الظّل، دون أنْ يتضمّن عنصراً آخر يستدل به على السعي والتظليل... ومثاله من الحكم قوله تعالى: (وَمَا أدْرَاكَ مَا الْحَاقَّة) حيث حكم تعالى على الإنسان بعدم العلم بالحاقّة، ودون أنْ يقترن ذلك بالاستدلال على ما تتضمّنه من الأهوال.

2- التعبير الاستدلالي: ويقصد به أنْ يتم الوصف أو الحكم من خلال عمليّة استدلاليّة على طبيعتها وما ينطويان عليه من الرداءة أو الجودة أو من الصحّة أو الخطأ بالنسبة إلى السلوك الموصوف أو المحكوم عليه...

ومثاله من الوصف: (أوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟) حيث قدّم استدلالاً على خطأ التصوّرات المنحرفة التي استبعدت إحياء الله تعالى للعظام وهي رميم.

ومثاله من الحكم قوله تعالى: (فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الْخَالِقِيْن) حيث جاء هذا الحكم عمليّة استدلاليّة على خلقه تعالى للإنسان من سلالة فنطفة فعلقة فمضغة فعظام فلحم، ثم حكم على ذلك بقوله تعالى: (فتبارك الله...)

 مستويات الاستدلال:

وللاستدلال مستوياته التي تتخذ واحداً من الأشكال الآتية:

1- الاستخلاص: ونعني به تقديم الدّليل (كالنماذج المتقدّمة)

2- التعليل: ونعني به تقديم السّبب الذي تقترن به عمليّة الوصف أو الحكم مثل قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونَ).

3- التفسير: ونقصد به الكشف عن الخصائص المتضمّنة للعمليّة الوصفيّة أو المعياريّة. ومثاله: (هَلْ أدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيْكُمْ مِنْ عَذَابٍ ألِيْمٍ: تُؤْمِنُونَ...)

 النسبيّة في التعبير:

قلنا إنّ العبارة الأدبيّة تتضمّن إمّا عمليّة وصفيّة أو حكميّة أو كليهما.

كما أنّ كلاًّ من العمليّتين قد تكونان مجرّدتين أو استدلالية أو كلتيهما.

وهذا يعني أنّ السياق هو الذي يفرض هذا النمط أو ذاك. إلاّ أنّ الغالب في النّصوص ما يتضمّن عمليّتي الوصف والحُكم بحيث لا يفصل أحدهما عن الآخر.

وكذلك عناصرها من الاستخلاص والتعليل والتفسير، بخاصّة في النصوص الشّرعيّة (القرآن وأحاديث أهل البيت عليهم السلام) حيث أنّ حيويّة التعبير الفنّي تتضخّم بقدر احتشاده بهذه العناصر مجتمعة إلاّ في سياقات خاصّة يُكتفى فيها بالوصف أو أحد عناصرها.

فلو أخذنا على سبيل المثال افتتاحيّة سورة الكهف (الْحَمْدُ للهِ الذي أنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً ليُنْذِرَ بَأساً شَدِيْداً مِنْ لَدُنْهُ، وَيُبَشّر...)

لوجدناها تتضمّن وصفاً هو إنزال الكتاب على العبد، وحكماً هو الحمد وعدم (العوج) و(القيّم)، واستدلالاً تعليليّاً هو (لينذر)... ولذلك نلاحظ أنّ هذه العناصر (يتداخل) بعضها مع الآخر بحيث يتعذّر تفكيكها. وهذا ما يقتادنا إلى القول بأنّ كلاًّ من هذين التعبيرين (الوصفي والمعياري) يرد حسب متطلّبات السياق الذي يفرض أحدهما حيناً ويفرض تآزرهما حيناً ثانياً، ويفرض تداخلهما حيناً ثالثاً، أو يفرض عليه أحدها حيناً رابعاً...

وفي ضوء هذه الحقائق يحسن بنا أنْ نعرض بالتفصيل لكلّ هذين العنصرين:

(الوصفيّة) و(المعياريّة). ونبدأ بالحديث أوّلاً عن:

بلاغة الوصف

تتجسّد بلاغة الوصف في جملة من الخصائص:

1- الانتخاب: أي رصد الأشياء التي يستهدفها النص بحيث تتناسب مع فكرته.

فالإمام علي (عليه السلام) حينما يصف لنا الطّاووس مثلاً إنّما يستهدف ربط ذلك بإبداع الله تعالى...

وهذا يتم على مستويين: الوصف العابر والوصف التفصيلي.

1- الوصف التفصيلي: ويقصد به أنّ النّص يتمحّض بكامله أو بقسم منه لظاهرة وصفيّة، مثل السّور القرآنيّة التّي تتحدث عن الجنّة والنّار بنحو مفصّل مثل سورة الرحمن، الواقعة، هل أتى... إلى أخره، حيث تتمحّض للظواهر الوصفيّة المرتبطة بالبيئة الأُخرويّة.

ومثاله من أدب المعصومين (عليهم السّلام): النصوص التّي كتبها الإمام علي (عليه السلام) عن الطاووس والخفّاش ونحو ذلك من النصوص المختلفة للوصف.

2- الوصف العابر: ويقصد به الوصف الذي يرد عابراً في النّص، مثل كثير من السور القرآنيّة التي يرد فيها وصف للبيئة الأُخرويّة أو الدنيويّة، من نحو الوصف الذي ورد عن المزرعتين والكهف (في سورة الكهف)، أو البيئة الزراعيّة لمجتمع سبأ، أو وصف التّابوت، أو وصف شخصيّة طالوت.. إلى آخره.

2- الدّقة: ويقصد بها أنْ يتمّ الوصف بصورة تتناول الموضوع بما هو دقيق من الأوصاف: مثل ما وصفه الإمام (عليه السلام) بالنسبة إلى الطاووس حيث تناول أدق الملامح الجسميّة والحركيّة له بنحو معجز ومدهش ومثير...

3- عضويّة الوصف: ويقصد به أنْ يكون الوصف الخارجي للأشياء، متجانساً مع الوصف الداخلي له، أو متجانساً مع فكرة النّص. فمثلاً عندما يصف النّص القرآني شخصيّة طالوت بكونها ذات (بسطة في العلم والجسم)، فإنّ هذين الوصفين (بسطة الجسم والعلم) يظلاّن على علاقة بفكرة النّص، لأنّ الهدف من انتخاب طالوت هو: إنقاذ الإسرائيليين من الجبابرة، وحينئذٍ فإنّ صفات القائد العسكري تتمثّل في صفتين هما: قوة الجسم والعلم، حيث ترتبط البطولة بقوة الجسم، وترتبط الخطط العسكريّة بقوة العلم...

وهكذا نجد أنّ الوصف هنا قد تمّ بنحو يكون له إسهامهُ العضوي في النّص، وليس مجرّد الوصف العابر الذي يحقّق الإمتاع والتّسلية فحسب، بل الوصف الذي يتجانس في ما هو داخلي مع الوصف الخارجي.

وهذا يقودنا إلى خصّيصة أخرى هي:

4- الوصف الخارجي والوصف الداخلي: إنّ عمليّة الوصف تتناول مظهرين: المظهر الخارجي والمظهر الداخلي.

ويقصد بالمظهر الخارجي: ما يتناول الظواهر الماديّة للشيء مثل وصف الطّبيعة من شجر وماء وجبل إلى آخره. ومثل وصف البيئات الصناعيّة ومثاله: (الوصف الذي تناول بيئة سليمان أو داود بالنسبة إلى صناعة التماثيل والجفان والجوابي والحديد إلى آخره)، ومثل وصف الملامح الخارجيّة للشخص (الوجه العينين، المشي، إلى آخره)، (وصف الطاووس، النمل، الطائر، إلى آخره)...

وأما المظهر الداخلي: فيقصد به وصف الحالة الذهنيّة أو النفسيّة للشخص ووصف المواقف المرتبطة بها، ومثالها ما نجده لدى الإمام على (عليه السلام) في وصفه لسمات المتّقين من حيث كونهم خُشّعاً وجلين خائفين مشفقين من اليوم الآخر... وتتضخّم أهميّة مثل هذا الوصف حينما يربط النص بالأوصاف الخارجيّة التي تعكس الحالة الداخليّة فهو (عليه السلام) يصف المتَّقين مثلاً عمش العيون، خمص البطون، ذبل الشفاه. فيما ترتبط هذه الأوصاف الخارجيّة بالمواقف التي يصدرون عنها وهي السهر والقيام والبكاء من خشية الله تعالى...

كما تتضخّم أهميّة هذا الوصف حينما يجسّم الماديّات في مظهر داخلي، مثل تشبيهه (عليه السلام) هؤلاء المتّقين بأنّهم يحسّون بزفير جهنّم مدوياً في آذانهم من شدة الخوف...

وبهذا يتّضح أن الوصف الداخلي يتمّ رسمه على أنماط:

1- انعكاساته على المظهر الجسمي (كالبكاء والسهر).

2- انعكاسات المظهر الخارجي على الشخصيّة (زفير جهنّم ودويّها في الآذان وارتباط ذلك بالخوف...).

3- عضويّته مع الوصف الخارجي: فكما أنّ الوصف الخارجي ينبغي أنْ يتجانس مع الوصف الداخلي أو القيمي، كذلك، فإنّ الوصف الداخلي ينبغي أنْ يعكس أثره على الأوصاف المترتبة عليه.

5- أشكاله: تتمّ عملية الوصف في صعيد الشخصيّة، والمحادثة، والبيئة، والموقف. ومثالها: قصة طالوت التي تناولت وصفاً لشخصيّته (بسطة في الجسم والعلم)، ووصفاً للحادثة العسكريّة التي انتهت بهزيمة جالوت، ووصف بيئة التابوت، ووصف المواقف التي تحدّثت عن جبن الإسرائيليين، ومواقفهم المتخاذلة، والمشكّكة: حيث شكَّكوا بشخصيّة طالوت وطلبوا واحداً منهم، وحيث خالفوا أوامر القائد فشربوا من النهر، وحيث جبنوا عن الدخول إلى المعركة (إلاّ قليلاً منهم)...

6- الوصف وعلاقته بالحكم: عمليّة الوصف (من حيث علاقته بالحكم) يمكن:

1- أنْ تتمّ مجرّدة: عن الحكم كما هو طابع بعض النصوص البشريّة التي تصف الظواهر من أجل الإمتاع والتسلية، وهذا ما لا قيمة حقيقية له.

2- أن تتمّ مقْ عرفنا الم مباشرة: أي أنّ الوصف، لا ينفصل عن الحكم بالإيجاب أو السلب على الموصوف، مثل قوله تعالى: (وَإذ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَناجِر) حيث حكم النص عليها بالسلب عندما أردفها بالقول: (وَتَظنّون باللهِ الظُّنُونا) وهكذا بالنسبة إلى أوصاف الجنّة والنّار وأصحابها، أو أوصاف اليوم الآخر وشخوصه...

3- أن تتمّ مقترنة بالحكم بنحو غير مباشر (مثل نسوة المدينة) في سورة يوسف (عليه السلام) حيث حكم عليها بالسلب من خلال الإشارة فيما بعد إل أنْ يتضمَّّ عظيم.

4- أنْ تتمّ مجرّدة عن الحكم، ولكنها مقترنة بهدف خاص مثل قوله تعالى عن الحوت: (فاتخذ سبيله في البحر سرباً) حيث إنّ هذا الوصف يظلّ على علاقة عضويّة بهدف النّص وهو: الإعجاز من جانب وكونه (علامة) للمكان الذي قصده موسى (عليه السلام).

ما تقدّم، يمثّل بلاغة (الوصف)...

أمّا ما يتّصل ببلاغة (الحكم) فندرجه ضمن عنوان:

ــــــــــــ

الهامش

(1)- البلاغيون القدامى لا يعدون الإسناد الناقص إسناداً، بل يعدونه طرفاً م نه، وهذا ليس بصائب، لبداهة أن قولنا: (أشرقت الشمس) لا يختلف في إسناد شروقه إلى الشمس عن قولنا: (إشراق الشمس) و(الشمس المشرقة).

(2)- البلاغيون القدامى لا يعدّون (المفعول به) ـ وكذلك سائر المفاعيل ـ إسناداً بل يعدّونه (قيداً) للإسناد وهذا ليس بصحيح، لأنهم يعدون (المفعول به) ـ في حالة بناء الجملة للمجهول ـ (مسنداً إليه) مثل (أقيمت الصلاة), فلماذا يعدون (الصلاة) (مسنداً إليه) في هذه الحالة، ولا يعدونها كذلك في حالة (الجملة المعلومة) مثل (أقيموا الصلاة)؟

(3)- البلاغة الموروثة، تعد هذه الإسنادات المفصلة (قيوداً) ـ كما أشرنا ـ تضاف إلى الإسناد الأول (جاءوا)، بينا هي في حقيقتها إسنادات وليست قيوداً، حيث أسند (المجيء) إلى الأخوة وأسند مجيئهم إلى (الأب) حيث أشرنا إلى أن المفعول به يصبح مسنداً إليه في حالة بناء الجملة للمجهول، والأمر كذلك بالنسبة إلى الظرف والحال، حيث أسند مجيئهم إلى الأب (عشاءً) وأسند ذلك جميعاً إلى جملة (يبكون).

(4)- يطرح هذان الاصطلاحان في صعيد العلوم الإنسانية، من حيث كونها (وصفية) بحيث تكتفي بعرض الظاهرة بشكل (موضوعي) لا يحكم عليه بالإيجاب والسلب، ومن حيث كونها (معيارية) يكتفي أن يحكم عليها بالإيجاب أو السلب، ولا شك أن الاتجاه المعاصر في العلوم لا يحتاج إلى الرأي الأول لاستلزامه عبثية البحث.