المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 007.doc

العنصر الموضوعيّ

يُقصد بالعنصر الموضوعيّ، ما يتضمّنه النّص مِن الموضوعات التي تجسّد (الفكرة) التي تَحدّثنا عنها في الفصل السابق.

إنّ سورة (الفيل) مثلاً تنطوي على فكرة هي أنّ الله يحمي بيته من الأعداء. وهذه الفكرة تفتقر إلى (موضوعات) لتجسيدها، وتوضيح ما تنطوي عليه من التفصيلات.

والموضوعات التي جسّدت هذه الفكرة هي: حادثة إرساله تعالى للطير، حادثة إبادتهم بالحجارة، حادثة جعلهم كعصف مأكول. هذه الحوادث الثلاث هي العنصر الموضوعي للنص، حيث جسّدت (الفكرة): حمايةُ اللهِ تعالى للبيت الحرام. وهذه الحوادث قد صاحبتها عناصر هي (الشخصيّات) المتمثّلة في (الطير) و(البشر) فيما شكّلا طرفي المعركة، كما إنّها تمّت في (بيئة) خاصّة هي (الحرم). وأخيراً نجد أنّ (القيم) قد صاحبت هذه (الحوادث) و(الشخصيّات) و(البيئة)، حيث إنّ قوله تعالى: (ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحَابِ الْفِيلِ ألَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيْل) إنّما يُجسِّد (قيماً) أو(مواقف) هي: التّساؤل الذي يُشير إلى أنّه تعالى جعل كيدهم في تضليل.

إذاً: الموضوع المذكور، قد تألّف من مجموعة حوادث وشخصيّات وبيئات ومواقف تشكّل (موادّ) الموضوع.

وهذا ما يقتادنا إلى أنْ نتحدث عن الموضوع مِن حيث (مادّته) أوّلاً، ثم من حيث علاقة ذلك بـ(الفكرة) التي يجسّدها الموضوع ثانياً، وبصياغته ثالثاً، ونبدأ بالحديث أوّلاً عن:

1- الموضوع ومادّته:

إنّ مادّة الموضوع التي يتوكّأ عليها تتكوّن من أربعة عناصر (سبق أنْ عرضنا لها في مقدمة الكتاب)، وهي:

1- الشخصيّات

2- الحوادث

3- البيئات أو الأشياء

4- القيم أو المواقف

والغالب في (الموضوعات) أنّها تتألف من هذه العناصر مجتمعةً، نظراً لارتباط بعضها مع الآخر، كما لحظنا في سورة (الفيل)، حيث إنّ (الشخصيّات) لا بدّ من رسمها من خلال (موقف) لها و(بيئة) تتحرّك فيها و(حوادث) تواجهها، وهكذا..

لكن من الممكن أن يعتمد (الموضوع) ثلاث مواد أو مادتين أو مادة واحدة. إنّ المادة الواحدة قد تقتصر على مفردة واحدة، وقد تتجاوز إلى أكثر. لذلك سنتحدّث عن الموضوع وعلاقته بالمادة التي يتألف منها في حقلين:

الموضوع وعلاقته بالمواد الأربع:

1- بعض الموضوعات تعتمد مادة واحدة (كالقيم) مثلاً، وهذا من نحو قوله (عليه السلام): (الأعمال بالنّيّات) فالمادة التي يتوكّأ عليها الموضوع هنا هو مادة واحدة هي (القيم) التي تقول بأنّ العمل هو بالنّية. أو أنّ الصبر هو فضيلة وأنّ الإيمانَ على دعائم أربع مثلاً هي: الصّبر، اليقين، العدل، الجهاد... إلى آخره...

إنّ أمثلة هذه الموضوعات لا تتطلّب أكثر من مادة واحدة هي (القيم)، بحيث يمكن القول بأنّ النصوص النظريّة في الغالب ـ ما دامت تتحدّث عن ظاهرة قيميّة ـ إنّما ينحصر موضوعها في مادة واحدة.

2- بعض الموضوعات تعتمد مادتين كـ(الشخصيات) و(القيم) مثلاً، وهذا من نحو سورة (الكافرون) حيث تعتمد شخصيّات (المؤمن والكافر)، وتعتمد (قيم) كل منهما، حيث إنّ المؤمن لا يعبد ما يعبد الكافرون، والكافرون لا يعبدون ما يعبد المؤمنون... ولا ضرورة هنا للحوادث أو البيئة.

3- بعض الموضوعات تتطلّب ثلاث مواد، مثل (سورة العصر) حيث تتضمّن شخصيّة هي (الإنسان)، وموقفاً هو (الخسران) والبيئة هي (العصر)، في قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ إنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلاّ الذينَ آمَنُوا...).

ولا ضرورة هنا لعنصر (الحادثة) ما دام النّص في صدد تبيين الموقف الذي يطبع سلوك الإنسان.

4- بعض الموضوعات تتطلّب المواد الأربع مثل (سورة القدر) حيث تتضمّن بيئة هي (ليلة القدر)، وحادثة هي (نزول القرآن والملائكة)، وشخصيّة هي (الملائكة)، وقيمة هي الخير (خير من ألف شهر) والسلام (سلام هي...) فهنا يتطلّب الموضوع جميع المواد، لأنّ القرآن ـ وهو الدستور الذي وُضِعَ للناس ـ يتطلّب نزوله عليهم (وهذا هو مادة الحادثة)، والنزول لا بدّ أنْ يتم على الناس، وهذا هو مادّة (الشخصيّة)، ولا بدّ أنْ يتم نزوله في وقت خاصّ وهذا هو مادة (البيئة)، ولا بدّ أن يتضمّن (خيراً للبشريّة) وهذا هو مادة (القيم)...

إذاً وحدة المواد أو تعدّدها تظلّ خاضعة لطبيعة الموضوع ومتطلّباته.

الموضوع وعلاقته بالمادّة الواحدة:

1- المادّة الواحدة قد يتكثّر عددها وقد ينحصر في واحد، فالشخصيّات قد ترد في أحد الموضوعات متكثّرة مثل قصة آدم (عليه السلام) حيث أنّ الشخصيات التي صاحبت نشوء آدم هي: الملائكة، الشيطان، آدم، حوّاء. كذلك (الحوادث): ففي قصة الكهف مثلاً تتكثّر الحوادث مثل: دخول الكهف، النّوم فيه، إزورار الشمس، الانبعاث، إلى آخره. وقد تتوحّد المادّة فتنحصر في شخصيّة أو حادثة أو بيئة واحدة، مثل (الإنسان) في سورة العصر، حي لا ضرورة لتكثّر الشخصيّات ما دام الهدف هو تثبيت الخسر للإنسان، وهذا بخلاف القصة التي ترتبط بنشوء آدم، فما دامت التجربة البشريّة جديدة على سكّان السّماء، ومادام الإنسان قد منحه الله تعالى قيمة خاصّة ووظيفة خاصّة، حينئذٍ فإنّ شخصيات الملائكة والشيطان وحوّاء ضروريّة في القصّة، حيث إنّ (حوّاء) ضروريّة للتناسل البشري، والشيطان للفتنة، والملائكة للسجود لآدم، تعبيراً عن أهميّة الإنسان، وهكذا...

2- ما يتكثّر من المادة الواحدة قد (تتنوّع) مصاديقه وقد تتوحّد، فالشخصيّات مثلاً قد تتوحّد من حيث انتسابها إلى عضويّة واحدة (كالبشر مثلاً)، وقد تتنوّع عضويتها كالبشر والملائكة والطيور، ففي قصّة يوسف (عليه السلام) تتوحّد الشخصيّات من حيث انتسابها جميعاً إلى البشر (مثل: يوسف، يعقوب، الإخوة، امرأة العزيز، الملك، صاحبي السّجن، إلى آخره.) ولكن في قصة سليمان (عليه السلام) تتنوّع الشخصيّات مثل: الملكة، النمل، الجن، الطير، إلى آخره...

ولكلٍّ مسوّغاته، ففي قصة يوسف، يستهدف النّص أن يبرز مجموعة من القيم البشريّة كالصبر، والحسد، والغيرة، والنظافة، إلى آخره، وحينئذٍ فإنّ توحّد الشخصيّات البشريّة  يفرض ضرورته ما دام البشر هو موضع القيم...

لكن بالنسبة إلى سليمان، فإنّ النص يستهدف خصّيصة لسليمان، لم تُمنح لغيره: مثل تسخير الجن، وتعليمه لغة الطير والنمل، إلى آخره.

وحينئذٍ فإنّ شخصيّة (النمل) تُفرض ضرورتُها لتبيين أنّ الله تعالى منحه حتّى معرفة لغة أصغر الحيوانات، وكذلك الطير لتوضيح أنّه قد سخّر له هذا المخلوق، وكذلك الملكة: لتبيين أنّه يستطيع إخضاع أيّة قوّة بشريّة لملكة، وهكذا...

ما تقدّم يظل متّصلاً بالموضوع من حيث علاقته بمادّته التي يتكوّن منها. وأمّا ما يتّصل بفكرته التي يجسّدها فنعرض له ضمن عنوان:

الموضوع وفكرته:

ما دام الموضوع مجسّداً للفكرة التي يقوم عليها النّص حينئذٍ ينبغي إخضاعه لجملة مبادئ، منها:

1- انتخاب الموضوع:

أي أنّ صاحب النّص الأدبي، ينبغي أنْ ينتخب موضوعاً يتناسب مع (الفكرة) التي يستهدفها، بحيث يجسّد جميع الأجزاء التي تتطلّبها الفكرة... ففكرة حماية الله تعالى للكعبة تطلّبت موضوعاً محدّداً هو: حادثة تصدر عن العدو بحيث يستهدف منها إلحاق ضرر بأحد أماكن الله تعالى، وتطلبت حادثة تصدر عن الله تعالى بحيث تدفع الضرر المذكور، وتطلبت نتيجة بحيث تجعل العدو منهزماً...

وبهذا تكون هذه الحوادث الثلاث موضوعاً قد جسّد الفكرةَ التي استهدفها النّص القرآني الكريم، وهي حمايته تعالى للكعبة...

2- تحديده:

بما أنّ الموضوعات كثيرة ولا يمكن إقحامها في نصٍّ واحد، حينئذٍ فإنّ المطلوب هو تحديد الموضوع وحصره في نطاق خاص، بحيث يتناسب مع تحديد الفكرة ذاتها... ففي سورة الفيل التي استشهدنا بها تحدّد فيها موضوع واحد هو (المعركة العسكريّة) فيم لا ضرورة لتكثير الموضوعات ما دام أحدها كافياً لتجسّد الفكرة إلاّ في حالات أخرى يستهدف فيها المزيد من الإقناع أو التأكيد كما سنذكر ذلك فيما بعد.

3- وحدته وتنوّعه:

ويُقصد بـ(وحدة) الموضوع و(تنوّعه): أنْ يُطرح في النّص موضوع واحد لتجسيد الفكرة أو أكثر من موضوع واحد حسب ما تتطلّبه الفكرة ذاتها، ففي سورة الفيل موضوع واحد هو (المعركة) وفي سورة القدر موضوعان هما القرآن وليلة القدر، وفي سورة العاديات ثلاثة موضوعات: العاديات، السلوك السلبي للإنسان، الجزاء الأخروي، وفي سورة (أرأيت) أربعة موضوعات: التكذيب، نهر اليتيم، الصلاة، مساعدة الآخرين...

وأمّا السورة المتوسطة والكبيرة فتشتمل على عشرات الموضوعات، كما هو واضح ذلك، فإن وحدة الموضوع أو تنوّعه يظلّ على صلة بالفكرة التي يجسّدها من حيث سعتها أو عدم سعتها، حيث يمكننا أن نتصوّر ذلك على النحو الآتي:

1- الفكرة الواحدة والموضوع الواحد.

2- الفكرة الواحدة والموضوعات المتعدّدة.

3- الفكرة المتعدّدة والموضوع الواحد.

4- الفكرة المتعدّدة والموضوعات المتعدّدة.

ونعرض لكلّ واحد من المستويات المتقدّمة:

1- الفكرة الواحدة والموضوع الواحد:

ويُقصد بها أنْ تكوّن هناك فكرة واحدة، مثل فكرة حماية الله تعالى للكعبة، وأنْ يُنتخب لها (موضوع) واحد لكي يجسّدها (مثل: موضوع المعركة التي تمّت بين أصحاب الفيل والطير) وقد قلنا أن انتخاب موضوع واحد هو المعركة كافٍ لتجسيد الفكرة المذكورة.

2- الفكرة الواحدة والموضوعات المتعدّدة:

ويُقصد بها أنّ الفكرة الواحدة من الممكن أن تُنتخب لها موضوعات متعدّدة لتجسيدها مثل فكرة (إحياء الله تعالى وإماتته للمخلوقات)، حيث انتخب لها النص القرآني في سورة البقرة موضوعات متنوعة مثل إحياء الميت بواسطة ضربه ببعض أعضاء البقرة، ومثل إحياء الميت بعد مائة سنة، ومثل إحياء الطيور الأربعة، ومثل إحياء الموتى الذين قال لهم الله تعالى موتوا ثمّ أحياهم، والأمر كذلك بالنسبة إلى سورة الكهف حيث إنّ فكرتها تحوم على نبذ (زينة الحياة الدّنيا) وقد انتُخبت لها موضوعات متعدّدة، مثل: أصحاب الكهف، ومثل صاحب الجنتين، ومثل العالم الذي التقى به موسى، إلى آخره.

فهنا نجد أنّ الموضوعات (متعدّدة) والفكرة (واحدة). والسّبب في ذلك أنّ طبيعة الفكرة بما تحملها من سعة أو عمق أو تفصيل تتطلّب تعدّداً في الموضوعات، ففي فكرة (الإماتة والإحياء) جاءت موضوعات قصصيّة متنوّعة لتجسيد الفكرة المشار إليها، بعضها يتصل بإحياء البشر، وبعضها يتصل بإحياء الحيوان، وبعضها يتّصل بإحياء شخص واحد، وبعضها يتصل بأُمّةٍ من الناس، وبعضها يتصل بالإحياء سريعاً، وبعضها يتصل بالإحياء بعد أعوام وهكذا. والأمر نفسه بالنسبة إلى (زينة الحياة الدّنيا) فبعض الموضوعات تجسّد (نبذاً) لزينة الحياة الدّنيا مثل أصحاب الكهف والعالم، وبعضها يجسد (تشبّثاً) بالحياة الدنيا مثل صاحب الجنّتين، وبعضها يجسّد عدم تأثّره بالزينة حتى لو ملك شرق الأرض وغربها مثل ذي القرنين، وبعضها يجسّد تعلّقاً بالزينة حتّى لو كانت مزرعة صغيرة مثل صاحب الجنّتين...

إذاً: طبيعة الفكرة القائمة على نبذ زينة الحياة الدنيا تطلّبت موضوعات (متعدّدة) لتجسيد الفكرة من جوانبها التي أراد النّص أنْ يبرزها للقارئ.

3- الفكرة المتعدّدة والموضوع الواحد:

ويُقصد به عكس الحالة السابقة وهي وجود أفكار متنوّعة إلاّ أنّه من الممكن أنْ ينتخب لها موضوع واحد لتجسيد الأفكار المتعدّدة، وهذا من نوع (الموضوع) المرتبط بقضيّة يوسف (عليه السلام) مع امرأة العزيز، فالموضوع واحد هو: عدم مطاوعة يوسف للمرأة المذكورة، إلاّ أنّ هذا الموضوع يتضمّن جملة من الأفكار (المتنوّعة)، منها: نظافة يوسف، ومنها: عصمته تعالى ليوسف، ومنها: أنّ الطّاعة تقترن بمكابدة الشدائد، ومنها: أنّ الدّافع الجنسي من الدوافع الملحّة بخاصّة لدى المرأة، ومنها عدم نظافة امرأة العزيز، ومنها: أنّ المرأة لا تتورّع من إلحاق الأذى الكبير بالشخص من أجل شهواتها... إلى آخره. فهنا نلاحظ أفكاراً (متعدّدة) ولكنّها مجسّدة في موضوع (واحد).

والمسوّغ الفنّي لهذا النمط من الأفكار (المتعدّدة) التي يجسّدها موضوع واحد، يتمثّل في أنّ الموضوع بما ينطوي عليه من إمكانات إيحائيّة بمقدوره أنْ يجسد جملة مِن الأفكار المشار إليْها، حيث لا ضرورة لتعدّد الموضوع.

4- الفكرة المتعدّدة والموضوعات المتعدّدة:

ويُقصد بها أنّ النّص يتضمّن أفكاراً متنوّعة وتُنتخب تبعاً لذلك ـ موضوعات متنوّعة لتجسيد ذلك، سواءٌ أكانَ الأمر متصلاً بمجموع النّص أم بجزءٍ منه. لذلك يمكن شطر هذا النمط من (الموضوعات) إلى شطرين:

1- التعدّد في النّص الكامل.

2- التعدّد في جزئيّة النّص.

ـ ومثاله من النّمط الأوّل: غالبيّة السّور القرآنيّة الكريمة، الطوال والمتوسّطة بخاصّة... فسور البقرة أو آل عمران أو النساء أو المائدة أو الأنعام أو الأعراف إلى آخره، تتضمّن عشرات من الموضوعات المجسّدة لعشرات من الأفكار، وحتّى السّور القصيرة تتضمّن عدّة موضوعات وعدّة أفكار، فسورة المطفّفين تتضمّن جملة من الموضوعات والأفكار مثل (المطفّفين) و(المكذّب بالدّين) و(وصف الجنّة والنّار) و(علاقة المؤمنين بالكافرين)...

ـ ومثاله من النّمط الآخر: سورة الرحمن المقسّمة إلى أربعة أقسام حيث نجد أنّ قسميها الآخرين خاصّان بنمطي المؤمنين (أصحاب الجنّتين العاليتين) و(أصحاب الجنّتين الأدنى منهما)... وأمّا قسماها الأوّلان، فيتضمّن كل واحد منهما موضوعات وأفكاراً متنوّعة يتّصل قسمها الأوّل بخلق الإنسان، وحسبان الشمس والقمر، وسجود النجم والشجر، وعدم التسخير في الميزان، ورفع السّماء ووضع الأرض، وخلق الإنسان من الطين، والجان من النّار، ونَمَطَي ماء البحر، وفناء المخلوقات وبقاء الله تعالى.

ويتّصل قسمها الآخر بانشقاق السّماء، وبمعرفة المجرمين بسيماهم، وعدم النفوذ من أقطار السماوات والأرض، إلى آخره.

والمهم، أنّ المسوّغ الفنّي لهذا النّمط من (الموضوعات المتعدّدة والأفكار المتعدّدة) يتمثّل في أنّ تنوّع الأفكار يستلزم تنوّع الموضوع. وأمّا تنوّع الموضوع ووحدة الفكرة، أو وحدة الموضوع وتنوّع الفكرة، فأمرٌ يتصل بعنصري (التوضيح) و(الاختصار) حيث يستهدف تنوّع الموضوع مزيداً من التوضيح للفكرة، ويستهدف تنوّع الفكرة مراعاة الاقتصاد اللّغوي في التعبير، بالنحو الذي نعرضه في فصل لاحق إنْ شاء الله...

ما تقدّم، يظلّ متّصلاً بالموضوع مِن حيث وحدته وتعدّده، وصلة ذلك بفكرة النّص، إلاّ أنّ الموضوع يظل خاضعاً لمبادئ بلاغيّة أُخرى تتّصل بكونه موضوعاً أصليّاً وفرعيّاً،... وهذا ما ندرجه ضمن عنوان:

4-وحدته وتفريعاته:

الموضوعات قد تكون مستقلّة بحيث يسير أحدُها في عرض الآخر، وقد يكون أحدها مستقلاً والآخر متفرّغاً عنه. ففي سورة (التّين) (وَالتِّيْنِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سينينَ وَهذَا الْبَلَدِ الأمِينِ) نجد الموضوعات مستقلّة عن بعضها الآخر، كالزيتون والطور والبلد الأمين، ولكن في سورة (أرأيت) نجد موضوعاً مستقلاً هو (المكذب بالدّين) وموضوعاً مستقلاً هو (الويل للمصلّين)، إلاّ أنّ كل واحد من هذين الموضوعين يتفرّع إلى موضوعات أخرى مثل (يدعّ اليتيم) (ولا يحضّ على طعام المسكين) حيث إنّ هذين الموضوعين (متفرّعان) من الموضوع الأوّل (المكذّب بالدّين)... وكذلك (المصلّين) حيث (تفرّع) من هذا الموضوع ثلاثة موضوعات (السّاهون عن الصلاة) (المراءون فيها) (المانعون)...

ويلاحظ، أنّ (التفريع) قد يكون:

من جنس الموضوع: كالسّهو والرّياء بالنسبة إلى المصلِّين. وقد يكون: من غير جنسه: مثل دعّ اليتيم، وعدم الحضّ على طعام المسكين، المتفرعين من جنس آخر هو: المكذّب بالدّين...

ولكلّ من هذين التفريعين بلاغتهما.

فالموضوع المتجانس في تفريعاته: يستهدف لفت النّظر إلى ظواهر يرتبط أحدها بالآخر كالصّلاة، وعدم السّهو، وعدم الرّياء، فنكون أمام وحدة الموضوعات.

وأمّا غير المتجانس: فيكشف عن أنّ هدف النّص هو لفت النّظر إلى مجموعة من الموضوعات ذات الأهميّة المتماثلة. فالسّهو عن الصّلاة، والرياء فيها، يتماثل مع عدم الإنفاق (ويمنعون...) في كونها جميعاً أنماطها من السلوك السّلبي المنهيّ عنه.