المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 043.doc

الخاطرة...

تجسد (الخاطرة) - في حقل الأدب - (إحساساً) مفرداً حيال أحد الموضوعات. ونقصد بـ(الإحساس المفرد) ما يقابل (الفكر المركب) فيما يتناول موضوعات ذات طابع تفصيلي يعتمد أدوات الفكر الاستدلالي في صياغة الشكل الفني. وهذا بعكس (الخاطرة) التي تعني مجرد (إحساس) يتسم بالتأمل السريع لإحدى الظواهر، مع تسليط ضوء فكري مركز عليها وحصرها في نطاق محدد من التناول.

أما (هيكل) الخاطرة، فيصاغ وفق عبارة (قصيرة) (مصورة) جميلة، أي: ذات انتقاء صوتي (إيقاعي) من حيث تجانس وتآلف: الحرف والمفردة والفقرة، وذات عنصر (تخيلي) يعتمد الصورة أو المأثور اليومي، تعبيراً عن الإحساس الذي تقوم عليه (الخاطرة).

إنها - في هذا الصدد - لا تختلف عن سائر أشكال التعبير الفني من حيث اعتمادها عنصر (الصوت) و(الصورة) و(البناء) أساساً لهيكلها الفني، بيد أنها تتميز بكونها (إحساساً سريعاً) حول أحد الموضوعات، حيث تستتلي سرعة هذا الإحساس شكلاً فنياً يقوم على حجم صغير من التناول، وعبارة قصيرة أو متلاحقة، مفعمة بالتساؤل والاستطلاع أو السرد والعرض المجردين لهذا الإحساس أو ذاك.

وأهمية هذا الشكل الفني تتمثل في كونها تتساوق مع حركة الإنسان التي تواجه يومياً أكثر من ظاهرة أمامها عبر ممارستها أحد الأعمال؛ فقد يستوقفها حادث اصطدام، أو مرور جنازة، أو مصافحة بين صديقين أو أذان المسجد أو رائحة شواء أو صراخ الباعة، أو مجرد سماعها لنبأ أو مشاهدتها لظاهرة كونية إلخ... أمثلة هذه (المواجهة) العابرة التي تخطف كلاًّ منا يومياً تقترن - كما هو واضح - بإحساس عابر، وتتطلب - كما هو واضح أيضاً ـ حجماً قصيراً لا يتجاوز الأسطر، وشكلاً فنياً متطابقاً مع تموّجات الإحساس الذي تستثيره مثل هذه المواجهة ولا يخفى أيضاً أن لظهور الصحافة في العصور الحديثة أثره في حمل الكتاب على ممارسة هذا اللون من الكتابة التي تحتل جانباً صغيراً من (أعمدة) الصحيفة أو المجلة بيد أن هذا يشكل مجرد باعث لانتشارها وليس لكاتبها بعامة. ولذلك، فلا يكاد يخلو عصر، من عصور الأدب من أمثلة هذه (الخواطر) التي يمارسها الكتاب قديماً وحديثاً.

المهم، يعنينا أن نعرض بعض (النماذج) التي ألفها الأدب التشريعي في هذا الصدد. ولنقرأ هذه الخاطرة السريعة للإمام الحسن (عليه السلام) في وصف أخ صالح له:

(كان من أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه. كان لا يشتكي ولا يتبرم. كان أكثر دهره صامتاً، فإذا قال، بذّ القائلين. كان إذا جالس العلماء على أن يسمع أحرص منه على أن يقول، وإذا غُلب على الكلام لم يغلب على السكوت. لا يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول. وإذا عرض له أمران لا يدري أيهما أقرب إلى ربه نظر أقربهما إلى هواه فخالفه. لا يلوم أحداً على ما قد يقع العذر فيه).

إن هذه الخاطرة تشمل في واقعها مجموعة (أحاديث) نجدها منتشرة هنا وهناك، غير أن ما يميزها هو: تطبيق مضمونها الذي يشكل توصيات لسمات أخلاقية معينة، خلعها الإمام الحسن (عليه السلام) على أحد إخوانه. وقد اكتسبت طابعاً فنياً يميزها عن مجرد الحديث؛ نظراً لتمركزها حول شخص محدد أملاه موقف عابر يتصل بالشخص المذكور، فجاءت (خاطرة) تحوم على (سمات) لحظها الإمام (عليه السلام) متوفرة لدى الشخص.

ولعل أول ما يلفت انتباهنا من الخاطرة المذكورة هو (واقعيتها) أو (حقيقيتها) التي لا نألف مماثلاً لها في الأدب الأرضي. فالشعراء أو الكتاب (في حقل المراثي أو المدائح - على سبيل المثال) لا يكادون يتناولون ميتاً بالرثاء أو حياً بالمدح، إلاّّ وتجد (المبالغة) المقيتة، طابعاً لنتاجهم: فالشمس والقمر والجبل والجو والبر والبحر والشجر تصبح عرضة للكسوف والخسوف والزلزال والإعصار والخسف والجفاف واليبس؛ نتيجة لموت أحد الأشخاص، أو أن كلاًّ من الظواهر الكونية المذكورة تقف منحسرة أمام عظمة الشخص وسخائه مثلاً... إلخ.

الإمام (عليه السلام) لم يصغ أية حقيقة لدى الشخص المذكور، خارجة عن سماته الموجودة فعلاً لديه، فأشار إلى زهده وعدم شكواه وصمته وتسامحه.. إلخ، دون أن يضيف إليها أو ينتقص منها شيئاً. كل ما في الأمر أن إشارته (عليه السلام) للسمات المذكورة صيغت وفق لغة (فنية) تتطلبها الحقيقة ذاتها من حيث انعكاساتها في ذهن الكاتب والمتلقي، وهذا ما يقودنا ولو سريعاً إلى توضيح بعض القيم الفنية للخاطرة المذكورة.

أول ما يطالعنا في هذه الخاطرة عنصر (التقابل) الذي يشكل أحد مكونات (الصورة الفنية)، كما يطالعنا أحد أشكال الصورة متمثلاً في (الرمز). ويمكننا ملاحظة هذين العنصرين في الفقرة التالية:

(وكان رأس ما عظم به في عيني: صغر الدنيا في عينه).

إن أهمية هذه الفقرة تتجسد في انطوائها على (الصورة الاستمرارية أو المركبة) أي: تعاقب الصور فيها وتداخلها فيما بينها. فثمة صورة هي (صغر الدنيا في عينه) تقابلها صورة (رأس ما عظم به في عيني)، ونفس (التقابل) بصورتيه (العظمة والصغر) يشكل (صورة) لها استقلاليتها وإثارتها الفنية. مضافاً إلى ذلك (من حيث البناء الفني لمجموع الصور) أن استهلال الخاطرة بالصورة القائلة (كان من أعظم الناس في عيني) يجسد (تمهيداً) أو موقفاً مجملاً يتقدم النص بعد ذلك بتفصيله الذي اضطلعت به الصورتان المتقابلتان، أي: إن التعليل الفني للحقيقة القائلة بأن الأخ المذكور كان من أعظم الناس في عينه، إنما كان - في الدرجة الرئيسة - لصغر الدنيا في عين الأخ، بكلمة أخرى جاء عنصر (التقابل) جواباً فنياً يفصل (التمهيد) الذي استهلت به الخاطرة.

ولا يخفى مدى انطواء هذا النمط من (بناء الصور) وتداخلها وتواشجها العضوي الذي ينمي أفكار الخاطرة (من خلال التمهيد وتفصيله)، لا يخفى ما لهذا النمط العماري من إثارة فنية قد يجهلها القارئ العابر إلاّّ أن الناقد الذي يمتلك حساً تذوقياً يقدر خطورة الإثارة التي يستجيب لها وفاقاً لمنطق البناء المذكور.

وإذا ذهبنا نتابع سائر مقاطع الخاطرة لحظنا أن عنصر الصورة المتمثل في (التقابل) يكاد يشكل البطانة أو العصب الفني للخاطرة، فهناك (الصمت) يقابله (القول).

(كان أكثر دهره صامتاً، فإذا قال بذّ القائلين).

وهناك (الاستماع) يقابله (القول) أيضاً:

(على أن يسمع أحرص منه على أن يقول).

وهناك (الفعل) يقابله (القول) أيضاً:

(لا يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول).

ولا نغفل أن (التقابل) الأخير ينطوي على عنصرين من التقابل أحدهما: القول والفعل، والآخر: (لا) و(و) (لا يقول - ويفعل)، هذا إلى أن (تقابلاً) متكرراً أخذ موقعه العضوي من الخاطرة، متمثلاً في (إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على السكوت)...

إن هذا الحشد الضخم، المتعاقب، المتداخل، المتكرر، المتجانس؛ من (التقابل) بين (القول والفعل وصياغته وفق منحنيات متعددة من الطرح يشكل عملاً فنياً ضخماً له قدراته التوصيلية التي لا يستكْنِه قيمتها إلاّّ من خبر طرائق الاستجابة في السلوك البشري وتحديد مواطن الإثارة منها.

بيد أن أهم ما يلفت الانتباه في هذا الصدد هو: أن عنصر (التقابل) بشكله المتجانس (الصمت والقول والفعل) ـ حيث انصب هيكل الخاطرة على المفردات الثلاث المذكورة ـ إنما صيغ ببساطة ويسر وسهولة يظن القارئ من خلالها أنه حيال مجرد أحاديث عن مجالسة العلماء واختيار الصمت واقتران القول بالعمل.. إلخ، لا أنه حيال شكل فني صيغ وفقاً لسمات خاصة لها أسرارها في عملية التذوق وتعميق الدلالة التي يستهدفها الإمام (عليه السلام) من الخاطرة المذكورة.

أخيراً ينبغي أن نعرف أن صياغة الأفكار المذكورة وفقاً لقيم فنية خاصة، إنما توكأت على عنصر (الفن) فلأن هذا الأخير يساهم في بلورة وتركيز (القيمة الفكرية) للخاطرة، مما يعني أن (الأفكار) المستهدفة في الخاطرة، ينبغي أن نتمثلها عملياً في سلوكنا اليومي ما دام (الفن) مجرد وسيلة لمعرفة الوظيفة العبادية. إذن، لنلخّص (أفكار) الخاطرة، ونعرضها على واجهة أعمالنا التي نعتزم ممارستها من خلال الوظيفة العبادية.

وها هي الخاطرة تقول:

1- لتكن الدنيا صغيرة في عينك.

2- لا تشكِ ولا تتبرم.

3- اختر الصمت على الكلام.

4- تكلم بجدّية وعلم إذا كان الأمر مستدعياً لذلك.

5- إذا ضمّك مجلس العلم فاحرص على الاستماع لا الكلام.

6- لم تخسر شيئاً بسبب الصمت، ولكنه قد تخسر شيئاً بسبب الكلام.

7- كن على العمل أحرص منك على القول.

8- مارس عملية (تأجيل) لشهواتك.

9- لا تعاتب أحداً وأنت تجد له موضعاً لإمكانية العذر.

إن هذه التوصيات التسع التي تضمنتها (الخاطرة) السريعة حينما نعرضها على اللغة النفسية التي اخترناها إلى جانب اللغة الفنية في دراستنا للفن التشريعي، نجدها تتناول جملة من الحقائق أو لنقل جملة من العمليات النفسية وهي:

1- الزهد.

2- التسامح.

3- الصبر.

4- الصمت.

(فالزاهد) لا يعنى بأية حاجة دنيوية تستتلي التوتر والانشطار نتيجة لعدم إشباع الحاجة المذكورة.

(التسامح) لا يسمح لذاته بأن تُنمى لديها أية نزعة عدوانية، فيربح بذلك توازناً داخلياً ملحوظاً بعكس النزعة الحاقدة التي تقترن بتوتر الأعماق وصراعاتها و(الصابر) يوفر لنفسه التوازن المذكور، بعكس (الجازع) الذي يرشّح شخصيته للوقوع في هاوية أكثر من مرض.

أما (الصامت) فيكفيه أنه يدرّب شخصيته على (وأد الذات)، ولا يسمح لها بالتورم والتمركز حول الذات: حيث تمزق إحباطات الحياة المختلفة كل تطلعات الذات المريضة، وتساهم في تعميق مرضها.