المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 042.doc

ولعل خطبة النبي (صلى الله عليه وآله) المعروفة التي ألقاها بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك تمثل هذا النمط من الخطب التي تتميز بما هو (سهل) وبما هو (ممتنع)، ولنقرأ: (أيها الناس، إنه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول...

اذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا فيه كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل إليه النظر أبصاركم وعما لا يحل إليه الاستماع أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يُتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم... أيها الناس إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم، وظهوركم مثقلة من أوزاركم فخففوها بطول سجود كم... إلخ).

الملاحظ أن هذه الخطبة تبتعث الإثارة بالقدر ذاته من الإثارة التي نلحظها في خطب أو أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) ذات الطابع الإيقاعي والصوري، وهذا يعني أن الإثارة الفنية لا تنحصر في نمط محدد من الإيقاع أو الرسم بل يتم ذلك من خلال أية لغة تأخذ البطانة الانفعالية والفكرية للجمهور المتلقي، حيث يكون لتوازن الجمل وتعاقبها أثراً في ذلك، أو يكون للانتقاء الصوتي غير المنتظم في (قرار) أثره أيضاً، أو يكون للتسلسل النفسي أو الزمني المصاحب لعرض أفكار الخطبة، أثره أيضاً، وهكذا...

إن الخطبة المذكورة لم تهجر نهائياً كلاًّ من الصوت المنتظم والصورة، بل توكأت عليهما في أمثلة هذا البعد الإيقاعي:

(وقروا فيه كباركم، وارحموا صغاركم... وغضوا عما لا يحل إليه النظر أبصاركم).

 ومن أمثلة هذا البعد الصوري:

(إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم مثقلة من أوزاركم فخففوها بطول سجودكم)...

ولكن جاء كل من البعد الإيقاعي والصوري المذكور عابراً بالقياس إلى الإيقاع العام لمجموع الخطبة والرسم العام لمجموعها. فالإيقاع العام يتمثل في ذلك (الجرس) الذي تبتعثه الجمل المتوازية والمتعاقبة والمتكررة (شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات).

إن كلاًّ من التكرار والتعاقب والتوازي يشكل (عناصر) إثارة لدى المستجيب لا تقل عن الإثارة التي يبتعثها الإيقاع المنظم أو الصورة المركبة. والأهم من ذلك كله، أن ندرك بأن السياق هو الذي يتدخل في تحديد هذا العنصر الفني أو ذاك. ففي سياق شهر رمضان المبارك الذي يقترن بخشوع عبادي خاص، لا يجيء الحث على استقباله من خلال كثافة إيقاعية أو صورية بقدر ما يجيء ذلك من خلال لغة ميسرة، خاطفة، متوازنة، متعاقبة آخذ بعضها برقاب البعض، حتى يتساوق التطلع الخاشع نحو هذا الشهر مع تماوج العبارة الفنية التي تحضر في عصب المتلقي تطلعاً ليماثل ذلك.

المهم، أن الخطبة المذكورة، تثمل النمط الآخر من النصوص التي تتميز بما هو (سهل) ـ كما قلنا ـ وبما هو (ممتنع) من خلال تحسسنا بإشراقها وسحرها الفني اللذين يندان عن إمكان تفصيل الحديث فيهما، بقدر ما يفصحان عن ذاتهما بنحو عفوي نتذوقه ولا نعيه بلغة المنطق الفني وتحليله لمقوماته.

(الكتابة...)

 

يمكننا أن نذهب إلى أن هناك نمطاً من الكتابة الفنية، تتميز عن (الخطبة) بكونها لا تعتمد (البعد الانفعالي) للجمهور، بقدر ما تعتمد تقرير مجموعة من الحقائق العبادية بلغة علمية، إلاّّ أنها موشحه بأدوات الفن من قيم صورية وإيقاعية ونحوهما، مما يجعلها مثل (الخطب)، مندرجة ضمن الشكل الأدبي.

ويتميز (الكتاب) بكونه موجهاً إلى شخص أو أكثر أو جهة أو جمهور؛ ولكن ليس على نحو (الخطاب) بل على نحو (الكتابة) إليهم.

وهذا النمط من الكتابة يشمل جنسين فنيين هما:

1- الرسالة:

2- الوصية:

ويلاحظ أن كلاًّ منهما قد يفترق عن الآخر في السمات الأسلوبية، إلاّّ أنهما قد يندمجان حينا إلى الدرجة التي لا تكاد نتبين خطوط الفارق بينهما.

(الرسالة) تتجه إلى شخص يتحمل مسؤولية اجتماعية مثل: القاضي، الحاكم، الموظفين بشكل عام، حيث تدور محتويات (الرسالة) حول أمور اجتماعية خاصة لها سمة السلوك العبادي بعامة، بيد أن تنفيذها يظل على صلة بالموظف المسؤول: كما قلنا. أما (الوصية) فتحوم بدورها على موضوعات عامة مثل (الرسالة) تماماً، كما قد توجه إلى شخص محدد، أو إلى جمهور مبهم، إلاّّ أنها ـ في بعض أشكالها ـ قد تكتسب بعداً خاصاً يتصل بالوصي أو الموصى له بحيث تنسلخ من صعيد الشكل الفني إلى مسائل خاصة تتصل بالأموال والحقوق مما لا علاقة لها بموضوع دراستنا.

تأسيساً على ما تقدم، يمكننا الذهاب إلى أن (الرسالة) و(الوصية) ـ في خطهما الأول الذي أشرنا إليه ـ تندرجان ضمن شكل فني يتوسل بـ(الكتابة) في توصيل الحقائق التي يستهدفها الكاتب، موجهة إلى شخص أو فئة أو جهة، وهذا من نحو (الكتب) التي وجهها الإمام علي (عليه السلام) إلى الولاة مثلاً، ونحو الوصايا التي وجهها (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام). فكل من (الرسائل) الموجهة إلى الولاة، و(الوصايا) الموجهة إلى أفراد بأعيانهم: لا تختلف في مضموناتها الفكرية بعضاً عن الآخر من حيث كونها (إرشاداً) إلى ظواهر عبادية ذات طابع فردي أو اجتماعي (مع ملاحظة أن الرسائل الموجهة إلى الولاة وغيرهم من المسؤولين قد تشدد الع'السلوك السياسي مثلاً)، ولكن مع ذلك فإن الموضوعات قد تتماثل في الشؤون العبادية الأخرى، فحين يتحدث الإمام (عليه السلام) عن الزهو والتكبر والإحجام عن قضاء الحاجات (فيما يتصل بسلوك الولاة حيال الرعية) فإن نفس ظواهر التواضع والاهتمام بحوائج الآخرين يطرحها الإمام (عليه السلام) في (وصاياه) لخاصة الناس وعوامهم.

المهم: يعنينا من الملاحظة المتقدمة أن نتجه إلى السمات (الفنية) لكل من (الرسائل) و(الوصايا) فيما أدرجناهما ضمن ما أسميناه بـ(الكتاب) الموجه إلى مسؤول أو غير مسؤول.

ويجدر بنا أن نتقدم بنماذج لكل من النمطين المتقدمين، ونبدأ ذلك بالحديث عن: 

1- الرسالة

قلنا، أن (الرسالة) صياغة فنية خاصة، توجه إلى شخصية ذات طابع مسؤول، وأن موضوعها ـ في الغالب ـ (محدد) يخص نمط المسؤولية التي يضطلع بها المسؤول الذي توجه الرسالة إليه. وقد تتسع حيناً إلى آفاق متنوعة تتناول مختلف الموضوعات: على نحو ما نلحظه من رسالة الإمام علي (عليه السلام) إلى (الأشتر) إلى أمراء الجيش فيما تحوم على موضوعات عسكرية خاصة. والمهم: إنها تتناول (موضوعاً محدداً)، موجهاً إلى (مسؤول)، مصوغاً بشكل (فني).

نموذج رقم (1)

من رسالة للإمام علي (عليه السلام) إلى أحد عماله، عندما بلغه تراخيه عن حمل الناس على الجهاد:

(أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ قَوْلٌ هُوَ لَكَ وعَلَيْكَ فَإِذَا قَدِمَ رَسُولِي عَلَيْكَ فَارْفَعْ ذَيْلَكَ واشْدُدْ مِئْزَرَكَ واخْرُجْ مِنْ جُحْرِكَ وانْدُبْ مَنْ مَعَكَ فَإِنْ حَقَّقْتَ فَانْفُذْ وإِنْ تَفَشَّلْتَ فَابْعُدْ وأيْمُ اللهِ لَتُؤْتَيَنَّ مِنْ حَيْثُ أَنْتَ ولا تُتْرَكُ حَتَّى يُخْلَطَ زُبْدُكَ بِخَاثِرِكَ وذَائِبُكَ بِجَامِدِكَ وحَتَّى تُعْجَلُ عَنْ قِعْدَتِكَ وتَحْذَرَ مِنْ أَمَامِكَ كَحَذَرِكَ مِنْ خَلْفِكَ... إلخ).

الرسالة: تتناول الحث على الجهاد كما هو واضح، وتتناول نتائجه إيجاباً أو سلباً، من خلال لغة (العامل) المرسل إليه.

ويعنينا منها: الصياغة الجمالية للرسالة. فبالرغم من أنها تتناول عملية (حث) يتطلب مجرد التعبير المباشر (أي غير المصوغ فنياً)، إلاّّ أنه (عليه السلام) اتجه إلى التعبير غير المباشر، فارتكن إلى عنصر (الصورة) أو (الرمز)، حتى ينفذ بدلالاتها إلى ما هو أكثر استثارة للنفوس.

إننا لو وقفنا عند الصورة (الاستمرارية) - أي: الصورة التي تتركب من جملة صور متتابعة - ونعني بها صورة (فارفع ذيلك، واشدد مئزرك، واخرج من حجرك) ومثلها صورة (حتى يخلط زبدك بخاثرك، وذائبك بجامدك): للحظنا أن تينك الصورتين تتحدثان عن موقفين لـ(الصراع) لابد أن يختار (العامل) أحدهما: فأما أن ينهض إلى الجهاد وأما أن يتراخى عن ذلك. وفي الحالتين: تتجه (الرسالة) إلى التعبير بـ(الصورة) في تجسيد الصراع المذكور، وترسم نتائجه من خلال كل من: الحث أو الابتعاد عن الساحة.

ولعل إبراز (الصراع) - في أشد حالاته - جسدته الصورة الاستمرارية المتصلة (بخلط الزبد بالخاثر والذائب بالجامد).

وأحسب - من الزاوية الفنية - أن تجسيد (الصراع) لا يمكن أن تبلوره (من حيث العمليات النفسية والشدائد التي يواجهها الشخص) بصورة أشد عمقاً ووضوحاً من (الصورة الفنية) التي رسمها الإمام (عليه السلام) في هذا الصدد.

فبالرغم من أن هذه (الصورة) تبدو وكأنها (مألوفة) -زمن التشريع - وأعني بها صورة (اختلاط خاثر السمن برقيقه) حيث إذا أوقدت النار لتصفيته يحترق، وإن ترك بقي كدراً... أقول، بالرغم من أن التجربة المذكورة تخص بيئة محددة، إلاّّ أنها تتجاوز ذلك إلى مطلق الزمن، فتوحي - كما هو شأن الصورة الفنية الناجحة ـ بمطلق التجارب التي يختلط فيها ما هو (خاثر) بما هو (رقيق) سواء أكان سمناً أم غيره، بخاصة أن الصورة المتقدمة أردفها الإمام (عليه السلام) بصورة أخرى هي: (اختلاط الذائب بالجامد)، فهذه الأخيرة لم تُصغ لمجرد التكرار بل لتكملة أبعاد الصورة الأولى؛ حتى يتبلور لدى القارئ مفهوم الصورة بأوضح أطرافها، بصفة أن كل (ذائب) مهما كان؛ حينما يُخلط بما هو (جامد) لا يأخذ سمة (الاستقرار) مما يوحي بامتداد عملية (الصراع) النفسي الذي ألمح الإمام (عليه السلام) إليه.

نموذج رقم (2)

وحين نتجه إلى رسالة أخرى للإمام السجاد (عليه السلام) وجهها إلى أحد المتعاونين مع السلطة الظالمة، نجد العنصر (الصوري) يأخذ بعداً آخر من الصياغة التي تجسد نمطاً آخر من أشكال العمليات النفسية التي تترتب على التعاون مع الظالم، ولنقرأ:

(أوَ ليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلّماً إلى ضلالتهم، داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم... إلخ).

هذه الرسالة تمثل أيضاً (موضوعاً) محدداً هو: التعاون مع الظالم، وتوجه إلى (شخص) محدد، وترسم وفق صورة (فنية).

وقد اتجه الإمام السجاد (عليه السلام) إلى صورة (مألوفة) أيضاً؛ على نحو ما لحظناه عند الإمام علي (عليه السلام)، هي صورة: الرحى والجسر والسلم. وبالرغم من أن الصورة التي لحظناها عند علي (عليه السلام) كانت أشد تكثيفاً من الصورة التي قدمها السجاد (عليه السلام)، إلاّّ أن لكل منهما وظيفته النفسية في التعبير عن الحقائق، فالصورة التي تكتسب سمة (النجاح) - في لغة النقد الفني - ينبغي أن تتسم بـ(الألفة) أي: وضوح أطرافها بالنسبة إلى القارئ، وهذه (الألفة) قد تتشابك بعض أطرافها - كما هي الحال بالنسبة إلى الصور التي لحظناها في الرسالة السابقة ـ وقد توضح بالنحو الذي نلحظه في الصورة التي نتدارسها الآن، وفي الحالين فإن السياق هو الذي يحدد نمط (الألفة) - تشابكاً أو وضوحاً.

والآن، حين نعود إلى الصورة المألوفة (الرحى، الجسر، السلم) نجدها قد اكتسبت ألفتها من خلال استخدامها ـ في مختلف أزمنة الأدب ـ (رمزاً) تراثياً؛ كما هو واضح. والمهم، أن الإمام (عليه السلام) كان مستهدفاً توضيح الأبعاد المختلفة لعملية التعاون مع الظالم، فجاءت الصورة تمثيلاً للعملية المذكورة. هنا، ينبغي أن ننتبه أيضاً إلى أن (التكرار) لصور ثلاث متماثلة ليست لمجرد (التكرار) بل أن استمرارية الصورة بهذا النحو استدعاها الموقف، (فالرحى) تمثل مطلق المفارقات التي يمارسها الأشخاص دون أن تبرز شخصية (محددة) في هذا النطاق. أما (الجسر) فيمثل بروز الشخصية المتقدمة؛ حيث استغلت لتمرير أهدافهم، بملاحظة انسحاق الشخصية. وأما (السلم) فيجسد صعوداً على شخصية مستغلة أيضاً، ولكن بملاحظة ارتفاعها، وليس انسحاقها.

وفي الحالات الثلاث جميعاً، نظل حيال (شخصية) مستثمرة لتمرير المظالم، على اختلاف المظاهر، وهذا ما يدلنا على مدى الدقة الفنية في صياغة الصور.

وبعامة: فإن النموذجين المتقدمين من (الرسائل) كانا متناولين لموضوعين محدّدين مثل: الجهاد، وعدم التعاون مع الظالم. وقد اكتفينا من العرض لهما ببعض الصياغة الفنية المتصلة بعنصر (الصورة) ومساهمتها في تعميق (الغرض) الذي تستهدفه الرسالة في الموضوعين المحددين اللذين أشرنا إليهما.

والأمر نفسه يمكننا ملاحظته في (الرسائل) التي تتسم بالطول، وبموضوعات مختلفة؛ من حيث ارتكانها إلى عنصر (الصورة) وسواها من أدوات (الفن) التي تساهم في تعميق الهدف. ومنها ـ على سبيل المثال ـ رسالة الإمام علي (عليه السلام) إلى (الأشتر) فيما لا حاجة إلى الاستشهاد بها (حيث تناولها الدارسون مفصلاً) عبر اشتمالها على موضوعات تتصل بالولاة والعمال والقضاة والعسكر والتجار وذوي المهن والكتاب إلخ... وقد صيغت وفق لغة متينة مطبوعة بالوضوح واليسر، وبتوازن الجمل وتقابلها وبتراوحها الإيقاعي بين الطول والقصر؛ حسب ما يستدعيه الموقف. وأهم ما في ذلك، إنها تشتمل على دلالات فكرية ونفسية لم تقف عند مجرد (الإرشاد) السياسي العام، بل على توشيحه ببطانة عميقة من الفكر، تجمع بين الإرشاد والاستدلال الفكري عليه، وهذا من نحو قوله (عليه السلام):

(وإن ظنت الرعية بك حيفاً، فاصحر لهم بعذرك...) إن (الإصحار) هنا يمثل (صورة فنية) وليس تعبيراً مباشراً عن إظهار العذر. وأهمية هذه (الصورة) التي تتداعى بذهن المتلقي إلى (الخروج إلى الصحراء) ـ كما هو المر، و اللغوي لها. حينئذ فإن الوصل بين (الصحراء) التي تعني الفسحة والسعة وعدم التحدد وبين إبراز (العذر) وإظهاره... مثل هذا الوصل بينهما، سيجعل القارئ متداعياً بذهنه بين بروز الصحراء وبروز العذر على نحو (صوري) وليس التعبير المباشر. ولكن الأهم من ذلك هو: الوصل بين الدلالة النفسية لإبراز العذر وبين انعكاسه على استجابة الآخرين. فالعالم النفسي يقدر تماماً أهمية العمليات النفسية التي يستجيب لها الشخص من خلال (إظهار العذر) بحيث تزاح من أعماقه أية توترات وصراعات يخلفها (عدم الإعلان عن العذر)، وهذا يعني أن (الصورة الفنية - الإصحار بالعذر) لم تنفصل عن (العملية النفسية أو الصورة النفسية)، وهو أمر يكسب الشكل الفني للرسالة قيمة جديدة؛ كما هو واضح.

وأياً كان، يعنينا مما تقدم أن نخلص إلى القول: بأن (الرسالة) ليست مجرد ممارسة لفظية بتوصيات عامة، بقدر ما هي (عمل فني) تتآزر فيه جملة من العناصر الفكرية والنفسية المصوغة بأدوات الفن: من صورة وإيقاع وبناء هندسي وما إليها.

أما البناء الهندسي للرسالة، فإن طولها يحتجزنا عن معالجة هذا الجانب، بيد أنه يكفينا أن نشير إلى أن (الرسالة) بدأت بالتوصية بالعمل الصالح، وشددت على (تملك الهوى) من جانب وعلى (الحرمة) للرعية من جانب آخر: (فليكن أحب الذخائر إليك: ذخيرة العمل الصالح... فاملك هواك،... وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بالإحسان إليهم).. هذا (التمهيد) ـ من حيث البناء الفني للرسالة ـ هو الذي ستحوم عليه كل موضوعات (الرسالة): من تملك للهوى (في التعامل مع الآخرين ـ أي سحق الذات) ومن (محبة للآخرين ـ أي التوجه إلى خارج الذات)، وهما قطبا السلوك الإنساني في التعامل مع الآخرين. وهذا يعني أن (الرسالة) قد انتظمتها عمارة فنية تتلاحم فيها الموضوعات على نحو متناسق جمالياً، وليس مجرد موضوعات تتوارد على الخاطر.

2- الوصية:

الوصية ـ كما قلنا ـ تكاد تماثل (الرسالة) في بعض أشكالها، سواء أكانت موجهة على نحو (الكتابة) أو على نحو (لفظي)، كما لو تقدم الإمام (عليه السلام) بالتوصية اللفظية للشخص بدلاً من الكتابة إليه. إلاّّ أنها في الحالتين تبقى مطبوعاتها.... سقط، ومن حيث كونها موجهة إلى شخص أو جهة، ومن حيث كونها تعتمد أدوات التعبير الفني.

من نماذج ذلك - على سبيل المثال - وصية الإمام علي (عليه السلام) إلى الحسن (عليه السلام):

(من الوالد الفانِ، المقر للزمان، المدبر العمر، المستسلم للدهر، الذام للدنيا...) أن هذا الاستهلال، يفصح ـ كما هو بين ـ عن الشكل الأدبي لهذا النمط من الكتابة، إنه: (التوصية الموجهة إلى شخص هو: الحسن (عليه السلام). إلاّّ أنها بالرغم من اتسامها بما هو (خاص): التوجه إلى شخص، نجدها تتجه (بطريق غير مباشر) إلى عامة الناس. كما نجدها تعنى بمختلف الظواهر العبادية. ويمكننا ملاحظ ذلك في وصلها - منذ البدء - الاستهلال بذم الدنيا وإدبار العمر: من خلال التعريف بموقف شخصيته (عليه السلام) من الدنيا.

وهذا الاستهلال بتعريف شخصيته (عليه السلام) يتضمن نمطين فنيين من صياغة الوصية. فمن الحقائق المألوفة (في حقل العمل الفني أنه يجمع بين الخاص والعام، أي: ينطلق الكاتب من قضية (فردية) أو (خاصة) ليصلها بما هو (عام) حتى يستكمل تمرير الهدف الفكري الذي يحرص الإمام (عليه السلام) توصيله إلى الآخرين. وها هو الإمام (عليه السلام) يواصل صياغة (الوصية) وفق بناء عماري تتواشج وتتنامى من خلاله الموضوعات التي انتظمتها الوصية، (فيفصل) ما أجمله في (التمهيد) قائلاً:

(أما بعد فإني فيما بيّنت من أدبار الدنيا عني وجموح الدهر علي، وإقبال الآخرة إلي... حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي...).

في هذا المقطع، (يفصل) الإمام (عليه السلام) مجمل (التمهيد) المتصل بإدبار العمر وسواه واصلاً بين شخصيته (عليه السلام) وشخصية ولده من خلال الدافع (الأبوي) (وهو بدوره يحوم على ما هو (خاص) بيد أنه (عليه السلام) يواصل - في المقطع الثالث ـ حديثه عن ظواهر عامة بالرغم من أنها موجهة إلى ولده (عليه السلام)، لكنها تحوم على تفصيلات أكثر تنوعاً: (أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهد، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة، وذلـله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره صولة الدهر...).

فالملاحظ أن المقطع الثالث جاء (تنمية عضوية) أي: تطويراً لأفكار بدأت في المقطع الأول بمطلق (فناء العمر)، وأضيف إليها في المقطع الثاني: الوصل بين شخصية الأب والابن من حيث انعكاسات (الفناء) المذكور. ثم جاء المقطع الثالث: ليفصل الحديث عن (الفناء) وارتباطه بنمط السلوك الذي ينبغي أن تختطه الشخصية في تعاملها مع ظواهر الحياة، المفضية إلى (الفناء)، ثم تتوالى المقاطع واحداً بعد الآخر لتتحدث عن تجارب الحياة والعمر وصلة ذلك بمحددات السلوك الذي طالب الإمام (عليه السلام) بممارسته. كل أولئك يتم وفق نماء وتطوير فني لأفكار الوصية التي تتواصل أجزاؤها وتتلاحم بعضاً بالآخر، مما يكسب النص جمالية فائقة في الهيكل الهندسي له.

وإذا تركنا السمة الفنية المتصلة بـ(البناء العماري) للنص، إلى سائر أدوات الفن الأخرى، ومنها: عنصر (الصورة)، لأمكننا ملاحظة هذا العنصر بنحو يساهم - من خلاله - ببلورة المفاهيم التي طرحها الإمام (عليه السلام) عن الحياة وتجربة العمر والفناء وما إليها من الموضوعات التي وقفنا عليها في المقاطع المتقدمة.

من ذلك مثلاً: رسمه (عليه السلام) للقلب من عمليات خاصة هي: الإحياء، والإماتة، والقوة، والتنوير، والتذليل، والتبصير، والتحذير. وهذه الرسوم ليست مجرد عرض عابر بقدر ما تشكل (صوراً فنية) بالرغم من أنها لم تأخذ شكل الصورة التركيبية ذات البعد (الرمزي) المكثف بل أخذت شكلاً مألوفاً سهلاً، إلاّّ أنها خضعت لمبدأ فني هو: (التضاد) و(التماثل). (فالتضاد من خلال التماثل) يشكل ـ في لغة النقد الفني ـ واحداً من أشكال الصياغة المعاصرة لأشكال الفن. (التضاد) هنا بين (إحياء) القلب و(إماتته) ولكن من خلال (التشابه) الذي يجسد مفهوم (المعرفة) العبادية. كما أن (التباين) من (تقوية) و(تنوير) و(تذليل) من خلال (التشابه) المذكور يجسد نفس الفاعلية الفنية من حيث استثارة النفوس، مادمنا نعرف ـ من حيث الاستجابة الفنية (وهذا ما انتبه إليه مؤخراً علماء النفس (الجشطالتيون) أن الشخصية تستجيب لأي منبه، من خلال (الكل) أو (الوحدة) التي تنتظم مختلف الجزئيات في (شكل موحد).

(المقال...)

المقال الأدبي، يتناول موضوعاً محدداً تلقى عليه مختلف الأضواء ذات الصلة بالموضوع ويتميز عن المقال (العلمي) بكونه يعنى بانتقاء المفردة والتركيب، كما يعنى ـ إلى حدٍّ ما ـ بعنصري الصورة والإيقاع، لكن دون أن يتحول إلى عمل إنشائي صرف، فهو لا يحمل (جفاف) التعبير العلمي كما لا يحمل طابع (الإنشاء) الفني بل تطبعه سمة (العلم) مصطبغاً بسمة (الفن).

إنه يختلف عن كل من الخطبة والخاطرة والرسالة والدعاء وسواها بكونه لا يعنى بالبعد (العاطفي)، ولا يوجه إلى شخص أو جهة محددة، ولا تتوزعه موضوعات شتى، ولا يثقل بأدوات الصياغة الجمالية إلاّّ عابراً. ويمكننا أن نجده في بعض نماذجه مماثلاً (لخاطرة) من حيث تناوله ظواهر سريعة، إلاّّ أنه متميز عنها بكونه يتناول ظاهرة (فكرية) وليس مجرد انطباع عابر، كما يتميز عنها بكبر الحجم الذي ينتظم موضوعه.

وإليك بعض النماذج ذات الصلة بالخاطرة.

نموذج (1)

من النماذج التي تندرج ضمن (المقال) الفني، ما كتبه الإمام السجاد (عليه السلام) عن (الزهد) مثلاً، حيث حام المقال على موضوع محدد هو (الزهد) جاء فيه:

(كأن المبتلى بحب الدنيا به خبل، من سكر الشراب. وأن العاقل عن الله الخائف منه العامل له ليمرّن نفسه ويعوّدها الجوع حتى ما تشتاق إلى الشبع وكذلك تضمر الخيل لسباق الرهان...).

هذا المقطع، حافل ـ كما هو ملاحظ ـ بأدوات الصياغة الجمالية، بخاصة عنصر (الصورة) من نحو تشبيه المعني بحب الدنيا بمن فيه خبل من سكر الشراب، ونحو تمثيله لمن درّب نفسه على الجوع بالخيل الضمر في ميدان السباق. ولا يخفى أن تركيب العبارة وانتقاء المفردة يشعان بليونة لفظية بإشراق صوتي وبانسابية عامة؛ مما يُدخل المقال في صميم العمل الفني الخالص، كما يماثل (االصورة التي قده الانطباعية.

ويمكننا أن نقدم نموذجا آخر للإمام الرضا (عليه السلام) في مقالته عن الإمامة، جاء فيها:

نموذج (2)

(الإمام: كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهو بالأفق حيث لا تناله الأبصار ولا الأيدي.

الإمام: البدر المنير والسراج الزاهر والنور الطالع والنجم الهادي في غيابات الدجى والدليل على الهدى والمنجي من الردى.

الإمام: النار على اليفاع، الحار لمن اصطلى، والدليل في المهالك... إلخ) هذا المقطع ـ كما هو بيّن ـ صياغة فنية مثل سابقتها، إتكاءً على عنصر الصورة وجمال العبارة. وهي وسابقتها إلى لغة (الفن) أقرب منهما إلى لغة (العلم)، والى (الانطباعية) أقرب منها إلى مجرد التعبير عن الحقائق. وهكذا حين نتجه إلى ما كتبه الإمام علي (عليه السلام) في مقالته عن (المتقين):

نموذج (3)

(لولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب. عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وأجسادهم نحيفة وحاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة...).

هذا النموذج مثل النموذجين السابقين من حيث ارتكانه إلى أدوات الصورة والإيقاع والانطباعية.

بيد أن الملاحظ فيها جميعاً أنها تناولت السمات العامة للشخصية مثل: الزاهد والإمام والمتقي، أي أن غلبة العنصر (الانطباعي) فيها مرتبط بطبيعة التناول الذي يستجر معه أمثلة الأسلوب المذكور.

إنها تماثل رسم (القاص) لأبطاله، حيث يرسمهم فرديين وجمعيين، موسومين بملامح خارجية وداخلية وفق (انطباعية) عامة عن معرفته بسلوكهم. هنا يتجه الرسم إلى أبطال جمعيين نموذجيين يصف ملامحهم الداخلية والخارجية أيضاً مثل: أجسامهم نحيفة، عمش العيون، خمص البطون إلخ).

إذن: يمكننا أن نشطر (المقال) إلى أكثر من ضرب تعبيري، بعضه إلى (الخاطرة) أقرب منه إلى مطلق التعبير المباشر، وبعضه يتجه إلى (الرسم القصصي) أكثر منه إلى رسم آخر، وبعضه الثالث يتجه إلى السمة العامة (للمقال) ونعني بها: السمة المتمثلة في تطبيعه بـ(العلم) مصطبغاً بـ(الفن)، وهذا ما نقدم له نموذجاً أيضاً.

نموذج (4)

قال الإمام علي (عليه السلام) في مقال له عن أصل الإبداع الكوني والبشري: (أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً بِلا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا ولا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا ولا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا ولا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا، أَحَالَ الأَشْيَاءَ لأَوْقَاتِهَا ولامَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وغَرَّزَ غَرَائِزَهَا وأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وانْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وأَحْنَائِهَا... إلخ) فالإمام (عليه السلام) في صدد الظواهر الإبداعية، وهو رصد علمي لأصولها، لا يكاد التعبير غير المباشر يتخلل الرصد المذكور بقدر ما تتخلله قيم صوتية (قرار وتوازن بين الجمل).