المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 004.doc

مادة التعبير الفنّي

كلّ تعبير لا بدّ أنْ يتعامل مع مواد أوّليّة يقوم عليها بناء النص الأدبي، فكما أنّ العمارة مثلاً تتكوّن من مواد أوليّة كالآجُر والجص والحديد إلى آخره، فكذلك النص الأدبي يتكوّن من مواد أوليّة هي: الشخصيّات، الحوادث، البيئات أو (الأشياء) والقيم أو (المواقف).

1- الشخصيّات: ويُقصد بها كل موجود واعٍ يمكنه أنْ يتحرّك ويتحدّث ويعمل، سواء أكان بشراً أو غيره من الموجودات الأُخرى، فسورة الفيل مثلاً تتّخذ من الفيل والطير والأحباش (الشخصيّات) مادّة خاماً للقصّة، وسورة الناس مثلاً تتخذ من الجنّة والإنس مادة لها وهكذا...

ومن الطبيعي أنْ يخضع رسم هذه الشخصيّات لقواعد خاصّة نعرض لها في حقول لاحقة، حيث ترسم الشخصيّات من الخارج ومن الداخل أيضاً، ويُقصد بالرسم الخارجي كل ما يتّصل بسلوك الشخصيّة حركيّاً مثل هيئة جسمه ومشيه ونطقه إلى آخره، وأمّا الرسم الداخلي فيُقصد به سلوكها الفكري والنفسي أي أفكارها وعواطفها و... إلى آخره.

2- الحوادث: ويُقصد بها كل (فعل) يقع من الخارج كالمعارك الحربيّة والحوادث الطبيعيّة كالفيضانات والزلازل و... إلى آخره، أو الحوادث المصطنعة كالاصطدام أو الحريق، أو الأفعال الشخصيّة كالمشاجرة أو القتل أو... إلخ أيضاً تتّخذ رسم الحوادث قواعد خاصّة نعرض لها في حينه.

3- البيئات أو الأشياء: ويُقصد بها رسم الأشياء المتحركة أو الجامدة التي تجسّد مكاناً وزماناً محدّدين: كالمشهد الطّبيعيّ من شجر وجبل ونهر ونبات، وكالأجهزة الصناعيّة المختلفة التي يستخدمها البشر...

4- القيم أو المواقف: ويُقصد بها كل قيمة عقليّة أو نفسيّة مثل: مفهومات العدل والحق والحريّة والتعاون إلى آخره، ومثل العقائد والاتّجاهات إلى آخره. إنّ أي تعبير أدبي يتّخذ من الظواهر الأربع المشار إليْها (مادة) يصنع منها بناءه الفنّي الذي يستهدفه، فسورة الفيل التّي أشرنا إليها مثلاً تتّخذ من الفيل والطير والبشر (مادّة) للشخصيّة، وتتّخذ من الرمي بحجارة من سجّيل (مادّة للحوادث)، وتتفيها من خصاالأعداء) مادة (للقيم)، وتتّخذ من (الحرم) مادة للبيئة، ففي هذه السّورة (بيئة) هي (الحرم)، وحادثة هي (المعركة)، وشخصيّة هي الفيل، والطير، والبشر، (والقيم) هي (الكيد) من قبل الأعداء و(النصر) من قبل الله تعالى...

والفارق بين القيم والمواقف، أنّ الموقف يرتبط بالشخصيّة، والقيم قد ترتبط بالشخصيّة، وقد تُتناول مجرّدة، فإذا تحدّثنا عن (الصبر) نكون أمام (قيم)، وإذا تحدّثنا عن الرجل الصابر، نكون أمام (موقف).

 القيم أو المواقف وعلاقتها بالنص

هنا، ينبغي أنْ نفرّق بين القيم أو المواقف بصفتها (مادة) النص، وبين (الفكرة) التي يتضمّنها النص. فالفكرة هي ما نستخلصه من الأفكار التي يستهدفها النص، فإذا قلنا ـ على سبيل المثال ـ: (الصبر فضيلة) نكون أمام (مادة) تتحدّث عن الصبر، وأمام (فكرة) تقرّر بأنّ الصبر فضيلة، ولذلك تتوحّد هنا مادّة النص وفكرته. لكن إذا قُلنا: (هذا الرجل صابر) أو قلنا: (إنّ الرجل صبر على شدائد الحياة) حينئذٍ فإنّ هناك (فكرة) نستخلصها هي (الصبر فضيلة). يضاف إلى ذلك، أنّ النص الأدبي ـ في الغالب ـ لا يطرح فكرته بنحو مكشوف بل بنحو ضمنيّ بحيث يدعو القارئ يستخلص فكرة النّص، وهذا كما لو سرد أحد الأشخاص قصّة ما، وهدفه أنْ يستخلص منها أهميّة الصبر ونحو ذلك مثلاً.

والغالب ـ في أي نص أدبي ـ أنّ هذه العناصر تجتمع فيه، بحيث تتداخل مع بعضها، فعندما نرسم شخصيّة، فإنّ سلوكها يجسّد (قيماً)، ومكانها يجسّد (بيئة). وتصرّفاتها الخارجيّة تجسد (مادة) وهكذا، بالنحو الذي سنوضّحه لاحقاً.

أمّا نمط الرسم لكلٍّ من البيئات والأشخاص والحوادث والقيم، فأمرٌ يتّصل بعناصر النّص الأدبي: لفظيّاً وموضوعيّاً ومعنويّاً وصوريّاً وإيقاعيّاً وبنائيّاً وفكريّاً وشكليّاً ممّا نعرض له بالتفصيل لاحقاً، ونعرض لها الآن إجمالاً، وهي:

عناصر التعبير الفنّي أو البلاغي

قلنا إنّ عناصر النّص الأدبي تتكون من ثمانية هي:

1- العنصر الفكري: ويُقصد به أن تكون للنص (فكرة) خاصّة يستهدفها النص من وراء صياغته للنص. فصورة الفيل المُشار إليها تتضمّن فكرة هي: إنّ الله تعالى يقف بالمرصاد لكلّ من تسوّل له نفسه التعرّض بالسوء للبيت الحرام.

2- العنصر الموضوعي: ويُقصد به أن يتضمّن النص الأدبي موضوعاً يُجسّد الفكرة التي يستهدفها، حيث إن حادثة الفيل وجنود الطّير والمعركة هي الموضوع الذي طرحه النّص وجعله محوراً للفكرة التي استهدفها، أي نصر الله تعالى للكعبة.

3- العنصر المعنويّ: ويُقصد به المعاني أو الدلالات الجزئيّة للموضوع من حيث ترتيبها في ذهن المنشئ الأدبي وهو ما يُطلق عليه في البلاغة القديمة مصطلح (المعاني) مثل: التقديم والتأخير، والإجمال، والتفصيل، والتأكيد إلى آخره...

4- العنصر اللّفظي: ويُقصد به العنصر الذي يتناول طرائق التعبير المتّصلة بصياغة المفردة والمركّبة أي الألفاظ والجمل من حيث انتقاء الكلمة المناسبة ومن حيث تركيب الجملة المتمكّنة غير المفكّكة أو المعقّدة إلى آخره.

5- العنصر الصوري: ويُقصد به ما يُطلق عليه في البلاغة القديمة مصطلح (البيان) حيث يشمل التعبير عن الحقائق بلغة مجازيّة بدلاً من اللّغة المباشرة أو العاديّة، مثل التشبيه والاستعارة والرمز والتمثيل إلى آخره...

6- العنصر الإيقاعي: ويُقصد به كُل ما يتناول التنظيم الصوتي للعبارة، مثل القافية والوزن والفاصلة والتجنيس إلى آخره...

7- العنصر الشكلي: ويُقصد به المظهر الخارجي للنّص أو ما يصطلح عليه (الجنس الأدبي) حيث يتّخذ كلّ تعبير أدبي شكلاً خاصّاً به، كالقصّة أو المسرحيّة أو القصيدة أو الخطبة أو الخاطرة أو المقالة إلى آخره...

والآن في ضوء هذه العناصر البلاغيّة التي عرضنا لها إجمالاً، نبدأ بتناولها مفصّلاً، حيث إنّ البلاغة أساساً تقوم على معرفة هذه العناصر التي نبدأ بالحديث عنها وفق تسلسلها المتقدّم، فيما نبدأ أوّلاً بالحديث عن:

8- العنصر البنائي: ويُقصد به العنصر الذي يتناول عمارة النص الأدبي من حيث صلة أجزائه بعضها مع الآخر، كالبداية والوسط والنهاية، وصلة كل عبارة بما تقدّمها وتأخّر عنها، وصلة الموضوعات بعضها مع الآخر، ثم صلة العناصر بعضها مع الآخر، مثل: صلة الإيقاع أو الصورة أو غيرهما بمجموع النص وهيكله العام...