المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 037.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

لا نزال نحدثكم عن السورة القرآنية الكريمة من حيث البلاغة التي تنتظمها في ميدان السورة القصصية، حيث حدثناكم عن ذلك في محاضرات سابقة وتناولنا السورة القرآنية المتمحضة للعنصر القصصي، وقدمنا نماذج متنوعة منها.

أما الآن فنحدثكم عن السورة القرآنية أيضاً ما دام حديثنا منصبّاً من البداية على أحد الأشكال الشرعية؛ ألا وهو شكل السورة من حيث الهيكل الخارجي والداخلي لها، حينئذٍ نواصل حديثنا عن خصائص السورة القرآنية الكريمة، ونواصل الحديث عن الجانب القصصي الذي بدأناه أولاً بالسور التي تتمحض للعنصر القصصي، ونبدأ الآن لنتحدث عن العنصر القصصي وصلة ذلك بالسور القرآنية الكريمة.

لقد سبق أن قلنا أن القصة القرآنية الكريمة تنتظم في نمطين من الصياغة في السورة القرآنية الكريمة؛ مرة تتمحض السورة للعنصر القصصي كسورة الفيل وسورة نوح وسورة الواقعة وسورة الرحمن وسور أخرى كثيرة اشرنا إليها في حينه وفي مقدمتها من السور الطوال سورة يوسف (عليه السلام)، وأما النمط الثاني من العنصر القصصي فهو العنصر الذي يشكل جزءاً من السورة ولا يتمخض لها وهذا ما نجده في سور متنوعة كثيرة، والمهم هو أن نحدثكم عن المسوغ البلاغي، أو بالأحرى عن البلاغة القصصية في سياق السورة القرآنية الكريمة ما دام حديثنا هو - كما كررنا - عن هيكل السورة الخارجي والداخلي.

بالنسبة إلى العنصر الصوري يمكننا أن نحدثكم عنه من خلال الإشارة أولاً إلى العنصر القصصي يجسد واحداً من العناصر أو من الأدوات الفنية التي توظفها السورة الكريمة لكي تلقى الإنارة على الأهداف أو الأغراض التي تستهدفها السورة الكريمة، على سبيل المثال لو طالعنا سورة يس (عليه السلام) للاحظنا أن هذه السورة تبدأ بجملة من الآيات الكريمة ومن ضمنها الآية القائلة:(لتنذر قوماً ما أنذر آبائهم فهم غافلون لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقحمون وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون..) لاحظوا أن هذه الآيات وهي متنوعة تحوم على دلالة هي الآية الأخيرة التي قرأها (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون..) هذه الآية الكريمة وما قبلها من الآيات وما بعدها أيضاً تتحدث عن الإنذار (لتنذر قوماً ما أنذر آباءهم لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون فأغشيناهم فهم لا يبصرون إنما تنذر من اتبع الذكر..) وهكذا بالنسبة للآية التي تلوناها (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) لاحظوا أن هذه الدلالة التي تحوم عليها مقدمة السورة الكريمة كيف أنها أعقبت بقصة قصيرة على هذا النحو (واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون، وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قومي اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون..) لاحظوا أن هذه الأقصوصة تتميز بكونها قد تضمنت ثلاث شخصيات أو ثلاثة أبطال جاءوا لكي ينذروا قومهم.

(إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) لاحظوا أن هذه القرية قد جاء بها ثلاثة رسل، ومجرد كون الرسل ثلاثة يكشف عن شيء مهم جداً وهو أن أهل هذه القرية منحرفون لدرجة ملفتة للأنظار، بحيث لا يكفيهم أن يرسل إليهم رسول واحد وإنما أرسل لهم رسل ثلاث مما يعني أن درجة الانحراف كما قلنا بلغت مداها الكبير، ويترتب على ذلك أن درجة الانحراف عندما تتضخم حينئذٍ فإن إمكانية هدايتهم تتضاءل، بل تكاد تنعدم. وهذا ما يتجانس تماماً مع المقدمة التي اضطلعت جملة آيات تتحدث عن الإنذار وعدم فائدة هذا الإنذار بالنسبة إلى هؤلاء القوم وخاصة الآية الكريمة التي تحدد هذه الدلالة بوضوح فتقول: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) أي أن هؤلاء القوم لا يؤمنون البتة. طبيعياً المقدمة لا تتحدث عن هؤلاء القوم بل تتحدث عن طائفة بنحو مطلق حيث تقول (لتنذر قوماً ما أنذر آباءهم فهم غافلون) وحتى لو فرضنا أنها تريد أن تتحدث عن هؤلاء القوم أنفسهم فإن القصة التي سيقت حينئذٍ يكون تجانسها مع هذه المقدمة أشد دون أدنى شك، ولكن مع فرضية أنها تشير إلى قوم مطلقا وحينئذٍ بخاصة عندما تقول: (واضرب لهم مثلاً) أي أن هذا المثل عن أصحاب القرية التي أرسل إليها ثلاثة رسل، هذا المثل يماثل ويضاهي من حيث الانحراف نفس القوم الذين أشارت المقدمة إليهم على أية حال  لاحظتم كيف أن القصة أو كيف أن العنصر القصصي قد وظف في السورة الكريمة ليخدم أهداف السورة الكريمة من حيث الأغراض التي تستهدفها.

والأمر نفسه يمكنكم أن تلاحظوه في سورة القلم حيث جاء في مقدمتها هذا النص: (بسم الله الرحمن الرحيم ولا تطع كل حلاّف مهين همّاز مشاء بنميم) حيث أعقبت هذا الكلام القصة التي سبق أن أشرنا إليها في محاضرات سابقة، وهي قصة أصحاب الجنة حيث يقول النص: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن أغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين..) هذه الأقصوصة كما تلاحظون بدأت بالتأكيد أو بالتركيز أو بالتشدد في جانب هو أن أصحاب هذه الجنة أقسموا، لاحظوا عبارة أقسموا فإنها العبارة التي تكشف عن الدلالة التي تحوم عليها الأقصوصة وهذه الدلالة مرتبطة بمقدمة تقول: (ولا تطع كل حلاف مهين) إذ ظاهرة القسم فارضة دلالتها على العنصر القصصي الذي وظفته السورة لتبرر لنا قضية القسم وما يترتب عليه من نتائج.

ولعل استشهادنا أيضاً في محاضرات متنوعة استشهادنا بسورة الكهف حيث جاء في مقدمة هذه السورة قوله تعالى: (إنا جعلنا على الأرض زينة لها لنبلونهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) هذه المقدمة التي تتحدث عن زينة الحياة الدنيا قد أعقبتها بنحو مباشر قصة أهل الكهف التي تجسد نبذاً تاماً لزينة الحياة الدنيا بالشكل الذي أوضحناه في لقاءات سابقة مما لا حاجة إلى إعادة الكلام في ذلك، على أية حال هذه نماذج من النص القصصي الكريم تضطلع بها السورة القرآنية الكريمة بمثابة عنصر يوظف لإضاءة الدلالة التي تستهدف السورة القرآنية الكريمة ويمكننا أن نستشهد أيضاً بما سبق أن حدثناكم عنه في سورة البقرة من حيث النصوص القصصية التي تتناول ظاهرة الإماتة والإحياء، حيث قلنا أن مجموعة من القصص القرآنية الكريمة قد انتضمت في السورة المشار إليها مثل قصة البقرة وقصة تقطيع الطيور الأربعة.. الخ.

بيد أن التوظيف القصصي هنا يختلف عن التوظيف القصصي الذي استشهدنا به في النماذج السابقة، وهذا ما يدفعنا إلى القول أن توظيف العنصر القصصي في السورة القرآنية الكريمة يتخذ أشكالاً متنوعة، منها ما لاحظتموه من حيث توظيف القصة لهدف تتضمنه السورة ومقابل ذلك ما نلاحظه الآن من توظيف آخر وهو ما نبدأ بشرحه، لاحظوا أن سورة البقرة يمكن أن نقول بأن ثلث آياتها تحوم على الحديث عن الإسرائيليين بصفتهم قوماً منحرفين يمثلون الانحراف بأشد درجاته طوال التاريخ، وقد قدمت السورة الكريمة أكثر من قصة وقدمت عشرات الآيات التي تتحدث عن سلوك هؤلاء القوم المتمردين ومن جملة ذلك ما نلاحظه من أول قصة تطرح وهي قصة البقرة حيث تضل على صلة بهؤلاء الإسرائيليين وهذا يعني أن القصة (البقرة) وظفت لإنارة هدف خاص يتعلق بالإسرائيليين، وهذا النمط من التوظيف هو مماثل بطبيعة الحال للنماذج السابقة التي استشهدنا بها في سورة يس والقلم والكهف ونحو ذلك.. إلا أن الجديد في هذا هو أننا حيال نمط آخر من التوظيف يظل مضاداً للسورة السابقة، ونعني به أن القصة ذاتها تطرح مفهوماً جديداً وهذا المفهم سوف ينعكس على مضمون السورة الكريمة.

لاحظوا كيف أن القصة تبدأ بهذا النحو: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزواً..)، بعد ذلك تنتهي القصة بهذه الآية الكريمة: (فقل فاضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) لاحظوا هذا التعقيب الأخير للآية الكريمة التي عقبت على القصة المشار إليها مباشرة فقالت: ­(كذلك يحيي الله الموتى)، هذه القصة كما هو معروف قد طرحت ظاهرة إحياء القتيل الذي كشف عن هوية القاتل، فالقصة تتلخص في حادثة قتل لأحد الأشخاص حيث كان القاتل مجهولاً ثم حدث اختلاف بين الناس في معرفة القاتل فاتجهوا إلى موسى (عليه السلام) للكشف عن هويته فأمرهم حينئذٍ بذبح بقرة ذات سمات خاصة وان يضرب المقتول ببعض أجزاء البقرة، حيث أحيي المقتول وكشف عن هوية القاتل.

والمهم أن السورة القرآنية الكريمة قد عقبت على هذه القصة بقولها ]كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون[ فالدلالة الجديدة التي طرحتها هذه القصة هي ظاهرة إحياء الموتى.

لاحظوا أن القصة ذاتها قد وظفها النص للإبانة عن سلوك الإسرائيليين ثم جاءت القصة لتكون هي أيضاً عنصر يوظف للإبانة عن دلالة جديدة أي كما أن السورة القرآنية الكريمة وظفت القصة لدلالة فإن القصة ذاتها وظفت السورة أيضاً لدلالة جديدة هي ظاهرة إحياء الموتى، ولذلك تلاحظون أن ظاهرة إحياء الموتى سوف تنعكس على كثير من قصص هذه السورة الكريمة، فهاك القصة أو الأقصوصة التي تقول أن الله سبحانه وتعالى قال لجماعة موتوا ثم أحياهم، والأقصوصة التي تتحدث عن ذلك الشخص الذي مر على قرية وقال أنى يحيي هذه الله بعد موتها.. فأماته الله ثم أحياه كذلك القصة التي تحدثت عن إبراهيم (عليه السلام) عند تقطيعه للطيور الأربعة إذ ماتت ثم أحييت، وهكذا بالنسبة إلى مناقشته مع أحد المنحرفين حيث زعم ذلك المنحرف أنه يستطيع أن يحيي ويميت حيث أسكته إبراهيم (عليه السلام) بالنحو الذي تحدثت عنه السورة.

إذاً لاحظتم أن هذا النمط من العنصر القصصي قد اضطلع بوظيفة مزدوجة، الوظيفة الأولى هو أن العنصر القصصي يوظف في سبيل هدف للسورة ويقابله في الآن ذاته أنه يوظف السورة في سبيل هدف لها وهكذا.. إذاً أردنا أن نتبين الآن أن العنصر القصصي في النص القرآني الكريم كيف قد وظف نمطين من التوظيف بحيث أصبح مرة هو الموظف وبحيث أصبح مرة أخرى هو الموظَف بالنحو الذي فصلنا عنه الحديث عنه الآن.

إذاً نحن أمام مستويات متنوعة من الاستخدام القصصي في النص القرآني الكريم حيث بدأ حديثنا عن العنصر القصصي من خلال السورة القرآنية الكريمة، حيث قلنا أن السورة في بعض نماذجها تتمخض للعنصر القصصي وقلنا أن في قسم آخر منها أي تدخل السورة أحد عناصر النص، وفي هذا الميدان لاحظنا كيف أن هذا العنصر قد وظف ووظِف بالنحو الذي ذكرناه، وما دمنا نتحدث عن العنصر القصصي وصلته بالسورة، أو بالأحرى ما دمنا نتحدث عن السورة الكريمة وصلتها بالعنصر القصصي حينئذٍ لابد أن نواصل حديثنا عن هذه الجوانب القصصية ونتناول الآن جانباً جديداً وإن كنا قد تناولناه في محاضرات سابقة عندما حدثناكم عن بناء النص الأدبي وسواه، ولكننا عندما حدثناكم عن بناء النص الأدبي إنما حدثناكم عن مطلق النصوص وفي ضمنها النص القصصي الذي تضطلع به سورة كسورة نوح أو الفيل مثلاً، ولم نحدثكم عن القصة بنحو مطلق من حيث بنائها بل حدثناكم من حيث بيئتها وشخصياتها ومواقفها، وأما الآن حديثنا يظل مرتبطاً بالبناء الفني للقصة القرآنية الكريمة، لقد سبق أن حدثناكم عندما تناولنا العنصر البنائي في النص مطلقاً حيث تتذكرون أننا قد استشهدنا من حيث الأبنية العامة للنص الأدبي فيما قسمناها إلى أبنية أفقية وطولية ومقطعية تتذكرون أننا قد استشهدنا ببعض النصوص القصصية ومنها قصة نوح (عليه السلام) حيث قلنا أنها تبدأ من موضوع محدد ثم تنتهي إلى نهايته بحسب التسلسل الموضوعي أو الزمني للظاهرة، كما استشهدنا بسورة القمر وسورة الشعراء من حيث تضمنها قصصاً تتناول البناء المقطعي للنص أي القصة التي تطرح موضوعاً ثم تختمه بعبارة، أو تبدأ بعبارة مشتركة وتكررها إما عند بداية كل أقصوصة، أو عند نهايتها إلا أن هذا النوع من الأبنية يظل مرتبطاً في الواقع بالهيكل الخارجي.

أما الآن فنريد أن نحدثكم عن الهيكل الداخلي للبناء، وهذا ما نبدأ به الحديث الآن، والحديث الذي نريد أن نشدد فيه هو في الواقع يرتبط بعنصر الزمن وبالحفاظ عليه أو بتقطيعه بحسب ما يتطلبه الموقف، حيث أن الزمن من حيث تسلسله أو من حيث تذويبه وتقطيعه إلى وصلات زمنية يظل حافلاً بقضايا بلاغية لها أهميتها مما يحدونا على أن نطرحها في هذا الميدان، ومن الحقائق الواضحة في هذا السياق أن الزمن سواء أكان ذلك يصاغ في القصص التقليدية الأرضية أو يصاغ في نطاق القصص الحديثة يستوي في ذلك أن يصاغ في هذين المستويين من القصص، إنما يسلك سبيلين أحدهما السبيل الموضوعي المتمثل في التسلسل الزمني والآخر في التقطيع الزمني ولكل بلاغته بطبيعة الحال، وإذا أردنا أن نستشهد بالنص القرآني الكريم بشكل عام حينئذٍ نقول أن القصة القرآنية حين تطرح حادثة أو موقفاً إما أن تخضعه للتسلسل الزمني كما لاحظنا ذلك مثلاً في قصة يوسف (عليه السلام) حيث تسلسلت منذ طفولته فإلقاءه في البئر فالعثور عليه فمحادثته مع المرأة فسجنه فخروجه من السجن وتوظيفه.. الخ، حيث تسلسلت زمنياً، ولكن قبالة ذلك نجد قصصاً أخرى لا تخضع للزمن التسلسلي بقدر ما تخضع للزمن النفسي أي بقدر ما تخضع للسياق الذي يفرض حيناً أن يقطع الزمن في شريحة منه، فينتقل بين الماضي والحاضر والمستقبل بحسب متطلبات السياق، وفي هذا الميدان نجد أن أفضل استشهاد نقوم به هي قصص موسى (عليه السلام) فأنتم تعرفون جيداً أن قصص موسى هي أكثر القصص القرآنية غزارة بالنسبة إلى سواها من قصص الأنبياء (عليهم السلام) بالإضافة إلى ذلك فإننا سوف نستشهد أيضاً بالقصص الأخرى لنبين مدى الصياغة الفنية للعمل القصصي في نطاق السورة القرآنية الكريمة.

بالنسبة إلى شخصية موسى (عليه السلام) نجد أن غالبية القصص المرتبطة به تبدأ من وسط الحوادث وهذا الوسط هو نمطان أحدهما يتصل بالبحث عن النار أو عن الدفء لأهله حيث يفاجئ بعد ذلك بإلقاء الوحي عليه أو يتحدث النص القصصي من خلال الأمر من الله سبحانه وتعالى بأن يهب إلى فرعون للعمل التبليغي ولإنذاره خلال ذلك عندما تبدأ القصة من وسط الأحداث أو المواقف حينئذٍ إما أن تواصل رحلتها الطولية وإما أن ترتد إلى الوراء فتحدث عن حوادث أخرى فسورة طه مثلاً كما تلاحظونها تبدأ بهذا الحديث (وهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً فقال لأهله..) إنها حين تبدأ من هذا الوسط تواصل حديثها عن ذلك من حيث إلقاء الوحي بعد ذلك عليه والأمر بالذهاب إلى فرعون.. الخ، إلا أنها خلال ذلك ترتد بالقصة إلى ما بعد الوسط أي ترتد إلى البداية فتقول: (ولقد مننا عليك مرة أخرى اذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم في الساحل..) فانتم تلاحظون أن القصة بدأت من الوسط وارتدت إلى البداية، فبداية القصة هي إلقاء موسى في التابوت عند ولادته، وأما الوسط فهو مجموعة من الحوادث التي تتجسد منها حادثة البحث عن الدفء لأهله ثم إلقاء الوحي عليه فالقصة هنا عندما بدأت من الوسط ارتدت إلى الوراء ثم عادت إلى الوسط من جديد فطالبت موسى وأخاه أن يذهبا إلى فرعون وأن ينذراه.. الخ.

هنا ينبغي أن نعقب على هذا النمط من التقطيع الزمني، فالقصة حينما تبدأ من الوسط فهذا يعني أن النص يستهدف الإشارة إلى أهمية هذا الجانب وسواء أكانت قصص موسى تبدأ من الحديث عن البحث لأهله عن الدفء أو كانت تتصل بالأمر به إلى التبليغ حينئذٍ فإن المستويين كليهما يفصحان عن أهمية خاصة يستهدف النص القرآني إيصالها إلى القارئ ترى ما هو هذا الهدف؟.

بالنسبة إلى البحث عن الدفء ثم المفاجأة بإلقاء الحي عليه تجسد مقولة طالما ألمح إليه أهل البيت (عليهم السلام) حينما قالوا: (كن لما لا ترجوا أرجى لما ترجوه) أي أن الإنسان ينبغي أن تمتد ثقته بالله سبحانه وتعالى إلى درجة يتوقع أن يرزقه الله من حيث لا يحتسب البتة، فموسى (عليه السلام) كان يرجو أن يعثر على دفء لأهله وإذا به يتلقى الوحي من السماء وهذا مما لم يدور في خلده البتة، إذاً لاحظوا كيف أن النص القصصي عندما بدأ بالحديث من منتصف الحوادث لا من أولها إنما أراد أن يلفت نظر القارئ إلى أهمية هذا النمط من التوكل على الله سبحانه وتعالى وهو أن نرجو ما لا نحتسبه أكثر مما كنا نحتسب، ولكن عندما ترتد إلى البداية فإن الأمر يعد طبيعياً حيث أن القصة بحسب تسلسلها الزمني هي الأصل في كل شيء، وأما التقطيع فيتم لمواصفات خاصة بالشكل الذي لاحظتموه من حيث البدء من وسط الحوادث، لكنكم سترون في قصة أخرى طبيعياً القصة التي حدثناكم عنها متجسدة في سورة طه ولكنكم إذا انتقلتم إلى سورة القصص تبدأ هنا من أول الحوادث، وهذا يعني أيضاً بأنها تستهدف لفت الانتباه على موضوع له أهميته، طبيعياًما أن ندقق النظر في هذا الجانب حتى نستكشف سريعاً كيف أن هذه البداية تنطوي على خطوة مهمة بالنسبة لعطاء الله سبحانه وتعالى ورعايته للعبد، فعندما يوحي الله سبحانه وتعالى إلى أم موسى أن تطرحه في اليم وأن لا تخاف ولا تحزن حينئذٍ فإن هذا يكشف عن مدى عطاءه ورحمته سبحانه وتعالى ورعايته للعبد مما يستوجب لفت الانتباه عليه طبيعياً.

إن هذه القصة قد مهد لها بأربع آيات هي: (نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون، إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يُذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) هذا التمهيد بطبيعة الحال وإن كنا من جانب نستطيع أن نقول أنه داخل في هيكل القصة باعتباره يتحدث عن فرعون وباعتبار أن موسى (عليه السلام) سوف يضطلع بالمهمة الرئيسية له ألا وهي الذهاب إلى فرعون، ولكن من حيث البعد الزمني أو بالأحرى من حيث الحياة المرتبطة بشخصية موسى (عليه السلام) إنما بدأ القصة منها من خلال إلقاءه في اليم أي من خلال بداية حياته وليس من خلال أمره لموسى بالذهاب إلى فرعون، في القصص الأخرى نجد أن النص القرآني يأمر موسى بالذهاب إلى فرعون، هنا لم يأمر موسى بالذهاب إلى فرعون هنا حدثنا عن شخصية موسى وفرعون من حيث كون فرعون علا في الأرض ومن حيث أن الله تعالى يريد أن يمن على المستضعفين ويمكن لهم في الأرض ويري فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون، فبالرغم من أن النص المذكور قد مهد للحديث عن قصة موسى بالإشارة إلى فرعون بنحو عام، إلا أن ذلك من حيث الصياغة القصصية أو من حيث العرض القصصي لسلوك موسى لم يبدأ إلا من بداية حياته كما قلنا، إذا بداية القصة حينما تبدأ من وسط الحوادث أو حينما تبدأ من أول الحوادث إنما تعني أنها تستهدف لفت النظر إلى أهمية ذلك والأمر نفسه يمكن ملاحظته من حيث البدء بالقصة من نهايتها حيث يمكننا إذا تخلينا عن كون الصورة المشار إليها أي سورة القصص، إذ تخلينا عن النظر أن بداية الحدث لم يكن هو إلقاء موسى في اليم بل هو الإشارة التمهيدية التي قالت إلى أن الله سبحانه وتعالى قد ألمح بقوله تعالى: (ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) حيث أن الإِشارة إلى تمكينهم في الأرض والإشارة إلى أن فرعون سوف يرى ما كان يحذر منه وهو إبادته على يد إحدى الشخصيات إذا اعتبرنا هذه البداية أو التمهيد يجسد نهاية للحوادث، لأن الحوادث التي تنتهي بها قصة موسى مع فرعون تتمثل في إبادة فرعون وتمكين موسى وقومه في الأرض، إذا اعتبرنا ذلك مجرد بدء للحادثة من نهايتها حينئذٍ هذا النص يصلح لأن يكون نموذجاً للتقطيع الزمني الذي يبدأ بالحادثة من نهايتها بحيث يكشف هذا البدء عن أهمية النهاية المذكورة ولا نحتاج إلى توضيح هذا الجانب من حيث الأهمية المترتبة على انحراف فرعون وتمكين موسى في الأرض حيث أن هذا الهدف من الضخامة والخطورة بمكان.

على أية حال نكتفي بهذا القدر من الحديث عن العنصر القصصي في السورة القرآنية الكريمة على أن نتابع حديثنا في محاضرات لاحقة إنشاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.