المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 036.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

لا نزال نحدثكم عن الفنون الشرعية أو عن الأشكال الأدبية الشرعية وفي مقدمتها السورة القرآنية الكريمة حيث حدثناكم عنها في لقاءات متقدمة بدأناها بالحديث عن طبيعة الهيكل الخارجي للسورة الكريمة مضافاً إلى طبيعة هيكلها الداخلي وبدأنا بعد ذلك بالحديث عن أحد أشكال السورة القرآنية الكريمة ألا وهو السورة القصصية أي السورة التي تتمحض للعنصر القصصي واستشهدنا بجملة قصص منها قصة أصحاب الفيل وقصة نوح عليه السلام وقصة يوسف عليه السلام حيث استشهدنا بهذه القصص بصفة أن القصة الأولى تجسد من حيث الحجم القصة القصيرة والثانية تجسد القصة المتوسطة والثالثة تجسد القصة الطويلة هذا من جانب  واستشهدنا بهذه القصص من حيث اللغة القصصية التي تنتظمها ومن حيث اللغة الحوارية بخاصة والفوارق التي لاحظتموها بالنسبة إلى هذه الأنماط القصصية أما الآن فنواصل حديثنا أيضاً عن السورة القصصية الكريمة ولكن نتناول ذلك من زاوية أخرى ألا وهو النمط الأدبي الذي تنتمي إليه السورة القصصية القرآنية هنا نود أن نلفت نظركم الكريم إلى أن حديثنا عن هذا الجانب يظل امتداداً لحديثنا السابق الذي كررنا فيه أننا في الواقع عندما نتحدث عن أية ظاهرة فنية إنما ننطلق من التصور الإسلامي لها دون أن نقيد أنفسنا بالأبحاث أو بالاتجاهات وبالتصورات الأرضية حيث قد نختلف معها في ظاهرة ما ونتفق معها في ظاهرة ما كل ذلك من خلال التساوق مع جوهر التشريع الإسلامي ومن هنا حينما نعتزم الآن أن نتحدث عن السورة القصصية القرآنية الكريمة من حيث الأنماط إنما نحدثكم حيناً من خلال ما يصطلح عليه أو من خلال ما تعورف عليه من تقسيمات تقليدية لأنماط القصة أي القصة التي يطغى فيها عنصر الشخصية والقصة التي يطغى فيها عنصر الحدث والقصة التي يطغى فيها عنصر الموقف والقصة التي يطغى فيها عنصر البيئة فبالرغم من أن هذا التقسيم هو تقسيم تقليدي بالقياس إلى ما نلاحظه في سنواتنا المعاصرة من الصياغة القصصية الحديثة التي تتجاوز الصياغات التقليدية وتتجه اتجاهات متنوعة في هذا الميدان بالرغم من ذلك فإن هذا لا يعني أن القصة في شكلها التقليدي هي متخلفة بالقياس إلى القصة في شكلها الأحدث فإن الأحدث أيضاً ستتحول إلى قصة تقليدية بعد جيل جديد وهكذا إذاً المعيار الذي ننطلق به دائماً وأبداً هو ليس معايير التصورات الأرضية بل المعايير التي تنسجم مع حقيقة الواقع الإسلامي الذي نحياه على أية حال نعود فنتحدث عن السورة القصصية القرآنية الكريمة متمثلة في القصص التي يطغى فيها جانب على آخر ونبدأ ذلك بالإشارة إلى قصص البيئة متمثلة بخاصة في الحديث عن البيئة الأخروية وفي هذا المجال يمكننا أن نستشهد بجملة سور قصصية في مقدمتها سورة الرحمن وسورة الواقعة وسورة الدهر، إن هذه السور الثلاث تتناول البيئة الأخروية وفق مستويات متنوعة وكلنا يعلم من حيث الفن القصصي هذا ما نحاول أيضاً بإذن الله تعالى أن نعرض له في محاضرات لاحقة عندما تصل النوبة إلى الحديث عن فن القصص حينئذ سنحدثكم عن أحد الجوانب المرتبطة بهذا الفن وهو عملية السرد والوصف حيث أن القصة التي يطغى فيها عنصر البيئة يضل كل من السرد والوصف طاغياً فيها دون أدنى شك. طبيعياً إن كلاً من السرد والوصف للبيئة يظل محكوماً وفق مصطلح اللغة القصصية بجملة مبادئ لا نقيد أنفسنا بها بقدر ما نستهدف الآن الإشارة إلى قصص البيئة في السورة القرآنية الكريمة وفق ما ورد في صياغتها حيث نبدأ ذلك بالحديث أولاً عن سورة الواقعة ونشير إلى أن هذه السورة الكريمة بدأت أولاً بتمهيد يتحدث عن قيام الساعة بقوله تعالى: )إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجاً وبست الجبال بساً فكانت هباءً منبثاً ( ، إن هذه المقدمة القصصية لها وظيفة عضوية هي أنها تمهد عند قيام الساعة للحديث عن وصف البيئة الأخروية من حيث انعكاسات عمل الإنسان على هذه البيئة وشخوصها من هنا فالإشارة إلى وقوع الواقعة وأنها واقعة لا مجال لتكذيب ذلك يظل في الواقع إشارة أو تمهيد لما يتضمنه النص القصصي من وصف لأنماط بيئية يتناسب فيها هذا التمهيد مع الوصف المذكور لذلك ما أن ينتهي هذا التمهيد حتى يبدأ النص القصصي أو السورة القصصية بالإشارة إلى تقسيم ثلاثي للتبشير من حيث الموقع البيئي الذي يحتلونه في اليوم الآخر حيث قال النص:)فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون ( لاحظوا كيف أن هذا النص قسم المواقع الأخروية للناس وفق تقسيمات ثلاثية هي أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة والسابقون ولكنكم تلاحظون كيف أن النص وهو يختم حديثه عن هذا التقسيم الذي انتهى بالسابقين يكون قد كرر لفظة السابقون على هذا النحو، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون أولئك المقربون، إن هذا التكرار للفظة السابقين مع ملاحظة أن عبارة أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة أيضاً قد كررتا ولكن كررتا من خلال التساؤل فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة ولكن بالنسبة إلى السابقين فلم تصغ العبارة المتكررة على نحو التساؤل على نحو العرض لاحظوا جيداً السابقون السابقون طبيعياً أن هذا التكرار بهذا النحو له صلة بأهمية هذه الفئة التي سيرسم النص القرآني الكريم بيئتها بصفة أن السابقين يجسدون الذروة من السلوك العبادي المطلوب ويليهم في مستوى السلوك العبادي أصحاب اليمين وهذان النمطان يجسدان الشخوص الإيجابيين مقابل النمط الثالث وهم أصحاب المشئمة فيما يجسدون الشخصيات السلبية كما هو واضح بيد أن ما نستهدف الإشارة إليه ونحن نتحدث عن هذه السورة القصصية الإشارة إلى طبيعة الرسم البيئي الذي يطغى على أمثلة هذه القصص وهو أمر نلفت انتباهكم إليه لاحظوا أولاً كيف أن السورة القصصية القرآنية الكريمة قد رسمت البيئة الأخروية لأصحاب السبق بنحو يختلف بطبيعة الحال عن الرسم الذي قدمته بالنسبة لأصحاب اليمين بحيث يتناسب الوصف البيئي للسابقين مع مستوى سلوكهم العبادي والجزاءات المترتبة على ذلك وكذلك بالنسبة لأصحاب اليمين يظل الوصف الأقل ترفاً من سابقه متناسباً مع طبيعة أصحاب اليمين الذين يقلون درجة عن أصحاب السبق، لاحظوا كيف يبدأ النص القرآن الكريم حديثه عن المخلدين قائلاً: في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاءاً بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيما إلا قيلاً سلاماً سلاماً لاحظوا هذا الوصف البيئي لأصحاب السبق كم ينطوي على وصف مترف للنعيم الذي يغدق على هؤلاء أصحاب السبق، حيث أن نمط الإشباع لحاجاتهم يختلف عن النمط الذي ستلاحظونه بالنسبة لأصحاب اليمين، فهنا على سبيل المثال لاحظوا كيف أن أنماط الشرب تظل متفحصة عن أعلى أنماط الترف متجسدة في الأكواب والأباريق والكؤوس إن كلاً من الأكواب والأباريق والكؤوس كل واحد منها يضطلع بمهمة ترفية من حيث الشرب تختلف عن الآخر فالكوب غير الإبريق والإبريق غير الكأس والكأس غير الكوب والإبريق أيضاً أي أن كل واحد من هذه الأدوات المترفة يوظف لنمط خاص من الشرب مصحوب بالترف في أعلى درجاته بل أن مجرد تنويع أدوات الشرب هو إفصاح عن مستوى من الترف لا يتحقق إلا لدى مستوى طائفة تجسد الذروة العبادية في سلوكها، ولاحظوا أيضاً أن الفاكهة التي رسمها النص هنا، فاكهة مما يتخيرها صاحب الجنة وأما اللحم فهو لحم الطير حيث يمثل أشهى اللحوم في تصوراتنا الدنيوية وكذلك بالنسبة إلى الحور حيث شبهها باللؤلؤ المكنون مضافاً إلى أنه أشار أيضاً إلى الولدان المخلدين الذين يطوفون على أصحاب السبق طبيعياً عندما ننتقل بعد ذلك إلى أصحاب اليمين نجد النص يصف بيئتهم على هذا النحو وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة إنا انشئناهن إنشاءاً فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً.. لاحظوا هنا أن البيئة التي يصفها النص القرآني هنا تقل مستوى دون أدنى شك عن البيئة السابقة فالفاكهة على سبيل المثال أشار النص إلى أنها عند أصحاب اليمين  هي كثيرة غير مقطوعة ولا ممنوعة بينما وصفها بالنسبة لأصحاب السبق بأنها فاكهة مما يتخيرها أصحابها وما لا شك فيه أن الفاكهة التي يتخيرها أصحابها تعني أنها من الوفرة والتنوع بنحو يسمح لصاحبها أن يتناول ما يشتهيه مما يفصح ذلك أن الفاكهة كما قلنا متوفرة بكثرة ومتنوعة بنفس المستوى بينما نجدها عند أصحاب اليمين مجرد كونها أنها كثيرة ولكنها ليست من النوع الذي يتخير من خلالها هذا النمط أو ذاك من الفاكهة، كذلك عندما نلاحظ في هذا الميدان أن الأدوات المترفة التي لاحظناها عند أصحاب السبق لا نجد لها أثر في هذا الوصف المختص بأصحاب اليمين فضلاً عن أننا لا نجد أيضاً الأنماط من الطعام التي أشار إليها النص البيئي لأصحاب السبق كالإشارة إلى لحم الطير مثلاً نعم أشار النص بالنسبة لأصحاب اليمين إلى الفرش المرفوعة وإلى الحور أيضاً ولكن نجد أيضاً الإشارة إلى الحور في هذا المجال وتختلف عن الإشارة إلى الحور لدى أصحاب السبق حيث وصفها بأنها كأمثال اللؤلؤ المكنون بينما وصفها هنا بأنهن أبكاراً وعرباً أتراباً أي وصفها بوصف يقل مستواه عن الوصف الذي ذكره بالنسبة إلى اللؤلؤ المكنون حيث أن اللؤلؤ المكنون يفصح عن البعد الجمالي في أعلى درجاته كما هو  واضح ونستطيع في الواقع أن نتجه إلى السورة القصصية الأخرى وهي سورة الرحمن لنجد كيف أن ما لاحظناه هنا ينعكس هناك بشكل أكثر وضوحاً فمثلاً بالنسبة إلى أصحاب السبق نجد أن الوصف البيئي لهؤلاء القوم أو لتلك الشخصيات يتم على النحو الآتي: ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذوات أفنان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأي آلاء ربكما تكذبان..

لاحظوا في هذه البيئة أن الترف بدوره يتجسد في أعلى مستوياته فمثلاً إن جنى الجنتين دان قارنوا عبارة جنى الجنتين دان وعبارة وفاكهة مما يتخيرون ففي سورة الواقعة الفاكهة متروكة ليتخيرها صاحب الجنة وهنا الجنى متوفر ودان بشكل أن صاحب الجنة وهو جالس في مكانه يجد أن الثمر متدلياً بحيث يتناوله دون أن يمارس أي حركة تحريك للحصول على الفاكهة المذكورة، إنها دانية إلى فمه، لاحظوا كيف أن الترف يبلغ مستواه وكيف أن هذا النمط من الترف يتجانس تماماً مع النمط من الترف الذي ورد بالنسبة إلى الفاكهة ذاتها حيث ذكرها هنا وفاكهة مما يتخيرون هذا بالنسبة إلى الفاكهة، لاحظوا أيضاً بالنسبة إلى المكان، المكان هنا في سورة الرحمن يجسد أعلى مستويات الترف، لاحظوا قوله تعالى:( متكئين على فرش بطائنها من استبرق)، لاحظوا كما أن أحد المفسرين انتبه إلى هذا الجانب فقال: إذا كانت البطائن من الاستبرق فكيف بالظهائر إذاً إذا كانت البطانة هي من استبرق حينئذ فإن المظهر الخارجي لهذا المتكئ كيف يكون؟ لا مجال لوصفه ولذلك أضمره النص وسكت عنه تاركاً للقارئ لأن يستكشف بنفسه مستوى الترف الذي يتجسد في هذا النمط من الإشباع البيئي والأمر نفسه بالنسبة إلى الحور العين حيث قدم تشبيهاً مماثلاً عبر قوله تعالى :(كأنهن  الياقوت والمرجان)، لاحظوا كيف أن التشبيه يتجانس مع التشبيه الذي ورد أيضاً في سورة الواقعة وإذا اتجهنا الى الطائفة الأقل ترفاً والأقل درجة عبادية حيث نجد ان النص يصف هذه البيئة بقوله تعالى: (ومن دونهما جنتان فبأي الاء ربكما تكذبان مدهامتان فباي الاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان فبأى الاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان فباي الاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فباي الاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام فباي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إ نس قبلهم ولا جان فباي الاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان) لاحظوا على سبيل المثال عملية التوكأ كيف ان اصحاب السبق وقد وصفهم هنا بانهم ممن خافوا مقام ربهم، كيف وصفهم هناك بانهم يتكئون على فرش بطائنها من استبرق ان اصحاب اليمين قد وصفهم هنا متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان لاحظوا ان الرفرف والعبقري صحيح انه يمثل ترفاً بيئياً ولكنه لا يصل الى مستوى الترف الذي لاحظناه بالنسبة الى المتكأ الذي تظل بطائنه من الاستبرق فكيف بظاهره انه ترف قد سكت عنه النص حتى يسمح لتصوراتنا لان تتخيل مستويات لا حدود لها بينما وصفها بالنسبة لاصحاب اليمين بانها مجرد اتكاء على رفرف خضر وعبقري حسان ومما لا شك فيه ان الامتاع الفني الذي نلاحظه في هذا الرسم القصصي لا يتجسد فحسب في ملاحظة الفوارق بين نمطي المؤمنين لقدر ما يجعل اذهاننا تتداعى الى المهمة العبادية الموكلة الينا وكيف ان الشخصية الاسلامية ينبغي عليها ان تمارس وظيفتها العبادية ليس وفق ما هو حسن من السلوك بل لما هو الاحسن من السلوك تبعاً لقوله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملا..) لاحظوا كيف ان الاحسن من العمل هو المطلوب وليس العمل الحسنى فحسب وهذا ما ينعكس على الجزاء الاخروي متمثلاً في ان الاحسن من العمل يواكبه الاحسن من الاشباع مقابل الحسن من العمل الذي يواكبه من الاشباع واذا اتجهنا الى السورة القصصية الثالثة وهي سورة الانسان او سورة الدهر نجد ان الرسم للجنّة هنا يتخذ مساراً آخر يختلف عن المسار الذي لاحظناه في السورتين القصصيتين المتقدمتين ففي السورتين المتقدمتين خطان للرسم البيئي مقترناً بالتقسيم او بالفارقية بين نمط المؤمنين اما في هذه السورة فالفارقية لا يشار اليها بقدر ما يشار الى جانب آخر من السلوك ألا وهو ما ذكره النص عبر الوصف البيئي لذلك حيث ندعكم وانتم تمعنون النظر في هذا المجال حيث بدا الرسم البيئي للجنة بهذا النحو.

(إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيما وأسيرا يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيماً واسيرا انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكورا) ، لاحظوا ان النص هو بصدد وصف البيئة الاخروية وقد بدأها بان هؤلاء الذين يحتلون مواقعهم الاخروية انما هم أبرار، وبدأ الحديث عن الابرار بعملية الاشباع لحاجة الشراب وكما نعلم وهذا ما يؤكده علماء النفس من حيث تقسيمهم لقائمة الدوافع او تركيبة الدوافع عند الانسان حيث يجدون ان الدوافع الحيوية يظل الحاجة الى الشراب منها أقوى كل الحاجات ومن جملة ذلك أقوى إلحاحاً من الطعام، فإن الحديث عندما يتناول مسألة الترف المرتبط بالشراب إنما يتجانس مع طبيعة التركيبة البشرية التي يلح عليها الشراب  اكثر من الطعام هذا بالنسبة للتركيبة البشرية في الحياة الدنيوية واما التركيبة البشرية في الحياة الاخروية فانها تتبدل بطبيعة الحال ولكن نستخلص من هذا النص ان الحاجة الى الشراب أي ان هذه التركيبة تظل متجانسة مع التركيبة الدنيوية ولكن بغض النظر عن ذلك يكفينا ان نشير الى ان النص القصصي وهو يتحدث عن الابرار ويتحدث عن عملية الشراب انما يشير خلال ذلك حيث يقطع النص القصصي حديثه عن وصفه الجنة ليشير الى السلوك العبادي لدى المؤمنين متمثلاً في انهم يوفون بالنذر ويطعمون الطعام وقد سبقت الاشارة في محاضرات سابقة ان أي جملة معترضة او أي موضوع معترض او اية فكرة معترضة تقطع سلسلة في الحديث انما تعني من الزاوية البلاغية ان هذا الجانب له اهمية كبيرة عند صاحب النص الذي يستهدف توصيل هذه الحقيقة الينا، اذا لقد ارتبط وصف البيئة برسم بعض الانماط من السلوك العبادي متمثلة في الايفاء بالنذر وفي اطعام الطعام على حب الله سبحانه وتعالى من اجل الله سبحانه وتعالى واليتيم والاسير مطلق المحتاجين في هذا الصدد على اية حال يواصل النص القصصي القرآني الكريم حديثه أو رسمه للبيئة الاخروية فيقول: (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نظرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الارائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ويطاف عليهم بانية من فضة واكواب كانت قواريرا قواريرمن فضة قدرها تقديرا ويسقون فيها كاساً كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلاً.. الخ) ما تلاحظونه بين الاوصاف البيئية هنا يستطيع القارئ في الواقع ان يستخلص من ان هذا الوصف البيئي هو اقرب الى اصحاب السبق منه الى اصحاب اليمين وذلك لجملة اسباب منها:

ان الاشارة الى اطعام الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً واسيرا قد وردت كما هو واضح بالنسبة الى امير المؤمنين عليه السلام وفاطمة عليها السلام والحسنين عليهما السلام عندما صاموا وقدموا طعامهم ثلاثة ايام الى المسكين واليتيم والاسير هذا من جانب ومن جانب آخر فان الأوصاف التي نلاحظها ونقارنها بالاوصاف التي لاحظناها في قصتي الرحمن والواقعة نجد انها تتجانس مع اصحاب السبق فهنا نلاحظ مثلاً قوله تعالى: (ودانية عليهم ظلالها صحيح أن الظل الداني هنا يختلف عن الفاكهة الدانية في صورة الرحمن مثلاً إلا أن مجرد هذا الدنو في الواقع يجعل الذهن متداعياً إلى التجانس بين المستويين من الترف، المستوى المتصل بالطعام والمستوى المتصل بالمكان على أية حال مهما كان الامر فان ما نستهدف الاشارة إليه هو أن الوصف البيئي في النص القراني الكريم في الواقع لا يظل وصفاً محضاً بقدر ما يقترن الوصف بالاشارة العبادية إلى ما ينبغي أن نمارسه نحن المتلقين من سلوك عملناه أو يشجعنا عليه من خلال هذا الوصف الذي يواكبه أو تواكبه الإشارة إلى نمط السلوك الذي ينبغي علينا أن نسلكه ألا وهو ليس مستوى العمل الحسن فحسب بل مستوى العمل الأحسن تبعاً للآية الكريمة التي تلوناها عليكم.

والآن وبعد أن قدمنا لكم نماذج من السور القرآنية الخاصة بأوصاف البيئة نستطيع أيضاً أن نتبعها بالحديث عن أشكال أخرى من السور القصصية القرآنية التي يغلب عليها طابع الحدث أو طابع الشخصية أو طابع الموقف، وبالنسبة لهذا النمط من القصص يمكننا أن نشير عابراً إلى قصة يوسف (عليه السلام) وقد حدثناكم عنها سابقاً.

تمثل القصة التي يطغى عليها طابع الشخصيات حيث تحفل هذه القصة بشخصيات متنوعة، شخصية يوسف، شخصية أبيه، شخصية أخيه الصغير الملك، شخصية أخوته، شخصية الملك، شخصية امرأته، شخصية صاحبي السجن.. الخ، وكل واحد من هذه الشخصيات يتطلع بمهمة خطيرة هي من جانب إلقاء الضوء أو الإنارة على الشخصية الرئيسة وهي شخصية يوسف من جانب والاطلاع بمهمة خاصة من جانب آخر ونعتقد الآن أن المجال لا يسمح لنا بالدخول في تفصيلات هذا الجانب، أي الشخصيات التي تتطلع بمهمات متنوعة تبعاً لتوزيعها الذي سنحدثكم عنه في لقاء لاحق إن شاء الله وهو توزيع فني وكذلك بالنسبة إلى القصص التي تطغى فيها ظاهرة المواقف حيث نقصد بالمواقف القصة التي تتناول فكرة أو موضوعاً وتمركز أو تشدد فيه دون أن تعنى برسم الشخصية أو البيئة أو الحدث بقدر ما تعني بإبراز ذلك الموقف وهو أيضاً يتجسد في جملة قصص ولكن بما أننا في الواقع إنما نحدثكم عن القصص أو بالأحرى عندما نحدثكم عن السور القصصية حينئذٍ ينبغي أن ننتخب السورة القصصية التي تركز على هذا الجانب أو ذاك وإلا فإن عشرات القصص كما نعلم تضل منتثرة في غالبية السور القرآنية الكريمة حيث تجيء القصص موظفة لإنارة السورة الكريمة وليس قصة مستقلة في حد ذاتها من هنا فإن حدثنا الآن ينصب على السورة من حيث كونها سورة قصصية وليس من حيث كونها سورة يجيء العنصر القصصي فيها واحداً من العناصر المتعددة التي تنتظم السورة القرآنية.

على أية حال قبل أن نختم حديثنا عن هذا الجانب ونتجه إلى جوانب أخرى تتصل بالنص القرآني الكريم، نجعل القارئ لكي يقف مفصلاً على العنصر القصصي في القرآن الكريم إلى كتابنا الموسوم بدراسات فنية في قصص القرآن، حيث تناولنا في هذا الكتاب جميع القصص القرآنية خلا البعض منها ، وتناولنا البعد القصصي من زواياه المتنوعة لذلك فإن المجال لا يسمح لنا بالحديث عن هذه الجوانب بقدر ما نعتزم الإشارة إلى أن الطالب بمقدوره، وهذا ما   نلح عليه بمقدوره أن يقف عند هذه الأنماط من المعالجات لأن ذلك يفضي به إلى تعميق قناعته بالنص القرآني الكريم، نكتفي الآن بالحديث عن النص القرآني الكريم ونؤجل الحديث إلى محاضرات لاحقة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.