المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 034.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

نتحدث الآن عن الأشكال الأدبية حيث سبقت الإشارة إلى أن الأشكال الأدبية أو الأنواع أو الأجناس أو الفنون الأدبية تنشطر بنحو عام إلى نمطين: النمط الأول وهو الأدب أو الفنون الشرعية متجسدة في النص القرآني الكريم وفي أدبيات المعصومين عليهم السلام  كالخطبة والخاطرة والحديث والوصية... الخ.

وكذلك في نصوص كالدعاء والزيارة ونحو ذلك وأما النمط الثاني فهو الأدب العرفي أو الأدب غير الشرعي متمثلاً في فنون متنوعة كالشعر والقصة والمسرحية وسائر الأنماط الأدبية الأخرى التي سنحدثكم عنها إن شاء الله، وقد سبق أن قلنا أننا سوف نتحدث عن الأشكال الأدبية ونبدأ ذلك بالحديث عن الفنون الشرعية أولاً ثم نتبع بالحديث عن الفنون غير الشرعية وقلنا أن الهدف من الحديث عن الأدب الشرعي هو أولاً أن تلموا بالمبادئ البلاغية التي تتوفر في النصوص الشرعية وثانياً أن يفيدوا منها في الأعمال الأدبية التي تتوفرون عليها هذا من جانب ومن جانب آخر بما أننا نتحدث عن العناصر البلاغية حينئذٍ فإن العناصر التي حدثناكم عنها وهي العنصر الفكري، العنصر الموضوعي العنصر المعنوي، العنصر الصوري، العنصر اللفظي، العنصر الإيقاعي، العنصر البنائي هذه العناصر التي حدثناكم عنها لا بد وأن تنتظم في شكل معين من الصياغة الأدبية أو بالأحرى في شكل خارجي ينتظمها وهو ما أطلقنا عليه اسم الجنس أو النوع أو الفن الأدبي كالقصة والمسرحية...الخ.

وبالنسبة إلى الأدب الشرعي كما قلنا فإن السورة القرآنية الكريمة وسائر الأنماط الشرعية التي توفر المعصومين عليهم السلام عليها، تجسد أنماطاً أو أنواعاً أو أجناساً أو أشكالاً أو فنوناً أدبية من هنا ونحن نتحدث الآن عن أول الأشكال الشرعية متمثلاً في السورة القرآنية الكريمة حينئذٍ لا مناص لنا من أن نمارس عملية إجراء لهذه العناصر متمثلة في نص خاص هو السورة القرآنية وأما النماذج التي قدمناها لكم في محاضرتنا السابقة فكانت في الواقع نماذج تجسد لعنصر من العناصر التي كنا نحدثكم عنها من أجل التوضيح أما الآن فإن السورة الكريمة بما أنها هيكل خاص كعمارة خاصة لها أبنيتها وهندستها الخاصة حينئذٍ ينبغي أن نحدثكم عن هذا الهيكل من خلال انتظام العناصر المتقدمية فيه وهذا ما نبدأ به الآن فنقول لقد حدثناكم عن الهيكل أو الشكل الخارجي للسورة القرآنية الكريمة من حيث الآيات التي تنتظمها والفواصل...الخ.

حيث حدثناكم عن ذلك بشكل مجمل، أما الان فنحدثكم عن ذلك من خلال انتظام السورة عبر العناصر البلاغية التي تقدم الحديث عنها وسوف نستشهد بكثير من النماذج التي استشهدنا بها عبر محاضرتنا السابقة التي حاولنا أن نستشهد بكل ظاهرة بلاغية مطروحة  لنقف الآن على سبيل المثال مع أول العناصر التي تنتظم البلاغة ألا وهو العنصر ونقف أيضاً مع إحدى السور القصيرة التي سبقت الاستشهاد بها ألا وهي سورة الفيل لنلاحظ كيفية العنصر الفكري فيها وهذا ما يتمثل بما قلناه في حينه، إن هذه السورة تحمل فكرة ملخصة أن الله سبحانه وتعالى يقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه، أن يسيء للبيت الحرام هذه الفكرة هي التي تغلف هذه السورة الكريمة وفد قلنا في حينه أن الفكرة التي ينتخبها الكاتب الإسلامي ينبغي أن تتسم بأهمية كبيرة وتصب في ميدان العمل العبادي، طبيعياً إن النص القرآني الكريم هو نص عبادي صرف حينئذٍ فإن الحديث عن التقويم الفكري للنص لا يحمل مسوغاً ولكن يحمل مسوغاً  آخر هو أن نلفت النظر إلى أهمية هذه الفكرة، فالفكرة تتسم بخطورة كبيرة وهي أن الإنسان حتى لو كان ضعيفاً ما دام مؤمناً بالله سبحانه وتعالى حينئذٍ فإن الله سبحانه وتعالى سوف يمده بالعون دون أدنى شك والفكرة التي تقول أن البيت الحرام يحميه الله سبحانه وتعالى يمكننا أن نحللها في ضوء الحادثة التي جرت في ذلك الزمن وهي حادثة الفيل وما يترتب على تلك الحادثة من نتائج فكما تعلمون جميعاً أن البيت الحرام في ذلك الحين لم يكن أهله ممن يتمكنون من السيطرة على حدود ذلك البلد بقدر ما كان الحنيفيون وهم أفراد قلائل هم الذين ينتشرون في البقعة المشار إليها دون أن يملكوا حولاً ولا قوة في هذا الميدان، من هنا فإن الله سبحانه وتعالى حينما يحمي بيته فهذا يعني أن الشخصية الإسلامية ينبغي أن تتوكل على الله وتعتقد بشكل جازم أنه تعالى بيده الكون وأنه لا تستطيع أية قوة من القوى الأرضية أن تحقق هدفها إلا بإذنه تعالى، المهم الفكرة التي تنطوي عليها السورة الكريمة هي أن الله سبحانه وتعالى يدافع عن عباده، يدافع عن الحق، يدافع عن كل ماله قيمة عبادية وفي مقدمة ذلك البيت الحرام بصفته مكاناً مقدساً.

طبيعياً أن هذه الفكرة تجسد الموضوع الأول من العناصر البلاغية ويلي ذلك العنصر الثاني ألا وهو العنصر الموضوعي حيث قلنا في حينه أن الفكرة المطروحة أياً كان نمطها لا بد وأن تتجسد في موضوع يحقق تلكم الفكرة ويستوعبها وهذا بالنسبة إلى سورة الفيل التي نحن بصددها يمكننا أن نلحظها بشكل واضح وذلك يتمثل في حادثة الفيل، طبيعياً بما أن النصرة التي أمد الله سبحانه وتعالى بيته الحرام بها أن هذه النصرة من حيث الواقع العملي الذي ينتظم تلكم البيئة عصرئذٍ لا تساعد البيئة ذاتها على ممارسة عمل يصد هجوم أصحاب الفيل حينئذ إن الحادثة التي تجسد الموضوع لابد وأن تصبح حادثة غير عادية  أي حادثة تتسم بالإعجاز دون أدنى شك لأن الظروف الموضوعية لا تسمح بالدفاع عن بيت الله الحرام نظراً للأسباب التي ذكرناها، حينئذٍ فإن الموضوع الذي يجسد الفكرة لابد وأن يكون متجانساً تماماً مع طبيعة الفكرة التي يستهدف تجسيدها، من هنا جاء الموضوع إعجازياً يلفت الانتباه، ألا وهو أن الله تعالى أرسل طيراً أبابيل ترمي العدو بحجارة من سجيل حتى جعله كعصف مأكول، إذ جاء الموضوع المجسد للفكرة متجانساً تماماً مع طبيعة الموقف ولذلك قلنا إن الكاتب الإسلامي عندما ينتخب فكرة ما من الأفكار عليه أن ينتخب      في  الآن ذاته موضوعاً يتجانس مع تلك الفكرة أي أن يكون الموضوع أيضاً مصطفى ومنتخباً بشكل دقيق بالنحو الذي أوضحناه الآن من خلال التجانس بين الفكرة المطروحة في النص وبين الموضوع المجسد لها ألا وهو موضوع النصر العسكري متمثلاً بطير أبابيل....الخ، إذ لاحظتم بوضوح كيف أن العنصر الأول من العناصر البلاغية وقد اقتحم هذه السورة الكريمة وكيف أن الموضوع المجسد لها وهو العنصر الثاني من عناصر البلاغة قد تجسد فيها أيضاً، طبعاً قد يثار هنا سؤال ويقال في هذا الميدان، هل أن الفكرة المطروحة في النص بغض النظر عن نمط هذا النص أو ذاك، هل أن الفكرة دائماً ينبغي أن نجسدها في موضوع هنا سنجيب بالسلب دون أدنى شك والسبب في ذلك أن بعض الأفكار هي أفكار معنوية لا تحتاج إلى تجسيد موضوعي لها، كما لو قلنا مثلاً تبعاً للإمام المعصوم    عليه السلام الصبر فضيلة حينئذ فإن هذه المقولة »الصبر فضيلة« أو الحلم عشيرة ونحو ذلك حينئذ لا ضرورة لأن نجسد هذه الفكرة في موضوع حسي أو مادي بقدر ما نكتفي من ذلك بالإشارة إلى العنصر الفكري فحسب، إذاً العنصر الموضوعي لا يشكل ضرورة تفرض نفسها على النص بقدر ما يمكن أن يستغنى عنها ولكن في الغالب كما نلاحظ في هذه السورة وسور أخرى أن الموضوع المجسد للفكرة يفرض وجوده في غالبية النصوص ويهبها حيوية دون أدنى شك وهذا لا يعني أن النصوص التي تتضمن أفكاراً صرفة أنها لا تنطوي على حيوية لأن الأمر يرتبط في الواقع بطبيعة الصياغة الفنية التي يتوفر عليها الكاتب بحيث يستطيع أن يجعل الظاهرة التي استشهدنا بها وهي سورة الفيل وتجسد فيها العنصر الأول من العناصر البلاغية ألا وهو العنصر الفكري كما تجسد فيها العنصر الموضوعي بالشكل الذي أوضحناه وقلنا أن الفكرة أن الله تعالى يحمي بيته الحرام والموضوع أن الله سبحانه وتعالى حمى بيته بالفعل من خلال حادثة إعجازية تتناسب مع طبيعة البيئة أو الظروف التي تحيط ببيئة البيت الحرام، بعد ذلك نواجه العنصر البلاغي الثالث ألا وهو العنصر المعنوي وفي حينه أوضحنا لكم ما يقصد بالعنصر المعنوي وقلنا أن الفكرة المجسدة في موضوع لابد وأن يرسم لها معلم يتحقق فيه أو بالأحرى لابد وان تتجسد في أسلوب خاص لنقل المعاني أو الأفكار التي نريد أن نوصلها إلى الآخرين وطريقة نقل هذه الأفكار تتطلب أن نكون دقيقين في وضع كل كلمة في مكانها المناسب وذلك من خلال مثلاً تقديم الشيء أو تأخيره ومن خلال حذفه أو ذكره ومن خلال إجماله أو تفصيله...الخ، وحين تتجه إلى السورة الكريمة التي نحن بصددها نجد أن هذا النص القرآني، قد بدأ أولاً بقوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) حيث قدم لنا ظاهرة وأخر ظاهرة أخرى، الظاهرة التي قدمها هي أنه قدم لنا النتيجة قبل السبب وفي حينه قلنا أن التقديم في النص الأدبي يعني أن صاحب النص يستهدف أن يشدد في أهمية جانب من الجوانب وكذلك يقدمه حتى يلفت النظر إلى أهميته وبالنسبة إلى الموضوع الذي نحن بصدده وهو أن الله سبحانه وتعالى يقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه أن يسيء للبيت الحرام، هذه الفكرة قد جسدها النص من خلال تقدمها إلى القارئ ذلك بقوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) فنحن عندما نقرأ السورة ولم تكن لنا خلفية عن البيئة المحاطة بهذه السورة الكريمة، حينئذ سنقف منبهرين ونقول ما المقصود بأصحاب الفيل وما الذي فعله الله سبحانه وتعالى بهم أي أننا نجهل من هم أصحاب الفيل ولكن خلال تقديم الله تعالى لهذه الظاهرة جعلنا نتداعى ذهنياً ونتساءل عن الأهمية التي تنطوي عليها هذه المقدمة ألا وهي التقديم لما من حقه التأخير لأن عملية النصر هي عملية نهائية وتسبقها الحادثة العسكرية أي تسبقها حادثة إرسال طيراً أبابيل بينما نجد النص القرآني حدثنا عن إرسال ابابيل بعد أن حدثنا عن النتيجة التي تمت من خلال إرسال طيراً ابابيل، إذا من خلال العنصر المعنوي الذي يتضمن في أحد أشكاله قضية التقديم والتأخير بالشكل الذي أوضحناه لكم في حينه هذه الظاهرة البلاغية قد جسدها النص الأدبي المشار إليه من خلال استهلاله للسورة القرآنية الكريمة بتقديمه للنتيجة التي يستهدف أن يركز ويشدد فيها ويلفت نظرنا إليها ألا وهي حمايته تعالى للبيت الحرام ولذلك رسم لنا هزيمة أعداء الله أولاً ثم رسم لنا الحادثة العسكرية حيث قال بعد أن قال سبحانه وتعالى: (ألم ترى كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) حينئذ أشار إلى أنه تعالى أرسل إليهم طيراً أبابيل ترميمهم بحجارة من سجيل...الخ، حيث عرض لنا معالم المعركة بالنحو الذي لاحظتموه.

وهذا بالنسبة إلى العنصر الثالث من عناصر البلاغة ألا وهو العنصر المعنوي بطبيعة الحال ثمة ظواهر أخرى يمكننا أن نحدثكم عنها من حيث العنصر المعنوي ولكننا في الواقع نستهدف فقط أن نشير إلى كيفية التجسيد البلاغي لمفهوماتها في النص القرآني الكريم، حيث يكون الاستشهاد ولو بإحدى الظواهر كافٍ لتحقيق ما نستهدف توصيله إليكم، ونتجه إلى العنصر الرابع وهو العنصر الصوري حيث قلنا في حينه أن العنصر الصوري يتمثل في التعبير عن حقائق من خلال لغة غير مباشرة أي من خلال لغة مجازية تعتمد عنصر التخيل حيث قلنا في حينه أن عنصر التخيل يسهم بشكل فعال في تقريب وتعميق الحقائق التي يستهدف صاحب النص توصيلها إلينا، وقد استشهدنا بنماذج كثيرة بهذا الصدد ولعل تذكيركم الآن بنموذج بسيط سبق أن استشهدنا به أيضاً يتمثل في الآية الكريمة التي تشبه الكفار بالأنعام حيث تجدون أن الكفار بصفتهم لا يمتلكون عقلاً واعياً إنما يشبههم الله تعالى بالأنعام بصفة أن مجرد الإشارة إلى أن الكافر لا عقل له قد لا يحقق لدى القارئ إقناعاً بكيفية انعدام عقله ولكننا لو قارنا بين الكافر وبين الأنعام حينئذ فإن القارئ وهو يعرف حقيقة الأنعام حينئذ سيتعمق في ذهنه معنى انعدام العقل لدى الكافر المهم أن العنصر الصوري يظل واحداً من أهم الأشكال الأدبية أو من أهم العناصر التي يعتمد عليها النص الأدبي بالشكل الذي كررنا الحديث عنه فيما لا حاجة لإعادة الكلام في ذلك بقدر ما نستهلل الآن أن نحدثكم عن هذه السورة الكريمة وانعكاس العناصر البلاغية عليها متمثلة أولاً بالعنصر الفكري العنصر اللفظي، سادساً وهذا ما أطلقنا عليه مصطلح العنصر الإيقاعي وقلنا في حينه أن الإيقاع أحد أهم شكلين أو عنصرين من العناصر البلاغية بالإضافة إلى العنصر الصوري حيث قلنا أن هذين العنصرين والإيقاع هو أشد هذين العنصرين أهمية مما لا حاجة إلى إعادة الكلام فيه بل نستهدف الآن الإشارة إلى أن هذه السورة الكريمة قد اعتمدت الإيقاع على هذا النحو: بسم الله الرحمن الرحيم: (ألم ترى كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم  في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل،  فجعلهم كعصف مأكول)، هنا تلاحظون أن العنصر الإيقاعي في الدرجة الأولى يتمثل في وجود الفواصل المتجسدة في عبارة: الفيل، تضليل، أبابيل، سجيل، مأكول. هنا تلحظون  أن الفواصل قد توحدت من خلال حرف اللام وإذا قدر لكم أن تلاحظوا مجموعة السور القرآنية الكريمة لانتهيتم إلى ما سبق أن أوضحناه في حينه أن السورة القرآنية الكريمة سواء كانت متسمة بالطول أو القصر أو الوسط، إما أن تتوحد قوافيها كسورة القمر التي تتألف من 55 آية وكلها موحدة الفواصل أو تكون متنوعة الفواصل كغالبية السور أو تكون منعدمة الفواصل من حيث التوحد الإيقاعي كبعض السور القصيرة ومنها سورة النصر التي أشرنا إليها في محاضرة سابقة، على أية حال هذا يعني أن السورة القرآنية الكريمة ينتظمها إيقاع يمكن أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام:

 1- الإيقاع الموحد أي أن فواصل السورة أي نهاية آياتها جميعاً تتوحد في صوت إيقاعي لا تنوع فيها.

أما النمط الثاني تتنوع الفواصل في هذا النص فمثلاً في سورة  (أرأيت الذي يكذب بالدين، فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحظ على طعام المسكين) فهنا نجد تنوعاً في الفواصل،  التنوع يتجسد بأن الفاصلة الأولى تنتهي بحرف النون بينما الآية الثانية كانت فاصلتها منتهية بحرف الميم أي اليتيم أما الأولى فقد انتهت بعبارة الدين، وبالقياس إلى السورة التي حدثناكم عنها وهي الفيل نراها عكس هذه السورة أي أن فواصلها الخمس قد توحدت بصوت واحد هو حرف أو صوت اللام، بينما نجد في  سورة أرأيت تنوعاً في الأصوات حيث لاحظتم الصوت الأول وهو حرف النون والصوت الثاني وهو حرف الميم، وتلاحظون في نمط ثالث من السور تنوعاً أو بالأحرى تبايناً في الفواصل بحيث لا تتفق أي فاصلة مع فاصلة أخرى وطبيعي أن النص القرآني الكريم وهو نص معجز لم يصغ هذه الفواصل الموجودة أو المتنوعة أو المتباينة لم يصغها اعتباطاً بل ينطوي ذلك دون أدنى شك على أسرار بلاغية في مقدمتها أن الموضوعات المطروحة جزئياً سوف يختلف بعضها عن الآخر  وهذا الاختلاف يتناسب مع التنوع الذي يحدث في الفاصلة، فمثلاً بالنسبة لسورة أرأيت حيث بدأت بالقول أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين..الخ نجد أن السورة الكريمة ما عدا الآية الثانية كلها تنتهي بحرف النون بينما نجد أن الآية الثانية تنتهي بحرف الميم وقد أوضحناه والعنصر الموضوعي وقد أوضحناه أيضاً والعنصر المعنوي وقد أوضحناه أيضاً والآن مع العنصر الصوري الذي يعني إحداث علاقة بين شيئين لا علاقة بينهما في دنيا الواقع كالعلاقة القائمة بين الإنسان والأنعام أو بين الكافر والأنعام في حقيقة الحال حيث أن الكافر من جنس معين والحيوان من جنس آخر لا علاقة لأحدهما بالآخر إلا أن النص أوجد علاقة بينهما لتقريب الحقائق وعندما نتجه إلى الشكل الأدبي الذي نحن بصدده        نجدأن هذا العنصر الرابع وهو عنصر الصورة يتجسد بوضوح في آخر آية كريمة من السورة المشار إليها وهو قوله تعالى (فجعلهم كعصف مأكول) وهذا التشبيه في الواقع ينطوي على إثارات كبيرة تحدثنا عنها مفصلاً في جملة دراسات لا نريد الآن أن نعيد الكلام فيها ولكن فقط نريد أن نشير إلى أهمية العنصر الصوري من حيث انعكاساته على النص الأدبي الذي يتضمن جملة عناصر منها العنصر الصوري وإذا تركنا هذا العنصر واتجهنا إلى عنصر آخر ألا وهو العنصر اللفظي حينئذٍ فإن الحديث عن هذا العنصر يظل متشعباًًًًًًً فقد سبق أن لاحظتم كيف أن الحديث عن العنصر اللفظي يتضمن مرة الحديث عن أحكام العبارة مفردة كانت ام مركبة ويتصل بصيغ العبارة وتتصل بعنصر الحوار بنمطيه الداخلي والخارجي ويتصل بعنصر السرد أو العرض وهنا في السورة القرآنية الكريمة التي نلاحظها الآن قد توسلت بالعنصر السارد أي بالسرد وليس بالحوار مع أنها أقصوصة و الأقصوصة أو القصة في الغالب تقترن بعنصر الحوار إلا أن بعض القصص تعتمد السرد فحسب مقابل القصص التي تعتمد الحوار فحسب كالمسرحية وما إلى ذلك على أية حال في هذا الميدان لا نريد أن نحدثكم عنه من حيث العبارة المحكمة لأننا أمام نص قرآني معجز لا مجال لأن نتحدث عن أحكام مفرداته أو أحكام مركباته بقدر ما نريد أن نشير فحسب إلى الصيغة  أو السمة التي طبعت هذه الأقصوصة أو السورة الكريمة وهي سمة السرد فحسب دون أن يتخللها الحوار ومن الطبيعي ثمة تساؤل من الممكن أن يثار ويقال لماذا اعتمدت هذه السورة الكريمة وهي تجسد أقصوصة أو حكاية لماذا اعتمدت السرد ولم تعتمد الحوار مثلاً؟ وفي هذا المجال نجيب فنقول: إن النص لم يستهدف إبراز حقائق نفسية أو داخلية ولم يستهدف الكشف عن أسرار معينة حتى يلجأ إلى عنصر الحوار بل أراد فحسب أن يبين لنا أن الله سبحانه وتعالى يقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه إلحاق الأذى بالبيت الحرام حينئذ فإن الموقف يتطلب حادثة إعجازية تتناسب والبيئة الاجتماعية آنئذ حيث لا وجود للقوى المؤمنة التي تستطيع أن تدافع عن بيت الله الحرام لذلك فإن المهم هو تقديم حادثة إعجازية وينتهي الموقف بسلام وهذا ما حدث بالفعل وحينئذ فإن السرد وهو العرض أو الوصف الذي تم للحادثة العسكرية المشار إليها كاف لتجسيد الهدف الذي ذكرناه وهذا يشكل بدوره أحد المسوغات لعملية السرد دون أن نلحظ أية ضرورة لأن يقترن هذا السرد بعملية الحوار، إذاً كنا الآن قد تحدثنا عن هذه السورة من خلال عناصرها البلاغية المتمثلة في أولاً العنصر الفكري، ثانياً العنصر الموضوعي، ثالثاً العنصر المعنوي، رابعاً العنصر الصوري، خامساًالعنصرالايقاعي، ترى ما هو سبب ذلك؟ يستطيع القارئ بعد أن يتأمل بدقة أن يصل إلى هذه النتيجة المحتملة ونحن دائماً عند حديثنا عن القرآن الكريم نتحدث عن الاحتمال ولا نتحدث عن اليقين أبداً لأننا مسؤولون عن كل كلمة نقولها وبما أننا لا نمتلك جهازاً معرفياً كاملاً حينئذٍ لا نستطيع أن نجزم بكل شيء بقدر ما نستطيع أن نحتمل ذلك مجرد احتمال، فهنا يمكنكم أن تلاحظوا بأن الفاصلة حينما تغيرت مع الآية التي تقول أن المكذب بالدين هو الذي يدع اليتيم حينئذ نفهم أن قضية اليتيم تحتل أهمية كبيرة جداً حيث أن باقي النصوص الشرعية سواء أكانت نصوص قرآنية أو نصوص حديثية طالما تؤكد على اليتيم تأكيد بالغ المدى وهذا التأكيد بالغ المدى دون شك سوف يفسح لنا في سياق ما نحن بصدده ألا وهو تغير الفاصلة الثانية المرتبطة بقضية اليتيم إنما يستهدف النص الإشارة إلى أهمية احترام  وتكريم اليتيم بحيث جعل له فاصلة مستقلة عن الفواصل الأخرى التي تحدث النص عنها، طبيعياً هذا لا يعني كما سبقت الإشارة إلى ذلك أن كل ما هو يضطلع بمهمة تقديم بمهمة تقديم للشيء أو تأكيد عليه لا يعني أنه هو أشد أهمية من سواه بل نستهدف من ذلك أن نقول أن الله سبحانه وتعالى يطرح جملة من الموضوعات وهي موضوعات متنوعة، هذه الموضوعات لا تطرح جميعاً سورة واحدة بل تنتثر في مجموعة سور والله سبحانه وتعالى يريد أن يؤقت لكل ظاهرة مداها ولذلك يقدمها على سبيل المثال في هذه السورة ويؤخرها في سورة أخرى من ذلك ما سبق أن أوضحناه لكم في حينه وهو قضية التطفيف في الميزان فالتطفيف في الميزان يرد في سور متنوعة ويجيء بمرتبة ثانوية ولكنكم شاهدتم في سورة المطففين أن هذه السورة قد تصدرها الحديث عن المطففين متمثلاً في العبارات الاستهلالية ويلٌ للمطففين فهنا قدم النص أهمية التطفيف وجعلها ظاهرة مرئية بينما جعلها في نصوص قرآنية أخرى ظاهرة ثانوية مع أنها في الحقيقة هي ظاهرة واحدة بيد أن إبراز حقيقة دون أخرى في هذا النص دون نص آخر هو الذي يستهدفه النص القرآني الكريم وأخيراً نواجه العنصر البنائي وحينئذ نود أن نلفت انتباهكم إلى أن هذا النص بما أنه سورة قصيرة وتتناول قصة أو أقصوصة أو حكاية حينئذ فإن البناء الفني لهذه السورة قد تجسد أولاً في كونه من حيث البناء قد قدم النص النتيجة وهي هزيمة العدو على المقدمة التي هي إرسال الجيش وهذا هو أحد أشكال البناء الذي تعتمده الأقصوصة أو القصة أو الرواية أو المسرحية أو أي نص آخر من حيث البعد البنائي المتمثل في هذه الجزئية الآن طبيعياً هذه الجزئية في الواقع هي جزئية لها أهميتها لأن القضية ترتبط بمستويين أو بمحورين محور الهزيمة أو محور الحادثة فالنص بما أنه قصير حينئذ قدم محور الهزيمة على محور الحادثة للأهداف التي ذكرناها في حينه، والحديث بطبيعة الحال عن البناء الفني للنص القرآني الكريم يتطلب حديثاً مكثفاً كما أن النصوص القرآنية المطولة والمتوسطة تحفل بعناصر مثيرة من البناء ولكننا بما أننا استشهدنا بنص قصير حينئذ فإن الحديث عن هذا البناء لابد وأن يكون قصيراً أيضاً بالنحو الذي أوضحناه ونكتفي بما قدمناه الان من كلام أو تعقيب على القصة القرآنية المشار اليها والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.