المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 032.doc

بسم الله الرحمن الرحيم

تحدثنا في المحاضرات السابقة عن عناصر النص الأدبي أو عناصر البلاغة متمثلة في ثمانية عناصر حيث تقدم الحديث عن سبعة منها وبقي العنصر الأخير ألا وهو العنصر الشكلي فما آن لنا أن نتحدث عنه مفصلاً، ومما لا شك فيه أن العناصر المتقدمة التي حدثناكم عنها في محاضرات سابقة هذه العناصر تظل في الواقع مجموعة من المواد التي تنتظر أن ينتظمها هيكل خارجي تندرج ضمنه وهذا الهيكل الخارجي الذي تندرج ضمنه من الممكن أن نطلق عليه مصطلح العنصر الشكلي بنحو أو بآخر.

من الطبيعي وهذا ما سبقت الإشارة إليه أيضاً أن هذه العناصر الثمانية، أربعة عناصر منها تتصل بالهيكل الداخلي وهو العنصر الفكري والموضوعي والمعنوي والصوري وأربعة عناصر تتصل بالهيكل الخارجي ألا وهي العنصر اللفظي والإيقاعي والبنائي والشكلي أيضا، وقد يخيل لأحدكم أننا نقع في قول يناقض ما سبقت الإشارة إليه حينما قلنا أن الشكل الخارجي للنص ينتظم عبر هيكل أطلقنا عليه أيضاً مصطلح خارجي حيث يخيل للبعض أن العنصر الشكلي يماثل العناصر الثلاث الأخيرة أي العنصر الإيقاعي واللفظي والبنائي، إلا أن مقصودنا من ذلك ليس كما يخيل للبعض من هذا الجانب بل نستهدف الإشارة إلى أن العنصر الشكلي له مظهر خارجي تندرج ضمنه العناصر المتقدمة بمعنى أن العنصر الشكلي هو وعاءٌ خارجي تنتظم داخله أيضاً أوعية أخرى ولكن الوعاء الأكبر حجماً الذي يندرج ضمنه حتى الأوعية الخارجية الاخرى التي تحيط بمضمون النص حيث يطلق عليه المعنيون بشؤون الأدب والفن والبلاغة مصطلح الأجناس أو الأشكال أو الأنواع الأدبية ولكي يتضح المقصود من هذه المصطلحات أي مصطلحات الأشكال أو الأجناس أو الأنواع يتعين علينا أن نضرب لكم بعض الأمثلة أو أن نتبسط في الحديث عن العنصر الشكلي فنقول المقصود من العنصر الشكلي هو المظهر الخارجي للنص بنحو عام وهذا من حيث البنية الجسمية له وهذا ما يمكن أن ندرج ضمنه مصطلح السورة مثلاً والقصة والخطبة والخاطرة والقصيدة والمسرحية..الخ، وإذا أردنا أن نتبين بوضوح مدى المقصود من الشكل الأدبي وعلاقة ذلك بالعناصر البلاغية الأخرى أمكننا أن نقارن بينه وبين العمارة المخصصة للسكن أو التصنيع أو العبادة أو السياحة..الخ.

فأنتم تلاحظون أن العمارة المتخذة للسكن مثلاً تختلف تماماً عن العمارة المتخذة للتجارة كالأسواق والحوانيت والمخازن، طبيعياً ام كلاً منهما يختلف أحدهما عن الآخر من حيث العمارة المصممة للعبادات كالمساجد وأيضاً تختلف في تصميمها عن العمارات المخصصة لأهداف ثقافية كالمسارح مثلاً أو الأهداف نفعية كالمطارات والجسور..الخ، من هنا يمكننا أن نشبه الشكل الأدبي أو الجنس الأدبي أو النوع الأدبي أو الفن الأدبي من الممكن أن نشبه ذلك بشكل العمارة التي تصمم وفق شكل خاص هو البيت أو المسجد أو الضريح أو السور أو المنتزه أو المسرح أو المطار أو المصنع..الخ، وكذلك الشكل أو الجنس أو النوع أو الفن الأدبي فهناك القصيدة التي تختلف عمارتها عن الخطبة وتختلف كلتاهما عن المقالة وتختلف هذه جميعاً عن الرسالة وهكذا، من هنا فإن لكل شكل أدبي عمارته الخاصة به بحيث ينبغي إخضاع ذلك لقواعد بلاغية خاصة فأنتم تعرفون تماماً أن الشعر مثلاً يخضع لمبادئ فنية يختص بها دون سواه كالوزن أو القافية كما تعرفون أن المسرحية مثلاً تخضع لمبدأ بلاغي خاص بها هو عنصر الحوار وكذلك القصة تخضع لعنصري الحوار أو السرد وهكذا سائر الأشكال الأدبية بل أن الأشكال الأدبية جميعاً تخضع من الجانب الآخر لعناصر مشتركة فيما بينها هي العناصر الفكرية والموضوعية واللفظية والمعنوية والصورية والإيقاعية فمثلاً: العنصر الصوري ولنفترض أنه عنصر تشبيهي أو استعاري أو رمزي من الممكن أن يتوفر في القصيدة وأن يتوفر في الخطبة وأن يتوفر في الخاطرة وأن يتوفر في المقالة وهكذا بالنسبة للعنصر الإيقاعي كالتجنيس مثلاً والتجنيس هو مجموعة من الأصوات المنظمة للكلمات بحيث تتجانس كلمة مع أختها في ميدان أصوات تشترك فيما بينها.

هذا العنصر يمكن أن نلحظه أيضاً في جميع الأنواع الأدبية التي تتوكأ عليه والأمر نفسه بالنسبة إلى العنصر اللفظي أي المفردات والتراكيب وكذلك العنصر المعنوي كالتقديم والتأخير وسائر الأنماط الأخرى بيد أن الملاحظ أن لكل واحد من الأشكال الأدبية مظهره الخارجي والداخلي أيضاً بحيث يختص به دون سواه فالوزن مثلاً لابد من توفره في النص الشعري وإلا فقد شكله الأدبي ونقصد بالوزن هو التفعيلات المنتظمة التي تنتظم في قصيدة ما، فإذا فقد الشعر هذه الخصيصة حينئذ سوف يفتقد شكله الأدبي الذي يختص به فكما أن شاشة العرض مثلاً لابد من توفرها في المسرح وإلا فقد كونه مسرحاً وتحول لمبنى آخر كالقاعة المعدة للمحاضرات مثلاً كذلك الشعر لابد من اختصاصه بشكل خاص، هو الوزن المتمثل في إيقاعات أو بالأحرى في تفعيلات منتظمة، بالشكل الذي قد نحدثكم عنه في أوقات لاحقة، وكذلك بالنسبة للحوار فلا بد من أن يتوفر في المسرحية  والا فقدت المسرحية شكلها وتحولت إلى قصة تكتب سرداً وهكذا، طبيعياً الشكل الأدبي يمكن أن يتوكأ على عنصر آخر من الأشكال الأدبية الأخرى كالحوار واستخدامه في القصيدة وكالإيقاع واستخدامه في الخطبة إلا أن ذلك يجيء عابراً ولا يؤثر على هيكل النص ومن الممكن أيضاً في حالات خاصة أن يستعير أحد الأشكال الأدبية خصوصية الشكل الأدبي الآخر وهذا كالملحمة الشعرية أو كالمسرحية الشعرية حيث نجد أمثلة هذه الأشكال يصبح انتسابها إلى شكل ازدواجي إذا صح مثل هذا التعبير فالمسرحية إذا قلنا أنها تعتمد على الحوار حينئذ إذا كان الشعر بدوره قد انتظم في لغة حوارية حينئذ فالإزدواج يتحقق في هذا النمط من الصياغة الشعرية المسرحية وكذلك بالنسبة إلى الملحمة الشعرية أي القصيدة القصصية فبدل أن يكتب الكاتب قصته سرداً من خلال النثر يستطيع أن يكتب قصته من خلال الشعر أيضاً على أية حال لكل شكل أدبي قواعده البلاغية الخاصة به فيما يجدر بنا أن نفترض لها عابراً ثم نترك تفصيلاتها للقارئ فيما ينبغي أن يتوفر عليها في مظانها الخاصة، طبيعي أن الحديث عن الأشكال الأدبية من حيث التفصيلات ونماذجها خارجة عن نطاق الدراسة البلاغية حيث أن كل واحد منها يحتاج إلى مجلد ضخم خاص بهذا الشكل الأدبي أو ذاك لذلك نحيل القارئ إلى كتاب (الإسلام والفن) و(الإسلام والأدب) لملاحظة خصائص الشكل الأدبي بالنحو المفصل وأياً كان الأمر ينبغي أن نشير الآن قبل أن نعرض لمبادئ البلاغة في أشكالها الأدبية المتجسدة في أنواع كالقصة والرواية والمسرحية والخطبة والخاطرة..الخ، قبل أن نعرض لهذه المبادئ ينبغي أن نلفت الانتباه على جملة أمور منها: أولاً- التعرف على بلاغة التشريع الإسلامي وهو القرآن والسنة وأما الأمر الآخر فهو أن تفيدوا أنتم في تجاربكم الأدبية بحيث توظفونها في عملكم الأدبي الذي تكتبونه ولكن ينبغي أن نلفت نظركم أيضاً إلى أن الإفادة لا تتم بنحو مطلق بالنسبة إلى بعض الأشكال الأدبية بالتشريع الإسلامي كالسورة القرآنية مثلاً لأن السورة شكل أدبي خاص كما سنعرض لها بعد ذلك ولا يمكن للبشر أن يقلد أمثلة هذا الشكل الأدبي لذلك فإن الإفادة من السورة القرآنية تنحصر في التعرف عليها فحسب من حيث الشكل الأدبي لها وأما الإفادة من عناصرها الفكرية واللفظية والإيقاعية والصورية والبنائية...الخ، فأمر ضروري جداً بل هو أهم مصدر أدبي للإفادة كما هو واضح وأما الأشكال الشرعية فإن بعضها كالدعاء أو  الزيارة أو الذكر ونحو ذلك فمن غير المسموح لنا أن نقلدها، لأنها من مختصات المشرع الإسلامي النبي صلى الله عليه وأله  وأهل البيت عليهم السلام وأما الأشكال الأخرى كالحديث والخطبة وسائر ما ورد عن المعصومين  عليهم السلام فيمكن أن نصوغ نصوصاً على نمطها في هذا الميدان.

وأما الأمر الثاني الذي نود أن نلفت الانتباه إليه فهو بما أن أحد أهدافنا من عرض المبادئ البلاغية هو أن نقتصر على نماذج التشريع الإسلامي فحسب بصفتها مبادئ تنسب إلى الإعجاز كالقرآن الكريم والى الكمال كالسنة ولذلك لا نعرض للنماذج البشرية العامة عند حديثنا عن الأشكال الأدبية الأخرى كالمسرحية أو القصيدة ونحوها بقدر ما نشير إلى الخطوط العامة لها حتى يفيد القارئ منها في تجاربه الأدبية حيث أن المشرع الإسلامي لم يفرض علينا شكلاً أدبياً خاصاً بقدر ما يترك لنا المجال مفتوحاً لأن ننتج أي شكل أدبي يتناسب مع طبيعة لعصر الذي يحياه الكاتب.

والان بعد أن أوضحنا من خلال هذا التمهيد المسوغات التي دفعتنا لأن نتحدث عن العنصر الشكلي والإفادة في ذلك من النص الشرعي دون النص البشري، هذه الإفادة نصل من جديد إلى أن نكرر الإشارة إليها نظراً للأهمية التي نخلعها على هذا الجانب فأنتم تعرفون بشكل واضح أن الأشكال الأدبية ومطلق الظواهر الأدبية من حيث البعد العلماني أو الأرضي لها تظل غير متسقة مع التصور الإسلامي للظاهرة الأدبية لذلك فإن المفروض أن نتخذ من المادة الشرعية متكئاً نتكئ عليه في صياغة العمل الأدبي.

طبيعياً ثمة سؤال يثار وهو كيف نستطيع أن نعتمد نصاً شرعياً كتب في زمان ماض في الوقت الذي ندعو فيه أن نكتب بلغة العصر، كيف يمكن التوفيق بين هذين الرأيين للإجابة على هذا السؤال وقد سبقت الإجابة عنه عابرة في ثنايا محاضراتنا السابقة ولكننا سوف نكرر هذه الإشارة فنقول: إن الإسلام ليس في مجال النص الأدبي فحسب بل في مطلق مجالات المعرفة ترك لنا نمطين من العمل المعرفي:

الأول: هو العمل المعرفي الذي نتخذه أنموذجاً، والثاني: العمل المعرفي الذي نختط له خطوطاً تتناسب وطبيعة العصر الذي نحياه ولكن كما تعرفون إن لغة العصر التي نحياها لا تعني أنها دائماً تتسم بالصواب نظراً لعدم عصمة الشخصية البشرية كما نعرف ذلك جميعاً فأنتم تلاحظون من جانب أن النص الأدبي أو أن التصورات الأدبية لكل جيل لم تكد تستقر على رأي واحد بل هناك وجهات نظر متفاوتة ونفس هذا التفاوت بين وجهات النظر يعني أن الحقيقة التي ينبغي أن نرتكن إليها ليست ثابتة ومطلقة بقدر ما هي نسبية من جانب وخاضعة لأن تكون متسمة بالخطأ من جانب آخر فإذا كان ثمة وجهات نظر متنوعة حيال ظاهرة ما حينئذ هل يمكن الركون إلى الاتجاه العلماني في صياغة العمل الأدبي الذي نستهدف منه كما كررنا ذلك أن نوظفه من أجل ممارسة العمل العبادي الذي خلقنا من أجله، إننا كإسلاميين نختلف تماماً عن باقي الاتجاهات الفكرية في هذا المجال فنحن بصفتنا واعين ونعرف تماماً أن الهدف من إيجاد الإنسان كما هو صريح الآية القرآنية الكريمة: ]ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون[ ما دمنا ننطلق من هذا الهدف حينئذٍ فإن أي عمل نمارسه ينبغي أن ننطلق فيه من خلال المبادئ التي رسمها الله تعالى لنا أي نوظفها إسلاميا وحينئذٍ لا ينبغي علينا أن نتأثر بالاتجاهات الأرضية التي لا تتناسب مع جوهر التشريع الإسلامي، من هنا فإننا نواجه في الواقع جملة أمور من حيث التعامل مع الظاهرة التي يفرزها هذا العصر أو ذاك ينبغي علينا أن ننظر إلى هذه الظاهرة لنجد هل أنها تنسجم مع خط الإسلام أم لا، فإذا انسجمت حينئذٍ نستطيع أن نفيد منها في تجاربنا الأدبية وإلا فعلينا أن ننبذها بطبيعة الحال، طبيعياً إن التجارب الأرضية لا تتسم دائماً بالخطأ كما تتسم دائماً بالصواب، إن الله سبحانه وتعالى ألهم كل نفسٍ فجورها وتقواها أي ألهمها المعرفة الإجمالية للظواهر حينئذٍ فالإنسان قد يصل من خلال هذه المعرفة الارثية إلى الحقائق وقد لا يصل اليها، وبصفة أنه غير معصوم حينئذٍ لا يمكن أن نركن إلى التصور الأرضي إلا من خلال المبادئ العامة التي يصل اليها الإنسان من حيث الخط الذي أشرنا إليه وهو أن الله سبحانه وتعالى يلهم الإنسان المعرفة الإجمالية العامة لذلك في نطاق هذه المعرفة الإجمالية العامة يمكننا أن نفيد في ثقافة العصر ونعكسها في أعمالنا الأدبية.

على أية حال نعود فنكرر الإشارة إلى أن الكاتب الإسلامي شاعراً كان أو قاصاً أو خطيباً أو محدثاً...الخ، يستطيع في الواقع أن ينتخب من الأشكال الأدبية ما يتناسب وجوهر التشريع الإسلامي بحيث لا يتقيد بممارسته البلاغة الحديثة أو المعاصرة أو الموروثة بل ينتخب من المبادئ البلاغية ما يتناسب مع جوهر التشريع الإسلامي، من هنا فإن الاعتماد على النص الشرعي يفيد الكاتب إفادة تامة من حيث المبادئ الفنية المشتركة التي تنسحب على جميع العصور وأما بالنسبة إلى المبادئ غير الموجودة حينئذٍ كما قلنا يستطيع الكاتب الإسلامي أن يفيد من التجارب الأرضية التي ترك الإسلام مجالاتها مفتوحة أمامنا ولعل الاستشهاد بنموذج بسيط من القضايا يفرز لنا ما استهدفناه من التوضيح لهذه المسألة، فمثلاً بالنسبة إلى صياغة الشعر فأنتم تعرفون ثمة معركة قامت منذ عقود بين القصيدة العمودية وبين القصيدة الحرة ثم بين قصيدة النثر وهكذا، ولكن الإسلام في هذا المجال لم يحدثنا عن المبدأ الذي ينبغي أن نتوكأ عليه في صياغة القصيدة بل ترك لنا هذا المجال مفتوحاً أي إذا قدر للشعر الحر مثلاً أو لقصيدة النثر مثلاً أن تأخذ مجالاتها في هذا العصر وتسحب أثرها بشكل  ملحوظ بحيث تتحول إلى ظاهرة منسحبة على مناخ العصر جميعاً حينئذٍ فلا مانع أن نتوكأ إسلامياً على هذا النمط من الشعر سواءً أكان قصيدة حرة أم قصيدة نثر أم غير ذلك، نعم ينبغي علينا في الآن ذاته أن نتخلى عن بعض المنحنيات التي تواكب أمثلة هذا الشعر الحر أو قصيدة النثر وفي مقدمة ذلك عنصر الغموض مثلاً، فالقصيدة الحديثة تتسم بالغموض والغموض لا يتناسب مع جوهر التشريع الإسلامي البتة، لأن الهدف من صياغة النص هو إيصال مبادئ الإسلام إلى الآخرين، فإذا كان النص يتسم بالغموض حينئذٍ لا نستطيع أن نوصل مبادئ الله سبحانه وتعالى إلى الآخرين وهذا ما يتعارض تماماً مع جوهر التشريع الإسلامي إذاً نحن نستطيع من جانب أن نفيد من تجارب العصر، كالقصيدة الشكلية حرة أو نثرية ولكننا في الآن ذاته ينبغي أن لا نخضع لجميع مبادئها وفي مقدمة ذلك مبدأ الغموض أو أي مبدأ آخر يتنافى مع جوهر التشريع الإسلامي على أية حال  قدمنا لكم كل هذه التمهيدات لكي نحدثكم عن الأجناس أو الأنواع أو الأشكال أو الفنون الأدبية, وهذا ما يقتادنا من جديد إلى أن نذكركم من جديد بأن الأنواع الأدبية التي سوف نعرض لها في محاضراتنا هي نمطان: النمط الأول الشرعي والنمط الأرضي ونقصد بالنمط الشرعي هو الأشكال الأدبية التي توفر عليها المشرع الإسلامي قرآناً وسنة وهي أشكال وأجناس أدبية متنوعة كالسورة والخطبة والخاطرة والمقالة والحديث والمقابلة والمحاورة..الخ على نحو ما ستجدونه مفصلاً بإذنه تعالى.

والهدف من عرض هذه الأشكال الأدبية هو معرفة المبادئ البلاغية التي ينبغي أن نفيد منها في تجاربنا الأدبية مع ملاحظة أن الإفادة للتجارب الأدبية لا يعني أننا سوف نكتب بنفس الصياغة التي توفر عليها المشرع الإسلامي، بل ينبغي أن نفيد منها كما كررنا في صياغة المبادئ التي تتسق مع التصور الإسلامي، فمثلاً في ميدان القصة علينا أن نفيد من القصة القرآنية كثيراً، وعلينا أن ننبذ المفهومات القصصية المتضاربة والتي زخر بها عصرنا الحديث بخاصة بحيث تطورت القصة وتحولت إلى عمل فقد وظيفته في ميدان التعبير عن الحقائق التي نستهدف نحن توصيلها إلى الآخرين، ولذلك فإن الإفادة من القصة القرآنية تفرض ضرورتها في هذا الميدان وكذلك بالنسبة إلى العنصر البنائي أو العنصر الصوري أو العنصر الإيقاعي..الخ حيث نلاحظ أن الأجيال الأدبية تتفاوت تصوراتها حيال هذا العنصر أو ذاك وهذا ما يدفعنا إلى أن نفيد من النص الشرعي بحسب الموقف دون أن نرغم أنفسنا على أن ننساق مع الاتجاهات أو التصورات الأرضية المنافية لجوهر التشريع الإسلامي وكما قلنا فإن الحديث عن الأجناس الأدبية أو الأشكال الأدبية أو الأنواع الأدبية أو الفنون الأدبية سوف يشطر إلى نمطين: الشكل الشرعي والشكل العادي.

ونبدأ فنحدثكم عن الشكل الشرعي للأسباب التي ذكرناها قبل قليل على أن نتبع ذلك بالحديث عن الأشكال الأخرى أو الأشكال العامة حيث يمكن أن نشير أيضاً إلى أن الأشكال العامة أو الأرضية بدورها تنشطر إلى نمطين: أحد هذه الأنماط له مماثل في النص الشرعي كالخطبة مثلاً أو الخاطرة مثلاً أو القصة مثلاً وهكذا، أما القسم الآخر فيستقل بنفسه وهذا كالمسرحية مثلاً وسائر الأشكال الأدبية التي سنحدثكم عنها، وفي هذا الميدان فإن الإفادة أيضاً من النص الشرعي تفرض ضرورتها، حيث أن العمل المسرحي مثلاً حينما تؤكد مبادئه أن المظهر الداخلي للمسرحية هو عنصر الصراع حينئذ فالكاتب الإسلامي يستطيع أن يكتب مسرحية ولكن دون أن يقيد نفسه بهذا المبدأ الداخلي للمسرحية لأن الصراع في التصور الإسلامي  ليس له أهمية خاصة بل قد يكون محظوراً في حالات كثيرة ولذلك عندما نتحدث عن الشكل المسرحي حينئذ لابد أن نتحدث عنه وفق الصيغة الإسلامية له وذلك بأن نفيد من المسرح العلماني، من حيث الشكل الخارجي له وهو اعتماده الحوار ولكن ينبغي أن ننبذ ما يتصل بمظهره الداخلي وهو الصراع، وذلك بأن نفيد من النص الشرعي في هذا المجال ونصوغ عملاً مسرحياً لا يعتمد نفس المظهر الداخلي الذي يشدد التصور الأرضي فيه، على أية حال نكتفي بما قدمناه الآن من ملاحظات على الشكل الأدبي ونبدأ بالحديث كما قلنا عن الأشكال الشرعية على أن نتبع بالأشكال الأرضية، ونقدم المبادئ البلاغية الخاصة بكل نوع أو بكل جنس أو بكل فن من الفنون الأدبية المشار إليها.

نبدأ ونتحدث أولاً عن الأشكال الشرعية وفي مقدمتها النص القرآني الكريم حيث يصطلح عليه بمصطلح السورة القرآنية، إن السورة هي شكل فني منفرد من بين جميع الأشكال الأدبية المألوفة لدى البشر بحيث يتميز بها القرآن الكريم، فحسب دون أن يشاركه سواه في هذا الشكل إن السورة تتألف من مجموعة من الآيات أقلها ثلاث آيات وأكثرها ما يقارب ثلاثمائة آية كل آية تشتمل على مجموعة من العبارات التي قد تؤلف جملة واحدة وقد تتجاوز العشرة من الجمل كما أنها قد تكون من كلمة واحدة وقد تتجاوز المئة كلمة وتخضع السورة لنظام إيقاعي خاص هو الفواصل التي تنتهي بها كل آية حيث تتوحد الفواصل وتتنوع وتتباين إنها تتوحد في كثير من السور كسورة التوحيد والعصر والناس وتبت والشمس والليل والبروج والمنافقين والقمر..الخ.

فسورة العصر مثلاً تتألف من ثلاث فواصل متحدة تنتهي بقرار واحد وسورة القمر تتألف من خمسٍ وخمسين فاصلة متحدة تنتهي بقرار واحد أيضاً، وأما المتنوعة فتشمل غالبية السور وأما المتباينة فنادرة مثل سورة النصر حيث تنتهي كل آية بفاصلة تختلف عن أختها وينتظم للسورة نمطان من النثر هما: النثر القصصي والنثر المألوف.

أما النثر القصصي فيشمل كثيراً من السور بعضها يتمحض للعنصر القصصي مثل سورة الواقعة، الدهر، الرحمن، الشعراء، الجن، القمر، القصص، الكهف، هود...الخ، وبعضها يرد فيها العنصر القصصي عابراً وينعدم في البعض الآخر وتتضمن السورة موضوعاً واحداً أو أكثر حتى تصل إلى العشرات ولكنها جميعاً تخضع إلى تخطيط هندسي يربط بين أجزاء الموضوع الواحد والموضوعات ثم فيما بينها وبين العناصر الصّورية أو الإيقاعية..الخ.

والموضوعات التي تتناولها السورة تتناول غالبية الظواهر الكونية والتاريخية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية...الخ فضلاً عن الأحكام الشرعية إلا أنها جميعاً تخضع لعناصر الفن من إيقاع وصورة..الخ وهذا فيما يتصل بالنص القرآني الشرعي، وأما فيما يتصل بالأشكال الشرعية الأخرى فهذا يمكن حصره في جملة فنون بعضها يختص بها المشرع الإسلامي كالدعاء وبعضها يظل مشتركاً بين الشرعي والعرف كالخطبة مثلاً والمهم في الحالات جميعاً أن نحدثكم كما سبقت الإشارة عن الأشكال الشرعية أولاً ونتبع ذلك بالحديث عن الأشكال العرفية أو الأشكال غير الشرعية، إذاً نبدأ لنتحدث عن الأنواع أو الأشكال أو الأجناس أو الفنون الشرعية ونبدأ ذلك بالحديث عن بلاغة السورة القرآنية الكريمة وهذا ما نؤجل الحديث عنه إلى محاضرات لاحقة إن شاء الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وتعالى.