المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 029.doc

مستويات التجانس

التجانس بقسميه المتقدّمين، يتم من خلال:

1- العبارة المفردة: ويقصد بها اللفظة الواحدة التي يتحقّق فيها تجانس أصواتها، سواء أكانت ذات أصوات متوحّدة مثل (أنبتت) (تبّت) إلى آخره، أما كانت ذات أصوات مختلفة تتناسب فيما بينها، وهو أمر يرجع تمييزه إلى الذوق، بالنحو الذي فصّلنا الحديث عنه في الفصل الخاص بالعنصر اللفظي.

2- العبارة المتكرّرة: وهو ما نستهدف الحديث عنه في هذا الفصل، حيث يخضع التجانس بين اللفظين فصاعداً لمستويين هما (التجانس المنتظم) و(التجانس غير المنتظم).

1- التجانس المنتظم:

ويقصد به أن يكون التجانس بني الألفاظ بحسب مواقعها الجغرافيّة التي يتوحّد من خلالها لفظٌ خاص مع لفظ آخر في هذا الصوت أو ذاك.

وهذا يتمّ على مستويين (مطلق) و(نسبي).

1- التجانس المطلق:

ويقصد به تجانس الحرفين فصاعداً بالنسبة إلى مطلق العبارات، بغضّ النظر عن كونها تقع في آخر الجملة أو وسطها أو أوّلها، بل ينظر إليها في صعيد العبارة المفردة مع أختها.

وهذا النمط على أقسام:

- أن يتوحّد الصوت في أول العبارة مثل (أدهى وأمرّ).

- أن يتوحّد الصوت في آخر العبارة مثل (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ).

- أن يتوحّد الصوت في أول العبارة وآخرها مثل (ينأون عنه وينهون).

- أن يتوحّد الصوت في وسط العبارة مثل (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ).

- أن يتوحّد الصوت في أول العبارة ووسطها وآخرها مثل (هم أفصح وأنصح).

- أن يتوحّد الصوت في وسط العبارة وآخرها مثل (سَبَإٍ بِنَبَإٍ).

- أن يتوحّد الصوت في جميع أصوات العبارة مثل (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ).

2- تجانس القرار: ويقصد به التجانس بين العبارات التي تقع في نهاية الجملة نثريّة كانت أو شعريّة، حيث إن الكلمة التي تقع في نهاية الفقرة النثريّة تسمى (فاصلة)... وأما العبارة التي تقع في آخر السطر الشعري تسمى (قافية)...

وأمّا نحن فنصطلح على القسمين بعبارة (القرار) بصفته قراراً للكلمة التي ينتهي بها السطر الشعري أو الفقرة النثرية (مع ملاحظة أن الفقرة النثرية قد تكون جملة واحدة أو أكثر، وتقابلها الآية القرآنية الكريمة كما هو واضح).

وهذا النمط من التجانس يتمّ من خلال المستويات التي تقدّم الحديث عنها، أي: أن الكلمة الأخيرة للفقرة النثريّة أو الشعريّة قد تتوحّد أصواتها مع السابقة عليها في صوت واحد أو صوتين أو أكثر (مضافاً إلى التوحّد في مدياتها ـ أي المدى الصوتي بالنسبة إلى المدّ والتفخيم والقصر والتنوين)...

ومن أمثلتها في الصوت الوحد، قوله تعالى: (ولد ـ كبد).

ومن أمثلتها في الصوتين، قوله تعالى: (بل ـ ولد).

ومن أمثلها في الأصوات الثلاثة أو الأكثر قوله تعالى: (مخضود، منضود).

2- التجانس غير المنتظم:

ويقصد به مطلقاً الأصوات المتكررة التي لا تنتظم في مواقع خاصّة، بل ترد مكرّرة في مواقع متنوّعة مثل (حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ). فالباء في العبارتين الأوليين، والتاء والتنوين وردت بنحو متكرّر، له جماليّته الإيقاعية المنبعثة من تجانس الحروف، وليس من انتظامها في أوّل أو وسط أو آخر الجملة.

التجانس مستوياته المتقدمة يتضح عنصر جماليته حينما يقترن بتوازن العبارات أو الفقرات، وهذا ما يتمثّل في القسم الآخر من صياغة التنظيم الصوتي فيما أطلقنا عليه مصطلح:

2- التوازن: ويقصد به تناسق (الوحدات الصوتية) وليس الأصوات المنفردة أي الأصوات المنتظمة في مجموعة، مثل (ولد، كبد) حيث تتوازن العباراتان فيما بينهما من حيث كون كل واحدة منهما تشكّل مجموعة من الأصوات التي تنتظم في عبارة تتوازن مع أختها بالنسبة إلى بنية العبارة حيث نجد أن الحروف الثلاثة في كل عبارة تتوازن مع الأخرى:

1- من حيث الحرف الأخير (الدال).

2- ومن حيث المدى الصوتي للحرفين السابقين على الدال.

3- ومن حيث عددهما من الأصوات.

وهذه على نمطين:

(التوازن التفعيلي والمقطعي) ويُقصد به مجموعة من الأصوات تنتظم في وحدة صوتيّة خاصّة لا علاقة لها بالألفاظ المفردة بل بتوزيع الأصوات في نظام خاص مثل تفعيلات الشعر أو مقاطع النثر أو مطلق التعبير.

وهو نمطان:

1- تفعيلي: ويختصّ بالأوزان الشعرية التي يتألّف كل وزن منها من عدد من التفعيلات مثل: (متفاعلن) أو (فعلن) أو (فعول) حيث تتكرّر ست مرات، ثلاث مرات في كل شطر منها، أو مجزوءات الأوزان التي يقل فيها هذا العدد(1)، وتحدث في النثر: مثل قوله تعالى: (إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) حيث تكرّرت فيها التفعيلة ( فعلن ) أربع مرات (إن الـ ـ إنسا - ن لفي - خسر)(2).

2- مقطعي أو نبري(3): ويشمل التعبير الفنّي مطلقاً، حيث تنتظم الأصوات في نظم نبريّ لا يتجاوز الحرفين أو الحرف و(مداه الصوتي) مثل:

(تل ـ ك ـ آ ـ يا ـ تل ـ... إلى آخره (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ...).

- التوازن المطلق: ويقصد به التوازن بين بنية الكلمة والجملة والفقرة إلى آخره مثل:

- توازن المفردة: وهذا مثل (أحد، صمد في سورة التوحيد، من حيث توازن الكلمتين.

- توازن الجملة: وهذا مثل (سدر مخضود) و(وطلح منضود) من حيث توازن الجملتين.

- توازن الفقرة: وهذا مثل قوله تعالى:

1- (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى).

2- (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى).

حيث (توازنت) الفقرة الأولى في عدد كلماتها وبنيتها مع الفقرة الثانية كما هو واضح.

 ملاحظات:

الملاحظة (1):

الإيقاع الموحّد والمتنوّع:

1- الإيقاع الموحّد: يقصد بالإيقاع الموحّد ما يرتبط بكل من (التفعيلة) و(القرار) بحيث يتوحّد كل منهما في (عدده) طوال النص.

بالنسبة إلى (التفعيلة)، نجد أن (الشعر العمودي) يخضع لعدد متماثل من التفعيلات الستة أو مجزوءاتها الأقل عدداً من جميع أسطره الشعرية.

وبالنسبة إلى (القرار) نجد أن هذا الشعر يخضع لصوت موحّد هو (القافية) التي ينتهي بها كل بيت.

وبالنسبة إلى (النثر) فإن توحّد (القرار) أو (الفاصلة) يلاحظ في كثير من النصوص، ومنها: نصوص القرآن الكريم، حيث نجد كثيراً من السور المتوسّطة والقصيرة تتوحد قراراتها مثل سورة القمر، التوحيد، الكوثر، النصر، إلى آخره حتى أن سورة القمر البالغ عددها خمس وخمسين آية تتوحّد جميع فواصلها في حرف الراء كما هو ملاحظ.

2- الإيقاع المتنوع: أما المتنوع من الإيقاع فيتميّز عن سابقه بكونه لا تتوحّد أصواته ضمن التفعيلات أو القرارات في النص بقدر ما تتنوّع في هيكلها العام وتتوحّد أجزاء منها، أي أن وحداتها الصوتية المنظمة تتنوع في جملة من الأصوات.

فبالنسبة إلى (التفعيلة) يلاحظ أن (الشعر الحر) لا يتقيّد بعدد منتظم من التفعيلات ضمن أسطره الشعرية، حيث نجد أسطره متفاوتة العدد في تفعيلاتها...

وبالنسبة إلى (القرار) كذلك نجد أن الشعر الحر (وفي الشعر العمودي أيضاً في بعض نماذجه) لا تتوحّد القوافي في طوال القصيدة، بل تتنوّع أصواتها من سطر شعري لآخر وتخضع لوحدات صوتيّة، قد تكون منتظمة وقد لا تكون كذلك.

وأما الشعر العمودي (في بعض نماذجه) فإن قوافيه تتنوّع مطلقاً حيناً (كالشعر المطلق) وقد تتنوّع مع إخضاعها لتنظيم صوتي موحّد في أجزاء محدّدة من القصيدة (كالموشّحات ونحوها).

وأما في النثر، فإن فواصله تتنوّع أيضاً مع إخضاعها للتنظيم الموحّد من أجزاء محدّدة أو عدم إخضاعها للتنظيم المذكور، وهذا ما يمكن ملاحظته في نصوص القرآن الكريم وأدب المعصومين (عليهم السلام). فغالبية سور القرآن الكريم تتنوّع فواصل آياتها مع إخضاعها لوحدات منظّمة، والقليل منها لا يخضع للوحدات المشار إليها.

ومثالها من النمط الأول: سورة العاديات التي تتضمّن فواصل متنوّعة تتوحّد في حروف الحاء والعين والدال.

ومثالها من النط الثاني سورة النصر حيث لم تتوحّد فواصلها الثلاث في أي صوت؛ كما هو واضح.

 مسوّغات الوحدة والتنوع:

لا شك، أن لتوحّد التفعيلة أو القرار مسوّغاته الإيقاعيّة: ما دام الانتظام الصوتي بعامّة يفرض فاعليّته الجماليّة. ولكلّ من تنوّع التفعيلة والقرار مسوّغاته أيضاً، ومنها:

إتاحة الحريّة للتعبير عن الأفكار بوضوح وعميق وشموليّة، لأنّ التقييد بهما يحتجز صاحب النص من الحرية المذكورة (يستثنى من ذلك بطبيعة الحال، النصوص الشرعية المتّسمة بالإعجاز والكمال).

ومنها:

أن طبيعة الأفكار والموضوعات من حيث كونها متنوّعة أو متفرّعة أو مفصّلة إلى آخره تتطلّب التنوع في تنظيم الأصوات، ففي سورة البلد مثلاً نجد أن الحديث متنوّع، فقسم منه يتحدّث عن خلق النسان في كبد، وقسم منه يتحدّث عن أجهزته الإدراكيّة وغيرها بالنسبة إلى مسؤوليته، وقسم منه يتحدّث عن اليوم الآخر وعلاقته بسلوك خاص هو الإنفاق، وهكذا... فيجيء التنوع في الأصوات (حروف الدال والنون والباء) متواكباً مع تنوّع الموضوعات ذاتها...

 الملاحظة (2)

الإيقاع الخارجي والداخلي:

الإيقاع على نمطين:

1- خارجي: وهو ما تقدّم الحديث عنه في هذا الفصل، حيث يقصد به التنظيم الصوتي للعبارات في المظهر الخارجي الذي تتحسّسه الأذن.

2-الداخلي: ويقصد به التجانس بين المظهر الخارجي للأصوات وبين الدلالة الفكريّة للنص، بحيث تنتخب للموضوعات المُسرّة أو المؤلمة أو المحايدة ما يناسبها من الإيقاع الذي يتجانس مع تلكم الموضوعات، وهو أمرٌ عرضنا له إجمالاً في الفصل الخاص بالعنصر البنائي في الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.

ـــــــــــــ

الهامش

(1)ـ  هذا بالنسبة إلى الشعر العمودي. أما بالنسبة إلى الشعر الحر فلا يتقيد بعدد كما هو واضح. مع ملاحظة أن مراعاة هذا النظام التفعيلي خاضع للحس الإيقاعي وليس دراسة الأوزان الشعرية وأنظمتها التفعيلية. لذلك لا نرجّح الرجوع إليها بقدر ما نستهدف لفت النظر إلى جمالية التعبير الذي يتأتى من الإيقاع في شكله المشار إليه.

(2)ـ لا شك أن نمط التلاوة من حيث التقطيع للأصوات يسهم في جمالية التعبير، كما أن لتجانس الأصوات (وهذا هو المهم كما سنوضح ذلك لاحقاً) جماليته الأشد أهمية من التنظيم التفعيلي، ولذلك فإن جمالية النص القرآن لا تتأتى من نظام تفعيلي يجيء عرضاً (حيث أن القرآن منزّه عن ذلك) بل يجيء من تجانس الأصوات كما قلنا.

(3)ـ النظام النبري أو المقطعي بدوره لا قيمة له ما دامت التلاوة خاضعة لتجانس الأصوات وتقطيعها حسب نمط الترتيل الذي ينتخبه القارئ، ولذلك نكرر بأن جمالية النص القرآني لا تتأتى من خلال نظام نبري أو تفعيلي (وهو منزّه عن ذلك) بل بما أوضحناه سابقاً.