المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 022.doc

3- التقريب

هو إحداث علاقة بين طرفين من خلال إكساب أحدهما صفة الآخر، على نحو (المقاربة) للشيء، وليس (الإعارة)... وهذا من نحو قوله تعالى عن جهنم: (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) وقوله تعالى: (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدّاً). فالفارق بين التقريب والاستعارة هو وجود أداة المقاربة (كاد، أوشك)... فلو قيل (تميز من الغيظ) و(السماوات يتفطرن) و(تخر الجبال) لكنّا أمام استعارة... أما لو أُضيفت إليها (تكاد) فنكون أمام (تقريب) أو مقاربة كما لحظنا في الآيتين المتقدمتين.

 مسوّغات التقريب:

التقريب أو المقاربة تعني: أنّ درجة العلاقة بين الطرفين هي أقلّ حجماً من درجة العلاقة بين طرفي الاستعارة، ففي قوله تعالى: (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً) تكون درجة العلاقة بين عبوس الإنسان واليوم الآخر من الضخامة بمكان كبير إلى درجة الاندماج بين العبوس واليوم الآخر، أمّا في (التقريب) فإنّ درجة العلاقة تكون ضئيلة بحيث لا يخلع على أحد الطرفين صفة الطرف الآخر بل بدرجة تقارب الخلع دون أن يتحقق الخلع نفسه، فقوله تعالى: (تَكادُ تَمَيَّزُ) تكون بمعنى أنّ جهنم (تقترب) من درجة التميز دون أن تتميز فعلاً؛ كما هو شأن الاستعارة. حينئذٍ فإنّ المسوّغ لـ(التقريب) هو توضيح درجة الغضب على الكافرين، وهو غضب كبير دون أدنى شك، لا يختلف عن غضب اليوم الآخر المتمثل في (العبوس)، ولكن الفارق بين الغضبين أنّ عبوس اليوم الآخر يقترن بالأهوال التي يواجهها الإنسان حيث يتطلب الموقف درجة عالية من إحداث العلاقة بين الأهوال والعبوس. أمّا في قوله تعالى عن جهنم: (تَكادُ تَمَيَّزُ) فإنّ الأهوال التي ترافقها قد تكفّل بتجسيدها خزنة جهنّم (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) وحينئذٍ فإنّ جهنم يظلّ انفعالها مختلفاً عن الانفعال الذي يصدر عنه الخزنة، ربما نظراً لمجيئها في الدرجة الثانية من المسؤولية حيال بيئة الكافرين.

وحين نتّجه إلى الصورة (التقريبيّة) الأخرى (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ... وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدّاً) نجد أنّ كلاًّ من (التفطّر) و(التصدّع) جاء على نحو (المقاربة) وذلك لسبب واضح هو: أنّ السماوات لا تتفطّر والجبال لا تخرّ بالفعل لمجرّد صدور المعصية عن المشركين لأنّ ذلك يُسقط عمليّة (الاختبار) أو الامتحان الإلهي للإنسان، حيث إنّ غالبيّة الناس تسقط في مثل هذا الاختبار كما هو واضح. حينئذٍ فإنّ إحداث العلاقة بين السماوات والجبال وبين الغضب يظلّ محدوداً بدرجة لا تصل إلى التصدع والتفطّر بل بدرجة (تقترب) من ذلك؛ تعبيراً عن شدة الغضب من جانب، واتّساقاً مع الحركة الكونيّة وصلتها بوظيفة الإنسان من جانب آخر.

إذن: أدركنا السِّر الفنِّي في الصورة (التقريبية) وافتراقها عن الصورة (الاستعارية)، مع أنّ كلتيهما تتناولان نمطاً واحداً من الانفعالات: العبوس، الغضب، إلخ، ولكن الموقف هو الذي يستدعي أن تكون درجة العلاقة في إحداهما قويّة، وفي الأُخرى بدرجة أقل بالنحو الذي أوضحناه.

4- التمثيل

التمثيل هو: إحداث علاقة بين طرفين، من خلال جعل أحدهما تمثيلاً وتجسيماً للطرف الآخر، بحيث يكون أحدهما عين الآخر...، مثل قوله (عليه السلام):

(القناعة كنز لا يفنى).

فهنا نواجه تركيباً يختلف عن (التشبيه) و(الاستعارة)، ففي التشبيه تقوم برسم حدود فاصلة بين القناعة والكنز فنقول: (القناعة كنز)، أما في (التمثيل) فنزيل الحدود بين الطرفين ونقول: (القناعة كنز..) فتصبح (القناعة) هي عين (الكنز).

 التمثيل والصور الأخرى:

قلنا الفارق بين التمثيل وبين ما تقدمها من الاستعمار والتشبيه، هو: أن التشبيه يتضمن علاقة بين الطرفين من خلال أدوات التشبيه وعباراتها.

أما التمثيل فهو بمثابة تشبيه حذفت أداته فزالت الفارقيّة بين الطرفين وأصبح أحدهما (تمثيلاً) للآخر لا تشبيهاً به.

وأما المعيار الذي نفرّق من خلاله بين (التمثيل) والاستعارة فهو: إننا في الاستعارة، نجعل لأحد الطرفين صفة الطرف الآخر... كما لو قلنا: (أبواب الإجابة مفتوحة حيث تجعل للإجابة: الأبواب).

أما في التمثيل كما قال (عليه السلام): (الجهاد: باب من أبواب الجنة) لم تجعل للجهات صفة (باب الجنة) بل مثلناه وجسمناه في (باب) من أبواب الجنة. وحتى في حالة جعل (الاستعارة) طرفاً، كما في قوله (عليه السلام): (الجهاد باب من أبواب الجنة... فهو: لباس التقوى) فإن هذه الاستعارة تعد (تمثيلاً) لباب الجنة.

إذاً: في الاستعارة يصبح إحداث العلاقة بين الطرفين: إعارة طرف لصفة الآخر وفي التمثيل تجسيم طرفٍ لآخر، وفي التشبيه: مشابهة طرفٍ لآخر.

 مسوغات التمثيل:

تتمثل أهمية التمثيل في كونه يرد في سياقات بعضها (وهو أحد معياري التمثيل) توحيد العلاقة بين الطرفين نظراً لعمق هذه العلاقة وإمحاء الفوارق بينهما.

ففي النموذج المتقدم (القناعة: كنز) لا نتحسس بوجود فارق بين الكنز الذي لا يفنى، وبين القناعة التي تمثل وتجسم وتجسد (الكنز) حقاً، بصفة أن من يملك كنزاً لا نفاد له يصبح عرضة للقلق والمخاوف من الفقر، كذلك فإن القانع لا يصبح عرضة للقلق والمخاوف، لأن قناعته هي كنز في داخل نفسه لا يجعله بحاجة إلى البحث عن المال. ومن هنا جاء المسوغ لجعل القناعة (تمثيلاً) لـ(الكنز) لا تشبيهاً به، في هذا النمط من التركيب.

وأما المسوغ الآخر للتمثيل فهو: كما في قوله (عليه السلام): (الجهاد: باب من أبواب الجنة) فهو ليس من أجل توحيد العلاقة بين الطرفين بل جعل أحدهما واسطة أو طريقاً إلى الآخر.

  مستويات التمثيل:

يأخذ التمثيل مستويين من التركيب:

1- أن يتم على شكل (تعريف) للطرف الآخر: كالنموذج المتقدم، وكقوله (عليه السلام): (الدنيا سوق: ربح فيها قوم وخسر فيها آخرون) (الدنيا دار ممر) (القضاء والقدر: طريق مظلم).

فهنا نواجه تعريفاً مجازياً بطبيعة الحال للقضاء والقدر، وللدنيا، وهو أنهما طريق مظلم، وسوق، ودار ممر...

ويأخذ التعريف صياغات متنوعة في سياق التفصيل، والنفي، والتمييز، والاستفهام،... إلخ ة وهي  قوله (عليه السلام): (نعم الزاد: التقوى)، وقوله (عليه السلام): (لا زاد أفضل من التقوى) (كفى بالأجل حارساً) (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ... تُؤْمِنُونَ).

2- أن يتم على شكل (صيرورة - فعل) بحيث يتحول الطرف الأول إلى شيء يجسمه الطرف الآخر،... وهذا من نحو قوله تعالى:

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ (وَرْدَةً) كَالدِّهانِ).

فالسماء هنا تتحوّل وتصير (وردة) من حيث اللون...

ومن نحو قوله (عليه السلام) في صفة المؤمنين:

(كان ليلهم في دنياهم: نهاراً، وتخشعاً واستغفاراً، وكان نهارهم: ليلاً توحشاً وانقطاعاً) فالليل يتحول إلى (نهار) والنهار إلى (ليل): من حيث العمل العبادي، أي أن الطرف الآخر الذي يجسم الطرف الأول هو (فعل من الأفعال) وليس تعريفاً للشيء.

 التمثيل والتداخل:

بما أننا تحدثنا عن التداخل بين الصور ومسوغاتها عند عرضنا لظاهرة التشبيه والاستعارة، حينئذٍ: فإن (التمثيل) وغيره يخضع لمسوغات مماثلة لا حاجة للحديث عنها. لكن نظراً (التمثيل) يشكل نموذجاً يدرجه البلاغيون ضمن (التشبيه) من جانب ويختلط مع الاستعارة في بعض التراكيب من جانب آخر: حينئذٍ نلقي بعض الإنارة على الجوانب المتصلة بالتمثيل وتداخله مع الصور التشبيهية والاستعارة.

وإليك النموذجين المتقدمين:

1- قال تعالى: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ (وَرْدَةً) كَالدِّهانِ)

2- قال (عليه السلام): (الجهاد باب من أبواب الجنة... فهو لباس التقوى)

في الصورة الأولى تمثيل هو (وردة) وتشبيه هو (كالدهان). والمسوغ لجعل إحداهما تمثيلاً والأخرى تشبيهاً وتداخلهما بهذا الشكل، يعود - كما نحتمل فنياً - إلى أن النص في صدد توضيح: أن السماء عند قيام الساعة (تتحول) إلى (وردة) من حيث اللون، وحينئذٍ فإن التحول لا يستدعى (تشبيهاً) بل تجسيماً لحادثة تأخذ لون الورد في تموج أشكاله أو لونه (ورد) ـ وهو الفرس الأبيض ـ في تموّج أشكاله التي تجمع بين البياض والاحمرار والاصفرار. أما (الدهان) فهو يتصل بسُمك السماء الذي لا يخضع لحاسة البصر فحسب بل إلى (حاسة اللمس) في الدرجة الأولى، مما يتعذر إدراكه من خلال (التجسيم)، ولذلك جاء تشبيه (السمك) بالمادة الدهنية (من حيث رخاوتها) متناسقاً مع السياق، أي أن اللون قد اقترن بحاسة البصر عند الإنسان من خلال مشاهدته للون السماء. أما سمكها فيتعذر على حاسة اللمس إدراكه، لذلك جاء تشبيهه بـ(الدهان) وليس التمثيل ـ له مسوغاته ـ بعكس العلاقة بين لون السماء ولون الوردة حيث يمكن إدراك اللون من خلال حاسة البصر، وهذا ما يجعل صياغته تمثيلاً وليس (تشبيهاً) بالنحو الذي أوضحناه، ما دام التشبيه يرصد أوجه الشبه بنحو أقل درجة من التجسيم الذي (يوحد) بين الطرفين، أي: يرصد أوجه الشبه التي تتضخم إلى درجة التماثل التام.

أما في الصورة الثانية (الجهاد... لباس التقوى)، فنواجه تركيباً متداخلاً بين التمثيل والاستعارة بنحو يتطلب شيئاً من الوضوح... فالملاحظ أن الصورة ـ أيّاً كانت تشبيهاً أو استعارة أو تمثيلاً أو غيرها ـ تتكون من طرفين ينتج عن إحداث العلاقة بينهما تركيب هو: التشبيه أو الاستعارة أو التمثيل أو غير ذلك. لكن: هناك بعض التراكيب التي يكون أحد طرفيها (تركيا) أيضاً وليس ظاهراً مفردة. فـ(الجهاد) هو الطرف الأول وهو مفرد، وأما (لباس التقوى) فهو الطرف الآخر، ولكنه (مركب) هو: الاستعارة، لأن التقوى خلعت عليها سمة شيء آخر هو اللباس فأصبحت (استعارة) وليست شيئاً مفرداً... لذلك نواجه في (التمثيل) نموذجاً خاصاً من التركيب المتداخل هو: التمثيل الذي يكون أحد طرفيه (مفرداً) ويكون طرفه الآخر (تركيباً) هو الاستعارة...

والمسوغ الفني لمثل هذا التداخل ـ كما تحتمل ـ هو: أن الجهاد بصفته ظاهرة ذات أهمية كبيرة من حيث معطياته، لذلك (جسّمه) النص أولاً بكونه (باباً من أبواب الجنة) ليحث عليه الناس من خلال الجزاء المترتب عليه وهو: الجنة... ثم لكي يوضح أهمية العبادية (جسّمه) بكونه مظهراً للتقوى وليس مجرد عملٍ عبادي يمارسه الشخص من أجل الجنة.

أما المسوغ لجعل التجسيم أو (التمثيل) يعتمد الاستعارة فلأنه (عليه السلام) يحرص على إبراز الدرجة العالية من التقوى، لذلك أعار لها سمة (اللباس) باعتبار أن اللباس هو الذي يغطي الجسم كله، فتكون الاستعارة حينئذٍ معبِّرة عن دلالة شاملة هي: أن الجهاد هو أكمل وأوسع أشكال التقوى.