المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 021.doc

التشبيه القصصي

وهو أنْ يكون المشبّه به حكاية أو أُقصوصة بدلاً من التشبيه بالظواهر... وهذا من نحو قوله تعالى:

(أَوْ كَالذي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ... إلخ).

(لا تَكُونُوا كَالذينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) (وَلا تَكُونُوا كَالذينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ...)

وأهميّة التشبيه القصصي تتّضح من خلال إدراكنا بأنّ القصّة تجتذب اهتمام السّامع أو القارئ ممّا يفسّر لنا عناية القرآن الكريم بالعنصر القصصي بعامّة، بحيث يجيء (التشبيه) واحداً من الموارد التي يُستثمر فيها عنصر القصة... أما السر الكامن وراء صياغة التشبيه القصصي في موارد معيّنة دون سواها، فلأنّ السياق الذي ورد فيه هذا التشبيه كان: سياقاً قصصيّاً توفّرت عليه السورة (سورة البقرة) حيث كانت قصّة البقرة، وقصّة نمرود، وقصّة الطيور الأربعة، تحوم جميعاً على (الإحياء والإماتة: إماتة البقرة، وإحيائها، تقطيع الطيور وإحيائها...).

وهكذا جاء التشبيه القصصي - للمار على القرية وإماتته مائة عام وإحيائه - متجانساً مع السياق...

وهكذا سائر التشبيهات القصصّة الأخرى، فيما يمكن رصدها في ضوء السياقات الخاصة بها.

التشبيه بالمِثل

(المثل): عبارة عن صفة أو حادثة أو عظة أو نموذج: يتم الاستشهاد به، لتوضيح إحدى الحقائق التي يراد توصيلها إلى المتلقّي.

والاستشهاد بالمثل إما أن يتمّ بنحو (التشبيه)، وإمّا أن يتمّ بأدوات فنيّة أخرى نعرض لها في حينه.

ويُلاحظ أنّ النصوص الشرعيّة قد استخدمت التشبيه بـ(المَثَلِ) على نحو ما لحظناه من التشبيه القصصي: من حيث متطلبات السياق لذلك.

ويمكن رصد المستويات التي تم استخدام التشبيه فيها من خلال (المثل) على هذا النحو:

1- أن يُستخدم (المثل) مقترناً بأداة التشبيه (الكاف) من نحو قوله تعالى:

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ...) (مَثَلُ الذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ...) (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ...).

2- أنْ يُستخدم (المثل) غير مقترن بأداة التشبيه، من نحو قوله (صلى الله عليه وآله) عن الميت وعمله: (مثله: مثل رجل له ثلاثة أخلاء، فلما حضره الموت...).

ويلاحظ أيضاً: أنّ (التشبيه المثلي) قد تتمّ صياغته على النحو المألوف، كالنماذج المتقدمة. وقد يُصاغ على نحو (التشبيه المضاد) من نحو قوله تعالى:

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ... كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ...).

المسوّغ الفني للتشبيه بالمثل، يتجسّد في كونه من تجارب الإنسان اليوميّة، فإنّ تقديمك (مثالاً) أو (نموذجاً) لحقيقة تريد توضيحها ودعمها بالشواهد: بشخصية أو بحادثة أو بموقف أو بعينة حسيّة أو بفكرة أو بفرضيّة... كل أولئك يجعل (المثل) موسوماً بأهمية خاصة تشبه الأهمية التي نلحظها في القصص والأمثال العامة... وهو أمرٌ يفسِّر لنا عناية النصوص الشرعية ـ قرآناً وسنّة ـ بـ(المثل) كما قلنا... ويمكننا ملاحظة هذا التأثير للمَثَلِ من خلال الطريقة التي يعرضها القرآن الكريم، من نحو قوله تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً: أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً: رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأَحَدِهِما...) (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ: الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...) (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً: مِنْ أَنْفُسِكُمْ...) إلخ، فهو يضرب المثل لاجتذاب نظر المتلقي بالنحو الذي تجتذبه القصّة والفرضية والحادثة المثيرة... وهكذا.

أمّا السياقات التي تجعل صياغة المثل من خلال التشبيه تأخذ طريقة معينة دون سواها فأمرٌ يمكن ملاحظته بالنحو التالي:

1- استخدامه في طرفي التشبيه من نحو قوله تعالى:

(مَثَلُ الذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ).

وقوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي اسْتَوْقَدَ ناراً).

وقوله (صلى الله عليه وآله): (مثله مثل رجل...).

2- استخدامه في الطرف الأوّل فحسب، من نحو قوله تعالى:

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ...)

3- استخدامه في الطرف الآخر فحسب من نحو قوله تعالى:

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ... كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها).

إنّ كل واحد من هذه الاستخدامات الثلاثة: له سياقه الخاص. ففي النموذج رقم (1) نجد أنفسنا أمام حقائق تتّصل بتوضيح مستويات الإنفاق وكيف أنها تتضاعف إلى المئات، وبتوضيح حقائق المنافقين الذين يسلكون مسالك شتّى لإشباع حاجاتهم الدنيوية حيث يُبطنون شيئاً ويظهرون شيئاً آخر ويحيون صراعات مختلفة في خضمّ هذا السلوك،... حينئذٍ فإنّ صياغة (المثل) في طرفي التشبيه يفرض ضرورته القائمة على تفصيل هذه الحقائق التي تتوازن من خلالها أطراف التشبيه.

أمّا في النموذج رقم (2) فإنّ السياق يجيء لتوضيح أهمّية الكلمة الطيبة وأثرها في النفوس، لذلك استخدم النصُّ المثلَ في المشبّه فحسب، أمّا المشبّه به فقد استخدم فيه أداة التشبيه وحدها بصفة أن الكلمة الطيبة تبدو وكأنها سلوك لا يكلف صاحبه مالاً أو جهداً عقلياً أو غيرهما، إلا أن انعكاساتها من الأهمية بمكان، لذلك فإنّ تصدير الطرف الأول بـ(المثل) دون الآخر، يعني أنّ الهدف هو لفت النظر إلى أهمية الكلمة التي تبدو وكأنها عادية، حتى تكتسب طابعاً غير عادي.

وأما النموذج رقم (3) فقد استخدم (المثل) في الطرف الآخر، لأنّ الإيمان شيء واضح المُعطى لا ضرورة إلى تصديره بمَثَل على العكس من الكفر الذي يتطلب توضيح نتائجه التي يجهلها الإنسان أو يتغافل عنها: تقديم (نموذج) أو (مثل) تجعله معنيّاً بها، حيث سبق أن أوضحنا في حديثنا عن (التشبيه المضاد) بأنّ الإيمان لا تنحصر معطياته في كونها مجرد معطيات يمكن أن يُستغنى عنها، بل أنّ ما يضادّه - وهو الكفر - يقترن بنتائج لا يتمكن تحمّلها؛ ألا وهي: العذاب الأُخروي والعزلة الأبدية عن النور... فيما يتطلّب مثل هذا المصير المهول توضيح خصوصيّاته من خلال تقديم (المثل).

2- الاستعارة

الاستعارة: هي إحداث علاقة بين طرفين، من خلال إكساب أحدهما صفة الآخر، أي: خلع صفة مختصة بشيء على شيء آخر... مثل قوله تعالى: (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) حيث خلع صفة (التنفس) - وهي مختصة بالعضوية الإنسانية والحيوانية - على (الصبح) الذي هو جماد لا يتنفس، وقد أُدمجت الصفتان في مظهر واحد هو: تنفس الصبح.

الاستعارة والتشبيه: وفي ضوء هذا التعريف للاستعارة، يكون الفارق بينها وبين (التشبيه) هو: أنّ التشبيه يتضمن طرفين، أحدهما يشابه الآخر، والاستعارة تتضمّن طرفين أحدهما يستعير أو يكتسب صفة الآخر.

 مسوّغات الاستعارة:

تتمثّل مسوّغات الاستعارة في كونها تستهدف توضيح وتعميق بعض الدلالات المتّسمة بأهمّية كبيرة بحيث لا يفي (التشبيه) بتحقيق ذلك. وهذا من نحو قوله تعالى على لسان أهل البيت (عليهم السلام) عند تقديمهم الطعام على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً: (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً)، فقد كان بالإمكان أن يعبّر عن ذلك بهذا النحو مثلاً: (يوماً كالوجه العابس) فيجيء التشبيه بدل الاستعارة: لكن بما أنّ شدائد اليوم الآخر لا تُقاس بشدائد الدنيا ولا تشبه عبوس الوجه البشري، لذلك تجيء الاستعارة عنصراً ضرورياً لإبراز هذا المستوى من الشدّة حيث لا يتم ذلك إلاّ من خلال عملية (دمج) بين الطرفين (اليوم، وعبوس الوجه) حيث يُعبّر هذا الدمج عن أنّ اليوم الآخر هو (عابس) بالفعل، وليس مشابهاً للوجه العابس، بل أنّه هو العبوس بعينه: تعبيراً عن شدّة الأهوال التي ترافق ذلك اليوم.

 مستويات الاستعارة:

تُصاغ الاستعارة - من جانب - على مستويين:

1- الصياغة المباشرة: وهي أنْ تُعار الصفة بشكل غير مباشر بحيث تفصل كل صفة عن الأخرى: على نحو التزاوج، مثل قوله (عليه السلام) عن الشيطان وأتباعه: (فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم) فالاستعارة هنا تتمثّل في إعارة الفاسق صفة الشيطان مباشرة بحيث ينظر الشيطان من خلال أعين أتباعه وينطق من خلال ألسنتهم.

2- الصياغة غير المباشرة: وهي أنْ تُعار الصفة بشكل غير مباشر بحيث (تندمج) الصفتان بعضها مع الآخر، مثل قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ) حيث جعل للذل جناحاً، ولكنهما اندمجا فأصبحا شيئاً واحداً، هو جناح الذلّ، دون أنْ يفصل أحدهما عن الآخر.

من بُعدٍ آخر: تُصاغ الاستعارة الأخيرة على مستويين آخرين أيضاً:

1- إنّ إكساب الشيء صفة شيء آخر قد يتمّ على نحو تكون فيه إعارة الصفة (جزءاً) من (كُل) على نحو (الإضافة) مثل النموذج السابق، (واخفض...) ومثل قوله (عليه السلام): (فَقَأتُ عين الفتنة) وقوله (عليه السلام): (من أحبنا أهل البيت فليستعد للفقر جلباباً)، حيث جعل للفتنة (عيناً) وللفقر (ثوباً)، بصفة أنّ العين جزء من تركيبة الإنسان، والثوب جزء من مظهره الخارجي.

2- تكون إعارة الشيء صفة كليّة وليست جزءاً، أو تكون على نحو الوصفيّة مثل قوله تعالى: (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً...)، ومثل قوله تعالى: (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) فالعبوس والتنفس هنا اكتسبا صفة عامة بالرغم من أنّ أولهما صفة تختص بالوجه والآخر صفة تختصّ بجهاز التنفس، إلا أنهما اكتسبا صفة كليّة وليس صفة جزئية تُضاف إلى الكلّ، أو لِنَقُلْ: اكتساب صفة (وصفيّة) هي: العبوس والتنفس (اليوم العبوس، الصبح المتنفس).

 الاستعارة وتبادل الصفات:

إنّ إعارة الصفة لشيء آخر تأخذ أشكالاً مختلفة من التبادل، حيث يتم التبادل:

1- إمّا بين صفات الشيء الواحد، بحيث تُعار صفة أحد أجزائه لجزء آخر منه، من نحو قوله تعالى: (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ التي فِي الصُّدُورِ) حيث خلع على القلب أو الصدر صفة (العمى) المختصّة بحاسّة البصر. ومن نحو قوله (عليه السلام) عن الموتى: (لقد رجعت فيهم أبصار العبر، وسمعت منهم آذان العقول، وتكلّموا من غير جهة النطق) ونحو قوله (عليه السلام): (فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها - أي الجنة - لعزفتْ نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا) فالملاحظة أنه (عليه السلام) خلع على العقل حاسّة السمع وعلى القلب حاسّة البصر... إلخ.

والمسوّغ الفنّي للتبادل بين صفات الحواس هو أنّ الحواس تتبادل التأثيرات فيما بينها من حيث خضوعها للمنبِّهات الخارجية. ولذلك نجد على سبيل المثال اتّجاهاً أدبيّاً حديثاً يركّز على هذا الجانب في تركيب الصور حيث يجعل مثلاً للعطر نغماً وللنغم رائحة ولوناً... إلخ. بصفة أنّ استجابة الحواس للمنبِّهات الخارجية يمتزج بعضها مع الآخر بحيث يتحسّس الإنسان وهو يشمّ رائحة طيّبة، أنّ لها إيقاعاً أو لوناً... إلخ.

2- أنْ يتمّ تبادل الصفات بين جنس وجنس آخر (وليس بين صفات الجنس الواحد كالنماذج المتقدّمة):ماذج المتقدّمة):ة بشرية لجماد أو العكس، أو أعيرت صفة مادية لما هو معنوي، أو أُعيرت صفة مادية لما هي مثلها، أو صفة معنويّة لما هي مثلها... إلخ، ويمكن ملاحظة مستويات التبادل بين جنس وآخر في النماذج الآتية:

1- خلع صفة حيوانيّة على البشر مثل قوله (عليه السلام):

(لكأني أنظر إلى ضلّيل قد نعق بالشام) حيث خلع الصفة الحيوانية وهي (النعيق) على العنصر البشري.

2- خلع صفة مادية على البشر، مثل قوله (عليه السلام):

(أين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى) حيث خلع صفة مادية هي (الاستصباح) على صفة بشرية هي (الهدى).

3- خلع صفة بشريّة على ظاهرة مادية: مثل قوله تعالى:

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ).

4- خلع صفة بشرية على ظاهرة معنوية، مثل قوله (عليه السلام):

(فقأت عين الفتنة).

5 - خلع صفة مادية على مثلها، من نحو قوله (عليه السلام):

( إنّ الأرض التي تقلُّكم، والسماء التي تظلكم .......... ) حيث خلع على الأرض وهي ظاهرة مادية سمة مثلها وهي حملها للإنسان.

6- خلع صفة معنوية على مثلها، من نحو قوله (عليه السلام):

(تاه بكم الغرور) حيث خلع صفة (التيه) وهي معنوية على (الغرور) وهو معنوي أيضاً.

والمسوّغ الفنّي لتبادل الصفات بين جنس وآخر هو:

أن هدف الاستعارة ما دام هو تعميق الدلالة وتوضيحها، حينئذٍ فإن إعارة صفة واضحة محددة في ذهن القارئ (مثل صفة التنفس عند الإنسان) وجعله استعارة للصباح، يصبح أمراً له أهميته في توضيح الدلالة التي يستهدفها القرآن الكريم. حيث إنّ الصبح ـ وهو يُسفر تدريجاً وليس دفعة واحدة يظلّ متناسباً مع إعارة صفة التنفس للإنسان.

 الاستعارات التركيبية أو الموحّدة:

نقصد بالاستعارات التركيبيّة: ما يتألف من استعارتين فصاعداً، حيث يتطلب الموقف الجزئي أكثر من استعارة تتجاوز مع مثلها أو تتداخل مع غيرها من الصور كالتشبيه وغيره...

1- فمن النوع الأول الذي تتداخل فيه الاستعارات، قوله (عليه السلام) في نشأة الأرض:

(فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها)، ففي هذه الصورة الجزئية استعارتان متداخلتان هما (خضوع الماء) و(حمل الأرض)...

2- ومن النوع الذي تتداخل فيه الاستعارة مع غيرها (كالتشبيه مثلاً) قوله (عليه السلام)، من جملة متقدمة على الاستعارة التي وقفنا عندها: (وترغو زبداً كالفحول عند هياجها). ففي هذه الجملة صورتان: الأولى إستعارة وهي (ترغو زبداً) والأخرى تشبيه وهو (كالفحول عند هياجها). وسنرى أن هذا النمط من التداخل يندرج ضمن صور عامّة ولا يخّص الاستعارة كما لحظنا في التشبيه.

3- ومن النوع الذي تتجاوز منه الاستعارات: نفس الجملة التي تلي النص السابق (وسكن هيج ارتمائه: إذ وطئته بكلكلها) فهذه الجملة تتداخل فيها استعارتان أيضاً، وتكون مع الجملة السابقة: استعارات متداخلة متجاورة، وهكذا الجمل التي تليها (وذلّ مستخذياً إذ تمعّكت عليه بكواهلها).

4- ومن النوع الذي تتجاوز فيه الاستعارات وغيرها من الصور، ما نلحظه من التشبيه الذي تقدّم هذه الاستعارات (وترغو زبداً كالفحول عند هياجها)... وما نلحظه من صور (تمثيلية) و(رمزية) و(تضمينيّة) وغيرها ممّا نعرض لها عند حديثنا عن الصور المُشار إليها في حقول لاحقة.

المهم، أنّ المسوّغ الفنّي لأمثلة هذا التداخل والتجاور، تظلّ مماثلاً لما لحظنا، من المسوّغات الفنية في حديثنا عن (التشبيه).

فلو وقفنا - على سبيل المثال - عند هذه الصور الاستعارية: المتجاورة والمتداخلة، في قوله (عليه السلام):

(فقأت عين الفتنة - ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري - بعد أنْ ماج غيهبُها واشتدّ كلبُها) للحظنا استعارتين متداخلتين في جملة واحدة تتألف من كلمتين، كل كلمة تشكّل: استعارة، والكلمتان المستعارتان هما:

(ماج غيهبُها) فالاستعارة الأُولى هي: إعارة الفتنة سمة الظلام، والاستعارة الأخرى هي: إعارة الظّلام سمة (التموّج)...

إنّ (الفتنة) ذاتها تنطوي على تشابك وتعتيم وتخبّط الأمور...، وحينئذٍ فإنّ المناسب لهذا التخبُّط والتشابك: أنْ تُنسج له صورة تحمل سمة التخبّط من جانب وتداخل الأمور من جانب آخر،... وهكذا كانت صورة (يموج غيهبها): حيث أنّ الظلمة والتموّج تعبيران عن التخبط والتداخل حيث لا وضوح ولا فرز للأمور، وهذا ما يسوّغ صياغة صورة (تتداخل) مع غيرها لتعبّر عن واقع الفتنة.

وأمّا المسوّغ الفنّي لتجاور الصور وتداخلها مع صور التشبيه وغيره، فيمكن ملاحظته في الصور الآتية عن الدنيا، عبر قوله (عليه السلام):

(قوّضوا من الدنيا تقويض الراحل، واطووها طيَّ المنازل). فقد تضمّنت الأولى استعارة، هي (قوّضوا) ـ أي أقلعوا أعمدة الخيمة الدنيوية، وتضمّنت تشبيهاً هو (تقويض الراحل)،... كذلك الجملة التي تليها.

والمسوّغ لتداخل الاستعارة والتشبيه هو: إكساب الدنيا صفة الخيمة التي ينبغي أنْ تُنزع أعمدتها بسبب كونها متاعاً لا غير، (وهذا مسوّغ الاستعارة) ثمَّ بما أنّها محدودة زمنيّاً: لذلك شبّه عمليّة نزع الخيمة بمن يرتحل عن مكانه إلى مكان آخر (وهذا هو المسوّغ للتشبيه)،... ثمّ بما أنّ كلاًّ منهما مرتبط بالآخر، حينئذٍ جاء المسوّغ لأن تتداخل الصورتان: الاستعارة والتشبيه بالنحو الذي أوضحناه.

 ملاحظات:

الاستعارة المزدوجة: ويُقصد بها الاستعارة التي يكون أحد طرفيها استعارة أيضاً، مثل قوله تعالى: (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ)، فالإذاقة هي الطرف الأوّل ـ وهي استعارة ـ لأنها خلعت سمة الذوق على اللباس، والطرف الآخر وهو (لباس الجوع) استعارة أيضاً، حيث خلعت سمة اللباس على الجوع، وهذا النمط من الاستعارة يجسد جمالية فائقة في هذا الميدان.