المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 020.doc

2- التشبيه والتضاد:

إذا كان التشبيه يتفاوت في أدواته من واحد لآخر، فإن هناك نمطاً من الشبيه لا ينظر إلى التفاوت بين الطرفين بل إلى التضاد بينهما،... وهذا من نحو قوله تعالى:

(1) (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ... كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَات).

(2) (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لأَيَخْلُقُ).

(3) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا...).

(4) (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ...).

والمسوغ الفني لهذا النمط من التشبيه هو: إبراز سمات التضاد، طالما ندرك بأن هدف التشبيه إذا كان منصباً على توضيح وتعميق الدلالة، فحينئذٍ لا ينحصر هذا الهدف في رصد علاقات التماثل بين الطرفين بل أن رصد علاقات التضاد تحقق نفس الهدف في سياقات خاصة، نظراً لأن (الأشياء تعرف بأضدادها) أيضاً، فإذا كنت تعتزم تشبيه الإيمان بالنور، والكفر بالظلمات: فحينئذٍ يكون رصدك للنور والظلمات من خلال كونهما متضادين يحقق نفس الهدف الذي يرمي إلى توضيح وتعميق الدلالة، فحينئذٍ لا ينحصر هذا الهدف في رصد علاقات التماثل بين الطرفين بل أنّ رصد علاقات التضاد تحقّق نفس الهدف في سياقات خاصّة، نظراً لأنّ (الأشياء تعرف بأضدادها) أيضاً، فإذا كنت تعتزم تشبيه الإيمان بالنور، والكفر بالظلمات: فحينئذ يكون رصدك للنور والظلمات من خلال كونهما متضادّين يحقّق نفس الهدف الذي يرمي إلى توضيح وتعميق دلالة الإيمان وافتراقه عن الكفر، عندما تشبّه الإيمان بالنور وتشبّه الكفر بالظلمات.. كل ما في الأمر أنّ السياق هو الذي يحدّد نمط التشبيه من حيث التماثل والتضاد..ففي النموذج رقم(1) على سبيل المثال، يستهدف النصّ: ليس مجرّد التوضيح بأنّ الإيمان هو نور للإنسان فحسب وإنّما يستهدف التوضيح بأن عدمه هو: ظلمات لا يمكن أن يتحملها الإنسان، إذ من الممكن أن يتخلى الإنسان عن إشباع حاجة من حاجاته دون أن يترتب ضرر معتد به على ذلك (كما لو تخلى عن وظيفة رسمية له مثلاً) لكن عندما يتخلى عن العمل أساساً حينئذ فإن (العامل) ليس كالعاطل، فيما يترتب على الأخير ما لا يتحمّل عادة، ويكون رصد التضاد بين العاطل والعامل حينئذ يفرض مسوغاته التي تستهدف توضيح قيمة العمل.

 مستويات التشبيه وأشكاله:

إذا كان هدف (التشبيه) هو: توضيح أو تعميق الدلالة، فإن الطرف الأول منه (هو المشبه) يتسم غالباً بالإجمال،.. وأما الطرف الآخر (وهو المشبه به) فيتسم بالتفصيل: لأن (المشبه به) هو الذي يقوم بتوضيح وتعميق الدلالة فيكون مفصلاً...

وهذا من نحو قوله تعالى:

(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ... إلخ).

فالمشبه هو (النور) وقد يتسم بالإجمال، وأما المشبه به فقد اتسم بالتفصيل (كمشاة، فيها مصباح، المصباح في زجاجة) أنه يستهدف توضيح وتعميق معنى (النور).

لكن قد يحدث العكس حيث يتسم المشبه بالتفصيل، والمشبه به بالإجمال، وهذا من نحو قوله تعالى: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ).

والسر في ذلك، أن (السياق) هو الذي يحدد إجمال الشيء أو تفصيله، ففي التشبيه المتقدم يظل الهدف هو توضيح الكيفية التي تتصدع السماء من خلالها حيث جاء المشبه (وهو السماء) مفصلاً لأن التصدع يتطلب تفصيلاً لمستوياته، ثم جاء المشبه به (وهو الدهان) مجملاً: لأن الهدف هو توضيح الصورة النهائية لطبقة السماء، حيث شبهها بالدهن (من حيث كونه رخواً: بعد أن كانت السماء متماسكة).

وقد يتماثل كل من المشبه والمشبه به: في الإجمال والتفصيل، حسب ما يتطلبه السياق أو الهدف من التشبيه:

فمن النوع الأول (أي: تساويهما من حيث الإجمال) قوله تعالى: (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ)، حيث اقتصر طرفا التشبيه على ظاهرتين مجملتين لم تتجاوز العبارة الواحدة (مسلمين، مجرمين) (تهتز، جان)... لأن السياق فرض مثل هذا الإجمال.

ومن النوع الآخر (أي تساويهما من حيث التفصيل) قوله تعالى: (أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالذي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إلى الْهُدَى ائْتِنا) حيث تضمن كل من طرفي التشبيه تفصيلاً مماثلاً للآخر، لأن السياق فرض مثل التفصيل للطرف الأول الذي يدعو من دون الله ما لا ينفه ولا يضره ويعود إلى الضلال بعد الهداية، ومشابهته للطرف الآخر الذي ينصاع للشيطان في حين يدعوه أصحابه إلى الهدى،... ففي الطرف الأول وثنية وعود إلى الضلال بعد الهداية، وفي الطرف الآخر غواية من الشيطان ودعوة إلى الهدى من قبل أصحابه، فيكون الطرفان متوازنين في هذا الثنائي (أي الصراع: بين الحق والباطل).

الإفراد والتركيب:

ويلاحظ: أن التفصيل قد يكون (مفرداً) بسيطاً لا يتجاوز الصورة الواحدة.. وهذا من نحو قوله تعالى:

(يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ).

فالخروج من الأجداث (الطرف الأول)، والجراد المنتشر (الطرف الآخر) يتضمنان تفصيلاً لصورة واحدة هي (الانبعاث) و(حركة الجراد)، ولكن كلاًّ منهما يتضمن تفصيلاً لفعلين (الخروج، والفزع) بالنسبة للإنسان، و(الطيران، والعشوائية) بالنسبة للجراد.

وقد يكون التفصيل (مركباً) يتألف من جملة صور...

وهذا من نحو قوله تعالى:

(وَمَثَلُ الذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ... إلخ).

فالطرف الأول يتضمن ظواهر تتصل بالإنفاق، وبكونه في سبيل الله، وتثبيتاً... والطرف الآخر يتضمن صوراً متعددة: جنة بربوة، يصيبها وابل، تؤتي أكلها...

والسياق ـ بطبيعة الحال ـ هو الذي يحدد درجة التفصيل وموقع ذلك من الإفراد والتركيب، ففي التشبيه الأول يستهدف النص القرآني الكريم، إبراز ظاهرة (الانبعاث وكيفيته) فحسب. لذلك جاء التفصيل مقتصراً على تشبيهه بالجراد المنتشر.

أما في التشبيه الآخر فقد استهدف إبراز ظاهرة الإنفاق وإثاباته المتنوعة، لذلك جاء التفصيل متنوعاً ومتكثراً بحيث يتناسب مع النتائج الكبيرة التي تترتب على الإنفاق.

 

 التفريع والامتداد والتكثيف:

يلاحظ أيضاً:

1- إن التفصيل قد يأخذ شكلاً (تفريعيّاً) بحيث تتفرع عن التشبيه صور متعددة...

وهذا من نحو قوله تعالى:

(كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ...).

2- وقد يأخذ (شكلاً امتدادياً) بحيث تتجاوز الصور واحدة إلى جنب الأخرى... من نحو قوله تعالى:

(كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ...) (كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ...).

3- وقد يأخذ (شكلاً مكثفاً) تتجاوز الصور فيه وتتفرع بحيث يجمع بين صفتي التفريع والامتداد... وهذا من نحو قوله تعالى:

(كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي‏ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ...) حيث تفرّع من الكوكب: إيقاد، وحيث تفرّع الإيقاد من الشجرة، وحيث تجاورت صور الشجرة التي تضمنّت كونها مباركة، زيتونة، لا شرقية ولا غربيّة يكاد زيتها يضيء... إلخ.

ومن الطبيعي، أن كلاًّ من التفريع والامتداد والتكثيف: تفرضها السياقات التي وردت التشبيهات من خلالها. فالصورة الأخيرة - على سبيل المثال - تناول تشبيه النور - (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ)بظواهر متنوعة ذات تفريع وامتداد وتكثيف يتناسب مع ضخامة وتنوع وتشابك المعطيات التي يغدقها الله تعالى على الوجود، ولا شيء - بطبيعة الحال - يمكن أن تقاس معطياته بمعطيات الله تعالى، ولذلك جاءت هذه الصورة التشبيهية متفردة في صياغتها المدهشة، (من حيث التكثيف الصوري فيها) بالقياس إلى الصور التشبيهية الأخرى.

التشبيهات المتقدمة تمثل نمطاً من التشبيه الذي تتفرع عنه أو تتجاوز معه أو تتكثف فيه صور مرتبطة بذلك التشبيه. وهو نمط يختلف عن نمط آخر من التشبيه الذي يتداخل مع تشبيه آخر في سورة واحدة، وهو ما نطلق عليه اسم:

التشبيه المتداخل:

التشبيه المتداخل هو أن يتداخل تشبيهان أو أكثر بعضها مع الآخر بحيث يترتب التشبيه اللاحق على سابقه، وهو على أنواع:

1- التشبيه الذي يترتب عليه تشبيه آخر: يتناول كل منهما ظاهرة تترتب عليها أخرى،... وهذا من نحو قوله تعالى:

(كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)

فقد شبه طعام النار بـ(المهل) من حيث تناوله، ثم شبه المهل بـ(غلي الحميم) من حيث تمثيله (أي): انعكاسات ذلك على عملية الهضم في الداخل.

ويحتمل أن يكون تشبيه الطعام بالمهل (من حيث ذوبانه) ثم تشبيه الطعام أيضاً بالحميم (من حيث غليانه) فيكون هذا التداخل بين التشبيهين من النوع الذي يتناول فيه كل منهما وجهاً واحداً من أوجه الشبه للطعام، فيصبح نمطاً آخر من التشبيه الذي نتحدث عنه الآن:

2- التشبيه الذي يترتب عليه تشبيه آخر على نحو التوالي: بحيث يتناول كل منهما وجهاً من أوجه الشبه يختلف عن الآخر،... وهذا من نحو قوله تعالى: (تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ).

حيث شبه (الشرر) بالبنيان (من حيث ضخامته)، وشبه (الشرر) أيضاً بالناقة الصفراء (من حيث لونه) فيكون معنى التشبيه أن النار ترمي بشرر كالقصر في ضخامته وكالناقة الصفراء في لونه. (ويحتمل أن يكون تشبيه الشرر بالبنيان من حيث ضخامته، ثم تشبيه البنيان بالناقة الصفراء من حيث لون البنيان، فيكون هذا النمط من التشبيه منتسباً إلى النوع الأول، أي التشبيه الذي يتفرع تشبيه آخر.

3- التشبيه الذي يترتب عليه تشبيه آخر ثم يترتب على التشبيه تشبيه ثالث؛ بحيث يصب التشبيهان في دلالة واحدة... هذا من نحو قوله تعالى:

(لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذى كَالذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً...)

فقد شبه أولاً المنان بالمرائي، ثم شبه كلاًّ من الرجل المنان والرجل المرائي بتشبيه آخر هو: الحجر الذي أصابه المطر وأزال ترابه فصار صلداً لا يمكن رد التراب إليه.

4- التشبيه الذي يترتب على تفريعاته: تشبيه آخر... وهذا من نحو قوله تعالى:

(كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ).

حيث شبه النور بالمشكاة، ثم رتب على المشكاة صوراً أخرى هي المصباح، ثم الزجاجة، ثم شبه الزجاجة بالكوكب الدري، فجاء التشبيه الأخير مترتباً على فروع التشبيه الأول وليس على أصله.

طبيعياً، يظلّ لكل نمط من هذه التشبيهات المتداخلة مسوغة الفني الذي يفرضه السياق... ففي النموذج رقم (1) كان النص في صدد توضيح جانبين من طعام النار: تناوله وتمثيله في المعدة، فتم تقديم تشبيه متداخل يتناول الأول منه: تناول الطعام وهو (المهل) الذي يرمز إليه، ويتناول الآخر منه تمثيله في المعدة وهو (الحميم). لذلك جاء أحدهما مترتباً على الآخر، كتناول الطعام وترتب تمثيله عليه.

وفي النموذج رقم (2) كان النص في صدد تبيين الشرر من حيث ضخامته ولونه، فتم تقديم تشبيه متداخل يتناول الأول منه: حجم الشرر، والآخر: لونه.

وفي النموذج (3) كان النص في صدد توضيح بطلان الصدقة المشفوعة بالمن، وبما أن المن يفسد العمل حينئذٍ كان لابد من تقديم تشبيه (متداخل) يتضح من خلاله هذان الجانبان، فتم تقديم تشبيه يوضح أولاً ما هو بديهي في ذهن الناس وهو عمل المرائي نظراً لوضوح كونه عملاً للناس وليس لله تعالى، ثم وصل هذا العمل بعمل المنان واشتراكهما في خصيصة متشابهة،.. ولذلك تم ثانياً تقديم تشبيه مشترك بينهما وهو: الحجر الذي أصابه وابل...

وفي النموذج رقم (4) كان النص في صدد توضيح معطيات النور، فكان لا بد من تشبيه متداخل يتضح من خلاله معطى النور من حيث تفريع أحد المعطيات من الآخر وهو المشكاة التي هي كوة أو عمود، ثم وضع المصباح فيهما أي السراج ثم وضعها في الزجاجة (وهذه هي هيئة الإنارة) لكن بما أن الزجاجة هي تعكس الأضواء، لذلك جاء الزجاج دون سواه من أدوات الإنارة هو المسوغ لصياغته (تشبيهاً) يتداخل مع الكوة أو العمود الذي تنبعث منه الإنارة.

إذاً: أمكننا أن نتبين أسرار التشبيه المتداخل ومسوغاته بالنحو الذي أوضحناه.

 

 التشبيه المتكرّر:

وهو أن أكثر من تشبيه واحد على نحو التتابع وليس على نحو التجاور أو التفريع... وهذا يتم على مستويات متنوعة، منها:

1- أن يتكرر التشبيه، بهدف التأكيد على ظاهرة من الظواهر، من نحو قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً)... والمسوغ الفني لتكرار الأداة وطرفيها، هو التأكيد على مدى انغلاق الكافر ومكابرته بحيث يصر على عدم سماع الآيات بنحو وكأنه لم يسمعها أساساً،... بل كأن في أذنيه ثقلاً يحتجزه عن السماع،.. وهذا هو أشد درجات العتو والمكابرة.

2- أن يتكرر التشبيه أيضاً: لكن ليس بهدف التأكيد، بل بهدف توضيح المواقف المتنوعة، وهذا من نحو قوله تعالى بالنسبة لتواطؤ اليهود والمنافقين:

(كَمَثَلِ الذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكَ...)

والمسوغ الفني لمثل هذا التكرار هو اختلاف السياق من حيث المواقف، ففي التشبيه الأول مقارنة الموقف بخسارة دنيوية هي (الهزيمة العسكرية)، وفي التشبيه الآخر مقارنة الموقف بخسارة أخروية هي (شماتة الشيطان عند الحساب...).

ويلاحظ في هذا النمط من التشبيه (والتشبيه السابق أيضاً) أن أداة التشبيه (كأن): في النموذج الأول، و(الكاف) في النموذج الآخر قد تكرر كل منهما مع التشبيهين، نظراً لأن التأكيد وتنوع المواقف يتطلب تكرار الأداة، حيث أن التأكيد على عدم السماع في النموذج الأول يتطلب أن يكون تكراره مقروناً بأداة مؤكدة كما هو واضح، وحيث إن تنوع المواقف من النموذج الآخر يتطلب تكراراً للأداة في تجربة دنيوية، وتكرارها في تجربة أخروية فيما لا يحسن اشتراكهما في أداة واحدة، وهذا على العكس من نموذج ثالث هو:

3- أن يتكرر التشبيه، لهدف خاص هو: المقارنة بين الطرفين، وهذا من نحو قوله تعالى عن المؤمن والكافر: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) فقد استهدف النص تشبيه الكافر بالأعمى من جانب، وتشبيهه بالأصم من جانب آخر مقابل المؤمن الذي شبهه بالبصير من جانب والسميع من جانب آخر... ويلاحظ أن هذا التشبيه قد جمع إلى جانب السمة التكرارية، سمة أخرى هي: ما يسميه البلاغيون القدامى بالتشبيه (الملفوف) حيث يجمع (المشبه) اثنين فصاعداً على نحو العطف، ثم يجمع (المشبه به) أيضاً على نحو العطف، حيث جمع الأعمى والأصم مقابل البصير والسميع.

والمسوّغ الفني لمثل هذا التكرار والصياغة هو: أنّ البصر والسمع هما أشدّ الحواس التقاطاً للحقائق مقابل حاسّة الذوق أو اللّمس أو الشم، لذلك جمعهما في تشبيه متكرّر،... كما أنّه للسبب ذاته، جمعهما في آنٍ واحد مقابل جَمْعِه بين المؤمن والكافر في سياق مقارنة أحدهما بالآخر، ولهذا السبب أيضاً لم تكن ضرورة لتكرار أداة التشبيه بل اكتفي باستخدامهما مرّة واحدة.