المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 002.doc

التّمهيد

قد يتساءل القارئ عن المسوّغ الذي دفعنا إلى أن ننتخب عنوان (البلاغة الإسلاميّة) بدلاً من البلاغة التّقليديّة التي أعتيد تدريسها في المؤسّسات الثّقافيّة؛ مثل الحوزة والجامعة وغيرهما.

البلاغة القديمة تطبعها جملة من العيوب التي لا يمكن التّغاضي عنها؛ بخاصّة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ صياغة قواعدها تمتدّ إلى أكثر من ألف عام، حيث حدثت تطوّرات فنّيّة خلال هذا الزّمن؛ بنحو يجعل البلاغة الموروثة قاصرة عن تمثّل ذلك -بطبيعة الحال.

طبيعيّاً؛ نحن لا نملك الحقّ في مطالبة البلاغيّين القُدامى بأن يتجاوزوا حدود زمنهم، وأن يصوغوا القواعد التي لا تسمح بها ثقافتهم الفنّيّة آنذاك، ولكنّنا نملك الحقّ في توجيه اللّوم إلى المعاصرين الذين جمدوا على قواعد أسلافهم؛ بحيث يمكن القول بأنّ دراساتهم للبلاغة التّقليّدية أفسدت أذواقهم وعطّلتها بدلاً من أن تُنميها وتصقلها...

صحيح أنّ قسماً من هذه القواعد لا يزال يحتفظ بفاعليّته وصوابه؛ إلاّ أنّ قسماً آخر منه يظلّ موسوماً بعيوبٍ يمكن إجمالها في النّقاط الآتية:

1- عدم شموليّتها لجميع القواعد؛ بمعنى أنّ البلاغة القديمة لم تتناول كلّ أشكال الفنّ وكلّ قواعده، بل اقتصرت على البعض منها دون البعض الآخر...

فالقصّة - على سبيل المثال - مع أنّها تحتلّ مساحة كبيرة من نصوص القرآن الكريم لم تتحدّث البلاغة القديمة عنها حتّى بكلمة واحدة، علماً بأنّ بعض البلاغيّين يصرّح بأنّ هدفه هو: دراسة الإعجاز القرآني الكريم، فكيف يهمل أهمّ عناصر هذا الإعجاز وهو: القصّة القرآنيّة!

2- تتّسم البلاغة القديمة بالتّناول (الجزئي) للنّصّ بدلاً من التّناول (الكلّي) له؛ بمعنى أنّ قواعدها تتناول المُفردة أو الجُملة أو الفقرة فحسب؛ حيث تحصر ذلك في نطاق المسند والمسند إليه وقيودهما من حيث الذّكر والحذف والتّقديم والتّأخير والتّعريف والتّنكير.. إلخ، في (حقل المعاني)، وفي نطاق التّشبيه والاستعارة والكناية.. إلخ، في (حقل البيان)، وفي نطاق المحسنات اللّفظيّة والمعنويّة، في (حقل البديع)، وهي جميعاً لا تتجاوز المفردة أو الجملة أو الفقرات المحدودة؛ علماً بأنّ النّصّ الأدبي لا تنحصر جماليّته في فقراتٍ أو آياتٍ مستقلّة، بل في كونه جملاً أو آياتٍ يرتبط بعضها مع الآخر، ويخضع لهندسةٍ خاصّة من حيث تنسيق الأفكار والمواقف. فمثلاً لو تناولنا (سورة الكهف) وأخضعناها للتّناول الجزئيّ لَما خرجنا بأكثر من آياتٍ أو جُمل متناثرة منفصل بعضها عن البعض الآخر على نحو الأعضاء المنفصلة عن جسم الإنسان، كاليد أو الوجه أو الصّدر.. لكنّنا لو أخضعناها للتّناول الكلّي لخرجنا بنتيجة أُخرى هي مواجهتنا لنصّ فنّي متناسق الأجزاء على نحو التّناسق الذي نلحظه في تركيبة الجسم البشريّ، أو سائر الأجسام أو الأشكال الطّبيعيّة والمُصطنعة، فالسّورة بدأت بطرح فكرة خاصّة، هي نبذ زينة الحياة الدّنيا (إنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُم...) ثمّ قدّمت قصّة (أهل الكهف) لتجسّد لنا مفهوم (نبذ الزينة) عمليّاً من خلال اللّجوء إلى الكهف، ثمّ طرحت فكرة نبذ الزّينة من جديد حينما قالت: (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنهُمْ تُريدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيا) حيث أعقبتها بقصّة جديدة هي قصّة صاحب الجنّتين الذي بهرته - على عكس أصحاب الكهف - زينة الحياة الدّنيا؛ بحيث ظنّ أنّ جنّتيه لن تبيدا أبدا، بل شكّك حتّى بقيام السّاعة. ثمّ تقدّم النّصّ بطرح فكرة زينة الحياة الدّنيا للمرّة الثّالثة؛ حينما قال: (المالُ وَالبَنُونُ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيا...) بعد ذلك قدّم قصّتين: إحداهما عن شخصيّة موسى والعالم، والأُخرى عن شخصيّة ذي القرنين؛ حيث جسّد العالم شخصيّة مبهمة منعزلة عن الدّنيا، وحيث جسّد ذو القرنين شخصيّة مشهورة ملكت شرق الأرض وغربها، إلاّ أنّها لم تبهرها زينة الحياة الدّنيا كما بهرت صاحب الجنّتين... فالمُلاحظ هُنا أنّ السّورة الكريمة قد ارتبط بعضها مع الآخر؛ بحيث لم تفصل الآيات بعضها عن البعض، كما لم يفصل نثرها القصصيّ عن نثرها غير القصصيّ، بل تلاحمت جميعاً وفق تخطيط هندسيّ قائم على فكرة (زينة الحياة الدّنيا) بالنّحو الذي لحظناه، وهو تخطيط يقابل بين أشخاص نبذ بعضهم زينة الحياة، وتشبّث البعض الآخر بها، ويقابل بين أشخاص تملّك بعضهم مزرعة صغيرة فبهرته، بينما تملّك بعضهم كلّ بقاع الأرض: شرقها وغربها، دون أن تبهره الزّينة المذكورة...

إذاً: كم يتحسس القارئ بجماليّة النّصّ الأدبيّ وحيويّته؛ حينما يتناوله من خلال (الكلّ) وليس من خلال (الجزء) الذي يطبع البلاغة القديمة.

3- العيب الثّالث الذي يطبع البلاغة الموروثة هو:

خطأ المفهومات البلاغيّة ذاتها... فمثلاً نجد في حقل (التّشبيه) أنّ البلاغيّين يذكرون بأنّ (التّشبيه البليغ) ـ وهو ما حُذفت منه أداة الشّبه ووجه الشّبه ـ أشدّ بلاغة من التّشبيه المقترن بالأداة، وأنّ (تشبيه التّمثيل) ـ وهو ما كان وجه الشّبه فيه مُنتزعاً من أطراف متعدّدة ـ أشدّ بلاغة من غيره... إنّ أمثلة هذه المعايير فضلاً عن أخطائها الملحوظة التي تشتمل على التّناقض بينها؛ تنطوي أيضاً على خطأ المعيار ذاته. أمّا التّناقض فيتمثّل في ذهابهم إلى أنّ التّشبيه الذي حذفت أداته ووجه الشّبه فيه هو أبلغ من غيره؛ يتناقض مع ذهابهم إلى أنّ التّشبيه الذي تتعدّد أوجه الشّبيه فيه هو أبلغ من غيره؛ فإذا كان حذف وجه الّشبه دلالة على بلاغته، فكيف يصبح تعدّد وجه الشبه دلالة على بلاغته أيضاً؟! أليس هذا تناقضاً واضحاً بين المعايير؟! وأمّا خطأ المعايير ذاتها فيتمثّل في ذهابهم إلى كون التّشبيه الذي حذفت أداته ووجه الشّبه هو أبلغ من غيره؛ حيث يترتّب على ذلك أن تكون تشبيهات القرآن الكريم مثلاً ـ وهي في الغالب تشتمل على ذكر الأداة ووجه الشّبه ـ أقلّ بلاغة من التّشبيهات التّي يصوغها البشر، وهذا هو (الكفر) بعينه ببلاغة القرآن.

وما نلحظه من خطأ المعايير البلاغيّة الموروثة في ميدان ما يسمّى بـ(علم البيان) نجده في علمي (المعاني) و(البديع) أيضاً... فلو وقفنا ـ على سبيل المثال ـ عند معايير (السّجع) للحظنا أنّ البلاغيّين يزعمون بأنّ أحسن السّجع ما تساوت عبارته، ثمّ ما طالت عبارته الثّانية، ثمّ ما طالت عبارته الثّالثة، ولا يحسن عكس ذلك... ويعلّلون ذلك بتعليلٍ يفتقر إلى معرفة أبسط المبادئ النّفسيّة؛ حيث يدّعون بأنّ السّامع إذا واجه عبارة أقصر من الأُولى؛ يكون في استجابته للنص متعثّراً.

ترى: هل أنّ قوانين الإدراك البشري وما يُواكبها من قوانين الاستجابة تؤيّد مثل هذه المزاعم التي ينثرها البلاغيّون؛ دون أي يلمّوا بمبادئ الإدراك البشريّ وطرائقه...؟!

أصحيح أنّ استجابة الإنسان لجمال العبارة ينحصر في مواجهته لعبارة قصيرة؛ ثمّ لعبارة تكبر عن الأُولى؛ ثمّ لعبارة تكبر عنهما... إلخ.

إن أمثلة هذه المبادئ - فضلاً عن كونها لا تتّسق مع قوانين الإدراك البشريّ؛ حيث إنّ هذه القوانين تُخضع كلّ شيء للسّياق؛ بحيث تصحّ القاعدة التي ذكرها البلاغيّون في سياقٍ خاص، ولا تصحّ في سياق آخر، حيث يكون العكس هو الصّحيح ـ...

أقول: إنّ معايير البلاغيّين المُشار إليها ـ فضلاً عن كونها منافية لأبسط مبادئ التّذوّق الفنّي، فإّنها مخالفة لبلاغة القرآن الكريم ذاته... فكم من عبارات مسجوعة؛ تبدأ طويلة ثمّ تقصر، أو تبدأ قصيرة ثمّ تطول، ثمّ تقصر من جديد، أو تتوازن حيناً، وتتأرجح بين الطّول والقصر حيناً ثالثاً وهكذا بالنّحو الذي سنلحظه عند حديثنا عن (العنصر الإيقاعي) في البلاغة...

إذن: إنّ أمثلة هذه المعايير تظلّ منافية لمبادئ المعرفة، ولبلاغة القرآن ذاته. حينئذ هل يصحّ أن نعتمد على هذه المعايير المنحرفة عن القرآن وبلاغته في حقل البلاغة القديمة؟

إنّ هذه العيوب ونظائرها - ممّا نعرض له خلال هذا الكتاب - تحملنا على إعادة النّظر في البلاغة الموروثة، ومحاولة صياغتها من جديد في ضوء النّصوص الشّرعيّة (الكتاب) و(السنّة) حيث نحاول أن ننتزع قواعدها من نصوص القرآن الكريم وأحاديث النّبي (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السّلام)، وهي نصوص إعجازيّة تخطّت حدود الزّمن؛ بحيث صيغت بنحوٍ تتوافق مع سائر التّطوّرات التي شهدتها العصور الأدبيّة، ومنها: (المعايير البلاغيّة الحديثة).

طبيعيّاً؛ إنّ الإسلام لم يقدّم لنا قواعد جاهزة، بل قدّم لنا نصوصاً تنطوي على القواعد المُشار إليها، والسّرّ في ذلك هو: أن المشرّع الإسلاميّ؛ سمح لكلّ شخص بأن يستخلص القواعد وفقاً لطبيعة الثّقافة التي تغلّفه والبيئة التي ينتسب إليها، إلاّ فى نطاق محدّد من القواعد العامّة التي تشكّل تراثاً مشتركاً لجميع الأزمنة، وهذا من نحو القاعدة العامّة التي صاغها الإمام الصادق (عليه السلام) في تحديده لبعض جوانب البلاغة؛ حيث قال: (ثلاثة فيهنّ البلاغة: التّقرّب من معنى البغية، والتّبعّد من حشو الكلام، والدّلالة بالقليل على الكثير).

فدقّة المعنى والتّركيز والاقتصاد لغويّاً: تظلّ معايير فنّيّة لا تخصّ ذوقاً أو جيلاً دون آخر، بل تشكّل معايير عامّة لمطلق الأزمنة، ولذلك أكسبها الإمام (عليه السلام) سمة (القاعدة) في حين أنّه (عليه السلام) نسج صمتاً حيال القواعد البلاغيّة الأخرى حتى يترك لنا ـ نحن المعنييّن بشؤون الفنّ ـ أن نُعنى باستخلاص القواعد وفقاً لطبيعة البيئة التي تفرض هذه القاعدة أو تلك. فمثلاً؛ نجد أنّ العصر الحديث قد اعتمد (النثر المرسل) بدلا من (النّثر المقفّى) أو ما يسميه البلاغيّون بـ(السجع) وقد تجيء أجيال جديدة فتعتمد النّثر المقفّى من جديد مثلاً... وهذا يعني أن الإرسال أو التّقفية تظلّ مجرّد وسائل جماليّة تفرضها مواضعات البيئة... ولذلك نجد أنّ القرآن الكريم مثلاً أو النّصوص الأدبية المأثورة عن النّبيّ وأهل البيت (عليهم السّلام) تجمع بين النّثر المرسل والنّثر المقفى، فنجد سورة قصيرة مثل سورة (النصر) قد اعتمدت (النّثر المرسل) في آياتها الثلاث، ونجد سورة قصيرة أخرى ذات ثلاث آيات أيضاً؛ قد اعتمدت (النثر المقفى) وهي سورة (العصر) وهذا يعني أنّ النّصّ القرآني الكريم قد راعى- من جانب - لغة العصر؛ حيث ّكان النثر المقفى في العصر الجاهليّ يقف قبالة الشّعر المقفّى، حتى لكأنّ الفارق بين النّثر والشّعر آنذاك هو: انتظام الوزن في تفعيلاته المعروفة فحسب، ولكنّ القرآن - من جانب آخر - راعى مطلق المعايير الفنّية متمثّلة في (النثر المرسل) الذي يظلّ طابعاًً لكلّ الأجيال الأدبيّة، قديماً وحديثاً... مما يعني أنّ هناك معايير مطلقة في (البلاغة الإسلامية) لا تخصّ بيئة دون أُخرى، مقابل معايير (نسبيّة) تراعى من خلالها طبيعة المرحلة التّاريخية التي تطبع هذا العصر أو ذاك.

انطلاقاً من هذه الحقائق نحاول في هذا الكتاب أن نقدّم البلاغة الإسلامية وفق مبادئ مستقاة من النّصوص الشّرعيّة من جانب بصفة أنّها تشتمل على ما هو عامّ وخاصّ، حيث نستخلص منها ما هو عامّ، وأن نستخلص - من جانب آخر - مناهج جديدة مستقاة من روح التّشريع الإسلاميّ؛ مما أُتيح لمناخنا المعاصر أن يتوفّر عليها، وهو مناخ يفرض علينا أن نخطّط لمنهج بلاغيّ يختلف بطبيعة الحال عن المنهج البلاغيّ القديم في تصوّراته التي أشرنا إلى جانبٍ منها، مع ملاحظة أنّنا سوف نحتفظ - في الآن ذاته - بالخطوط الأصلية التي توفّرت البحوث البلاغيّة الموروثة عليها...