المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 014.doc

النفي

قلنا أن النفي هو مقابل للإثبات، ونعني به مطلق الظواهر التي تشير إلى ما هو معدوم، مقابل ما هو موجود سواء أكان العدم نفياً للشيء أو نهياً عنه(1).

والنفي بعامّة، لا ينطوي على سرّ بلاغي بقدر ما تقترن به من الأساليب، فقد نستخدم أدوات النفي مثل (لم، لما، لن.. إلى آخره)، أو النهي مثل (لا)، أو الألفاظ الدالّة عليه، مثل (إيّاك) (توقّ)، فنكون أمام تعبير عادي عن الأشياء، إلا أن السياق والأسلوب هما اللذان يخلعان على الظاهرة المنفيّة أو المنهي عنها، بعداً بلاغياً.

ويمكننا أن نعرض لجملة من السياقات والأدوات المقترنة بها، من نحو:

- النفي من خلال الدعاء مثل قوله (عليه السلام): (لا سُدّدتم لرشد، ولا هُديتم لقصد).

- النفي من خلال التتابع (لا أعبد.. ولا أنتم.. ولا أنا عابد ما عبدتم).

- النفي من خلال التهديد (وما أدراك ما العقبة).

- النفي من خلال الشرط (إلاّ تفعلوه، تكن..).

- النفي من خلال التأبيد (فإن لم تفعلوا، ولن تفعلوا...).

- النفي من خلال التضاد (فإنه ـ والله تعالى ـ الجدّ لا اللعب، والحق لا الكذب).

- النفي من خلال الاستدراك (ما كان محمدٌ أبا أحد... لكنّه...).

- النفي من خلال الاستثناء (ما آمن معه إلاّ قليل...).

- النفي من خلال الحصر (ما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو)...

فالملاحظ في هذه النماذج أن النفي قد اقترن بأساليب تخلع عليه طابع الإثارة. فالنموذج الأوّل مثلاً دعاء وتهديد يستشعر معه القارئ مدى ما ينطوي عليه النفي من إثارة عاطفيّة حينما يخاطبون بألاّ يسدّدوا لرشد، ألاّ يهدوا لقصد (لا سددتم لرشد) (ولا هديتم لقصد). وكذلك قوله (عليه السلام): (فإنه ـ والله تعالى ـ الجدّ لا اللعب، والحقّ لا الكذب) تستشعر من خلاله مدى الإثارة العاطفية التي (تنفي) اللعب عن مهمة البشر العبادية، مقرونة بالقسم بالله تعالى وبتأكيد الظاهرة من خلال (إنّ) ثم من خلال قيامها على التضاد حيث جاء النفي وهو اللعب ـ مضاداً لما أقسم عليه وهو (الجدّ) كما جاء (الكذب) مضاداً لما أقسم عليه وهو (الحق) مضافاً إلى تتابع ظاهرتين واحدة بعد الأخرى: كما لحظنا...

وهكذا بالنسبة لسائر الأساليب التي اقترنت بالنفي مما يعني ذلك أن السياق من جانب والأداة المقترنة بالنفي من جانب، يكسبان النص بعده البلاغي المطلوب.

بيد أن ما ينبغي لفت النظر إليه هو أن الأدوات التي لحظناها مقترنة بالنفي تقترن في الحين ذاته بالإثبات، وهذا ما يقتادنا إلى عرض أهم المبادئ البلاغية التي  تتأرجح بين النفي والإثبات، متمثّلة بخاصّة في الظواهر الآتية:

1- الاستثناء

2- الاستدراك

3- القصر

4- الترتب

مضافاً إلى ظواهر ندرجها في أبواب أخرى في هذا الكتاب، ولكنّنا نعرض هنا الظواهر الأربع المشار إليها نظراً لتأرجحها كما كرّرنا بين الإثبات والنفي الخاصّين بهذا الفصل.

ونبدأ بالحديث عن:

الاستثناء

الاستثناء هو: إخراج الشيء من حكم ما قبله، أي الحكم بشيء ثم استثناه غيره منه، مثل قوله تعالى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلأَقَلِيلاً) وقوله تعالى: (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلأَقَلِيلٌ)، حيث حكم النص على الإسرائيليين بالشرب من النهر واستثنى القليل منهم، وحيث حكم عليهم بعدم الإيمان واستثنى القليل منهم.

 مستوياته:

ينشطر الاستثناء إلى نمطين هما:

1- الاستثناء من خلال الإثبات، مثل (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلأَقَلِيلاً).

2- الاستثناء من خلال النفي (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلأَقَلِيلٌ).

فالأوّل منهما قد استثنى القلّة التي لم تشرب من الكثرة التي شربت، والآخر قد استثنى القلّة التي آمنت، من الكثرة التي لم تؤمن.

ولكلٍّ مسوّغاته:

فالاستثناء المثبت، يستهدف التأكيد على (وجود) الشيء، واستثناء (عدمه) والمنفي يستهدف عكس ذلك، ففي الأوّل: أراد النص أن يبرز السلوك السلبي للقوم لأنّه كان في صدد عرض سلسلة طويلة من سلوك الإسرائيليين المتميز بعدم الطاعة لمتبوعيهم، فأبرزه من خلال (إثبات) نموذج منه (وهو الشرب). وفي الآخر: أراد النص أن يبرز قضيّة (الإيمان) ـ وليس قضيّة عدم الإيمان ـ فأبرزها من خلال (نفيه) عن الغالبية وجعله في (القلّة) فحسب، ولكنّه في الحالين قد استخدم مصطلح (القليل) أي أن النص حكم على أن (القليل) منهم بأنّه مارس سلوكاً إيجابياً هو (عدم الشرب) وحكم على (القليل) منهم بأنّه مارس سلوكاً هو (الإيمان) إلا أن القليل الذي لم يشرب لم يكن هدفا للنص بل (لكثير) بالنسبة إلى النص الأول. وبالعكس فلأن هدف النص ـ في العبارة الثانية ـ هو إبراز (القليل) الذي آمن بموسى (عليه السلام).

لذلك فإن النكتة البلاغية لهذا الفارق بين نمطي الاستثناء تتمثل في طبيعة (الفكرة) التي يستهدفها النص، فإذا استهدف إثبات شيء ـ إيجاباً كان أو سلباً ـ استخدم العبارة المثبتة واستثنى (أي غير المسبوقة بأداة النفي)، وإذا أراد نفي شيء ـ إيجاباً كان أو سلباً ـ استخدم العبارة المسبوقة بأداة (النفي). وهو أمر يرجع ـ كما لحظنا في الحقل الخاص بالتقديم والتأخير ـ إلى (تقديم) ما يستهدف التأكيد عليه بصورة رئيسة...

 أدواته:

للاستثناء أدواته المتعددّة، بحيث لا تنحصر في عبارة (إلاّ) كما لا تنحصر الأدوات المقترنة به، في عبارتي (ما) (لا) النافيتين اللّتين تقترنان مع الاستثناء في نمطه الثاني (الاستثناء من خلال النفي).

1- بالنسبة إلى أدوات الاستثناء، ترد عبارات من نحو (خلا) (عدا) (حاشا) (غير) إلى آخره.

2- بالنسبة إلى الأدوات المقترنة به (في حالة النفي) ترد أدوات من نحو الأداة (إنّ).

3- هناك أدوات استفهامية تتضمن دلالة أدوات النفي، مثل (هل) (من).. إلخ.

دلالته:

يتقسم الاستثناء - من حيث دلالته - إلى نمطين:

1- الاستثناء الحقيقي:

ويقصد به ما ذكرناه من الاستثناء الذي يتضمّن وجود الشيء: واستثناء (عدمه)، أو العكس، يتضمن (عدم) الشيء: واستثناء (وجوده)، حيث ينحصر في نمطيه اللذين ذكرناهما (فشربوا منه إلا قليلا) (ما آمن معه إلا قليل).

2- الاستثناء المجازي (أو القصر):

ويقصد به ما لا يتضمن استثناء حقيقيّاً لما هو موجود أو معدوم، بل هو مجرّد استثناء يقترن بأداة النفي على نحو المجاز؛ بهدف التأكيد على الشيء، والقصر سمة خاصّة به، مثل قوله تعلى: (وَما مُحَمَّدٌ إِلأَرَسُولٌ)، فالأداة (إلا) ليست استثناءً بل (قصراً)(2) أي أن النص لم يرد أن ينفي الرسالة عن غير محمد (صلى الله عليه وآله) بل أراد التأكيد على أنه (صلى الله عليه وآله) (رسول)، ولو كان يستهدف نفي الرسالة عن الآخرين لقال: (لا رسول إلا محمد)، والفارق بين العبارتين من الوضوح بمكان كبير، لأن عبارة (ما محمد إلا رسول) تعني أنّه يحمل صفة خاصّة، وحمل الصفة الخاصة لا تعني نفيها عن الآخرين، وهذا على العكس من عبارة (لا رسول إلا محمد) حيث تعني: نفي الرسالة عن غير محمد (صلى الله عليه وآله).

 ملاحظات:

لا قيمة لما يذكر البلاغيّون والنحويّون من الفارق بين ما أسموه بالاستثناء المنقطع وتمييزه عن الاستثناء المتصل مثل قولهم: (جاء القوم إلا أمتعتهم) و(جاء القوم إلا علياً)، ففي الحالتين استثنينا من المجيء (شيئاً) هو: المتاع أو الشخص، وحينئذ لا مسوّغ بأن يسمى هذا النوع من الاستثناء بأنه استدراك أو استثناء غير حقيقي كما ذهب القدماء إلى ذلك.

الاستدراك

إذا كان الاستثناء هو: إخراج الشيء من عمومه، فإن الاستدراك هو إخراج الشيء أيضاً، إلا أنه مقترن بعنصر هو (إزالة التوهم) عن العموم، سواء أكان ذلك على نحو الواقع أو اصطناعه. فإذا قيل: (قُمِ اللَّيْلَ إلاّ قَلِيْلاً) نكون حينئذ أمام (استثناء) لحقيقة ثابتة هي: استثناء النوم القليل وإخراجه من عموم القليل. أمّا إذا قيل: (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلأَتَذْكِرَةً...) نكون حينئذ أمام استثناء يقترن بعنصر هو (إزالة التوهّم) الحاصل من أنّ نزول القرآن هو للشقاء.. ولذلك، جاء الاستدراك ليقول: (إلا تذكرة ـ أي: بل هو تذكرة)، أو (لكنه هو تذكرة) وليس شقاءً، حيث أن عبارة (إلا) تجيء هنا بمعنى (بل) أو (لكن) ونحوهما من أدوات الاستدراك التي سنعرض لها.

 مسوّغاته:

الاستدراك تتضح دلالته تماماً إذا أخذنا بنظر الاعتبار، أن الإنسان من الممكن أن يتوهّم، او ان كاتب النص  لغرض تثبيت إحدى الحقائق ـ يصطنع موقفاً هو: أنّه يفترض وقوع المخاطب ـ القارئ أو المستمع ـ في التوهم، فيجيء بعبارة استدراكية يزيل بها التوهم المفترض، وبذلك يكون قد أكّد الحقيقة التي استهدفها: من خلال الأسلوب المذكور، فإذا قلتا (ما تحدّثنا بالباطل: لكن بالحق) نكون بذلك قد افترضنا أن المخاطب (يتوهّم) بأنّنا نتحدّث عن الباطل، فأزلنا توهّمه المفترض من خلال الأداة الاستدراكية، لنثبت بذلك حقيقة نستهدفها هي أنّنا نتحدّث حقّاً...

 مستوياته:

قلنا إن الاستدراك ينقسم إلى نمطين هما:

1- الاستدراك الواقعي: وهو دفع التوهّم الذي يحصل حقيقة، مثل قوله تعالى: (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً - سُبْحانَهُ - بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ)(3).

حيث توهّم المشركون اتخاذه تعالى للولد، فدفع عنهم هذا التوهم من خلال الاستدراك المذكور متمثلاً في الأداة (بل).

2- الاستدراك المجازي: وهو الاستدراك الذي يقوم على اصطناع دفع التوهّم، مثل قوله تعالى: (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلأَتَذْكِرَةً).

فالاستدراك هنا مجازي بدليل أنّه (صلى الله عليه وآله) يعرف ذلك، إلا أن النص القرآني الكريم من أجل التخفيف عن النبي (صلى الله عليه وآله) أكّد الحقيقة المذكورة، أي أنّه تعالى من أجل التأكيد للحقيقة، استدرك ذلك من خلال الأداة المتقدّمة.

 دلالته:

الاستدراك - من حيث دلالاته - نمطان:

1- أوّلي

2- ثانوي

1- الاستدراك الأولي:

ويقصد به (دفع توهّم الشيء) من خلال إزالة موضوعه أساساً، كمن يتوهّم مثلاً بأنّ الشهداء أموات، فاستدرك على ذلك التوهّم بالقول: (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) أو كمن يتوهّم مثلاً بأنّ محمد (صلى الله عليه وآله) كان أبا أحد من الناس فيستدرك على ذلك التوهّم، بالقول: (ولكن رسول الله...).

أو كمن يتوهّم مثلاً بأن نزول القرآن هو للشقاء، فيستدرك على ذلك، بالقول: (إلا تذكرة).

وهذا النمط من الاستدراك يتم على ثلاثة مستويات:

1- أن تكون إزالة الموضوع: من خلال ضده، مثل (وَلا تَحْسَبَنَّ الذينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ) و(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى * إِلأَتَذْكِرَةً).

2- أن تكون إزالة الموضوع: من خلال تفاوته في الدرجة، مثل (كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ومثل (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ).

3- أن تكون إزالة الموضوع: من خلال تفاوته في النوع، مثل (سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) و(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ... وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ).

2- الاستدراك الثانوي:

ويقصد به (دفع توهّم الشيء) من خلال (متعلّقه)، أي الملابسات التي تقترن بالشيء وليس الشيء نفسه، وهذا من نحو قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلأَيُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) فالموضوع (تسبيح الكون) لم يكن هو المستدرك عليه، لأن النص القرآني قد أثبته بالقول (وإن من شيء إلا يسبّح بحمده) وإنما المستدرك عليه هو (الوهم) بهذا التسبيح، حيث استدرك على ذلك قائلاً: (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

وبكلمة بديلة: أن المستدرك هو (الوعي) وليس (التسبيح)، فيكون (الوعي) هو متعلّق التسبيح..

وبهذا... تتّضح الفارقيّة بين الاستدراك الأوّلي وبين الاستدراك الثانوي حيث ينصبّ الاستدراك في النّمط الأوّل على (الموضوع) فيزيل االموضوع) فيزيل ا الاستدراك في نمطه الآخر على متعلّقه فيزيل توهّمه(4). ولعلّ الفارقية تتّضح بشكل أكثر جلاءً حينما نشير إلى قسم ثالث من الاستدراك، هو:

3- الاستدراك المزدوج أو المتداخل:

ويقصد به الاستدراك الذي يجمع بين ما هو أوّلي أو بين ما هو ثانوي في عبارة واحدة تستخدم فيها أداتان استدراكيّتان مثل (بل، لكن) عبر قوله تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ (بَلْ) أَحْياءٌ وَ(لكِنْ) لا تَشْعُرُونَ).

فالملاحظ هنا أن الآية الكريمة قد استخدمت (بل) في الشطر الأول من الآية، واستخدمت (لكن) في الشطر الآخر، حيث جاءت الأولى استدراكاً أوّلياً وجاءت الأخرى استدراكاً ثانوياً.

فالاستدراك الأوّل أزال التوهّم الحاصل من أن الشهيد ميّت، أي أزال التوهّم الحاصل في الموضوع (موت الشهيد).

وأما الاستدراك الآخر، فقد أزال متعلّق الموضوع وهو (الشعور): حيث نفاه عن الناس، بقوله تعالى: (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)، فالاستدراك الأوّل نفى الموت أساساً، والآخر نفى الشعور بكونه حيّاً.

أدواته:

للاستدراك، أدوات متنوّعة، مثل (لكن، بل، إلا، أو، لولا، بيد أنّ... إلى آخره).

بعضها ـ وهو الأكثر ـ يشترك بين الاستدراك وغيره مثل (بيد، غير، سوى) وهي أدوات استثنائية، ولكنّها تستخدم للاستدراك بإضافة (أنّ) نحو (بيد أنّ، سوى أنّ، غير أنّ).

كما أن (أو) للتخيير والتقسيم ونحوهما، ولكنّها تجيء للاستدراك أيضاً مثل قوله تعالى: (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) بمعنى (بل يزيدون).

وكذلك (لولا) فهي شرطيّة امتناعيّة بنحو مطلق، ولكنّها قد تجيء استدراكية مثل (لَوْلا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا...).

هذه الأدوات جميعاً تشترك بين الاستدراك وسواه.

وأمّا الأداتان الرئيستان للاستدراك، فهما (لكن) و(بل)، مع ملاحظة أنّ (بل) يجيء استخدامها للاستدراك الأولي، و(لكن) للاستدراك الثانوي غالباً، وقد يحدث عكس ذلك.

أمّا (لولا، بيد أنّ، إلى آخره) فللاستدراك الثانوي وكذلك (إلاّ في حالة كونها تقترن بـ(أنّ) وبدونها تكون للاستدراك الأوّلي... وأما (أو) فللاستدراك الأوّلي.

4- الاستدراك المتكرر:

ويُقصد به الاستدراك الذي يتكرّر بتكرار أدواته وهو نمطان:

1- التكرار من خلال التداخل بين نمطين أو أكثر، كالنموذج المتقدم.

2- التكرار من خلال التعاقب لنمط واحد يتكرّر، مثل قوله تعالى: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) وقوله تعالى: (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ).

والمسوّغ للتكرار، يتّضح تماماً حينما نعرف بأنّ النمط الأول منه (أي: المتداخل) يتضمّن الموضوع ومتعلّقه، والنمط الآخر يتضمّن إما التفاوت في الدرجة أو تفاوت (المتعلّق). ففي الآية الكريمة (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ... بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ... بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ورد فيها تفسيران، أوّلهما: هو التفاوت في الدرجة، حيث كانوا في شكّ من الآخرة بل كانوا في عمى عنها (وهو الدرجة الأشد).

فتكرر الاستدراك تبعاً لتفاوت الدرجة.

وأمّا التفسير الآخر للآية فهو: أن ذلك ورد في ثلاث طوائف: موقنة وشاكّة ومنكرة، وهذا يعني أنّ المتعلّق يختلف من طائفة لأخرى، فيما استتبع مثل هذا التكرار المتعاقب.

الترتّب(5) أو الفعل وجوابه

إذا كان الاستدراك هو: عمليّة تأرجح بين شيئين (الوهم) و(إزالته) فإن الترتب بدوره عمليّة تأرجح بين شيئين: ولكن من خلال (ترتّب) أحدهما على الآخر مثل قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (حيث رتّب) كفايته للعبد على توكّله عليه تعالى. ويسمّى الأوّل منهما (وهو التوكّل): (فعلاً) ويسمّى الآخر الذي يترتّب عليه (تأمين الحاجات): (جواباً).

 سوّغاته:

المسوّغ الفني للفعل وجوابه أو للترتب هو: أنّ الأشياء تتطلب حيناً مجرّد التعريف بها مثل قوله تعالى: (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)، حيث يطالب النص بأن يتوكل الإنسان على الله تعالى ولكن حينما يقول تعالى أيضاً: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) حينئذ نجد أن الشيء لم يقف عند مجرّد التعريف به أو المطالبة بالتوكّل، بل أنّ النص (يرتب) أثراً على التوكل هو كفاية العبد أو تأمين حاجاته حيث يكفيه الله تعالى من كل شيء، وبهذا يكون تأمين حاجاته متوقّفاً على التوكّل وهذه العمليّة ـ الترتب أو الشيء المشروط ـ تحفّز الشخصية على العمل، ومن ثم فإن النصّ الأدبي يكتسب أهمية وحيويّة بلاغيّة حينما يعتمد مثل هذا الأسلوب؛ كما هو واضح.

دلالاته:

الدلالة العامّة للترتب هي: أن يكون هناك (فعل) وأن يترتب عليه (جواب) كما أشرنا، إلا أن عملية الترتب تنتظمها حالات أربع على هذا النحو:

1- أن يكون الفعل إلزامياً، والجواب إلزامياً.

2- أن يكون الفعل طوعيّاً، والجواب طوعيّاً.

3- أن يكون الفعل إلزامياً، والجواب طوعيّاً.

4- أن يكون الفعل طوعيّاً، والجواب إلزامياً.

ونعرض لكلٍّ منها:

1- أن يكون الفعل إلزامياً، والجواب إلزامياً:

وهذا من نحو قوله تعالى: (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ). فالفعل (وهو أينما يكون الإنسان) إلزامي لا مناص منه، إذ الإنسان لابدّ أن يكون في مكان ما، ولذلك فإنّ (الجواب) المترتب عليه (وهو الموت) لا مناص منه، فتكون العلاقة بين الفعل وجوابه أو الشرط وجزائه علاقة لا انفكاك بينهما في عالم الواقع.

2- أن يكون الفعل طوعيّاً، والجواب طوعيّاً:

وهذا من نحو قوله تعالى: (إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) (إِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ)، فالفعل وهو (القراءة أو العزم) طوعيّ، حيث يمكن ألاّ يحدث؛ كما لو لم يقرأ القرآن، والجواب أيضاً وهو (الاستعاذة أو التوكّل) طوعي؛ حيث يمكن ألاّ يستعيذ، أو ألاّ يتوكل.

3- أن يكون الفعل إلزامياً، والجواب طوعيّاً:

وهذا من نحو (إذا زالت الشمس: فصلّ).

فالفعل وهو (زوال الشمس) إلزامي، ولكن الجواب وهو (الصلاة) طوعي. بحيث يمكن ألاّ يلزم الشخص بالصلاة.

4- أن يكون الفعل طوعيّاً، والجواب إلزامياً:

وهذا من نحو قوله تعالى: (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ..) فالفعل أي: (القرض) طوعي، حيث يمكن ألاّ يقرض الشخص، إلاّ أن الجواب وهو (المضاعفة) إلزامي. (في حالة تحقّق الفعل).

وهذا القسم على نمطين: فعلي وفرضي.

1- الفعلي: وهو ما يتحقّق بالفعل (أي الواقع): كالنموذج المتقدّم.

2- الفرضي: وهو ما لم يتحقّق بالفعل، ولكنه (إذا افترض حدوثه) يكون الفعل طوعياً، والجواب (إلزاميّاً)، مثل قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنا... لَرَأَيْتَهُ...). ويلاحظ، أنّ كلاًّ من الإلزام وعدمه (بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة الأخيرة) يظلّ (نسبيّاً)، بحيث يتوقّف الجواب حيناً على حدوث الفعل وحيناً آخر لا يتوقف عليه، وكذلك الفعل، يترتّب عليه الجواب حيناً ولا يترتب حيناً آخر.

أساليبه:

للترتب أساليب متنوّعة تسهم جميعاً في إكساب النص بعده البلاغي، كالتداخل، والتقديم، والحذف.

1- التداخل:

ويقصد به أن تتداخل الأداة أو الفعل أو الجواب: كل واحد مع مثله أو الآخر من خلال (التكرار) و(الاشتراك) و(التفريع) و(التقسيم)، سواء أكان ذلك في صيغة القضيّة الواحدة أو الأكثر.

ومن أمثلة ذلك في:

- التكرار:

- من حيث (الأداة): قوله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ)، حيث تكرّرت الأداة (إذا) وتنوّعت الأفعال (التكوير، الانكدار... إلخ) وتوحّد جوابها جميعاً وهو (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ...).

- من حيث الفعل: قوله تعالى: (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) و(يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) حيث تكرّر الفعل (يشاء) كما هو واضح.

- من حيث الجواب: قوله تعالى: (إِذا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزالَها... يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها... يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً)، حيث تكرّر جواب الزلزلة (يومئذ) تحدّث أخبارها، و(يومئذ) يصدر.. إلخ.

- الاشتراك:

ومثاله قوله تعالى: (إِذا زُلْزِلَتِ...) حيث اشترك الجواب (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) بالنسبة إلى أفعال ثلاثة هي: الزلزلة، الإخراج، والقول...

- التفريع:

ويقصد به أن تتفرّع الأداة أو الفعل أو الجواب من أحدها أو الآخر، مثل قوله تعالى: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ‏ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) حيث تفرّعت الأداة (لو) من الأداة (إن). كما تفرّع الفعل (كان...) من الفعل (... تدع). فتداخل الشرطين هنا حصل من خلال (إنْ) التي اقترنت بفعل الدعوة إلى حمل الغير وزر الشخص، واقترنت بـ(لو) التي تفرّعت منها، حيث إن النص يريد أن يقول: لو أن الشخص دعا غيره لأن يحمل وزره (وهذا هو الفعل) لما قبل ذلك (وهذا هو الجواب). إلاّ أن الجواب تفرّع منه جواب آخر هو (أنّ الشخص حتى لو كان قريبه لما تحمّل ذلك).

- التقسيم:

ومن أمثلته قوله تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ... وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ... وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) حيث تداخلت الأداة الشرطيّة في القضايا الثلاث من خلال تقسيمها إلى السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال.

2- التقديم

من الأساليب البلاغيّة للترتب أو للشرط هو: تقديم الجواب على الفعل، لأنّ الأصل هو تقديم الفعل أوّلاً، ثم ترتب الجواب عليه، لكن يحدث ـ في حالات كثيرة ـ أن يتقدّم الجواب لنكات بلاغيّة، من أبرزها: أهميّة الجواب، مثل قوله تعالى: (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) حيث أن الموت لا يحبذه المتشبّثون بالحياة الدنيا، ولذلك تقدم على الفعل (الصدق) تحسيساً بأهميّة الجواب كما هو واضح: مع ملاحظة أن تقديم الجواب يتم وفق نمطين:

1- أن يتّسم بالأهميّة، كالنموذج المتقدّم.

2- أن تفرضه طبيعة الموقف مثل (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) ومثل (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ).

فالهمّ بطبيعته يتقدّم على رؤية البرهان وإن كان البرهان من الممكن أن يتقدّم ولا يترتّب عليه أثر ولكنّه في حالة العكس، فإنّ رؤية البرهان تأتي بعد الهمّ، كما هو واضح.

3- الحذف:

ويُقصد به حذف الجواب لنكات بلاغيّة مثل (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ...) فالتقدير هو (فاصنع) أي أنّه حذف لنكتة بلاغية هي أنّه لا يستطيع ذلك، فكأنّه لمحاليّة الجواب حذف، مضافاً إلى أن الحذف يجعل المتلقي يسهم في استخلاص الدلالة مما يزيد من الإمتاع الذهني. كما هو واضح.

ساليب أخرى:

هناك أساليب أخرى للترتب تنشأ من اقترانه بأدوات بلاغيّة أخرى منها:

1- التضاد: مثل (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) حيث أن التضاد له أهميّة في عمليّة الترتب وغيرها.

2- التقسيم: وقد تقدّم مثاله.

3- النفي: مثل (إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ..).

الترتب والطلب:

نقصد بـ(الطلب) هو الفعل الذي يترتب عليه جواب دون أن تتضمّنه أداة الشرط ونحوها مثل (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ...).

ومثل (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا) والواقع أن أمثلة هذا الفعل المقترن بالجواب لا يفترق عن الجملة الشرطية من حيث ترتّب الجواب على الفعل من جانب ومن حيث تضمّنه معنى الشرط من جانب آخر، فقوله: (اقْتُلُوا يُوسُفَ) يتضمّن دلالة شرطيّة هي (إن تقتلوا يوسف: يخل لكم...).

أدوات الترتّب:

للترتّب أدوات متنوّعة مثل (أن، من، أينما، لولا، لمّا، أنّى، إذا... إلى آخره) والادوات امنها ما هو طابع مشترك أو خاص، أي بعضها يختصّ بدلالة زمانيّة أو مكانيّة أو كليهما مثل (أنّى) (أينما)، أو يختصّ بالدخول على الماضي مثل (لمّا)، أو يختص منها بالفرض أو الامتناع مثل (لو) (لولا)... إلى آخره.

وهذه هي الطوابع الخاصّة...

وهناك طوابع عامة مشتركة مثل (إن) (إذا) (من) (ما) إلى آخره، حيث تدخل هذه الأدوات على مطلق الظواهر دون أن تتقيّد بزمان أو بمكان أو حالة خاصّة.

ومن الواضح، أن ما هو خاص منها، يحمل نكات بلاغيّة خاصّة تفرض ضرورتها كما هو الأمر بالنسبة إلى الزمان أو المكان أو الحالة... فالفرض أو الامتناع مثلاً لا مناص من استخدامه لأنّ الموقف يستدعي ذلك ضرورة مثل قوله: (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ... لَعَذَّبْنَا) حيث أن الامتناع عن إنزال العقاب قد فرضته ضرورة هي: براءة الأشخاص المؤمنين أو الأطفال مثلاً، فكأن لا مناص من استخدام الأداة الامتناعية (لولا) وكذلك الأداة الفرضيّة (لو).

ــــــــــــ

الهامش

(1)- نستخدم هنا مصطلح النفي، ليشمل كلاًّ من النفي والنهي في دلالتهما النحوية، ما دامت الدلالتان تصبّان في دلالة عامة هي (العدم).

(2)- الملاحظ أن البلاغيين والنحويين لم يعالجوا هذا الفارق بين (الاستثناء) و(القصر) بل جعلوا الاستثناء المقترن بإلاّ، أحد أشكال القصر، بينما هو استثناء على نحو التجوز وليس الحقيقة كما سنرى.

(3)- يلاحظ أن البلاغيين والنحويين يضعون فارقاً بين أدوات الاستدراك وبين سواه، مثل: اشتراطهم بالنسبة إلى (لكن) أن تكون مسبوقة بالنفي، وبعدم وقوع الجملة بعدها، وإلا كانت أدوات (ابتدائية) أو (إضرابية)... إلخ، بيد أننا لا نوافقهم على هذه القيود، ونعتبرها في الحالات جميعاً (استدراكية) ما دامت تحمل دلالة هي إزالة التوهم حقيقياً كان أم مصطعناً، وهذا هو المعيار الرئيس لها، حيث نجد أن النصوص الشرعية تتطابق مع الحقيقة التي ذكرناها.

(4)- البلاغة الموروثة التي تنسب هذين إلى ما تسميه بالإضراب وليس (الاستدراك)، تقسمه إلى (إبطالي) و(انتقالي). وفي تصورنا تسمية الأخير بالإضراب الانتقالي ليس صائباً، لأن الاستدراك أو الإضراب (كما تسمّيه) لم يتم من خلال موضوعين ينتقل من أحدهما إلى الآخر، بل من خلال الموضوع ومتعلقه، بمعنى أن الاستدراك هو ثانوي وليس أولياً، كما هو ملاحظ في النص الذي ذكرناه.

(5)- الترتب يشمل ما يصطلح عليه النحويون والبلاغيون بـ(الشرط) وغيره من الأدوات التي تتضمّن فعلاً وجواباً مترتباً عليه. علماً بأن مصطلح (الشرط) لا يفي بالمطلوب، لأن الكثير من أدواته لا تتضمن دلالة الشرط مثل: (أينما تكونوا يدرككم المووت).