المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 011.doc

الذكر والحذف

يتميّز النّص الأدبي عن غيره: بكونه (ينتقي) من الكلام ما هو ضروري، ويحذف ما هو زائد على الحاجة... لذلك عرَّفَ الإمام الصّادق (عليه السلام) البلاغة (في جانب منها) بأنّها (التبعّد عن حَشْوِ الكلام)، أي: (حذف) ما لا ضرورة له، و(ذكر) ما هو ضروري فحسب، لأنّ (ذكر) ما لا ضرورة له: يُعدُّ (فضولاً): كما هو واضح... فمثلاً: قوله تعالى: (تَبَّتْ يَدا أبي لَهَبٍ وَتَب) يتضمّن ما هو ضروري من الكلام، لذلك لن (تذكر) في هذه الآية إلاّ العبارات (تبّت) (يدا) (أبي لهبٍ) (وتب). حيث استهدف النّص توضيح أنّ هذا الشخص قد خسر دنياه (تبّت يدا أبي لهب) وخسر آخرته (وتب) أي: خسر نفسه، فـ(ذكر) من خسارة دنياه: الصورة الفنّية (تبّت يدا) أي (خسرت يداه) وهي (رمز)، فخسارة ما في اليد من متاع الدنيا، ثم (ذكر) اسم الشخص (أبا لهب)، فكانت هناك ضرورة لـ(ذكر) الخسارة الدنيوية والاسم.

ثم (ذكر) عبارة (وتبّ) وحدها، وكان لا بد من (ذكر) هذه العبارة، لأنّ النّص يستهدف التذكير بخسارة الآخره..

إذن: كلّ ما (ذُكِرَ) في هذه الآية كان ضروريّاً... بالمقابل:

(حَذَفَ) النص كثيراً من العبارات التي كان من الممكن أنْ تُذكر، ولكنّها لا ضرورة لها... وهذا مثل (حذفه) للعبارة التي تشير إلى (خسران النفس في الآخرة) حيث اكتفى بعبارة واحدة هي (وتب) أي: (وخسر)... ولكنّه ماذا خسر؟ هذا ما (حذفه) النّص معتمداً على ذكاء القارئ حيث يستنتج بأنّ الشخص قد خسر (نفسه)، فحذفت عبارة (النّفس) لأنّه يمكن أنْ يُستغنى عنها كذلك (حذف) عبارة (الآخر) لأنّه يمكن أنْ يَستغني عنها: ما دام (خسران النفس) يتمثّل في المصير الأُخروي...

وفي ضوء هذا النموذج، يمكننا أنْ نتعرّف مستويات الذكر والحذف أوّلاً، ثمّ نعرض للأسباب الفنّية التي تتطلب حذفاً أو ذكراً للعبارات أو الدلالات. ونقف مع:

 مستويات الذكر والحذف:

1- هناك موارد للحذف والذكر، تختصُّ بـ(العبارات المحدّدة)، أي: العبارات الخاصّة  التي تتطلب (حذفاً) أو (ذكراً)، مثل: عبارة (أبي لهب) حيث (ذكرها) النّص، ومثل (اسم امرأته) حيث (حذف الاسم أو الكنية)، واكتفى بـ(ذكر) (امرأتهِ) فحسب. بالذّكر والحذف هنا (كأبي لهب وامرأته)، قد تكون شيئاً أو سمة أو ظاهرة من الظواهر...

2- وهناك من الموارد ما يتّصل (الذكر والحذف) منها بـ(المعاني أو الأفكار أو الموضوعات) بحيث لا تتحدّد في عبارات خاصّة بل يمكن في أيّة عبارة تعبّر عن ذلك الموضوع أو الدلالة، وهذا مثل (موضوع الخسارة الدنيويّة والأُخرويّة لأبي لهب) حيث (ذكر) النّص ـ في التعبير عن هذا الموضوع ـ بعبارات مثل (تبّت يدا أبي لهب وتب)، ويمكن أنْ يعبر عنها بعبارات أخرى.

والمهم، أنّ هناك (مسوّغات فنيّة) هي التي تفرض ما إذا كان (الذّكر) أو (الحذف): موسوماً بالضرورة أو عدمها... وهذا ما نعرض له ضمن عنوان:

المسوّغات الفنيّة للذكر والحذف

- مسوّغات الحذف:

هناك جملة من المسوّغات الفنيّة للحذف، منها:

1- الاقتصاد اللُّغوي:

إنّ المسوغ الرئيس للحذف يتمثّل ـ كما أشرنا ـ في التركيز على ما هو (ضروري) من الكلام، وحذف ما لا ضرورة له، لأنّ (الفضول) أمرٌ لا يقرّه المشرّع الإسلامي حتّى في نطاق الكلام العادي (فضلاً عن الكلام الفنّي)، فالتوصيات الإسلاميّة طالما تُشير إلى أنّ الشخصيّة ينبغي ألاّ تتحدّث إلاّ بما هو (هادف) من الكلام، وأنْ تترك ما لا فائدة فيه.

2- المشاركة الفنّية للقارئ:

المسوغ الآخر لـ(الحذف) هو: أن بعض المواقف تتطلب مشاركة القارئ ومساهمته في الكشف عن الحقائق، لأنّ ترك القارئ مجرّد متلق سلبي يتسلّم الحقائق جاهزة دون أنْ يعمل فكره فيها: يجعله عاطل الذهن، وهو أمرٌ لا تقرّه التوصيات الإسلامية، حيث نجد أن المشرع الإسلامي يرسم الخطوط العامّة في مجالات الفقه والعقائد والأخلاق: تاركاً لرجال الفكر أن يكتشفوا بعض الحقائق وينظّموها وفق المناهج العلميّة التي نألفها في مختلف العصور... كذلك، فإنّ كل قارئ لا بدّ أن تُتاح له مجالات الاكتشافات وإعمال الذهن في ما يتلقاه من نصوص فنيّة... وهذا ما نلحظه في نصوص القرآن والسنّة حيث تحتشد هذه النصوص بعبارات رمزيّة أو مكثّفة أو مجملة: يُترك للقارئ من خلالها أن يكتشف بنفسه هذه الرّموز أو العبارات المجملة التي (حُذفت) تفصيلاتها.

ويلاحظ: أنّ الاتجاه الأدبي المعاصر يُشدّد في هذه الظاهرة، بحيث يتعمّد الكاتب (تضبيب) النّص الأدبي: حتّى يحمل القارئ على المساهمة في الكشف عن الدلالة: بصفة أنّ (الفن) هو عمليّة (كشف) للحقائق وليس عمليّة نقل ومحاكاة وتقليد لها...

وأهميّة هذا الكشف تتمثّل في:

أوّلاً: جعل القارئ في حركة ذهنيّة...، لأنّ إعمال الذهن هو تنشيط له.

ثانياً: إنّ إعمال الذهن يقترن بعنصر الإمتاع الفنّي، أي: أنّ القارئ يتحسّس بالمتعة الجماليّة التي تتحقّق من خلال إعمال الذهن.

ثالثاً: إنّ إعمال الذهن، يترك القارئ مساهماً في كشف الحقائق فيكون بذلك طرفاً في هذه العمليّة...

3- الاستيحاء الفنّي:

المسوغ الثالث للحذف هو: أنّ القرّاء يتمايزون ويتفاوتون فيما بينهم بالنسبة إلى ما يملكونه من تجارب وخبرات في حياتهم... لذلك فإنّ كل قارئ ـ عندما يواجه نصّاً فنيّاً ـ سوف (يستوحي) و(يستخلص) و(يستنتج) من النّص: دلالات متنوّعة تتناسب مع طبيعة تجاربه وخبراته... لذلك عندما (يحذف) النّص ما هو (الواضح) و(المكشوف) من الدلالات: إنّما يترك المجال لكل قارئ بأنْ (يستوحي) الدلالة بحسب خبرته وتجربته. وهذا كله فيما يتصل بمسوّغات الحذف... كذلك فيما يتّصل بـ:

- مسوّغات الذكر:

ما لحظناه من المسوغات الفينة لـ(الحذف) ـ وهي الاقتصاد اللّغوي، المشاركة، الاستيحاء ـ تتمثل أيضاً في عملية (الذكر)... فكلّ عبارة (تُذكر): (مختصرة)، أو (غاضة)، أو (رمزيّة): فإنّ الهدف منها هو: الاقتصاد اللغوي، ثمّ جعل القارئ مساهما في الكشف عمّا هو غامض، ثم جعله (مستوحياً) من العبارة الرمزيّة أو المكثّفة: ما يتناسب مع طبيعة تجربته وخبرته الخاصّة التي يختلف فيها الأفراد من واحد لآخر...

ولكي نتبيّن بوضوح: مسوّغات الحذف والذكر (في ضوء الحقائق المشار إليها)، يَحسُن بنا أنْ نعرض للنموذج الآتي في القرآن الكريم، وهو قصّة (طالوت) التي وردت في سورة البقرة:

في قصّة طالوت سأل الإسرائيليّون نبيّهم أنْ يبعث إليهم ملكاًً يقاتلون تحت لوائه (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِيْكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وبَقيّةٌ ممّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وآلُ هَارُون تَحْمِلُهُ الْمَلائكةُ إنّ فِي ذلِكَ لآيَةً لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ فَلَمّا فَصَلَ طَالوتُ بالْجُنُودِ قَال: إنَّ الله مبتَلِيكُمْ بنهرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فإنّهُ مِنِّي إلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ، فَشَربُوا مِنْهُ إلاّ قَلِيْلاً مِنْهُمْ، فَلَمّا جَاوَزَهُ هو وَالذينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْم بِجَالوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الذينَ يَظُنُّونَ أنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ: كَم مِنْ فِئةً قَلِيْلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيْرَةً بِإذْنِ اللهِ واللهُ مَعَ الصّابرِينَ ولَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالوا: رَبَّنَا أفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أقْدامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِيْنَ فَهَزَموَهُمْ بِإذْنِ اللهِ، وَقَتَلَ داوُدُ جَالُوتَ، وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ والْحِكْمَة وَعَلَّمهُ مِمّا يَشَاءُ، وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العالَمِينَ).

لنلاحظ أن النّص عندما قال: (فلما فصل طالوتُ بالجنود...): حذف جملة أشياء، منها:

1- لم يذكر لنا موافقة اليهود على طالوت ملكاً لأنّهم سبق أنْ رفضوه.

2- لم يذكر لنا كيفيّة تجهيز الجيش.

3- لم يذكر توجه الجيش إلى ساحة المعركة: بل اتّجه إلى القول رأساً بأنّ طالوت عندما وصل إلى النّهر، عرض عليهم امتحاناً هو: عدم الشرب من النّهر... لقد (حذف) النّص هذه الوقائع الثلاث:

(موافقة اليهود، تأسيس الجيش، وإرساله إلى السّاحة) لعدم ضرورة ذلك ما دام القارئ بمقدوره أنْ يستكشف المراحل المحذوفة من خلال عبارة (فلمّا فصل طالوتُ بالجنود...) حيث إنّ هذه العبارة تجعله مستكشفاً ذلك، طالما أنّ طالوت قد وصل بجنوده إلى النّهر، حينئذٍ فلا بدّ أنْ تكون الموافقة قد تمّت، وأنّ الجيش تمّ إعداده، وأنّ التوجّه إلى الساحة قد بدأ فعلاً...

كذلك، ما يتصل بالذكر... فالملاحظ هنا، أنّ النّص يستهدف لفت النّظر إلى أنّ اليهود كاذبون في ادّعاءاتهم القائلة بأنّهم مستعدّون للمقاتلة في سبيل الله، لذلك لم يبرز من الوقائع إلاّ ما له صلة بهذا الادِّعاء و(يحذف) ما سواه...

من هنا يمكننا أنْ نفهم بلاغة (الذكر) أيضاً، فالملاحظ أنّ النّص (ذكر) حادثة (فصل طالوت بالجنود) وقوله: (إنّ اللهَ مبتليكم بنهرٍ)، فقد (ذكر) حادثة النهر لأنّ هذه الحادثة هي التي تكشف كذب اليهود في ادّعاءاتهم، وبالفعل خالَف اليهود تعاليم القائد (فشرِبوا منه ـ أي النهر ـ إلاّ قليلاً).

إذاً: جاء (الذكر) ـ وهو حادثة النّهر ـ مرتبطاً بالسياق أو المواقف الذي فرضهُ، ما دام الهدف هو إبراز الكذب والجبن والخداع عند الإسرائيليّين، كما جاء (الحذف) مستنداً إلى السياق ذاته؛ ما دامت لا ضرورة هناك إلاّ ما يلقى الإنارة على ما يستهدفه النّص من حقائق... وهذا فيما يتصل بما لا ضرورة له...

أمّا ما يتصل بالأسباب الأخرى للحذف مثل: المساهمة في الوصول إلى الحقائق، واستيحائها حسب خبرة الشخص، فيمكننا أنْ نتبيّنها مِنْ النموذج المتقدّم نفسه؛ حيث استخلصَ القارئ جملة حقائق من حقيقة (محذوفة)، منها: أنّ الإسرائيليين طلبوا من نبيّهم دليلاً تجريبيّاً على صحة إرسال طالوت ملكاً: بدليل قوله: (إنّ آية ملكه أنْ يأتيكم التّابوت)، ومنها: ما أشرنا إليه من موافقتهم على هذا الدليل... إلخ.

وأمّا الاستيحاء الفني حسب خبرة القارئ: فيمكن توضيحه من خلال تساؤله عن سبب قناعة اليهود أخيراً بظاهرة (التابوت) دون غيره من الأسباب، وفي مقدمتها أنّ طالوت قد تميّز بسمات القائد المطلوب مثل: سعة الجسم والعلم، إلاّ أنّهم رفضوه لعدم انتسابه للعائلة اليهوديّة، فلماذا قبلوا التابوت دون غيره: إذاً هنا تبرز أهميّة (الاستيحاء الفني) من وراء (الحذف)... فقد يربط أحدُنا بين كون التابوت معروفاً لديهم في تجارب سابقة، وقد يربط آخر بين التابوت وبين (آل موسى وهارون) من حيث انتساب اليهود إليهم، وقد يربط ثالث بين ذلك وبين حمل (الملائكة) له، وقد يستخلص رابع أنّ استمراريّة تمردهم سوف يعود عليهم بنتائج سلبيّة إلخ... وهذا فيما يتّصل بالحذف...

والأمر نفسه فيما يتصل بـ(الذكر)... فإذا كان الحذف يستدعي مساهمة القارئ في استكشاف ما هو محذوف، فإنّ ما هو (مذكور) يستدعي بدوره مساهمة في استكشاف دلالات متنوّعة... فعندما (يذكر) النّص حادثة الشرب (فشربوا منه إلاّ قليلاً) يستخلص النّتيجة القائلة: بأنّ اليهود كاذبون في ادّعاءاتهم، وعندما (يذكر) النّص حادثة الامتحان (وهو عدم الشرب) يستخلص النتيجة القائلة: بأنّ المهم هو أنْ يلتزم الإنسان بتوصيات السماء وليس المهم أنْ يعرف وجه الحكمة في هذا الامتحان أو ذاك...