المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 010.doc

التقديم والتأخير

النص الأدبي يتضمّن مجموعة من الموضوعات والأفكار. وكلّ واحد من هذه الموضوعات أو الأفكار يتكوّن من (أقسام) أو (أجزاء) تنتظم وفق نسق خاص بحيث (يتقدّم) جزء على آخر، أو (يتأخّر) جزء عن جزء آخر، تبعاً لمتطلبات السّياق.

وتقديم الشّيء على غيره أو تأخيره عن غيره، يتمّ إمّا في نطاق (العبارة الواحدة) أو نطاق (الجملة) أو نطاق (المقطع) الذي يتألف من عدة جمل تشكّل بمجموعها جزءاً من الموضوع العام لِلنّص الأدبي، على نحو ما سنوضّحه لاحقاً.

ويمكننا أنْ نلاحظ التّقديم والتأخير من حيث (مسوّغاته) من جانبٍ، ومن حيث مستوياتِه التي تتمّ في نطاق (العبارة والجملة والمقطع) من جانب آخر. ونبدأ أوّلاً بالحديث عن:

 مسوّغات التقديم والتأخير:

لنقف أوّلاً عند السورة الكريمة التّالية، وهي (سورة المطفّفين):

(ويلٌ للمطفّفينَ الذينَ إذا اكْتالُوا عَلَى النّاس يَستَوْفُونَ وإذا كالوهم أو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ألا يَظُنُّ أولئِكَ أنهم مَبْعُوثُونَ).

هذه الآيات الأربع: تشكل القسم الأوّل من السورة، (وموضوعها) هو: (التلاعب بالميزان). وأما (الفكرة) التي يقوم عليها هذا الموضوع: فهي (انبعاث النّاس في اليوم الآخر: ومحاسبتهم).

وأما الموضوع الثّاني في السورة فهو (التكذيب باليوم الآخر): (ويلٌ يومئذٍ للمكذِّبينَ الذينَ يُكَذّبونَ بِيوم الدّين... إلخ).

وهذا الموضوع يرتبط بنفس (الفكرة) التي ارتبط بها الموضوع الأوّل حيث يختم موضوع (التكذيب) بنفس فكرة (المحاسبة في اليوم الآخر) (ثم يقال: هذا الذي كنتم به تكذِّبون)...

إذَنْ: تتضمّن السّورة (موضوعات) متنوِّعة، ولكنّها تصب في (فكرة واحدة)... وهذه الموضوعات المتنوِّعة: بعضها يتّصل بـ(التطفيف في الميزان) وبعضها يتّصل بـ(التكذيب بيوم الّدين). وكل من هذين الموضوعين قد انتظم في (مقطع خاص)... ولكن الملاحظ، أنّ النّص (قدّم) المقطع الخاص بالمطفِّفين، و(أخّر) المقطع الخاص بالمكذّبين، فبدأت السورة أوّلاً بالمطفّفين حيث قالت (ويلٌ للمطفّفين... إلخ)... والسّؤال هو:

إنّ (التكذيب باليوم الآخر) هو أشدّ معصية مِنْ (التطفيف) في الميزان، فلماذا (أخّر) النص قضية التكذيب و(قدّم) التطفيف: مع أنّ التكذيب هو أشد معصية من التطفيف؟

هنا تبرز الأهمية البلاغية (التقديم والتأخير)... حيث أنّ النّص يستهدف لفت النّظر إلى خطورة المعصية المترتبة على التطفيف... لذلك (قدّمها) على جميع الموضوعات حتى يلفت نظر القارئ إلى مدى المفارقة التي ينطوي عليها التلاعب بالميزان...

طبيعيّاً، إنّ القرآن الكريم يطرح موضوعات وأفكاراً متنوّعة تتكرّر في أكثر من سورة مثل قضيّة التطفيف التي كرّرها القرآن في سور كثيرة (ومنها قصص شعيب ومجتمعه الذي عرف بتطفيف الميزان)، ولكنّه (في سورة المطفّفين) أراد التركيز على هذه القضيّة، فأبرزها في بداية السورة: بينما جاء الحديث عن التطفيف في السّور الأخرى عرضيّاً وثانويّاً: كما هو ملاحظ.

إذَنْ: المسوّغ الفنّي لتقديم الشيء وتأخيره هو: التركيز على فكرة أو موضوع معيّن، «فيقدّم» على غيره: حتى يتحسّس القارئ أهميّة الفكرة أو الموضوع الذي تنطوي عليه السّورة الكريمة...

والمهم - بعد ذلك - أنّ تقديم الشيء وتأخيره يتمّ - كما قلنا - إمّا من خلال (المقطع) أو (الجملة) أو (العبارة)... وهذا ما نتحدّث عنه ضمن عنوان:

 مستويات التقديم والتأخير:

قلنا أنّ تقديم الشيء وتأخيره يتمّ، إمّا: من خلال (المقطع) أو (الجملة) أو (العبارة).

1- من حيث المقطع:

موضوع (التطفيف) الذي لحظناه في سورة (المطفّفين): يجسّد نموذجاً لتقديم (المقطع) الخاصّ على مقطع غيره، حيث لحظنا أنّ المقطع الخاصّ بالتطفيف (وهو الآيات الأربع: ويلٌ للمطفّفين ـ الذينَ... إلخ) قد قدّم على المقطع الخاص بالتكذيب (ويلُ يومئذٍ للمكذِّبينَ – الذينّ... إلخ).

2- من حيث الجملة:

نجد أنّ جملة (ويلٌ للمطفّفين) ـ وهي تركيب مجمل ـ قد تقدّمت على جملة (الذينَ إذا اكتالوا...) ـ وهي تركيب مفصَّل،... كما تقدّمت الجملة الأخيرة على الجملة الثالثة (وإذا كالوهم...)، وتقدّمت هذه على الجملة الرّابعة (ألا يظن أولئك...)... واضحُ أنّ (تقديم) الجملة التي تضمّنت مصطلح (المطفّفين) على تفصيلاتِها التي تأخّرت عنها، يكشف عن أنّ النّص يستهدف التّعريف بهذه القضيّة فيما يتطلّب ذلك: (تقديم) المعرَّف ثم تفصيلاته..

3- من حيث المفردة أو العبارة:

لحظنا، أنّ كلمة (ويلٌ) (تقدّمت) على سائر المفردات التي وردت في قضيّة التطفيف... وهذا يكشف عن أنّ النّص يستهدف من وراء «تقديمه» لهذه الكلمة (ويلٌ): تحسيس القارئ بخطورة العقاب الذي يترتّب على المطفّفين، حيث إنّ كلمة (ويلٌ) تُشير إلى الهول الذي سيواجهه المطفّف في اليوم الآخر...

- التقديم والتّأخير وصلتهما بفكرة النّص:

النماذج المشار إليها، تُفصح عن أهميّة التقديم والتأخير من حيث صلته بالمقطع أو الجملة أو المفردة أي: بجزء من أجزاء النّص.

وهناك من النماذج ما يفصح عن عملية التقديم والتأخير من حيث صلته بمجموع النّص لا بجزء منه... وهذا ما يمكن ملاحظته في نفس السورة الكريمة (سورة المطفّفين)، حيث أشرنا إلى أنّ هذه السّورة تتضمّن أكثر من موضوع مثل (التّطفيف) و(التكذيب)، وقلنا: أنّ هذه الموضوعات المتنوّعة تخضع لـ(فكرة واحدة) هي: (انبعاث النّاس في اليوم الآخر ومحاسبتهم)... لذلك حينما تتصدّر كلمة (ويلٌ) سورة المطفّفين: فحينئذٍ يكشف هذا (التّقديم) عن أنّه مرتبط بفكرة السّورة العامّة التي يستهدفها النّص أساساً، حيث أنّ كل سورة لا بدّ أن تتضمّن (هدفاً) أو (فكرة) عامة تحوم عليها موضوعات السورة. وحينما تستهل السّورة بعبارة معيّنة مثل عبارة (ويلٌ)، فهذا يعني أنّ «تقديم» هذه العبارة مرتبط بأهميّة (الفكرة) العامّة التي تستهدفها السورة (وهي: العذاب الأُخروي) وليس الفكرة الجزئيّة فحسب (وهي: التطفيف)...

وفي ضوء هذه الحقيقة، يُمكننا أنْ نلحظ أنّ مستويات (التقديم والتأخير) تتمّ حيناً من خلال (الفكرة الجزئيّة) التي تتضمّنها المفردة والجملة والمقطع، وتتمّ حيناً آخر من خلال (الفكرة العامّة): بالنحو الذي لحظناه.

الخلاصة:

((التقديم)) هو نوع من الصّياغة اللَّفظيّة التي تتصدر الكلام، سواء أكان ذلك في أوّل النّص أو وسطه أو آخره، وسواء أكان ذلك في نطاق الكلمة أو الجملة أو المقطع أو الفكرة التي ينطوي عليها النّص بأكمله، وهذا (التقديم) يستند إلى قاعدة فكريّة هي: أنّ كل فكرة جزئيّة أو عامّة يستهدف النّص أنْ يبرزها بشكل خاص، حينئذٍ (يقدّمها) على غيرها من الموضوعات، سواء أكانت الموضوعات الأُخرى ـ في حدّ ذاتها ـ أقل أو أشد أهميّة من الموضوع الذي استهدف النّص تقديمه...

 ملاحظات:

البلاغة القديمة تعالج (التقديم والتأخير) في نطاق الجملة (المسند والمسند إليه)، وهذا قصور واضح دون أدنى شك، لأنّ النص ليس هو تلك (الجملة) المنفصلة عن الجمل الأخرى، بل هو مجموعة من الجمل يرتبط بعضها مع الآخر: فتقديم كلمة (ويلٌ) على (المطفّفين) أو تقديم كلمة (إيّاك) على (نعبد): لا تكشف وحدها عن بلاغة القرآن، بل أنّ حيويّة السورة القرآنيّة تتجسّد في (تقديم أو تأخير) الموقف والأفكار والموضوعات التي تتجاوز المفردة والجملة، كما لحظنا في سورة المطفِّفين، كما نلحظه في أيّة سورة أخرى، ومنها: مثلاً ملاحظة قصص موسى (عليه السلام) وهي متنوّعة تختلف كل واحدة منها على الأخرى من حيث تقديم بعض أجزائها على الأخرى مع أنّها تتناول سيرة واحدة، حيث نجد أنّ بعض قصصه تبدأ بذهابِه إلى فرعون ومطالبته بأداء الوظيفة الخلافيّة في الأرض، وهذا هو هدف النص من وراء (تقديمه) هذا الجانب دون غيره. ففي سورة القصص نجد أنّ سيرة موسى (عليه السلام) بدأت بهذا النحو (نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأ موسى وَفِرْعَونَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرضِ... ونُرِيدُ أنْ نَمُنَّ على الذين اسْتُضْعِفُوا...) إلخ. فالهدف من هذا التقديم هو: إبراز وظيفة موسى، وفساد فرعون، ووراثة المستضعفين... لذلك قدّم النص هذه الموضوعات على سيرة موسى ذاته حيث سرد لنا بعد ذلك ولادة موسى وإلقاءه في اليمّ وكفالته وقتله لأحد الأقباط، وذهابه إلى مدين، وزواجه... إلخ

فالملاحظ هو: أنّ هدف النّص ليس إبراز أهميّة السيرة الشخصيّة لموسى (عليه السلام) وإلاّ لبدأ بالتسلسل الزّمني لحياة موسى، بل هو إبراز شريحة معيّنة منها هي: أداء وظيفته الخلافيّة، لذلك بدأها بالحديث عن علاقته مع فرعون، ثم رجع إلى التسلسل التأريخي لسيرته... لكن في سورة (طه) مثلاً، نجد أنّ قصة موسى (عليه السلام) بدأت بالحديث عن البحث عن النّار لأهله (وهل أتاك حديث موسى إذْ رأى ناراً... فلما أتاها نوديَ...) فهنا (قدّم) النّص قضيّة خاصّة هي البحث عن النّار وربطها بقضيّة النّبوّة، ثم رجعَ إلى حادثة إلقائِه اليمّ وكفالتهِ إلخ، ممّا يعني أنّ هدف (تقديمه) للبحث عن النّار وصلته بالنبوة ثمّ ممارسة الوظيفة الخلافيّة: هو إبراز حقيقة عباديّة تقول (كُنْ لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو) حيث أنَّ موسى في غمرة رجائه العثور على الدفء: إذ به يتلقّى مهمّة النبوّة.

إذنْ: تقديم حادثة (البحث عن النّار) ـ وهي قضيّة شخصيّة بحتة ـ حينما (قُدِّمت) على سائر الحوادث والمواقف. إنّما كان الهدف منها هو لفت نظرنا إلى معطيات الله تعالى وكونها تتدفّق على الإنسان من حيث لا يحتسب... ومثل هذه «الفكرة» لا يمكن أنْ نتبيَّنها من خلال (تقديم) المسند والمسند إليه، بل من خلال المقطع أو الفكرة التي تنطوي عليها السّورة الكريمة بالنحو الذي لحظناه، وهذا يعني أن قضيّة التقديم والتأخير تخضع لقاعدة خاصّة هي:

إنّ كل فكرة يستهدف النص التركيز عليها: حينئذٍ (تُقدّم) على غيرها، سواء أكانت في نطاق الفكرة العامّة أو الجزئيّة أو في نطاق العبارة أو الجملة...، يضاف إلى ذلك معالجة (التقديم والتأخير) في نطاق القاعدة التي أشرنا إليها: يخفّف عنّا ـ فضلاً عمّا تقدّم ـ العناء الذي فرضه البلاغيّون حينما فصّلوا (الحديث عن موارد التقديم مثل الصدارة، التخصيص، التشويق...) نظراً لأنّ هناك عشرات الموارد أو المسوّغات التي لا تخضع لعدد محدود، تقتضي التقديم، ولذلك فإنّ محاولة حصرها في عدد خاص كما صنع البلاغيون، يجعل الفضّية متّسمة بالجمود الذوقي وبتعطيله، فضلاً عن أنّ هذه الموارد تجعل القارئ تائهاً في غابة من المصطلحات المتشابكة التي يختلط بعضها مع الآخر إلى حد يتعذَّر ضبطها والإفادة منها. وهذا بخلاف ما لو أعطيناه قاعدة عامّة هي: أنّ كل شيء لَهُ أهميّته في نظر مبدع النّص، (يُقدِّم) على غيره من الموضوعات بغضّ النّظر عن الموارد أو البواعث الكامنة وراء ذلك، بنحو ما تقدّم الحديث عنه.

ثمة ظواهر فنّية متنوّعة، تظلُّ على صلة بتقديم الشّيء وتأخيره، ومنها:

1- تنويع الزمن

المقصود من تنويع الزّمن هو: صياغته في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. ولا شكّ، أنّ الأصل في الأشياء أنْ تُسرد حسب تسلسلها الزّمني فتبدأ من الماضي وتمرّ بالحاضر وتتّجه إلى المستقبل.

إنّ قوله تعالى مثلاً: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ، النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غدوّاً وعشيّاً ويوم تقوم السّاعةُ أدخلوا آل فِرْعَوْنَ أشَدَّ الْعذاب)، يتحدّث عن وقائع (ماضيه) هي غرق آل فرعون، ويتحدّث بعد ذلك عن وقائع (حاضرة) هي النار التي يعرضون عليها في البرزخ، ثم يتحدّث عن وقائع (مستقبليّة) هي: إدخال آل فرعون أشد العذاب، وبهذا يكون النص قد توكّأ على الزّمن حسب تسلسله (الماضي) (الحاضر) (المستقبل).

بيد أنّ النص الأدبي الذي يستهدف توصيل (فكرة) خاصّة إلى المتلقّي، لا يُخضع فكرته إلى التسلسل الزّمني بالضرورة، بقدر ما يخضعها إلى متطلبات الفكرة ذاتها (كما لحظنا ذلك بالنسبة إلى قصص موسى من حيث تقديم الزّمن وتأخيره حسب الهدف الفكري للنص)... وهذا يعني أنّ الماضي والحاضر والمستقبل يفقد تسلسله الموضوعي، وتتلاشى الحدود بينَ أزمنته، وتقطع إلى (وصلات)، تنتقل من (الحاضر) إلى (الماضي)، أو من المستقبل إلى الحاضر، أو من الماضي إلى المستقبل إلى الحاضر، وهكذا...

ويمكننا إنْ نجد في النموذج الآتي وهو سورة (النّازعات) أمثلة واضحة للتقطيع الزّمني.

السّورة هكذا تبدأ:

الحاضر (والنّازعات غرقا... إلى آخره) ثمّ تتّجه إلى:

المستقبل (يوم ترجف الرّاجفة... إلى آخره) ثمّ ترتد إلى:

الحاضر (يقولون: أإنّا... إلى آخره) ثمّ تتّجه إلى:

المستقبل (فإنّما هي زجرة واحدة... إلى آخره) ثمّ ترتدّ إلى:

الماضي (هل أتاك حديثُ... إلى آخره) ثمّ تتّجه إلى:

الحاضر (أأنتم أشدّ خلقاً...) ثمّ ترتدّ إلى:

الماضي (أمْ السّماءُ بناها...) ثمّ تتّجه إلى:

المستقبل (فإذا جاءت الطّامة...) ثمّ ترتدّ إلى:

الحاضر (فأمّا من طغى...) ثمّ تتّجه إلى:

المستقبل (فإنّ الجحيم هي المأوى...) ثمّ ترجع إلى:

الحاضر (وأمّا من خاف مقامَ ربّه...) ثمّ تتّجه إلى:

المستقبل (فإنّ الجنة هي المأوى...) ثمّ تتّجه إلى:

الحاضر (يسألونك عن الساعة...) ثمّ تتّجه إلى:

المستقبل (كأنّهم يوم يرونها...)

وتختم السورة به، حيث نجد أنّ النقلات بينَ الأزمنة الثلاثة قد بلغت عدداً كبيراً يلفت الانتباه، دون أدنى شك. وكلّ ذلك يتمّ بطبيعة الحال بحسب ما يتطلّبه الزّمان النفسي للقارئ. فالسورة بدأت بالحديث عن موقف حاضر هو (حركة الملائكة: النّازعات) لِلَفْتِ نظرنا إلى أهميّة هذه الحركة التي تنشط لقبض الأرواح مثلاً... ثمّ عبرتهُ إلى المستقبل (يومَ ترجف الرّاجفة)... وهذه النقلة خاضعة للزمن الموضوعي (حاضر ـ مستقبل)، ولكنّها عادت إلى (الحاضر) لماذا؟ لتنقل لنا استجابة أو موقف المشكّكين باليوم الآخر، ثمّ اتّجهت إلى المستقبل لتشير إلى أنّها زجرة واحدة تُفاجئ القوم، ثمّ قامت بعمليّة تذكير بوقائع (ماضيه) هي قضية موسى مع فرعون ونهايته لتكون عبرة للمشكِّكين، ثمّ ربطت بينّ الحاضر وبينَ الماضي من خلال مقارنتها بين خلق هؤلاء وبينَ خلق السّماء التي هي أشدّ إبداعاً... وهكذا، نجد أنّ النقلات الزمانيّة فرضتها طبيعة (الزّمان النّفسي) للمشكّكين أو (الزّمان النّفسي) للقارئ الذي يستهدف النّص توصيل هذه الفكرة إليه لتعديل سلوكه...

وهذا بعامّة، فيما يتصل بالتقطيع أو التنويع الزّماني للظواهر.

بيد أنّ عملية التنويع هذه، تخضع لمستويات خاصّة من الصياغة، ندرجها ضمن عنوان:

 (مستويات التنويع):

يتمّ التنويع الزّماني في مستويين:

1- تنويعه من حيث التقطيع للأزمنة ذاتها، على نحو ما لحظنا في السّورة المتقدّمة.

2- تنويعه من حيث صيغه التعبيريّة: أي تنويع الصِّيغ التعبيريّة التي تستخدم لتحديد الماضي أو الحاضر أو المستقبل (فعلَ، يفعلُ، سيفعلُ).

وهي على مستويين أيضاً من حيث دلالاتها، وهما:

1- صيغ ذات دلالة مطلقة.

2- صيغ ذات دلالة نسبيّة.

ولنعرض لكل منهما، فنتحدّث أوّلاً عن:

1- الدلالة المطلقة:

ويُقصد بها الصّيغ التعبيريّة التي تدلُّ بالفعل على ما هو ماضٍ من الأشياء أو ما هو حاضر منها أو ما هو مستقبل منها، مثل قوله تعالى: (ألْهَاكُم التكاثُر) حيث تدل على ما هو ماضٍ من السلوك، ومثل (يُسبّح للهِ ما في السّماواتِ والأرضِ) حيث تدل على ما هو حاضر، ومثل (سَبّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى) حيث تدل على ما هو مستقبل. ومثل كلمة (سوف) أو حرف (السين) الدالين على ما هو مستقبل من الأزمنة.

فهذا النمط من الصّيغ التعبيريّة يدل مطلقاً على نوع الزّمان الذي حدث أو يحدث بالفعل أو يحدث بالمستقبل...

والمسوّغ البلاغي لهذا النّمط هو مجرّد التحديد الزمني...

بيد أنَّ الأسرارَ البلاغيّة تكتسب فاعليّة كبيرة حينما تخضع هذه الصيغ إلى النمط الآخر منها، وهو:

2- الدلالة النِّسبيّة:

ويُقصد بها أنّ صيغ الماضي والحاضر والمستقبل تأخذ محدّداتها الزمنيّة وفق (الزمان النّسبي) لها، بحيث يصاغ الفعل أو الاسم بصيغة الماضي، ولكنّه يتحدّث عن المستقبل، أو يتحدّث عن المستقبل بصيغة الحاضر، أو الحاضر بصيغة المستقبل، وهكذا...

فمثلاً قولهِ تعالى: (وَقالُوا: لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أوْ نَعْقِل ما كنّا في أصْحابِ السَّعيرِ) أو قوله تعالى: (اذهبْ إلى فرعونَ إنّه طغى)، تشتمل على صيغ تعبيريّة لما هو ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، ولكنّها لا تدلّ على ما هو ماضٍ أو حاضرٍ أو مستقبل بالفعل، بل بما هو (نسبي) من الزّمن... فعبارة (وقالوا: لو كنّا نسمع... إلى آخره) لم تتم في زمن ماضٍ، بل سوف تتمّ في المستقبل، وعبارة (اذهب إلى...) لم تدل على مستقبل لم يحدث بعد، بل على ماض قد حدث وعبارة (نسمع) لم تدل على الحاضر، بل لما يتم في المستقبل، وأهميّة مثل هذه الصيغ هي: أنها (تقتطع) شريحة من الزّمن الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وتخضعه لزمان (نسبي) يشتمل بدوره على الأزمنة الثلاثة. وهذه الأزمنة تُصاغ على نمطين:

1- أن تتناسب صيغها مع واقع الزمن مثل (اذهب إلى فرعون إنّه طغى). فصيغة (اذهب) تدلُّ على المستقبل (وفي حينه لم يذهب موسى إلى فرعون بعد) فجاءت الصّيغة التعبيريّة متناسبة مع الزّمن. كما أنّ صيغة (طغى) تدلّ على أنّ فرعون قد (طغى) في الماضي، فجاءت الصيغة متناسبة مع الزّمن، ومثل قوله تعالى: (وَأوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنّة) فصيغة (أورثنا) تدلّ على ما هو ماضٍ، حيث تحدث في المستقبل هذه الوراثة فعلاً، وتصبح ماضياً، وصيغة (نتبوّأ) تدلّ على ما هو حاضر ومستمر لأنّهم بعد الإيراث (يتبوّءون) بشكل استمراري أمكنتهم من الجنة فجاءت الصّيغة متناسبة مع الزّمن.

2- أنْ تناسب صيغها مع الزّمن النفسي، وهذا من نحو (يقولون: أإنّا لمردودون في الحافرة... قالوا تلك ـ إذاً ـ كرّة خاسرة).

فهنا نلحظ صياغتين: حاضرة: (يقولون) وماضية: (قالوا) مع أنّ الموقفين يحصلان في زمن حاضر... والمسوّغ الفني لهذا التفاوت هو أنّ الكافرين في الحالة الأُولى مستمرون في تشكيكهم (أإنا لمردودون) حيث يتساءلون أو يستفهمون، والتساؤل أو الاستفهام دال على عدم اليقين، ولذلك جاءت الصيغة (يقولون) متناسبة مع حالة التساؤل أو الاستفهام، وهذا بعكس صيغة الماضي (قالوا) حيث تحدّثوا بيقين ـ سخرية أو قناعة ـ بأنهم في حال العودة يكونون حاضرين، ولذلك جاءت الصيغة (الفعل الماضي) متناسبة مع اليقين.

من الظّواهر المرتبطة بقضيتي التقديم والتّأخير، ظاهرتان تمثّلان أهميّة كبيرة في ميدان البلاغة وهما: عنصرا (المماطلة) و(المفاجأة). وبالرغم من أنّ هاتين الظاهرتين تبرزان في ميادين العمل القصصي والمسرحي، إلاّ أنهما ينسحبان أيضاً على مطلق النصوص الأدبيّة. أمّا ارتباطهما بقضيتي التّقديم والتأخير، فيتمثّل في أنّ (المماطلة) هي إرجاء الشيء وعدم الكشف عنه في بداية النّص ووسطه، ثمّ الإعلان عنه في نهاية النّص لغرض تشويق القارئ إلى متابعة الموضوع، وهذا ما يرتبط بقضيّة (التأخير).

وأمّا (المفاجأة) فهي مباغتة القارئ بحادثة أو موقف لم يكن متوقّعاً لها أي أنّها على الضّد من عنصر (المماطلة)، ولذلك ترتبط بحالة خاصّة تتأرجح بين مواقع النص بحيث تتقدّم أو تتأخّر بحسب ما يتطلبه السياق...

المهم أن نعرض الآن بشيء من التفصيل لهذين العنصرين، ضمن عنوان:

2- المماطلة والمفاجأة

1- المماطلة:

ويُقصد بها أنّ النّص، يحتفظ ببعض الأسرار، ويؤجّل كشفها إلى آخر النص، لغرض تشويق القارئ، وجعله يتطلّع إلى معرفة ذلك الشيء المجهول، بحيث يتابع قراءة النص ليكتشف ذلك.

ولعلّ أوضح الأمثلة على ذلك هو: قصة موسى مع الخضر (عليهما السلام). فالقصة منذ البداية جعلت سفره محفوفاً بالغموض، وعندما التقى موسى (عليه السلام) الخضر (عليه السلام) حيث خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار، هذه الحوادث تجعل القارئ متشوّقاً لمعرفة السرّ الكامن وراء هذه الممارسات التي تحمل سرّاً قد احتفظ به النص ليكشفه في نهاية القصّة، وبالفعل نجد أنّ السِّر قد كشفه النّص في النهاية حيث أوضح سبب الممارسات المذكورة.

والمماطلة تتمّ على مستويين:

1- المماطلة الكليّة:

ويُقصد بها أنّ القصّة بأكملها تصاغ وفق حبكة تقوم على المماطلة بحيث تستهدف كشف أحد الأسرار طوال القصّة.

وهذا مثل قصة موسى مع الخضر؛ كما لحظنا.

2- المماطلة الجزئيّة:

ويُقصد بها أنّ النص يؤجِّل كشف أحد الأسرار في جزئيّة من أجزائه وليس القصة بأكملها، وهذا مثل قصّة يوسف (عليه السلام) في كثير من جزئيّاتها بدءاً من إلقائه في البئر، مروراً بقضيّته مع امرأة العزيز، فإيداعه السجن، فخروجه منه، فقضيّته مع أخيه الذي وضع في رحله السقاية إلى آخره، حيث يظل القارئ متطلّعاً إلى معرفة النّتيجة المترتبة على هذه القضيّة أو تلك.

 المماطلة والتشويق:

ممّا يرتبط بعنصر المماطلة، هو ما يطلق عليه مصطلح التشويق.

فالتشويق هو أعمُّ من المماطلة، بحيث تكون المماطلة أحد مصاديقه. وأمّا هو ـ أي التشويق ـ فيعني:

أنّ النص يصوغ الوقائع أو الأحداث بنحو يجعل القارئ متطلِّعاً لمعرفة ما سيحدث بعد.

ففي قصّة إبراهيم (عليه السلام) مثلاً مع قومه عندما حطّم أصنامهم، يظل القارئ متطلِّعاً لمعرفة ما سيحدث بالنسبة إلى إبراهيم عندما (قالوا: فأتوابه على اعين النّاس لعلّهم يشهدون)، ويظل متطلّعاً لمعرفة ما سيحدث عندما اعترفوا بكونهم حمقى هل سيتركونه أم يعاقبونه، ويظلّ متطلّعاً لمعرفة ما سيحدث عندما (قالوا: حرِّقوه وانصروا آلهتكم) هل سيحترق فعلاً أم لا؟...

وبهذا يتّضح أنّ الفارق بين التشويق وبين المماطلة، أنّ التشويق يتضمّن مطلق الأشياء التي يجعلها النص محفوفة بالغموض، وأمّا المماطلة فتختصّ ببعض الأسرار التي يحتفظ بها النّص ويماطل بها القارئ طوال القصّة ليكشفها له في نهاية القصّة.

من جانب آخر، فإنّ الكشف عن السرّ (بالنسبة إلى المماطلة) وتحديد ما سيحدث (بالنسبة إلى التشويق) يظل على مستويين أيضاً:

1- النهاية المغلقة: ويُقصد بها أنّ السر أو الكشف يتحدّد بوضوح: كالأمثلة المتقدمة.

2- النهاية المفتوحة: ويُقصد بها أنّ السر أو الكشف لا يتحدّد بوضوح بل يُجعل ملفعاً بالغموض أيضاً بحيث يترك للقارئ بأن يستكشف بنفسه ذلك. وهذا من نحو قوله تعالى: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأ الْعَظِيْمِ، الذي هُم فيه مُخْتَلِفُونَ كَلاّ سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاّ سَيَعْلَمْونَ) حيث لم يحدّد النّص ما هو الشيء الذي سيعلمونه، بل تركنا نستكشف ذلك.

2- المفاجأة:

ويُقصد بها أن النّص يفاجئ القارئ بحادثة أو موقف غير متوقع بالنسبة إليه. أي أنّه على العكس من المماطلة والتشويق. ففي المماطلة والتشويق يطمئن القارئ أو يتوقع ـ لا أقل ـ معرفة ماذا سيحدث دون أنْ يكتشفه أوّلاً... أمّا في (المفاجأة):

فإنّ الوقائع أو المواقف يفاجأ بها بدون أيّة توقّعات، وهذا مثل مفاجأة القارئ بالنسبة إلى تحوّل النّار برداً وسلاماً على إبراهيم (عليه السلام)، حيث إنّه يتوقّع إمّا أنْ يرجع القوم عن تصميم إلقائه في النار، أو أنّ النار ستلتهمه بشكل أو بآخر، ولكنّه فوجئ بتحوّلها إلى بردٍ وسلام...

مستوياتها:

1- من حيث الأدوات: المفاجأة تتمُّ في نطاق ما هو جزئي:

أمّا من خلال الأداة النحويّة المعروفة: (إذا)، وهذا من نحو: (فإذا هُمْ خَامِدوُن) (فإذا هي حَيّةٌ تَسْعَى)...

- أو مِنْ خلال العبارة العامّة التي تحمل دلالة المفاجأة مثل قوله تعالى عن موسى وهو يبحث عن الدفء لأهله، حيث يفاجأ بمناداته من اللهِ تعالى واضطلاعه بمهمّة النبوّة، ذلك من خلال عبارة (نودي: يا موسى)...

2- من حيث الدلالة: المفاجأة (من حيث الدلالة) تنشطر إلى:

- المفاجأة المألوفة: مثل (فإذا الذي بينكَ وبينهُ عداوة كأنّهُ وليٌّ، حميم) حيث لا تقترن هذه المفاجأة بأحداث أو مواقف معقّدة.

- المفاجأة النادرة: مثل تحوّل النّار إلى (برد وسلام)، وتحوّل السحرة إلى مؤمنين، حيث تقترن هذه المفاجأة بأحداث ومواقف معقّدة كما هو الحال بالنّسبة إلى السحرة الذين بدأوا مع فرعون، وفوجئوا ببطلان سحرهم، ومعايشتهم الصراع، ثمّ تحوّلهم إلى الإيمان...