المادة: البلاغة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 001.doc

البلاغة والأدب

لكن : قبل أن نتحدّث عن المنهج البلاغيّ، ينبغي أن نعرض لمفهوم (الأدب) أو (الفنّ) وقضاياه بنحو عابر ما دامت البلاغة تشكّل القواعد أو المبادئ التي يتوكّأ عليها الأدب أو الفنّ...

يمكن أن يعرّف الأدب أو الفنّ بأنّه: (التّعبير الجميل عن الحقائق) وهذا ما يميّزه عن (العلم) الذي يعرّف بأنّه (التّعبير المنظّم عن الحقائق) ويميّزه أيضاً عن الكلام العادي الذي يمكن أن يُعرّف بأنّه (التّعبير الذي يفتقد عنصر الجمال أو التنظيم) كما هو طابع الحديث اليومي الذي تصدر عنه غالبيّة النّاس في تعاملهم بعضاً مع الآخر: حيث لا (فنّ) فيه، كما لا يخضع لمفهوم (العلم) الذي يستند إلى حقائق وأرقام تُكتب بشكل منظّم ودقيق.

إنّ الفارق بين (الفن) وغيره - سواء أكان علماً أم كلاماً عادياً - هو وجود عنصر (الجمال) فيه، فعندما نقول بأن  1 +3=4 أو عندما نقول بأن الماء مركب من عنصرين، أو عندما نقول (حان وقت الصّبح): نكون أمام تعبيرات علميّة أو عاديّة تُعبّر عن حقائق الحياة بشكل واقعيّ لا زيادة فيه أو نقصان كما لا مجال فيه للعواطف أو الانفعالات... لكن عندما نقول: (مرحباً بطلوع الصّبح) أو نقول: (انفجر الصّبح) أو نقول: (اندلع لسان الصّبح) حينئذ نكون أمام تعبيرات فنيّة نظراً لوجود عناصر جديدة في هذا التّعبير مثل مادة: (التخيّل) ومثل عنصر (الانفعال) فالتخيّل هو الذي أوجد علاقة بين (الصّبح) وبين (اللسان) حيث لا علاقة واقعيّة بينهما، كما إن (الانفعال) أو حدّة العاطفة هي التي جعلتنا نهتف قائلين: (مرحباً بالصبح)،... أما لو قلنا: (حان وقت الصبح) فلا وجود لعنصر التخّيل فيه، كما لا وجود للعنصر العاطفي فيه، بقدر ما تعبّر هذه الجملة الأخيرة عن حقيقة موضوعية بحته تعتمد العنصر (العقليّ) أو (المنطقيّ) فحسب، بينما يعتمد الفن - مضافاً إلى عنصر (المنطق) أو (العقل) - عنصري (التخيّل) و(العاطفة) كما قلنا.

إذاً: هناك عناصر مثل (التخيّل) أو (الانفعال) وغيرهما هي التي تُكسب التعبير (جمالية) خاصّة تميّزها عن التعبير العلمي أو العادي. وهذه العناصر تتجسّد في قوالب أو أدوات مختلفة من التّعبير، منها ما هو (لفظي) مثل انتقاء العبارة ومتانة تركيبها، ومنها ما هو (إيقاعي) مثل: القوافي والأوزان في الشعر، ومثل الفواصل وغيرها في النّثر، ومثل تجانس الحروف وتوازن العبارات في مطلق الكلام، ومنها ما هو (صوري) أي ما يتركّب من شيئين توجد بينهما علاقة لا وجود لها في عالم الواقع مثل إيجاد العلاقة بين (الصبح) و(اللسان) كما لحظنا. وهو ما يتمثل في التشبيه والاستعارة والرمز وما إلى ذلك... ومنها ما هو (بنائي) أو (هندسي): مثل صوغ العبارات أو الموضوعات وفق تخطيط خاص بحيث يترابط بعضها مع الآخر بنحو تكون بين كل عبارة وأخرى أو موضوع وآخر: علاقة سببيّة بالنحو الذي لحظناه في سورة الكهف مثلاً... ومنها ما هو (شكلي) مثل القصّة أو المسرحيّة أو الخطبة أو السورة... إلخ، حيث تخضع كل واحدة منها إلى صياغة خاصة...، ومنها ما هو (موضوعي) مثل: انتخاب الموضوع من حيث فائدته النفسيّة أو الاجتماعيّة، ومن حيث اقترانه بما هو طريف أو مدهش: حيث يساهم انتخابنا لنمط الموضوع وطرافته في إضفاء عنصر (الجمال) عليه كما هو واضح.

إذاً: هناك مجموعة أدوات تشكّل مفهوم (الجمال) الذي يميّز الفن أو الأدب عن العلم أو الكلام العادي اللّذين يفتقران لأدوات (الجمال) المشار إليه...

والآن: إذا أدركنا هذه الحقيقة أمكننا أن نوضّح علاقة الفن أو الأدب بـ (البلاغة)، فإذا كان الفن أو الأدب هو: (التّعبير الجميل عن الحقائق) فإنّ (البلاغة) هي: القواعد أو المبادئ أو المعايير التي تحدّد ما هو (الجميل) من التعبير، أي أنها تقدّم لنا كيفية الصياغة التي ينبغي أن تتوفر في الأدوات اللفظية والإيقاعية والصوريّة والبنائيّة والشكليّة والموضوعيّة.

وهذا فيما يتصل بـ (أدوات) الفن أو الأدب... والأمر نفسه فيما يتصل بـ (عناصر) الفن أو الأدب ونعني بها: العنصر التخيّلي والعاطفي والعقلي أو المنطقي، حيث تقدّم (البلاغة) مجموعة من القواعد التي تحدد النّسب العقلية أو العاطفيّة أو التخيليّة التي ينبغي توفرها في العمل الفنّي أو الأدبي.

إذاً: (البلاغة) هي مجموعة من القواعد التي تحدد ما هو (الجميل) من التعبير.. سواء أكان ذلك متصلاً بعناصر الفن أو بأدواته بالنحو الذي أوضحناه، بمعنى أنّ الفن إذا كان هو (التّعبير الجميل عن الحقائق) فإن البلاغة هي (قواعد التعبير الجميل عن الحقائق).