المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 05.doc

تحدثنا في محاضرتنا السابقة عن ظاهرة جمع القرآن الكريم وترتيب سوره وتسائلنا هل أن القرآن الكريم جمع في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم جمع ورتب بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) وقلنا في حينه أن ثمة اتجاهين كانا يتبادلان الإشارة إلى هذا الجانب وأن الاتجاه الأول منهما يقرر بأن القرآن الكريم جمع ورتب في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاتجاه الآخر يذهب إلى أنه جمع ورتب بعد وفاته على التفصيل الذي ذكرناه في محاضرتنا السابقة. وقلنا أن كل واحد من هذين الاتجاهين يقدم جملة من الأدلة لتعزيز وجهة نظره كان الاتجاه الأول مثلاً يعزز وجهة نظره بدليلين عقلي ونقلي حيث أشار من خلال الدليل العقلي إلى أن اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن الكريم وبحفظة القرآن الكريم وبإيصاله إلى أكبر مجموعة من الناس وإلى أكثر من مصر من الأمصار وأن المئات من الحفاظ والقراء الذين كان لهم دوياً في مساجدهم ومنازلهم لقراءة القرآن كل ذلك يكشف عن أنهم كانوا على إحاطة بالقرآن الكريم وبكل ما يرتبط بنزوله وزمنه.. الخ.

ويقدمون أدلة أخرى بنحو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد ذكر بأنه أعطي السبع الطوال مكان التوراة ويذكرون بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأ سور المفصل بالترتيب الموجود عندنا الآن في ركعة ويشار إلى أنه كان  يقرأ بالسبع الطوال والإشارة إلى أن ترتيب الحواميم والطواسيم رتبت بشكل يأتلف مع الترتيب الحالي إلى آخر ما قدم من الأدلة العقلية.

وأما الأدلة النقلية فكانت تتوزع بين أكثر من دليل وفي مقدمتها الدليل الوارد عن زيد بن ثابت القائل بما مؤداه إنا كنا في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نؤلف القرآن من الرقاع.. الخ ما قدمه هذا الاتجاه من أدلة عقلية ونقلية.

وأما الاتجاه الآخر فقد لاحظنا أنه قدم بدوره جملة من الأدلة ولعل أهم هذه الأدلة هي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما دنت وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) أوعز إلى الإمام علي (عليه السلام) قائلاً له بأن القرآن خلف فراشه وأمره بأن يجمع ولا يضيع إلى آخر ما ذكرناه من تفصيلات ترتبط بهذا الجانب هذا بالإضافة إلى ما ذكره هؤلاء المعنيون بالشكل القرآني الكريم بأن الجمع تم  في عهد ما بعد حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قدموا أدلة أخرى منها الدليل الذاهب إلى أن آخر آية نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي آية إكمال الدين حيث أن الفترة الفاصلة بين نزول الآية وبين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تسمح بأن يرتب القرآن بهذا الترتيب الموجود حالياً هذا بالإضافة إلى الروايات المتنوعة التي يشير بعضها إلى أنه قد جمع في عهد أبي بكر وأن زيد بن ثابت هو الذي قام بهذه المهمة فضلاً عن الروايات التي تشير إلى أن الجمع تم بنحو آخر هو الجمع على القراءة الموحدة التي تمت بعصر عثمان مضافاً إلى ما ورد من الروايات التي تذكر بأن الجمع أيضاً قد استهل أو أكمل أو لم يستكمل في عصر عمر إلى آخر ما ذكرناه من الروايات التي ارتكن إليها الاتجاه الثاني في ذهابه إلى أن القرآن الكريم قد جمع في حياة ما بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنحو الذي تم تفصيل عنه سابقاً وإجمال الإشارة إليه حالياً.

وفي ضوء ما تقدم نتساءل قائلين هل أن الحق مع الاتجاه الأول أم أن الحق هو مع الاتجاه الثاني نعتقد أن الإجابة على هذا السؤال تقترن بصعوبات جمة وكما قلنا أن الموقف المتسم بالغموض والضبابية ولكن مع ذلك من الممكن أن نسلط إنارات متنوعة على هذا الجانب فنقول إن كل من الاتجاهين المتضاربين يقدم أدلة من الممكن أن يقتنع ببعضها وفي الآن ذاته من الممكن أن يرد على الأدلة الأخرى للطرفين كليهما.

فبالنسبة إلى لاتجاه الأول وأعني به الاتجاه الذاهب إلى أن القرآن الكريم جمع في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ركبت آياته في ذلك العهد نقول من الممكن أن يكون هذا الكلام متسماً بالصواب بالنحو الذي ذكره أصحاب الاتجاه المشار إليه فحفظ القرآن الكريم من قبل المئات والعناية بالشأن القرآني الكريم كل ذلك يحمل الناس على أن يعنوا به العناية كلها وأن يحفظ السور وأن يحفظوا الآيات وأن يحافظوا على هذا الكنز العظيم بالشكل الذي ذكر في الدليل الذي قدمه الاتجاه المشار إليه بالإضافة إلى أن ما ذكره هذا الاتجاه من أن السور الطوال السبع والسور المفصل القصرات وسور الإسراء والكهف و..و.. الخ. من أنها رتبت حينئذ بنفس الترتيب الموجود حالياً نقول أولئك جميعاً من الممكن أن تشكل علامات واضحة على صواب هذا الاتجاه المذكور ولكن هناك أيضاً تساؤلات أو اعتراضات أو مناقشات أو إشكالات يمكن أن تثار أيضاً ضد هذا الاتجاه ومنها أولا الإشكال الوارد أن الوحي لم ينقطع طيلة فترات الرسالة الكريمة وهذا ما لا يسمح به الوقت بأن ترتب السور هذا الإشكال وارد دون أدنى شك وقد أضيف إلى هذا الإشكال أو بالأحرى نحن احتملنا أن يورد إشكالا آخر هو أن الفترة بين نزول آخر آية كريمة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي آية إكمال الدين وبين وفاته هذه الفترة القصيرة لم تسمح بأن يكون ترتيب السور قد تم بأكمله ما دامت هذه الفترة القصيرة لا تسمح بذلك ولكن مع ذلك يمكننا الإجابة على هذا السؤال وعلى السؤال الذي تقدمه أيضاً فنقول ما دام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا موضع إجمال بطبيعة الحال ما دام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بالنسبة إلى ترتيب الآيات يأمر كتاب الوحي بأن يضعوا كل آية في السورة الفلانية فهذا يعني أن السورة أيضاً قد عرفت في عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل أو بآخر ليس من حيث مجرد السورة ومسماها بل أقصد السورة من حيث ترتيبها فما المانع من أن يقال مثلاً أن سورة الإسراء وضعت إلى جانبها سورة الكهف أو أن السورة الفلانية أيضاً وضعت إلى جانب السورة الأخرى وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما كان ينزل عليه الوحي آيات متفرقة كان يأمر أن توضع هذه الآية في المكان الفلاني ومن ذلك السورة التي ورد فيها آخر نص قرآني وهو آية إكمال الدين حيث أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن توضع في مكانها المخصص من سورة المائدة مثلاً.

وإذا أخذنا بالإضافة إلى ذلك بنظر الاعتبار بأن القرآن كان يعرض من قبل جبرائيل ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة كل عام وأنه عرض مرتين في عام وفاته حينئذٍ يمكن أن نذهب إلى أن الترتيب بالنسبة إلى السور الكريمة قد تم أيضاً خلال هذه السنوات من العرض وأخيراً يمكن القول أنه حتى بالنسبة إلى الفترة القصيرة التي وقعت بين حادثة الغدير أو حادثة تكميل الرسالة القرآنية من خلال النص الأخير المرتبط بإكمال الدين المسافة بين هذه الحادثة وبين وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لو كانت قصيرة حينئذ يمكننا أن نقول بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أمر بوضع هذه الآية في السورة المشار إليها يكون القرآن الكريم قد انتهى وحيه وأن ترتيب الآيات الكريمة قد تم بالنحو الذي احتملناه أيضاً.

يضاف إلى ذلك أن الرواية الصادرة عن زيد بن ثابت القائلة بما مؤداه إنا كنا في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نؤلف القرآن من الرقاع لهذا النص من الوضوح بمكان لا نعتقد ضرورة تسليط الأضواء عليه الآن بقدر ما يشكل هذا بالإضافة إلى ما احتملناه من الإجابة المتقدمة بنعم تشكل قناعة بإمكانية أن يكون القرآن الكريم قد نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن نزوله قد تم وفق ترتيب خاص لآياته وسوره بالنحو الذي وصل إلى أيدينا في هذا الميدان.

ولكن ماذا نصنع في الرواية الواردة عن زيد بن ثابت أيضاً وهي رواية التي تعارض هذه الرواية التي قرأناها عليكم الآن الرواية تقول كما لاحظتم أيضاً أن زيداً قد كلف من قبل أبي بكر وعمر بأن يجمع القرآن وأنه قد استنكر هذا العمل واضطرب منه وتساءل كيف أصنع ما لم يصنعه رسول الله هذه الرواية تتعارض تماماً مع الرواية القائلة بأننا كنا في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نؤلف القرآن من الرقاع وما دام الأمر كذلك حينئذٍ إما أن تكون هذه الرواية صائبة وإما أن تكون الرواية الأولى التي تحدثنا عنها هي الرواية الصائبة كيف يستطيع الباحث أن يصل إلى صواب إحدى الروايتين اعتقد أنه من الصعب أن ينتهي إلى نتيجة إلا من خلال هذه إلى سقوط إحدى الروايتين وسقوط إحدى الروايتين دون الأخرى يحتاج إلى دليل اعتقد أنه من الصعب أن يثبته باحث ما بالشكل الذي يعزز اليقين العلمي بهذه الظاهرة.

طبيعياً من الممكن أن يقال بأن المقصود من تأليف القرآن الكريم في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الرقاع قد يقصد به مجرد الجمع وقد يقصد به مجرد تأليف الآيات وترتيب ذلك إلا أن هذين الاحتمالين غير واردين نظراً إلى الرواية الآمرة الإمام علي (عليه السلام) بأن يجمع القرآن وهو موجود في فراش النبي.. الخ. اللهم إلا أن يقال أن كل واحد من هؤلاء المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحتفظ لنفسه بجمع خاص من القرآن الكريم دون أن يعني ذلك أن هذا الجمع هو نفس المصحف الذي وصل لأيدينا الآن ويدلنا على ذلك في الواقع ما ذكره الرواة من وجود مصاحف متعددة بعضها لابن مسعود وبعضها لعبيد وبعضها لآخرين مع ملاحظة أن هذه المصاحف يختلف ترتيب سور أحدها مع الآخر وهذا ما يلاحظ بإجماع المؤرخين من حيث وجود الاختلاف وهذا الاختلاف يدلنا على إمكانية أن يكون كل واحد من هؤلاء قد جمع لنفسه ما أتيحت له من فرص الجمع ورتب القرآن بهذا الشكل أو بذاك دون أن يعني أن ثمة مصحف قد وحد في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهذا كله فيما يرتبط بالإشكالات الواردة على إمكانية جمع القرآن الكريم في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  حيث لاحظنا إمكانية أن يكون هذا الجمع مصحوبا بيقين شبه علمي في هذا الميدان والرأي الآخر من الممكن أن يتسم بالسمة ذاتها وحين ننتقل إلى الاتجاه الآخر الذاهب إلى أن القرآن الكريم قد جمع فيما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالأمر بدوره يظل ملفعاً بشيء من الضبابية ومن الغموض فقد لاحظتم مثلاً أن هذا الاتجاه يتفرع إلى أكثر من طائفة بعضها تذهب إلى أن الجمع تم في عصر أبي بكر والآخر يقول في عصر عمر والثالث يذهب في عصر عثمان والرابع يذهب إلى عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصر أبي بكر واتجاه آخر يذهب إلى عصرين هما عصر عمر وعثمان... الخ. إن مجرد هذا التفاوت في وجهات النظر سوف لا يسمح لباحث للوقوف على حقيقة الموقف.

ولعل المثال الأوضح الذي قفز إلى أذهاننا ونحن نتحدث عن هذا الجانب هو أن نتساءل الآن بالنسبة إلى الطائفة الذاهبة إلى أن القرآن جمع في عصر أبي بكر وأن أبا بكر عندما توفي سلم هذه النسخة إلى عمر وأن عمر عندما توفي سلم نسخته إلى ابنته وأن عثمان في نهاية المطاف عندما أراد أن يوحد المصاحف أخذ هذه النسخة من ابنة عمر.. إلى آخر ما سنتعرض له لاحقاً إن شاء الله.

المهم أن هذا الذهاب إلى أن القرآن جمع في عصر أبي بكر وسلم إلى عمر ثم سلم إلى ابنته السؤال الذي نثيره هو إذا كان كل من أبي بكر وعمر قد خشيا أن يضيع القرآن الكريم بعد أن قتل المئات من القراء في حوادث ما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نقول إذا كان كل من هذين الشخصين قد حرص على أن يجمع القرآن الكريم حتى لا يضيع وأن ينتشر بين الناس حينئذٍ ما هي الفائدة من عملية جمع المذكورة وحيث ظل أبو بكر محتفظاً بها إلى وفاته ولماذا أيضاً لم ينشرها عمر أيضاً وولى محتفظاً بها إلى آخر حياته كيف يمكن أن يتعقل أي واحد منا أن ثمة حرص كبير على أن يجمع القرآن وينتشر بين الناس ومع ذلك تظل النسخة التي جمعت تظل محفوظة في صناديق خاصة تسلم من شخص إلى آخر وتسلم في نهاية المطاف إلى ابنة عمر ما هي البواعث أو الأسرار الكامنة وراء أمثلة هذا السلوك الذي يذهب إلى أن نسخة القرآن المجموعة في عهد أبي بكر قد ظلت محتفظة بذاتها في صندوق خاص لم يستفد منه أحد إلا بعد مرور سنوات طويلة وهي السنوات التي عاشها عثمان بالنسبة إلى حادثة توحيده للمصاحف.

هذا من جانب ما استخلصناه نحن أما مما نلاحظه مما استخلصه الآخرون ففي مقدمة ذلك هو أسلوب الجمع المرتكن إلى شاهدين من الشهود الذين يذكرون هذا النص القرآني أو ذاك خلال العملية التي اطلع بها زيد أو عمر أو كلاهما هذا أيضاً قد رده أكثر من باحث بالذهاب إلى أنه كيف يمكن أن نقتنع بوجود القرآن الكريم الذي نقل متواتراً كيف يمكننا أن نجمع بين عملية التواتر المنقولة وبين العملية التي تدعي أن القرآن الكريم قد جمع من خلال وجود شاهدين فحسب هذا الاعتراض أيضاً له وجاهته أو مشروعيته دون أدنى شك.

بالإضافة إلى وجود الرواية القائلة بأن الآيتين الأخيرتين من سورة براءة وجدت عند شخص واحد ترى هل أن القرآن الكريم التي حفظته مئات الصدور حتى بعد حادثة قتل القراء بالمئات فإن عشرات الصحابة الذين احتفظوا بالقرآن الكريم ومنهم الصحابة المعروفون نقول كيف يمكن أن يقال بأن الآيتين الأخيرتين من سورة البراءة لن توجد إلا لدى شخص واحد فحسب مع كثرة هؤلاء الصحابة الذين لديهم عدة مصاحف ذكرناه كمصحف ابن مسعود وسواه و..الخ.

وأخيراً فإن الحديث عن جمع القرآن في زمن الثالث ونعني به عثمان لعل الحديث عن هذا الجانب يظل أكثر وثوقاً واطمئناناً من أي حديث آخر وهو ما يمكن أن نقره إلى حد ما دون أن نقر بجميع التفصيلات التي ذكرها المؤرخون في ذلك.

فقد أشرنا إلى أن من المؤرخين من يذهب إلى أن عثمان كان له دوراً في توحيد القراءات فحسب وهناك من يشير إلى أن دوره أيضاً قد انطوى على ترتيبه للسور القرآنية الكريمة حيث استشهدوا بقضية الأنفال وبراءة التي قرن بينهما عثمان ولم يضع بسم الله الرحمن الرحيم بينهما والاتجاه الثالث القائل بأنه في عهد عثمان قد جمع القرآن وقد رتبت سوره وقد وحدت قراءته حيث أن عملية جمع القرآن قد تمت أيضاً من خلاله بواسطة شاهدين وأن عملية الترتيب قد تمت من خلال ما تم قراناً بين سورتي الأنفال والبراءة إلى آخره.

والحق أن هذه الاحتمالات من الممكن أن يتقبلها الباحث بخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن غالبية المؤرخين يكادون يقتنعون بهذا الجانب بخاصة أن مسألة توحيد المصاحف اقترن بالموافقة المشار إليها والأهم من ذلك كله وهو ما يحقق اليقين العلمي بذلك هو ما ورد من الإمام علي (عليه السلام) وهو الحجة فيما ينقل إلينا بطبيعة الحال هذا النقل يقول أن أحد الأشخاص سأل الإمام علي (عليه السلام) عن المصحف المذكور فلم يجبه في البداية ولكن هذا السائل عندما كرر السؤال أجابه الإمام علي (عليه السلام) بأن الذي صنعه هذا الشخص ونعني به عثمان هل هو قرآن أم ليس بقرآن فقال إنه قرآن فقال إذاً حسبي بهذا. إن هذا النص يكفي لأن يشيع الاطمئنان في قلوب الباحثين من أن القرآن الذي وصل إلينا الآن هو القرآن الذي يحمل مسوغاته الشرعية أي من حيث المسؤولية التي تقع علينا قبالة التعامل مع القرآن الكريم حيث أشار الإمام علي (عليه السلام) إلى أن الاقتناع بهذا القرآن الموجود بين أيدينا يحقق الطاعة المفترضة حيال التعامل مع مبادئ القرآن الكريم في شتى المستويات.

ولعل التوفيق بين هذا الاتجاه وبين الاتجاه الأول والتفريعات المترتبة على ذلك الاتجاهين من الممكن أن نؤلف بينها بالنحو الآتي فنقول أن القرآن الكريم من الممكن أن يكون تم جمعه وترتيبه في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن توحيد بالنسبة إلى المصاحف تم  في عصر عثمان وأن ذلك كان في نطاق الاختلاف الذي حصل بين القراء وهو اختلاف لا يضر البتة بالنسبة إلى القناعة بأن القرآن الكريم قرآن تواترنقله بما لا تشكيك فيه وأن الواصل بأيدينا هو القرآن المشروع الذي نتعامل وإياه بالشكل الذي قلناه.

وإننا نقرر هذه الحقيقة فلأن الأمر بالنسبة إلى توحيد المصاحف هذا الأمر يظل في الواقع مقترناً بوجود ظواهر أخرى ينبغي أن نبدأ لنحدثكم عنها وهي ظاهرة القراءات حيث ستجدون إن شاء الله كيف أن الاختلاف في القراءات أمر ورد على لسان المعصومين (عليه السلام) أيضاً حيث أشاروا إلى أن الاختلاف جاء من قبل القراء وأنهم (عليه السلام) أمرونا أن نقرا القرآن كما علمنا وذلك جميعاً تكشف لنا بأن ظاهرة توحيد المصاحف ظاهرة تاريخية لها واقعها ولا تتعارض مع الذهاب إلى أن القرآن الكريم قد تم نقله متواتراً كل ما في الأمر أن مسألة الاختلاف في القراءة تخضع لعوامل متعددة سنحدثكم عنها إن شاء الله تعالى ولكن حسبنا أن نشير الآن إلى أن مسألة القراءات لا تتعارض البتة من حيث التفاوت الملحوظ بين القراء بالنسبة إلى النص القرآني الكريم هذا ويمكن التوافق بين الذهاب إلى أن القرآن الكريم قد تم جمعه وترتيبه بشكل أو بآخر في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن التوحيد للقراءات قد تم في عصر الثالث على النحو الذي فصلنا الحديث عنه حيث لا تعارض البتة بين هذين الاتجاهين في ضوء التأليف الذي قلناه قبل لحظات وبذلك ينتهي الحديث عن ظاهرة جمع القرآن وترتيب سوره لنتقدم إلى موضوع جديد آخر يتصل بموضوع القرآن الكريم من حيث علومه ويتصل بما حدثناكم عنه من حيث القراءات ألا وهو موضوع القراءات بنحو مطلق أي إننا سوف نثير السؤال الآتي القائل ما هي القراءة التي توفر القرآن الكريم عليها ثم ما هي نقاط التلاقي أو الافتراق في وجهات النظر التي قدمت من قبل الباحثين قديماً وحديثاً حيال هذه القراءات وما يرتبط بهذه القراءات أيضاً من حديث يتصل بشكل أو بآخر بالقراءات أيضاً وهو الحديث القائل بأن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف حيث ستجدون مدى التفاوت في تفسير هذا النص بالإضافة إلى ما ورد من قبل المؤرخين من الحديث عن القراءات السبع أو القراءات العشر حيث سنلاحظ أولاً أنه لا علاقة البتة بين حديث أن القرآن نزل على سبعة أحرف وبين النقل التاريخي بوجود قراءات سبع أو عشر أو أكثر إلى آخر ما سنحدثكم عنه إن شاء الله تعالى.

 

القراءآت

ومع أننا سنحدثكم عن هذا الجانب إن شاء الله سبحانه وتعالى في لقاء لاحق إلا أننا نمهد له الآن بشيء من الحديث ما دام الوقت يتسع للحديث عن هذا الجانب فنقول ثمة نصوص متنوعة تشير كما قلنا قبل قليل هذه النصوص تشير إلى أن المعصومين (عليه السلام) أمرونا بأن نقرأ القرآن ما علمنا وهذا الحديث في الواقع ينطوي على نقاط متنوعة ينبغي أن نقف عندها قبل أن نتحدث بالتفصيل عن القضايا المترتبة على ذلك إن قولهم (عليه السلام) أن نقرأ كما علمنا يعني أن ثمة اختلافات في قراءة الناس وقد لاحظنا عند حديثنا عن الأدلة التي قدمها الاتجاه الثاني القائل بأن القرآن الكريم جمع ورتب بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكرنا أيضاً أن الحديث عن هذا الجانب قد تبلور بوضوح في زمن الثالث من الحكام حيث ظهر في زمانه هذا التفاوت الشديد بالنسبة إلى الاختلاف في القراءات وذكرنا حادثة حذيفة وسواها من الحوادث التي شوهدت آنئذٍ وهي حوادث وصل التصاعد بها على نحو أخذ بعضهم يكفر الآخر لأن قراءة هذا تختلف عن قراءة ذاك إلى آخره.

إن هذا كله يسمح لنا بأن نقول بأن المعصومين (عليه السلام) حينما أمرونا بأن نقرأ القرآن كما علمنا هذا يعني أن ثمة قراءة معينة قد احتفظ بها الجيل المعاصر لحياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والجيل المعاصر لحياة الإمام علي (عليه السلام) أيضاً حيث أن هذين الجيلين صدر خلالهما من التصريحات ما يتوافق مع ما ذهبنا إليه من أن الاختلاف في القراءات إنما وجد بفعل ولكن ثمة تواتر في القراءة أيضاً يشابه تماماً التواتر في وجود القرآن الكريم مع فارق واحد هو إمكانية أن يكون التفاوت في القراءة من خلال اللهجات أكثر منه التفاوت في القراءة من خلال الألفاظ أو الجمل.

والمهم الذي نريد أن نوضحه الآن هو أن هذه القراءات كما قلنا عندما نأمر بأن نقرأ منها ما علمنا إنما يرتبط ذلك أيضاً بأسرار أخرى ومنها الأسرار المتعلقة بالحديث القائل بأن القرآن نزل على سبعة أحرف حيث سنرى لاحقاً إن شاء الله ما هو المقصود من هذا الحديث الذي تفاوتت وجهات النظر حياله أيضاً.

طبيعياً ينبغي أن نشير إلى أن القراءات من جانب آخر ترتبط بنمطين من التعامل أو التفسير لها فحيناً يقصد بالقراءة هو اللغات الفصيحة التي يتعامل العرب آنئذٍ وإياها وفي مقدمتها لغة قريش وتفريعات هذه اللغة وكذلك بالنسبة إلى اللغات الأخرى التي تطبع سائر القبائل أو الطوائف العربية آنئذٍ يقابل هذا ما يمكن أن يطلق عليه مصطلح اللهجات حيث أن اللهجة أيضاً تظل متفاوتة بين قبائل وقبائل أخرى كما هو ملاحظ في حياتنا المعاصرة أيضاً.

فإذاً عندما نتحدث عن القراءات وحينما نتحدث عن الحديث القائل بأن القرآن نزل على سبعة أحرف عندما نتحدث عن هذه الجوانب ينبغي أيضاً أن نضع بنظر الاعتبار اختلاف اللغات واختلاف اللهجات وارتباط ذلك بما سنوضحه إن شاء الله سبحانه وتعالى من خلال الحديث القائل بنزول القرآن على سبعة أحرف.

إن المعروف بأن الحديث المشار إليه ونعني به الحديث القائل أن القرآن نزل على سبعة أحرف هذا الحديث يظل مقترناً لأكثر من ظاهرة ومن جملة هذه الظواهر ما يلاحظ من التعليل الذي تقدمه أيضاً بعض الروايات لهذا الجانب وفي مقدمة ذلك الإشارة إلى أنه التسهيل على الأمة أو الإشارة إلى أن جبرائيل نزل بحرف واحد ثم استزاده ميكائيل حتى بلغ سبعة أحرف. هذه الأحاديث بطبيعة الحال سوف لن يقف منها المعنيون بالشأن القرآني موقفاً موحداً بقدر ما يتفاوتون أيضاً حياله تفاوتاً ملحوظا بالشكل الذي لاحظناه أيضاً بالنسبة إلى وحي القرآني من حيث كيفيته ومن حيث نزوله ومن حيث جمعه ومن حيث ترتيبه الخ.

نقول إن التفاوت في وجهات النظر في هذا الميدان تظل ملحوظة بشكل يلفت النظر دون أدنى شك إلى أن ثمة موقفين عامين حيال ذلك أحدهما الموقف الرافض لهذا الحديث أساساً هو الموقف الذي يتقبله بشكل أو بآخر على درجات متفاوتة من اليقين أو التحفظ.. الخ.

فالموقف الرافض لهذا الحديث يذهب إلى أن هذا الحديث وما يواكبه من أحاديث معللة أخرى لا أساس لها من الصحة بتاتاً لأن المعصومين (عليه السلام) ذكروا أحاديث أخرى تشير إلى أن مختلقي هذه الأحاديث قد كذبوا لأن القرآن واحد نزل من واحد فهو على حرف واحد وليس سبعة أحرف.

وأما المتقبلون كما قلنا يظلون متفاوتين في نظراتهم حيال الأحاديث المذكورة حيث يفسر البعض منهم بأن المقصود من الحروف السبعة هي اللغات أو القراءات مطلقاً بل إن البعض وقع في وهم كبير جداً حينما فسر الحروف السبعة للقراءات السبع مع أنه من الواضح أن القراءات السبع هي مجرد قراءات لقراء معروفين وهناك قراء عشر وهناك قراء أكثر وأن عملية الحديث عن القراءات السبع أو العشر أو غيرها كما سنوضح ذلك لاحقاً إن شاء الله بقضية لا علاقة لها البتة في أي حديث عن المعصومين (عليه السلام) ولذلك فإن الحديث القائل أن القرآن نزل على سبعة أحرف يظل أجنبياً تماماً عن اللغات السبع أو العشر المعروفة التي سنحدثكم عنها.

المهم أن بعض المعنيين بالشأن القرآني الكريم كما قلنا فسروا الحديث القائل بأن القرآن نزل على سبعة حروف بعضهم ذهب إلى أن المقصود من ذلك هو اللغات أو القراءات أو اللهجات والبعض الآخر يفسره دلالياً بأنه مجموعة من المعاني أو الأساليب كأسلوب الأمر أو الزجر مثلاً أو الترغيب أو الترهيب أو ما يرتبط أساساً بالدلالات كالذهاب إلى أنه يتضمن الحلال والحرام والمحكم والمتشابه أو ما يتضمن على سبيل المثال الأساليب المرتبطة بالقصص أو بالأمثال وما إلى ذلك.

وسوف نرى أن هذا التفاوت في وجهات النظر في الواقع بعضه لا يرتكن إلى أي أساس علمي وأما البعض الآخر فسوف نحدثكم عنه إن شاء الله وسنصل إلى نتيجة هي أن الحديث القائل أن القرآن نزل على سبعة أحرف أن هذا الحديث يظل متشعباً إلى جملة مستويات من التفسير الذي يحاول أن يؤلف بين هذه المعاني السبعة حيث سترون أو أن كل واحد من الأحاديث الواردة عن المعصومين (عليه السلام) فيما يفسره بتفسير يتفاوت عن التفسير الآخر مما يمكن الذهاب بوضوح إلى أن المعصومين (عليه السلام) كانوا قد عنوا من الأحاديث المذكورة أو من التفسيرات المذكورة ما يلتئم مع دلالة خاصة على نحو ما سنفصل الحديث عنه إن شاء الله تعالى في محاضرة لاحقة وإلى ذلك الحين نستودعكم الله سبحانه وتعالى ونتمنى لكم مزيداً من التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وإلى اللقاء القادم إن شاء الله تعالى.