المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 44.doc

 نواصل حديثنا عن المادة المعرفية في القرآن الكريم حيث حدثناكم في المحاضرة السابقة عن المادة النفسية المتصلة بكل من الاقتصاد والاجتماع، أما الآن فنحدثكم عن الجانب المرتبط بالبعد السياسي متمثلا في المفهوم الذي يطلق عادة على المؤسسات السياسية وفي مقدمتها مؤسسة الدولة، لكن بما أن الظاهرة الإسلامية ليست هي مؤسسة سياسية فحسب الظاهرة الإسلامية ليست هي مؤسسة سياسية بل هي مؤسسة عامة تتناول كل مفردات النشاط البشري حينئذ فإن تحديدها في هيكل محدد لا يتوافق وطبيعة المؤسسة الإسلامية ككل، إن الدولة كمؤسسة سياسية من الممكن أن تتم كما هو ملاحظ في التواترات الخاصة من التاريخ الإسلامي ومن الممكن أن تتم إلى أن ما هو جدير بالأهمية هو ممارسة الخلافة أو العبادة في الأرض بقدر ما تتيحه مختلف الظروف للفرد والمجتمع من نشاط إيجابي أو سلبي في هذا الميدان، لذلك نجد أن طرح  القرآن الكريم للمؤسسة السياسية لا يحدد من خلال مفهوم الدولة بل يحدد من خلال ما يطلق عليه مصطلح الأمة لذلك نجد مصطلح الأمة يتردد في مواقع متنوعة من القرآن الكريم قوله تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).. الخ.

ولعل أهم إشارة إلى ما قلناه قبل قليل وهو أن المؤسسة السياسية لا يشترط تحققها في مفهوم الدولة هو الإشارة القرآنية الكريمة أيضاً القائلة بما مؤداه أن العباد الله الصالحين إذا مكنهم الله في الأرض فإنهم سيمارسون الطاعة فالإشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إذا مكن المؤمنين من ممارسة النشاط المطالبين به حينئذ سوف يمارسونه بالنحو المطلوب وهذا يعني أن تحقيق الدولة ليس هو دائما من شروط المجتمع الإسلامي بقدر ما يعني أن الظروف كما قلنا هي التي تسمح بالقيام بهذه الفترة من الزمن أو تلك.

المهم الملاحظ هنا عبر الإشارة القرآنية الكريمة إلى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر إلى آخر الآية الكريمة نقول إن هذا الطابع الأخلاقي يظل هو المستهدف نحو الواضح كما لاحظتم فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثل حصيلة المبادئ التي رسمها الله سبحانه و تعالى للبشرية طالبنا بان نلتزم بها عبر مفهوم الخلافة أو العبادة في الأرض، وهذا من حيث النشاط العام للمؤسسة الإسلامية المتمثلة في الأمة أو المجتمع أو الجماعة والقرآن الكريم ينظرا لهذا الجانب كما قلنا ليس من الزاوية السياسية المنحصرة في مؤسسة الدولة بل يسحبها على مطلق التجمعات السياسية كما قلنا ولعل علماء الاجتماع وهم يعرفون الدولة نقول عبر تعريفهم الدولة لا يسحبون هذا التعريف على مصطلحه السياسي المعروف، بل يسحبونه على أي تجمع خاضع لنظام خاص بما فيه التجمع العشائري مثلا، المهم أن النص القرآني الكريم هو الطرح لهذا الجانب يتمثل في افتراض لقيام أية مؤسسة سياسية سواء أكانت هذه المؤسسة دولة أو مجرد أمة إسلامية أو مرجعية أو جماعة وما إلى ذلك، نقول يطرح النص القرآني الكريم نمط التعامل في السياسية الداخلية والخارجية والسياسة الداخلية لعل الآية القرآنية الكريمة في سورة محمد (صلى الله عليه وآله) حيث تقول (محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) إلى آخر الآية القرآنية الكريمة، إن مصطلح الرحماء فيما بينهم هي تظل تعبيرا واضحا عن الأمة الإسلامية المتراصة والتي تطبعها علاقات محكمة لا تنفصل رواها وهو أمر تشير إليه أيضاً آيات قرآنية أخرى كالآية الكريمة المشيرة القائلة (إنما المؤمنون اخوة)، حيث تشير أيضاً في حالة وجود تنازع داخلي قائلة (وإن  طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فائت فأصلحوا بينهما بالعدل)..الخ.

بعد ذلك يقول (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم).

لاحظوا هنا كيف أن الطرح القرآني الكريم للمجتمع الداخلي للمؤسسة الإسلامية يتعامل أو يطرح هذا النمط من التعامل المشير إلى أن المؤمنين أخوة ويشير بعد ذلك إلى مبدأ التنازع وما يترتب عليه من ضرورة الاصلاح مشيرا إلى انه في حالة التنازع، فعلى المجتمع الإسلامي أو على المسؤولين في هذا المجتمع أن يصلحوا بين الطوائف المتنازعة إلا في حالة ما إذا أصرت إحدى طرفي الطوائف على الانحراف حينئذ فإن قتالها يشكل ضرورة دون أدنى شك، وبهذا المستوى من الطرح ندرك تماما أو نتبين تماما المفهوم الذي طرحناه في محاضرة سابقة ومن التوازن الاجتماعي سيظل هو المستهدف من وراء صياغة المبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى للبشرية.

على أية حال هذا فيما يتعلق بالسياسة الداخلية للمجتمع الإسلامي، وأما فيما يتعلق بالسياسية الخارجية فإن الطرح القرآني الكريم يظل من الوضوح بمكان كبير من جانب، ويظل قائما كما هو ملاحظ في جميع الطروح القرآنية آخذا البعد الأخلاقي بعين الاعتبار وذلك حين نشير إلى أن الله سبحانه وتعالى لا ينهانى عن المجتمعات التي لم تعادنا ولم تخرجنا من ديارنا بل يطلب منا الله أن نتعامل وإياها وفق مبدأ القسط أو العدل تقول الآية الكريمة (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تودوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) إن هذا الطرح القرآني الكريم لسياسة المجتمع الإسلامي خارجيا تظل من الوضوح بمكان كبير من حيث الطابع الأخلاقي لها حيث تلاحظون جيدا كيف أن الله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نتعامل حتى مع المجتمعات الخارجية تعاملا قائما على القسط ما داموا لم يحاربونا، ولكن في حالة العكس أي في حالة المحاربة فإن مهادنتهم تظل محفوفة بالخطأ ولاشك.

المهم ما دمنا قد تحدثنا عن العلاقة التي تربط بين المؤسسة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي وبين تعامله مع الفئات الخارجية وما يتطلب هذا التعامل حيناً ومن مهادنة حيناً آخر بحسب الموقف الذي يتطلب هذا الجانب أو ذاك حينئذ فالأجدر بنا أن ننتقل إلى موضوع آخر يرتبط بهذا الجانب ألا وهو البعد المعرفي المتصل بالتعامل العسكري في المؤسسة الإسلامية، من البين جداً أن النص القرآني الكريم وهو يتعامل مع ظاهرة المؤسس السياسي من حيث التعامل مع الداخل ومع الخارج، حينئذ فإن التعامل مع الخارج كما هو واضح يتطلب حيناً الجهاد أي يتطلب نشاطا عسكريا وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن ظاهرة الجهاد أولا وكيفية الطرح القرآني الكريم لها ثانيا، يلاحظ أن آيات الجهاد في القرآن الكريم أيضاً من الكثرة ومن التنوع والحث على الجهاد يقترن في الواقع بعزل الأمة الإسلامية وبالظاهر أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه حينئذ فإن الحث على الجهاد باختصار يغلق الواقع تعبيرا عن العزة التي تطبع الأمة الإسلامية ومن ثم فإن الجهاد والقتال في سبيل الله سبحانه وتعالى يحقق هذا الجانب من حيث البعد المجتمعي أو السياسي للامة الإسلامية.

بيد أن الجهاد وهو محفوف بهذا الحث الملحوظ في عشرات الآيات القرآنية الكريمة يظل هذا الجهاد محفوفا بالروابط أو بالظواهر أو بالطوابع ألاخلاقية حيث نكرر كما كررنا سابقا أن التعامل المعرفي للقرآن الكريم مع هذه الظاهرة أو تلك يظل في تعامله مطبوعا بالطابع الأخلاقي العام الذي ينسحب على كل أنماط النشاط الذي تمارسه الأمة الإسلامية، فبالنسبة إلى الجهاد نلاحظ بوضوح أن النص القرآني الكريم يحثنا حينا على الإعداد للحديث كقوله تعالى (واعدوا لهم ما استطعتم من قوة).. الخ. ولكنه من جانب آخر يقرر بأنه إذا جنح للسلم فاجنح له، قد يتسائل الطالب عن التوفيق بين هاتين الظاهرتين اللتين تتحدثان عن اللغة يبدو في الظاهر أنها تخالف الأخرى ولكنها في الواقع اللغتان تتآلفان تماما ونعني ذلك أن الامة الإسلامية تظل  من جانب مكتسبة طابع العز الإسلامي من جهة ومن جانب آخر يحرص القرآن الكريم إلى أن يحقق الأمن للشخصية الإسلامية و كل من هذين النمطين من النشاطين نفترضهما أو بالأحرى إن كلا من هذين الموقفين حددهما سياق خاص فإذا افترضنا أن الموقف يتطلب عزا فحينئذ يظل الجهاد فارضا مشروعيته ولكن حينما يتطلب الموقف أمنا فإن هذا الموقف يفرض على الأمة الإسلامية أن تجنح للسلم، ولكن بشرط أن لا يتم ذلك من خلال الذل ولذلك وردت توصية قرآنية أخرى تقول (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون) إذا العز من جانب والأمن من جانب آخر هما الجناحان اللذان ينبغي أن يتوكأ عليهما من خلال الطرح القرآني لهذا الجانب، من جانب ثالث يظل وهذا ما نود أن نؤكد عليه يظل الطابع الأخلاقي دون المسيطر على المواقف جميعا سواء أكانت ذلك في ميدان الحث على القتال أو في ميدان الحث على السلم، لاحظوا مثلا جملة من المبادئ الأخلاقية التي ترسم الجانب الأول وهو الجهاد أو المقاتلة، حيث تشير أكثر من آية كريمة إلى هذا الجانب من مثل قوله تعالى (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)، لاحظوا كيف أن هذا النص القرآني الكريم يشير إلى عدم العدوان أي إلى عدم المبادرة بالقتال، وإنما متى قاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلون، أي إذا بدأوا بقتالكم أي فقاتلوهم وأما إذا لم يبدأوا حينئذ يكون القتال تجسيدا عدوانيا عبر قوله تعالى (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) يظل طابعاً أخلاقيا من الوضوح بمكان كبير.

وهكذا إذا تابعنا سائر الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن هذا الجانب فمثلا في سياق القتال عند المسجد الحرام أي أن القتال في المجسد الحرام يحرم أساسا اعتبارات أخلاقية بطبيعة الحال ولذلك قال سبحانه وتعالى لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ولكن لنقرأ الإضافة حتى يقاتلوكم فيه فإذا قاتلوهم، حينئذ لا يبدأ القتال إلا في حالة إذا بدأ هؤلاء القتال، لاحظوا هنا في المستويين المستوى العادي والمستوى الخاص، المستوى العادي وهو يجسد المطالبة بعدم القتل إلا بعد أن يبدأ العدو بالقتال، وفي الموقف الثاني حيث أن القتال محرم عند المسجد الحرام الموقف يتسم بنفس الاستجابة السابقة أي المقاتلة عندما يبدأ العدو بالقتال وحينئذ فإن الهدف من ذلك في الحالة الثانية كما تعلم الآية القرآنية الكريمة قالت كذلك جزاء الكافرين أي كذلك مقالة العدوان هو الجزاء الحي الذي ينبغي أن يسلك هذا الميدان، من هنا قال بعد ذلك قاتلوهم حتى لا تكون فتنة  حينئذ نجد كيف أن مشروعية القتال ترتبط بجانب أخلاقي هو حتى لا تكون فتنة.

إذا الحديث عن القتال وعدمه مطبوعا بالطابع الأخلاقي كما لاحظنا الآن، وإذا تابعنا سائر مفردات الفتال أو الجهاد نجد أن الطابع الأخلاق هو المسيطر فمثلا يقول النص في أحد ى الايات القرآنية الكريمة (وإذا استجار أحد المشركين فيتعين على الشخصية الإسلامية أن تجيره الإجارة تتصل بجانب العدو لكن مع ذلك أي مع كون أن  الإسلاميين يقاتلون المنحرفين لكن ثمة طابع أخلاقي  له أهميته ألا وهو أن المشرك أو المنحرف إذا استجار ينبغي أن يجار لقيمة أخلاقية كما هو واضح، وهكذا بالنسبة إلى سائر أنماط التعامل حيث تجدون أن السنة الشريفة تتكفل بتوضيحات متنوعة بهذا الجانب تتصل بالتعامل بنمط التعامل مع الأسير، ونمط التعامل مع سائر القضايا المرتبطة بالجهات كالدعوة أولا بعد البدء بالقتال ثم بعدم الإجهاز على الجريح والنساء والأطفال و.. الخ.

والآن نكتفي بهذا المقدار من الحديث عن المؤسسة الإسلامية في ضوء الطرح القرآني لها وبذلك يكون حديثنا عن الجوانب أو عن المادة المعرفية المتصلة بالجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية تظل هذه الجوانب مطروحة في القرآن الكريم من خلال المستويات التي حدثناكم عنها في محاضراتنا الحالية والمحاضرات السابقة، وبهذا نكتفي من الحديث بالمقدار المتقدم وهدفنا هو أن مجرد الإشارة إلى نمط الطرح القرآني الكريم لهذه الجوانب حيث قلنا أن القرآن الكريم يطرح هذه الجوانب وسواها من خلال الطرح الإسلامي أولا، ومن خلال تشديد في جانب دون جوانب أخرى لهدف يرد في سياق السورة الكريمة التي تطرح هذا الجانب أو ذاك ومن ثم فإن  التفصيلات من جانب والشمولية لما باء المرسومة من جانب آخر تتكفل لنقول تتطلع به السنة الشريفة متمثلة بالنصوص الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمحسنين جميعا.

وبهذا نكون قد انتهينا من القسم الثالث من موضوعات القرآن الكريم حيث بدأنا بالحديث عن القرآن الكريم من خلال الموضوع الأول أو من خلال الطرح الأول متمثلا في الوحي وقضاياه أي الطريقة الوحي ومستويات الوحي وما يواكب ذلك من أسباب النزول وكيفية جمع القرآن الكريم وما إلى ذلك مما حدثناكم عنه مفصلا في حينه وكان الموضوع الثاني من موضوع القرآن الكريم هو الإعجاز حيث حدثناكم عنه أيضاً مفصلا في نطاق البلاغة وسواها ومن ثم كان الموضوع الثالث الذي انتهينا الآن منه يتصل  بالمادة المعرفية في القرآن الكريم.

وأما المستوى الرابع أو المستوى الأخير أو المادة الأخيرة التي ينبغي أن تطرح من خلال القرآن الكريم ولكننا أثرنا أن لا نتحدث عنها لها تتصل في الواقع بعملية التفسير من جانب وبظواهر أخرى تتصل بنمط التعامل مع القرآن الكريم من جانب آخر، وهو أمر قد يتطلب محاضرات خاصة تنفصل عن هذا الجانب المتصل بعلوم القرآن الكريم وتاريخه، ولكن مع ذلك من المفيد لنا أن نتحدث ضمن الخطوط العامة لهذا الموضوع المتصل بالطرح الرابع أو لنقول المتصل بالموضع الرابع من الموضوعات الذي يحوي عنوان هو التعامل مع النص القرآني الكريم.

والتعامل مع النص القرآني الكريم يتناول جانبين كما قلنا، الجانب الأول يتصل بعملية التفسير والجانب الثاني يتصل بعملية القراءة، بالنسبة إلى الجانب التفسيري ومما لاشك يفيه أن كل واحد من الأفراد ليس بمقدوره أن يتوفر على معالجة هذا الجانب لأن التفسير يتطلب قدرات متنوعة ليست متوفرة لدي أي شخص  بقدر ما يتطلب الموقف تخصصا معرفيا في هذا الجانب.

وأما التعامل الآخر أي التعامل مع القراءة القرآنية الكريمة وليس مع التفسير القرآني الكريم فإن الأمر ليختلف دون أدنى شك، حيث أننا جميعا نطالب بقراءة القرآن الكريم ولكن هذه القراءة في الواقع ينبغي أن تسلط الأضواء عليها بنحو واضح حتى تصبح القراءة لها مسوغاتها ولها مشروعيتها ولها أيضاً معطياتها التي ينجب القرآن الكريم نفسه إلى ملاحظتها وانسحابها على كل من يرفق  لقراءة القرآن الكريم.

إن الحديث عن القراءة القرآنية الكريمة ينبغي أن يشار من خلال ذلك إلى جملة نقاط النقطة الأولى هو أن يقرأ القرآن قراءة صحيحة خالية من الأخطاء الأعرابية لأن الوقوع في الخطأ الأعرابي يحرض القارئ إلى دلالة تحريفية لا تتسق مع ما يحاول قراءة، والأمثلة على ذلك كثير فمثلا نجد أن قراءة الآية الكريمة (إن الله يخشى من عباده العلماء)، نجد أن تحريك كل من العبارات الآتية الله، عبادة، العلماء، أن الحركة الأعرابية لهذه المفردات الثلاث توضح لنا فيما إذا كانت القراءة صائبة أو خاطئة وفي حالة كون القراءة خاطئة يترتب عليها في الواقع كفر بما نقرأ فمثلا أن القراءة  الصائبة لهذه الآية الكريمة (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ولكن لو قرأت إنما يخشى الله من عباده العلماء فحينئذ نقع في الكفر دون أدنى شك، هكذا بالنسبة إلى سائر ما نقرأه من الآيات القرآنية الكريمة التي ينبغي على كل قارئ للنص القرآني الكريم أن يتوفر على القراءة الصائبة، هنا يشار سؤال من أن الرسم القرآني الكريم حافل بالأخطاء إلاملائية وألاعرابية بحسب ما تقرره اللغة ولكن سبق أن حدثناكم عن هذا الجانب وقلنا أن عملية جمع القرآن الكريم بالنحو الذي ذكره المؤرخون، جعل الحفاظ على ما رسم مبدأ يكمن وراءه سر واضح هو أن التلاعب بأية عبارة قرآنية كريمة حينئذ سوف يحرض القرآن الكريم لتخرصات الأعداء وهو أمر ينبغي أن يحذر منه، ولذلك وردت التوصيات الإسلامية إلى  ضرورة أن نقرأ كما علمنا وكما هو مرسوم في القرآن الحالي بغض النظر عن الملابسات التي واكبت هذا الرسم القرآني الكريم، إذا النقطة الأولى ضرورة معرفة اللغة حتى نستطيع من خلال ذلك أن نتوفر على القراءة الصائبة، ولعل نشوء علم النحو أساس كما يذكر المؤرخون نشأ أساساً من دافع أو من حافز هو ملاحظة واضعي النحو لقراءة بعض الأشخاص الذين توفروا على قراءة خاطئة أفضت إلى القول بالكفر من خلال القراءة الخاطئة ولذلك أبو الأسود الدؤلي بإشارة من الإمام علي (عليه السلام) بوضع القراءة اللغوية لتلافي هذا الأمر.

المهم أن هذه النقطة وهي التوفر على دراسة اللغة حتى نتحاشا الوقوع في الأخطاء اللغوية من خلال قراءتنا للقرآن الكريم يفرض ضرورته بالنحو الذي أوضحناه

النقطة الثانية ضرورة الوقوف أيضاً على المواقف التي تتطلب وقوفا في العبارة لاستكمال المعنى أو لنهاية المعنى أو لاستئناف المعنى بحسب القواعد المهمة التي تتصل بهذا الجانب، وهو أمر يتطلب أيضاً الوقوف على القواعد الموضوعة لهذا الجانب،

النقطة الثالثة التي نبغي أن يتوفر عليها قارئ القرآن الكرم هو التدبر في معاني هذه النص القرآنية الكريم بحسب التوصيات الملحة على هذا الجانب وإلا فإن مجرد القراءة لا تعود بالمعطى الذي نتناقل إليه من خلال قراءتنا للقرآن الكريم،

النقطة الرابعة هي النظر في نفس القرآن الكريم مع الحث على حفظ  نص القرآن الكريم بمعنى أننا نطالب بان نحفظ ما أممكنا من القرآن الكريم وبالمقابل ثمة مطالبة بأن نقرأ القرآن نفسه حتى مع قولنا بحفظ القرآن الكريم وذلك لأن النظر إلى نفس الحروف القرآنية الكريمة له  أهميته فالمعطيات التي تفرزها القراءة من خلال النظر إلى المصحف الكريم.

وبالنسبة إلى الحفظ للقرآن الكريم نجد أن النصوص تلح على هذا الجانب حتى أنها لتشير إلى أن الشخصية في اليوم الآخر بقدر ما تحفظ من النصوص القرآنية الكريمة يأمر بالتصاعد نحو السلالم العليا من الدرجات في جنات النعيم، إذا هذه النقاط الأربع ينبغي أن نتوفر عليها ونحن نمارس علمية القراءة للقرآن الكريم، وهذا بالنسبة إلى التعامل الأول مع القرآن الكريم وهو القراءة، وأما بالنسبة إلى النمط الآخر من التعامل للقرآن الكريم ألا وهو التفسير حينئذ فهناك مبادئ للتفسير يتطلب طرحها أيضاً وجود مجلد في هذا الجانب، ولكننا نختصر ذلك في سطور عابرة جدا على أن تتاح الفرصة بإذن الله بأن نتحدث عن التفسير وعن المفسرين في مادة مستقلة عن علوم القرآن وتاريخه، وفي هذا الميدان، أي ميدان التفسير أي التعامل مع القرآن الكريم  للتفسير فإن الموقف يتطلب أولا كما قلنا المعرفة باللغة العربية، ثانيا المعرفة البلاغية، ثلاثا يتطلب التعامل مع القرآن الكريم من خلال التفسير، خطوات ينبغي ان تؤخذ بنظر الاعتبار فثمة نصوص قرآنية كريمة يعتمد أولا على الرجوع إلى المصادر التي اضطلعت بتفسير القرآن الكريم ونعني بها المصادر التي تشير إلى أهل البيت (عليهم السلام)، حيث أن هذا المصدر يظل هو المصدر الوحيد الذي يمكن أن يركن إليه في حالات كثيرة من حيث ملاحظتنا كما لاحظتم انتم في محاضراتنا الأولى لاحظتم كيف أن القرآن الكريم ينطوي على ما هو محكم وما هو متشابه والمتشابه، كما لاحظتموه ينطوي على مستويات متنوعة لا يمكن الوقوف عندها إلا من خلال النص الشرعي الذي يفسر بطون القرآن ويفسر حتى ظواهرها في مناطق أو مواقع متنوعة من القرآن الكريم.

وفي حالة عدم تطلب الموقف للنصوص الشرعية حينئذ فبمقدور المفسر أن يعود إلى خلفيته الثقافية ويطلع بالتفسير بحسب التخصص الذي يتوفر عليه، فهناك التخصص البلاغي مثلاً بحيث يستطيع من يمتلك ناصية البلاغة يستطيع أن يتوفر على التفسير البلاغي الذي يتصل بالعبارة القرآنية الكريمة وبالسورة الكريمة وبالإيقاع والبناء وما إلى ذلك، مما تعرضنا له عند حديثنا عن الإعجاز القرآني الكريم، وأما بالنسبة إلى الأنماط المتنوعة الكثيرة التي تتطلع بالتفسير حينئذ فإن ثمة نمطين من التفسير أحدهما  هو التفسير الدلالي الذي يتناول الدلالة كما هي والآخر تفسير تخصصي الذي يتناول الدلالة من خلال التخصص الذي يمتلكه المفسر، فهناك مفسرون مثلا يعنون بالبعد الفلسفي وهناك مفسرون يعنون بالبعد الكلامي وهناك مفسرون يعنون بضروب المعرفة الإنسانية التي عرضنا لها، أي يخلع الطابع النفسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي على النص الذي يدرسه وهناك بالإضافة إلى ما  تقدم التفسير العلم الذي لاحظنا أمثلته أيضاً من خلال الإشارة العابرة إلى ما توفر عليه المعاصرون بخاصة من وقوف عند التفسيرات العلمية للقرآن الكريم ولكننا تحفظنا حيال ذلك وقلنا مادام العلم في تطور حينئذ فإن الركون إلى يقين علمي لا يتوافق والقرآن الكريم الذي يظل دون أدنى شك نصا قرآنيا كريما يتعامل من خلاله مع الأجيال جميعا.

وأخيرا تجب الإشارة المهمة إلى نمط التعامل القرآني الكريم ظهر في  سنواتنا المعاصرة وهو تناول تأثر مع الأسف الشديد بالتيارات الوافدة من الخارج أي التيارات التي تحاول أن تتعامل مع النص عبر قراءة جديدة لا تعتمد النص الشرعي وهو خطر دون أدنى شك على النص القرآني الكريم لأن النص القرآني الكريم يختلف عن سائر النصوص التي يتعامل وإياها بالنص البشري من الممكن أن تخضع لتأويلات المفسر الذي يتناول هذا النص أو ذاك وهذا على العكس تماما من النص القرآني الكريم لأنه نص من الله سبحانه وتعالى ونحن لا يحق لنا البتة أن نقول أو نستنطق من النص مما لا يهدف إليه الله سبحانه وتعالى، لذلك لا يجوز لنا البتة أن نتأثر بالتيارات المعاصرة التي تضطلع لتفسير النص وفق ما انتهت إليه  المبادئ النقدية الحديثة التي تقول أن القارئ هو بدوره المنشأ للنص ويستطيع أن يفسر النص من خلال قراءته الجديدة، ولكن هذا الكلام إذا كان منسحبا على القراءة الدنيوية وعلى النص الدنيوي انه خطأ كبير ولكنه يقترن بخطأ اكبر حينما نسحب هذه الظاهرة على التعامل بالنص القرآني الكريم للأسباب التي أوضحناها.

ختاما نتمنى للطالب مزيدا من التوفيق ونسأله تعالى أن يوفقه للتعامل مع القرآن الكريم والإفادة من معطياته على شتى المستويات وننصح الطالب في نهاية المطاف أن يلتزم بما قررناه قبل قليل من حيث التعامل مع القراءة القرآنية، وحتى من حيث التعامل مع التفسير للقرآن الكريم إذا قدر لأحد الطلبة أن يتخصص في هذا الميدان فعليه أن يلتزم لما قررناه، وبهذا نختم حديثنا عن القرآن الكريم من حيث المواد الأربعة التي تمول خلالها ونعني بها القرآن الكريم من خلال الوحي وقضياه المتنوعة، والقرآن الكريم من حيث الإعجاز، والقرآن الكريم من حيث البعد المعرفي، وأخيرا القرآن الكريم من حيث التعامل وإياه قراءة تعاملاً وتفسيرا بالنحو الذي تقدم الحديث عنه، وبهذا ينتهي كلامنا عن هذه الجوانب جميعا ونتمنى لكم مزيدا من التوفيق السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.