المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 43.doc

نواصل حديثنا عن القرآن الكريم من حيث المادة المعرفية التي يطرحها القرآن الكريم حيث قلنا أن المادة المعرفية في القرآن الكريم تتناول من ثلاث زوايا، هي الزاوية الفقهية والزاوية العقائدية والزاوية الأخلاقية، قلنا أن الزاوية الأخلاقية تتناول من خلال محورين المحور الأول وهو المحور الخاص بالأخلاق من حيث السمات العامة للشخصية التي ينبغي أن يطلق عليها مصطلح الخلق الحسن وهو متمثل في عشرات المفردات من السلوك بطبيعة الحال، إلا أن القرآن  يتناول كما هو طابع سائر أنماط التناول إنما يتناول من جانب ما هو مجمل أو ما هو أصل، ومن جانب آخر يتناول جانبا من المفردات التي ترتبط بهذا الضرب من المعرفة أو تلك تاركا للسنة الشريفة أن تتطلع بجميع التفصيلات أو بجميع الميادين التي تستوعب هذا الضرب من المعرفة أو تلك.

وأما المستوى الآخر من الطرف الأخلاقي في القرآن الكريم فيتناول كما أشرنا في المحاضرة السابقة يتناول ضروب المعرفة الإنسانية كعلم النفس والاقتصاد والاجتماع والسياسة وما إلى ذلك حيث تجسد الأنماط من المعرفة مبادئ سلوك البشر في مختلف ميادينه كما هو واضح، والمهم عند عرضنا لهذه الجوانب في المحاضرات السابقة انتيهنا من الحديث عن النمط الأخير من ضروب المعرفة وبدأنا ذلك بالحديث عن ضرب المعرفة المرتبط بعلم النفس ووعدناكم بان نتحدث في المحاضرة الحالية عن الضرب المعرفي المتمثل في الاقتصاد، وهذا ما نبدأ به الآن فنقول:

كما هو طابع القرآن الكريم بالنسبة إلى طرحه لهذه المادة المعرفية أو تلك يظل التناول للظاهرة الاقتصادية مطبوعا بنفس السمة، أي يتناولها حينا من خلال الطرح المجمل أو من خلال طرح ما هو أصل وترك ما هو فرع، وترك ما هو مفصل كل ذلك يدعه النص القرآني الكريم لتضطلع السنة الشريفة به هذا من جانب، ومن جانب آخر يظل الطرح القرآني الكريم للظاهرة الاقتصادية مركزا على جوانب محددة دون سواها نظرا إلى اقتضاء السياق ذلك ومن هنا يمكننا أن نقول أن الطرح للظاهرة الاقتصادية يتخذ محورين يركز النص القرآني عليهما الأول هو المحور العام  المتمثل في ميادين الإنتاج أو التداول أو التوزيع أو الاستهلاك وأما الطرح الثاني يتناول الظاهرة التوزيعية المتمثلة في الإنفاق حتى أنه لا يمكن القول بان النصوص القرآنية الكريمة التي تتناول البعد الاقتصادي يظل شطر منها متناولا الزوايا الاقتصادية المتنوعة التي أشرنا إليها ويظل النمط أو الشطر الآخر منها خاصا بالإنفاق وهو أمر يدعو إلى التساؤل حينما يقال مثلا ما هو السر الكامن وراء الطرح القرآني الكريم لظاهرة الإنفاق بهذا النحو من التأكيد بحيث يظل الحديث عن ظاهرة الإنفاق مستغرقاً مساحة كبيرة من القرآن الكريم لدرجة أن كل واحد منا من الممكن أن يلاحظ كيف أن القرآن الكريم مثلا قرن الصلاة بظاهرة الزكاة وجعلهما وكأنهما لا ينفصل أحدهما عن الآخر والزكاة كما نعرف ذلك جميعا هي واحدة من ظواهر الإنفاق المتعددة كالخمس والصدقة والإنفاق بمستوياته الواجبة ومستوياته المندوبة وما إلى ذلك، كل هذا يدعنا نتسائل من جديد ما هو السر الكامن وراء الحديث القرآني الكريم على ظاهرة الإنفاق وجعل ذلك المادة العظمى بالنسبة إلى البعد الاقتصادي وما يقابله من الحديث عن الظواهر أو الأبعاد الاقتصادية الأخرى المتصلة بمسائل الإنتاج والتبادل والاستهلاك، وللإجابة عن الشطر الأول من هذا السؤال نقول بما أن الحديث يظل بنحو عام هو حديث السمة الأخلاقية التي ينبغي أن تمرر على جميع الأنماط من السلوك حينئذ فإن التفسير لهذه الظاهرة الأخيرة الأخلاقية يأخذ مسوغاته حينما نقول بوضوح بما أن الإنفاق يشكل سلوكا منفتحا للشخصية حيال الآخر حينئذ فإن تركيز القرآن الكريم والسنة الشريفة على ظاهرة الانفتاح على الآخرين وسحق الذات ووئدها نقول هذا الطابع الأخلاقي الذي يسم جميع الأنماط من السلوك اقتصادياً أم اجتماعيا أم سياسيا.. الخ.

كل ذلك يفسر لنا سبب التركيز أو التشدد في ظاهرة الإنفاق بهذا النحو الذي تتناوله مختلف السور القرآنية الكريمة.

ويمكنكم على سبيل المثال أن تقرأوا ما ورد في سورة البقرة من تسديد لهذا الجانب ومن تقديم أمثلة متنوعة أو بالأحرى تقديم سور فنية متنوعة لبلورة مفهوم الإنفاق لنقرأ مثلا (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعونها منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله  رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدورن على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل  فاتت اكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها  اعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما كسبتم وما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا  أن الله غني حميد الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم الفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم)... إلى أن يقول (وما أنفقتم من نفقة وما نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار أن تبدو الصدقات  فنعما وان تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير).

ثم يقول (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وانتم لا تظلمون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم من سيماهم لا يسٍألون الناس الحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون).

لاحظوا كيف أن هذا الموقع من مواقع سورة البقرة قد خصص للحديث عن ظاهرة الإنفاق بهذه المستويات من التفصيلات التي لاحظتموها وبهذا المستوى من التكرار لظاهرة الإنفاق بالنحو الذي لاحظتموه أيضاً أولئك جميعا يفصح بلا ترديد فيه من أن الإنفاق يظل ظاهرة اقتصادية لها أهميتها العظمى كما قلنا بالنسبة إلى سلوك الشخصية الإسلامية وهو أمر يدعونا إلى التأمل والتدبر في هذا الجانب ما دمتم فقد لاحظتم كيف أن ظاهرة الإنفاق يؤكد عليها بهذا الشكل الذي لاحظتموه وهو يتناول موقعا واحداً من مواقع النص القرآني الكريم وكيف بنا إذا تابعنا سائر الموارد التي تنتظمها سور القرآن الكريم بالنسبة إلى هذه الظاهرة، وكما قلنا فإن التفسير النفسي لهذه الظاهرة يتمثل في حرص المشرع الإسلامي على تدريب ذواتنا على الانفتاح نحو الآخرين وقضاء حوائجهم بدلا من الانغلاق حول الذات والتمحور حيالها حيث أن السمة السوية في السلوك تتمثل في أبرز مستوياتها في الانفتاح نحو الآخرين وقضاء حوائجهم وفي مقدمة ذلك القضاء للحاجات الاقتصادية، وإذا كان الانفتاح نحو الآخر وتعميق أواصر المحبة بين الأطراف الاجتماعية في المجتمع الإسلامي يظل هو الهدف من وراء الإنفاق المشار إليه حينئذ فثمة محور مهم جداً يدور عليه موضوع الإنفاق ألا وهو كما لاحظتم في الآيات المتقدمة لاحظتم كيف أن النص القرآني الكريم يقرر بان الإنفاق ينبغي أن يقترن بلغة أخلاقية عالية ولذلك قال قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى أو منا، لاحظوا كيف أن القرآن الكريم يؤكد ظاهرة العز للشخصية التي تتسم بالإنفاق من الآخرين حيث أن ظاهرة العز بدورها تظل موضع التسديد أن التشدد بالغ المدى حيث يقر المشرع الإسلامي بان المؤمن قد يمارس كل شيء ولكن لا يسمح له بان يذل نفسه وحينئذ فإن الإنفاق المصحوب بالمن سوف يذل الشخصية ومن هنا وردت عدة آيات وهي تؤكد هذا الجانب وتقدم لنا تشبيهات واستعارات لتوضيح الدلالة المشار إليها ولعل التأكيد على هذا الجانب يتمثل في سلوك أهل البيت (عليهم السلام) عندما كانوا يقدمون صدقة للآخرين كانوا يخفون وجوههم عن السائل حتى لا يرى أثر الذل على وجهه وحينئذ مع هذا الحرص البالغ المدى نجد أن الشخصية الإنفاقية قد قرنها القرآن الكريم بهذا الجانب تأكيدا لعز الشخصية من جانب، حتى أنه أشار بالنص القرآني الكريم عبر قوله تعالى (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) أي أن الشخصية بلغت من العز لديها أن الملاحظ يتصور وكأنها شخصية غنية ولكنها فقيرة في الواقع بين أن التعفف وهو العز يحتزها من أن تظهر بمظهر الفقير وهذا يعني أن البحث عن العز أو الحرص على العز يظل طابعا له أهمية التصور القرآني الكريم للشخصية وهذا فما يتصل بجانب المنفق عليه، أما المنفق نفسه فمن الواضح جدا أن النص القرآني الكريم يستهدف تدريب الشخصية على أن تنفق في سبيل الله وان لا تتمحور حول ذاتها بصفة أن المن والأذى يظل إفرازا للذات كما هو واضح.

إلى هنا نكون قد حدثناكم عن الشطر الأول من الطرح الاقتصادي في القرآن الكريم متمثلا في ظاهرة الإنفاق حيث كان هدفنا من صب الحديث عن هذه الظاهرة هو أهميتها التي تجسدت في حرص القرآن الكريم ذاته على إبراز هذا الجانب في مختلف السور القرآنية الكريمة وفي مقدمة ذلك ما لاحظتموه من الإسهاب في طرح هذه الظاهرة عبر سورة البقرة بالنحو الذي قرأناه عليها، المهم نتجه الآن إلى الحديث عن الشطر الآخر من الطرح الاقتصادي في القرآن الكريم حيث نجد أن النص القرآني الكريم يتناول هذه الظاهرة كما كررنا، يتناولها إجمالا ولكن من زواياها المتنوعة ومن جانب آخر يركز على جانب دون آخر أيضاً نظرا لما يتطلبه السياق الذي ينتظم هذه السورة أو تلك، نقول إن الطرح الإجمالي للظاهرة الاقتصادية من خلال القرآن الكريم يتناول كلا من التناول السريع والاستهلاك، ففي ميدان الإنتاج مثلا ومصادر الطاقة والعلم كذلك نشير إلى أن الله سبحانه وتعالى سخر لنا ما الوجود وما فيه من طاقات جوية وبرية وبحرية كما أشار إلى مصادر الثروة النباتية والحيوانية والجمادية، ويمكننا أيضاً كما استشهدنا بنص من سورة البقرة يتناول ظاهرة الإنفاق يمكنا أن نستشهد بنص من سورة النحل يتناول هذه الظواهر التي أشرنا إليها ولنقرأ لكم الآيات المرتبطة بهذا الجانب، لقد أشار النص القرآني الكريم في سورة النحل إلى ظاهرة الثروة الحيوانية فقال (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون)، وأشار إلى الثروة الجوية والنباتية فقال (هوالذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسومون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون).

ثم أشار إلى تسخير الليل والنار والشمس والنجوم فقال: (وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره). وأشار إلى الثروة الأرضية (ما درا لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يتذكرون).

وأشار إلى الثروة البحرية (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجون منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).

وأشار أيضاً إلى الأرض فقال: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون).

وأشار إلى السماء (وعلامات وبالنجم هم يهتدون).

وأشار من جديد إلى الثروات الثلاث وهي الثروة الحيوانية والبرية والمائية فقال: (والله أنزل من السماء ماء فأحيا بها الأرض بعد موتها  إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وإن لكم في الأنعام لعبرة يسقيكم مما في بطونه من بين  فرث ودم  لبنا خالصا سائغا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها  شراب مختلف ألونه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون).

وأشار من جديد إلى الأرض ومعيطاتها والى الثروة الحيوانية ومعطياتها فقال (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال اكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بئسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون). طبيعيا لو تابعنا سائر السور القرآني الكريمة للاحظنا أمثلة هذه الإشارات بالبعد الاقتصادي متناثرة هنا وهناك ولكن نكتفي بهذا لنشير أيضاً إلى ما تستبطنه هذه الآيات الكريمة من إشارة واضحة تتكرر عبر كل آية تختتم الإشارة إلى أن نتفكر ونتعقل ونتدبر وما إلى ذلك حيث أن البعد الاقتصادي قد يقترن في تصورات الأرضيين المنعزلين عن السماء يقترن بأهمية كبيرة بمجرد كونه بعدا اقتصاديا إلا أن القرآن الكريم حين بين كل آية تتحدث عن البعد الاقتصادي وما سخره الله لنا في الأرض يختتم كل آية تتحدث عن هذا المعطى أو ذاك يختتم بالإشارة إلى أن نتدبر ونتعقل ونتبين حتى لا يصبح البعد الاقتصادي مسيطرا علينا، وكان الهدف بذاته أو يظل وكأنه يكتب أهمية كبيرة بالقياس إلى ما هو أهم منه ألا وهو ممارسة العمل العبادي في الأرض وهو العمل الذي خلقنا من أجله كما هو واضح.

والآن إذا تابعنا سائر ما طرح في القرآن الكريم من بعد اقتصادي نجد دعوته إلى العمل تظل من الوضوح بمكان حينما يشير عبر قوله تعالى (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)..الخ،  وكذلك بالنسبة إلى عملية التداول متمثلة في عملية البيع والشراء حيث ركز عليها وبالمقابل حرم ظاهرة الربا حيث نستخلص أيضاً من هذا الطرح تحليل البيع والشراء وتحريم الربا نستخلص بعدا أخلاقيا له أهميته الكبيرة ألا وهو عدم الاستغلال كما هو واضح.

وأخيرا فإن البعد الاقتصادي المتمثل في علمية الاستهلاك تظل حاملة أهميتها الكبيرة حيث تشير الآية الكريمة القائلة (كلوا واشربوا ولا تسرفوا).. الخ.

تشير هذه الآية إلى مبدأ استهلاك مهم الا وهو الاقتصاد ونعني بالاقتصاد ليس مصطلح الأرضي إنما هنا يعني التوسط في الاستهلاك، وبتعبير آخر الاستهلاك بقدر الحاجة وحسب ومبدأ الكفاءة في الواقع يظل مبدءااستهلاكيا له أهميته في ميدان التعديل لسلوك الشخصية حيث يجعلها من خلال عنصر القناعة متوازنة لا تحيى التمزق أو التوتر أو الصراع بل تقتنع بما يسد حاجتها ومن ثم تتجه بنشاطها إلى ممارسة عملها العبادي المطلوب.

المهم أن هذين المستويين من الطرح الاقتصادي في القرآن الكريم ونعني بهما الطرح المتمثل في الإنفاق من جانب، والطرح المتمثل في الإشارة  والاستهلاك وما إلى ذلك من جانب ثان، تظل هذه الجوانب يظل هاذان الجانبان من الأهمية بمكان كبير بالنحو الذي حدثناكم عنه ويظل أيضاً أن لا تفوتنا الإشارة ونحن نتحدث عن هذين المحورين بالنسبة إلى المحور الأول وهو الانفاق أو بالأحرى هو التصدير للخارج أو التعامل مع الخارج أو الانفتاح مع الخارج من خلال بذل المال نجد أن هذا البذل في الواقع قد رسمه المشرع الإسلامي من خلال الطرح القرآني الكريم قد رسمه من خلال نمطين هما الوجوب والندب ومجرد كون هذا الطرح يتخذ نمطين نستكشف منه بعدا آخر من أبعاد الأهمية التي يخلعها  النص القرآني الكريم على ظاهرة بذل المال، فمن جانب نجده كما قلنا يؤكد هذه الظاهرة من خلال ما هو واجب كالزكاة والخمس كالصدقة وكالكفارات المتنوعة التي شرعها الإسلام أيضاً من أجل توفير أو من أجل تحقيق عنصر الإنفاق بالشكل الذي حدثناكم عنه ولعل هذا أيضاً بدوره يجسد واحدا من الطرائق المهمة التي تفصح عن خطورة الانفاق أي بر المال، أو الطعام للآخرين حيث أن مجرد تشريع الكفارات وهذا ما طرحه القرآن الكريم أيضاً كالكفارة المتصلة بالإفطار أو الكفارة المتصلة بالحلف وما إلى ذلك، أولئك جميعا تمثل نمطا آخر من الأنماط التي شرعت من أجل تمرير ظاهرة بذل المال والطعام ونحو ذلك نظرا لما تتسم به هذه المستويات من الإنفاق من الأهمية وإذا تجاوزنا هذا الجانب المرتبط بما هو واجب حينئذ نتجه إلى الجانب الآخر ونعني به المندوب، حيث أن الندب إلى الظاهرة الاتفاقية أيضاً يأخذ تأكيدا عبر النص القرآني الكريم كالإشارة مثلا إلى الآية التي تقول: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم).

والآية التي تقول (ويمنعون الماعون) حيث أن الآية الأولى تشير في الواقع إلى ما ذكره المعصومون (عليهم السلام) من خلال قولهم إن الحق المعلوم ليس من الزكاة لاحظوا هذه العبارة لأن الزكاة واجبة كما هو واضح وهو الشيء الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة أو كل يوم ولكل فضل فضله وروي أيضاً عنه كما ورد في التفسير أن تصل القرابة وتعطي من حرمك وتتصدق حتى على من عاداك وأما الآية الأخرى ونعني بها الآية المشيرة عبر قوله تعالى ويمنعون الماعون  نجد أن هذه الآية يفسرها النص الوارد عن أهل البيت (عليهم السلام) هو القرض تقرضه والمعروف تصنعه ومتاع البيت تعيره ومنه الزكاة بطبيعة الحال لاحظوا كيف أن هذا النمط من الإنفاق المندوب ندب إليه المعصوم (عليه السلام) من خلال نص القرآني الكريم ندب إليه بحيث سحبه حتى على من نعادي أو يعادينا، أي الإنفاق حتى على من يعادي يظل فارضا أهميته نظرا لما قلناه من جانب تدريب على تطهير الذات والانتفاح نحو الآخر، ومن جانب ثان هو إشباع  لحاجات الآخرين على أية حال نكتفي الآن بهذا المقدار الذي حدثناكم عنه من خلال طرح القرآن الكريم للبعد الاقتصادي متمثلا في شطريه الشطر المتمثل مطلق الإنفاق والشطر المتصل بممارسة العمليات الاقتصادية  كالإنتاج والتداول والتوزيع والاستهلاك بالنحو الذي قدمنا  الحديث عنه.

بهذا ينتهي حديثنا عن البعد لاقتصادي أو المادة المعرفية المرتبطة بالبعد الاقتصادي ونتجه بعد ذلك إلى حديث عابر أيضاً عن سائر الضروب المعرفية المرتبطة بعلم الاجتماع والسياسة ونحوهما ونتحدث أولا عن البعد المرتبط بالمادة المعرفية الاجتماعية فنقول ضمن هذا العنوان وهو عنوان القرآن والمعرفة الاجتماعية في هذا السياق نجد أن القرآن الكريم اتساقا مع سائر ضروب المعرفة التي طرحها وطبعها بالطابع الأخلاقي الذي لاحظناه نقول بنفس المستوى من الطرح  أخلاقيا من جانب ضمن حيث كونه إجماليا من جانب ثان ومن حيث كونه تركيزا على جانب دون آخر من زاوية الجانب جميعا يمكنا أن نلاحظها أيضاً بالنسبة إلى المادة المعرفية المتصلة بالاجتماع إن النص القرآني الكريم تناول البعد الاجتماعي من خلال زواياه المتنوعة بدءا من الأسرة التي تعد أهم مركب اجتماعي وانتهاءًا إلى الأمة الإسلامية أي بدءاً من أصغر وحدة اجتماعية كالعائلة ومن ثم القرابة والجوار والصداقة ونحو ذلك من الوحدات الاجتماعية التي يطلق عليها مصطلح الجماعة المحلية وانتهاءا كما قلنا بأوسع المرتبات الاجتماعي متمثلة في الدولة أو الأمة التي هي أوسع المركبات الاجتماعية ففي نطاق الأسرة مثلا لا نجدنا بحاجة إلى عرض لما طرحه النص القرآني الكريم ويكفينا مثلا أن سورة البقرة تتناول عشرات الآيات منها مسائل الأسرة من زواج وطلاق وتعامل بين طرفي العائلة الزوج والزوجة وكذلك بالنسبة إلى الهجرة وما يلحق بهذه المستويات من الطرح من مفهومات أو مما يرسم من خطوط لعلاج المشاكل الأسرية ونحو ذلك، مما لا نريد أن نتحدث عنها نظرا لأن قسما منها لما لاحظتم يتصل بالواقع بالأحكام الفرعية والقسم الآخر يطرح من خلال الإجمال أو الأصل، وتترك للسنة الشريفة وتترك التفصيلات الى السنة الشريفة كما كررنا الإشارة إلى ذلك.

المهم هو أن نستخلص الطابع الأخلاقي العام الذي قلنا أن الأخلاق تدخل في المادة المعرفية من الزاوية الخاصة التي تعني السمات بالنسبة إلى الشخصية الثانية التي تعني الطابع الأخلاقي لضروب المعرفة المتصلة بالتربية والنفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والإدارة ونحو ذلك، فبالنسبة إلى البعد الاجتماعي نجد أن العائلة على سبيل المثال وهي التي تحظى بطرح كبير كما قلنا نجد أن الإشارة إلى أن الاتحاد بين كائنين هو سكن لهذين الطرفين من جانب ومن جانب آخر الإشارة إلى أن الله جعل بين هذين الطرفين مودة حينئذ فإن توفير عنصر المودة من جانب، وما ينسحب على هذه العلاقة من سكن وهدوء وطمأنينة من جانب ثان حينئذ يفسر لنا بوضوح معنى التوازن الداخلي الذي يحياه كل من الكائنين في حالة ما إذا التزم بطبيعة الحال بما رسمه المشرع الإسلامي من حقوق وواجبات.

ومن الواضح أن توثيق الصلة ين الكائنين المشار إليهما ومن ثم انسحاب ذلك على الذرية حيث تجيء التوصية القرآنية الكريمة بطاعة الوالدين حتى  لو كانا مشركين عدا ما يتصل بالممارسة المنهي عنها شرعا نقول تجيء هذه الظاهرة الأخلاقية المرتبطة بطاعة الوالدين جانبا مهما جدا من حيث تحقيق الوئام بين أفراد الأسرة من جانب، ومن حيث التثمين والتقدير للجهود التي يبذلها الوالدان أولئك جميعا تشكل دون أدنى شك عنصرا مهما لتحقيق التوازن الداخلي لكل الأطراف المرتبطة بالأسرة، مضافا إلى طرح الظاهرة مهمة جدا وهي أيضاً ظاهرة قوامية الرجل وما تترتب على هذه القوامة من استقرار اجتماعي بحيث تتولى المرأة التربية البيتية ويتولى الرجل الإنفاق الاقتصادي وحينئذ مع تآزر هذين العنصرين البعد الاقتصادي من جانب والبعد البيتي من جانب ثاني، من حيث التربية التي تتوفر عليها المرأة ومن حيث التعميم للنفقة التي تحدد الاستقرار، نقول أن من بين هذين الجانبين بينهما يتحكم بالاستقرار أو التوازن العائلي المطلوب مع ملاحظة أن التوازن هو إرهاص للتوازن الاجتماعي كما هو واضح بصفة أن العائلة هي الوحدة الصغيرة، وان الوحدات الصغيرة هي تشكل المجتمع أو الأمة أو الدولة.. الخ.

وهناك بالنسبة إلى ظاهرة أخرى تتصل بتعدد الزوجات وتعدد حالات الزواج، أي الزواج  بحالاته المتمثلة بالدائم والمنقطع والمتعدد بالنسبة إلى الزوجات وصلة ذلك بالتوزيع السكاني للبشرية حيث تشير النصوص إلى أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شخص أربعة نساء من حيث التوزيع السكاني للبشرية ومن ثم فإن هذا التلاحم بين نمط التركيبة السكانية وبين نمط الزواج يحقق  بدوره التوازن الاجتماعي، والجدير بالذكر أن التوزان الفردي والاجتماعي هو المطلوب أساساً في كل المجتمعات والأفراد كما هو بين بحيث تتولى المعرفة النفسية تحقيق التوازن الداخلي والنفسي وتتولى المعرفة الجماعية تحقيق الإمتاع على أية حال هذا بالإضافة إلى المستوى الآخر من المركبات الاجتماعية المتنوعة والتي يدخل بعضها ضمن مصطلح السياسة التي سنتعرض لها  بعد قليل والتي يرتبط بعضها الآخر بمطلق التركيب الاجتماعي للبشرية حيث تشير الآية القرآنية الكريمة (إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) تظل هذه التأشيرة أمرا واضحا بالنسبة إلى التعايش السلمي الذي يتحقق للبشرية من خلال التعارف المشار إليه.

أخيرا يتعين علينا أن نشير عابرا إلى ما يطلق عليه مصطلح المعرفة الاجتماعية بالقوانين أو السنن أو المبادئ الاجتماعية حيث رسم القرآن الكريم عدداً من المبادئ المتنوعة تصب جميعا في طابع أخلاقي لا تسع المحاضرة الآن للحديث عنها بل قد تكفلت الكتب المدونة  بالحديث عن الجانب المذكور ونكتفي الآن بما قلناه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.