المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 41.doc

نتابع حديثنا عن القرآن الكريم من حيث المادة المعرفية التي يتضمنها حيث انتهينا في المحاضرة السابقة من الحديث عن جملة محاور تتصل بالتوحيد وبالنبوة والإمامة، ووعدناكم أن نحدثكم بالمحور الخاص بالمعاد أو باليوم الآخر.

طبيعيا أن طرح هذه المادة لا يختلف عن المواد الأخرى التي حدثتاكم عنها في محاضرات سابقة وقلنا أن الطرح القرآني الكريم لهذه المواد المعرفية يظل من جانب طرحا إجماليا، ويظل من الجانب الآخر طرحا من الجوانب المعينة دون سواها، وأن الجميع من حيث التفصيل، ومن حيث الشمولية يترك لأن تضطلع السنة الشريفة بذلك وحتى في هذا الميدان ونقصد الميدان الذي تطرح فيه الظاهرة المعادية من خلال الإجمال من جانب، ومن خلال طرح مفردات منها دون الأخرى من جانب ثان، نقول حتى في هذا الميدان نجد أن النص لقرآني الكريم في الواقع يشطر الحديث عن اليوم الآخر شطرين، أحدهما يتصل بالمؤمنين أو بالإسلاميين الذين يؤمنون باليوم الآخر وما تواكب هذا اليوم من مختلف المستويات المعروضة في النص القرآني الكريم من حيث البيئة الأخروية أو بالأحرى منذ قيام الساعة فالانبعاث فالحساب فالاستقرار النهائي، أو الخلود للبشر نعيماً أو جحيما أعاذنا الله من الجحيم.

نقول هذا لنمط من التناول سوف لا نتحدث عنه لأنه يمثل الشريحة المؤمنة فيما لا حاجة بنا إلى أن للحديث عنه، ولكن الحديث سوف ينصب عن الفئة الثانية المتمثلة في الطوائف المنحرفة وهي طوائف كما نعرف ذلك جميعاً من الممكن أن نشطرها إلى طوائف نافية أساساً، أو منكرة أساسا لليوم الآخر أو الطوائف المشككة بذلك، ونحن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الطوائف المتفاوتة التي تنتسب إلى الانحراف قد يكون بعضها مؤمنا بالله ولكنه يضيف إليه شريكاً، كما هو واضح، وقد يكون هذا النمط من الموحد أي المقر بوجود مبدع الكون يقر بهذا الجانب ولكنه يشكك أو ينفي إمكانية إعادة الإنسان بعد موته.. الخ.

ما يمكن ملاحظته في هذه الفئات المتنوعة من المنحرفين.

والقرآن الكريم عبر طرحه لهذه المادة يتناول في الواقع أساليب ثلاثة للتدليل على مشروعية ويقينية اليوم الآخر، الأسلوب الأول الذي يتبعه القرآن الكريم هو الاستشهاد بالانسان نفسه من حيث بداية خلقه، حيث يشير حينا إلى أنه مخلوق من التراب وحينا آخر يشير إلى انه وجد من نطفة ثم أصبح بهذا الشكل والاستدلال من خلال هذا الجانب وان الله سبحانه وتعالى كما كان قادراً على أن ينشأ الإنسان من التراب أو من النطفة حينئذ بمقدوره يحيه بعد الموت، ويمكننا أن نستشهد في هذا السياق بالآيات القرآنية الكريمة التي ختمت بها سورة القيامة حيث ورد فيها (ألم يكن نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) وهكذا يستدل النص القرآني الكريم بقدرته على أن يحيي الموتى بنفس القدرة التي استطاع من خلالها أن يخلق الإنسان من نطفة من مني يمنى ثم كان علقة.. الخ.

ويمكننا أيضاً أن نسنشهد بالآيات التي ختمت بها سورة يس حيث ورد فيها (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم). هذا بالنسبة إلى الأسلوب الاستدلالي الذي يسلكه النص القرآني الكريم للربط بين إمكانية الخلق وإمكانية الانبعاث من جديد، وأما الأسلوب الآخر الذي يتبعه القرآن الكريم به  يربطه من خلاله بين عملية النبات والزرع وربط ذلك بعملية إحياء البشر أيضاً، ويمكننا أن نستشهد على سبيل المثال في هذا السياق بالآيات القرآنية الكريمة الواردة في سورة ق حيث يقول تعالى: (وانزلنا من السماء ماءا مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج)، وهكذا نجد من هذا الأسلوب الأخر من الاستدلال يربط بين إحياء النبات وبين إحياء الإنسان بعد موته، وأما الأسلوب الثالث الذي يتبعه القرآن الكريم، وهو ما يمكن تسويته بالأسلوب التجريبي إذا صح التعبير عن هذا الجانب أي االاستشهاد بنماذج تجريبية تجرى في الحياة الدنيا ذاتها حتى يمكن من خلالها أن يستشف المنكر أو المشكك إمكانية ويقينية الإحياء في اليوم الآخر، ولعلكم تتذكرن جيدا عندما حدثناكم عن العنصر البنائي في القرآن الكريم وعن العنصر الإعجازي بالقرآن الكريم من حيث البناء القصصي، تتذكرون جيدا كيف أننا استشهدنا بسورة البقرة من حيث كونها تعتمد على محورين كبيرين أحد هذه المحاور هو عملية الإماتة والإحياء حيث لاحظتم أن النص القرآني الكريم تعرض إلى هذا الجانب من خلال أسلوب نثري غير قصصي ومن خلال الأسلوب القصصي حيث استشهد بجملة قصص تتناول هذا الجانب، منها قصة البقرة التي ضرب الميت بذيلها فأحيي الميت وأخبر جماعة موسى (عليه السلام) بالقاتل، وكالقصة التي وردت بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) من حيث تقطيعه للطيور الأربعة وإحياء هذه الطيور ثم من خلال القصة التي تناولت الشخصية التي قالت وهي تمر على قرية خاوية على عروشها أن الله بعد موتها فأماته الله مائة عام، وهكذا بالنسبة إلى المناقشة التي جرت بين إبراهيم (عليه السلام) وبين نمرود حيث كانت تدور حول الإحياء وحول الإماتة وهكذا بالنسبة إلى الآية القرآنية الكريمة التي أشارت قائلة ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم الموت فقال  لهم الله موتوا ثم أحياهم، وهكذا نجد أن الاستشهاد بهذه المجموعة من القصص والآيات القرآنية الكريمة نجد أن الاستشهاد بهذه النماذج يجسد نمطا ثالثا من التدليل على يقيقنية اليوم الآخر من خلال انبعاث الموتى ما دام هذا الانبعاث تجريبيا قد تم في الحياة الدنيا على النحو الذي أوضحناه الآن.

المهم نكتفي بهذا المقدار من الحديث عن البعد المتصل باليوم الآخر ونتجه إلى المستوى الثالث أو المحور الثالث من المحاور العامة التي يتوفر القرآن الكريم عليها، ونعني به المحور الأخلاقي وهذا ما نبدأ به الحديث الآن ضمن العنوان المشار إليه، ألا وهو القرآن والمحور الأخلاقي.

ونقصد بالمحور الأخلاقي ما يطلق عليه في مصطلح علم النفس والتربية والاجتماع، ما يطلق عليه مصطلح السلوك البشري، وبطبيعة الحال يظل السلوك البشري متنوعاً دون أدنى شك بيد أن الزاوية التي يتناول من خلالها هذا السلوك يظل في الواقع منصباً على جانب هو الطرائق التي يستجيب لها الإنسان حيال المنبهات الداخلية والخارجية التي يواجهها ومن ثم كيفية الاستجابة لهذه الطرائق من حيث كونها الاستجابة الطبيعية أو استجابة شابة والى ذلك من تحديدات تتصل بهذا الجانب، ولكنها تصب في نهاية المطاف في ظاهرة خاصة هي ما يطلق عليها الظاهرة الأخلاقية التي تعني السلوك السوي أو السلوك الصائب أو السلوك الصحيح، أو السلوك القويم أو السلوك المطلوب من الشخصية البشرية أن تخطته في تعلمها معاني مختلفة بمظاهر الحياة. لذلك سيكون الحديث في الواقع عن الظاهرة الأخلاقية هي ظاهرة تمزج بين علوم الأخلاق وبين علوم النفس والتربية وحتى بين علوم الاجتماع ونحوها مما ترتبط جميعا لتناول ظاهرة السلوك البشري من الزاوية التي أشرنا إليها ومع أن المادة المعرفية التي نحاول أن نتناولها عابرا في هذه المحاضرات سوف نتجه إليها أيضاً من خلال بعد معرفي آخر هو البعد المتصل بالعلوم الإنسانية جميعا، ولكن مع ذلك إن الحديث الآن عن هذا الجانب يفرض ضرورته بغض النظر عما سنحدث عن الجوانب المرتبطة بالعلوم الإنسانية كعلم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والسياسة وما إلى ذلك.

من هنا إذا حدثاكم عن الجانب الأخلاقي وتطرقنا خلال ذلك إلى بحوث نفسية وتربوية واجتماعية، يجب أن لا نستغرب أن هذا النمط من العرض للمادة المعرفية للقرآن الكريم إذا كان هذا الجانب يمتزج مع جوانب أخرى كما قلنا بيد أن المهم هو أن نتبين المادة المعرفية التي تتناول السلوك البشري المطلوب من خلال وجهة النظر القرآنية الكريمة، من هنا سوف يتم تداخل تام في الواقع بين المادة المعرفية المرتبطة بالأخلاق في القرآن الكريم، وبين مطلق المواد المعرفية المتمثلة في ضروب المعرفة التي ذكرناها ونعني بها العلوم المرتبطة بالتاريخ والتربية والنفس والاجتماع والسياسية والاقتصاد وما إلى ذلك فما دام الطابع الأخلاقي يتمثل في السلوك السوي أو السلوك المستقيم أو السلوك المطلوب عبادياً حينئذ فإن انسحاب هذا السلوك في صفته الإيجابية على سائر أنماط التعامل مع مظاهر الحياة المختلفة سوف يكسبها طابعا أخلاقيا دون أدنى شك ومن ثم فإن حديثنا الآن عن الأخلاق في القرآن الكريم سوف يتداخل كما قلنا مع كل أنماط المعرفة الإنسانية ومن ثم فإن التداخل بين هذين النمطين من الضرب المعرفي أي الأخلاق ثم انسحاب ذلك على مطلق السلوك الإنساني يظل موضع محاضرتنا الآن ولعله أيضاً إذا شاء الله سبحانه وتعالى ينسحب على المحاضرات اللاحقة أيضاً.

المهم نبدأ الآن فنتحدث أولاً الأخلاق كسمة وردت في القرآن الكريم ولعل أول ما يمكن ملاحظته في هذا الميدان هو إشارة القرآن الكريم إلى النبي (صلى الله عليه وآله) حيث قال عنه (وإنك لعلى خلق عظيم)، الواقع أن هذه الآية القرآنية الكريمة التي تشير إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله) والى أنه على خلق عظيم يظل مفتاحاً كبيراً للحديث عن مختلف شؤون السلوك البشري دون أدنى شك، فأولاً القضية ترتبط بمحمد (صلى الله عليه وآله) وهو الرسول الذي أنزل إليه الكتاب أو أنزل بواسطته الكتاب لتوصيل المبادئ القرآنية أو الإسلامية إلى البشرية جميعا، وما دام الرسول هو المطلع لتوصيل هذه المبادئ حينئذ فإن وسمه بأنه ذو خلق عظيم يعني ارتباط هذه الرسالة بمن يحمل سمات تتفق وما تتطلبه الرسالة من مبادئ أخلاقية ولو تتبعنا هذا الجانب في القرآن الكريم حينئذ سنجد أن الذنب الأخلاقي في الواقع ستظل مثل سائر الجوانب التي تحدثنا عنها سابقا ونعني بها أن القرآن الكريم يمر على كثير من الظواهر إما مرورا إجماليا أو مرروا عابرا أو حتى في حال تركيزه على ظاهرة ما بشكل مكثف فإن هذا التكثيف في الواقع يستهدف طرح مفردات متنوعة لهذه الظاهرة أو لتلك بالنحو الذي لاحظناه في محاضراتنا السابقة.

لذلك فإن الطالب ينبغي أن لا يتوقع بان يقدم له القرآن الكريم قائمة بأنماط السلوك الأخلاقي الذي ينبغي أن نخطته لأنفسنا بقدر ما تتناثر المبادئ الأخلاقية هنا وهناك، على أن تستكمل كما هو طابع سائر المواد المعرفية الأخرى تتكامل من خلال التوفر على السنة الشريفة، وقبل أن نواصل حديثنا عن هذا الجانب الأخلاقي نود أن نشير إلى أن التعامل الأخلاقي يتم من خلال أربعة محاور في طبيعة الحال المحور الأول هو التعامل مع الذات، والثاني التعامل مع الله سبحانه وتعالى، والثالث التعامل مع الآخرين، والرابع التعامل مع الظواهر الكونية الأخرى وسنضرب أولا أمثلة على هذه الأنماط الأربع ومن ثم نتناول ما تناوله القرآن الكريم في هذا الميدان على أن نتجه بعد ذلك كما قلنا إلى الربط بين الظاهرة الأخلاقية وبين الضروب المعرفية التي تشكل مادة قرآنية كريمة تتصل بالاقتصاد وبالاجتماع وبالسياسة والتربية وعلم النفس حيث يظل الطابع الأخلاقي كما قلنا هو المنسحب على نمط الظواهر المشار إليها.

هذه المحاور الأربعة التي نحاول أن نعرضها الآن سريعا كما قلنا هو التعامل مع الذات، ولعل من أوضح الأمثلة على تعاملنا مع الذات، هو تعاملنا مثلا من حيث التناول للمادة الغذائية فنحن قد نتناول المادة الغذائية ونحن نشتهي الطعام وقد نتناولها ونحن لا نشتهي الطعام، وقد نكف أيدينا عن الطعام ونحن نشتهي وقد لا نكف ذلك، وقد نتناول الطعام بنهم وبلذة، وقد لا نفعل ذلك، وقد نملأ بطوننا، وقد لا  نفعل ذلك أولئك جميعا تمثل في الواقع تعاملا مع الذات ومن الممكن أيضاً أن نجعلها النمط الرابع الذي يمثل التعامل مع الظاهرة الكونية، أو لنقل الظاهرة الطبيعية أو المادية أو أية ظاهرة لا ترتبط بالجنس البشري، أو لا ترتبط بالتعامل مع الله سبحانه وتعالى، أو لا ترتبط مع النفس الفردية لهذا الشخص أو ذاك، المهم أن الحديث الذي يشير إلى أن البطن تطغى في حالة الشبع حينئذ فهذه الظاهرة تمثل بعدا أخلاقيا واضحا لأن الطغيان هو سمة نفسية تعني أن الشخصية البشرية تمارس سلوكا غير مقبول إنه السلوك المتمثل في الإحساس باللامبالاة وفي الإحساس بالفوقية وفي الإحساس بعدم الانفتاح على الآخرين، وبالإحساس بالأنانية وما إلى ذلك من أشكال الحرمان على الذات.

وإذا انتقلنا إلى الظاهرة الثانية ونعني بها التعامل الأخلاقي مع الآخرين فإن الأمثلة على ذلك من الكثرة بمكان كبير.أية صلة بيننا وبين الشخص الآخر يمكن أن تجسد نمطا من أنماط التعامل مع الآخرين السلام أو التحية وهذا ما ورد في النص القرآني الكريم عندما يطالبنا بأننا إذا حيينا بتحية فيتعين علينا أن نردها بأحسن منها أو نكتفي بالرد بمثلها مثلا، هذا هو واحدا من أنماط التعامل مع الآخرين، وأما  التعامل مع الله سبحانه وتعالى فيتمثل أيضاً في كثير من المظاهر الشعائرية كالصلاة والصوم والحج و..و الخ.

حيث نتعامل مع الله سبحانه وتعالى على سبيل المثال إما من خلال التقرب الخالص لله سبحانه وتعالى دون أن نشرك مع رضا الله رضا الآخرين وهذا على سبيل المثال أسلوب واضح من الأساليب الأخلاقية التي تتعامل مع الله سبحانه وتعالى، وأما التعامل مع الظواهر الأخرى فيمكن أن نقدم أمثلتها متمثلة على سبيل المثال للتعامل مع المال، أما فنحن قد نتعامل مع المال من خلال النظر إليه هدفا بذاته وليس مجرد وسيلة لان نجمع المال ونعدده كما ورد ذلك في الآية القرآنية الكريمة القائلة (ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده) وقد نتعامل مع المال بمجرد كونه وسيلة ثم نستثمره بما أمرنا الله تعالى وهذا ما ورد في الحث عليه كثيرا في القرآن الكريم من حيث الصدقة، ومن حيث الزكاة ومن حيث الخمس، ومن حيث الإنفاق بشكل عام بحيث نوظف المال من أجل هدف آخر هو مساعدة الآخرين أو تعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى.. الخ.

إذا هذه الأمثلة السريعة التي قدمناها في التعامل الأخلاقي مع الظواهر هذه الظاهرة تمثل البعد الأخلاقي الذي نود الآن أن نحدثكم عنه من خلال هذه المحاور الأربعة ولكنها محاور تتداخل من جانب مع ما ورد في القرآن الكريم خاصة بالتعامل الأخلاقي أو ما ورد من مواد معرفي وتتصل بضروب العلوم الإنسانية التي أشرنا إليها وحينئذ فإن الحديث عن أي من هذه الجوانب سوف يلقي بإضائته على نمط البعد المعرفي المتصل بالمادة الأخلاقي المطروحة في القرآن الكريم.

لقد طرح القرآن الكريم مفردات متنوعة من التعامل الأخلاقي بعد أن لاحظنا أنه يصف القرآن الكريم النبي محمدا (صلى الله عليه وآله) بأنه على خلق عظيم، نجد انه يقدم لنا مفردات متناثرة هنا وهناك في هذا الموقع من السورة القرآنية الكريمة أو تلك يشير إليها عابرا أو بعض الأحيان أو مفصلا في هذا السياق أو ذاك، ومن ذلك على سبيل المثال مما يجسد مفردة من مفردات الأخلاق المطلوبة أو الأخلاق السوية ما يشير إليه القرآن الكريم مثلا في تعامل النبي (صلى الله عليه وآله) مع المجتمع الذي أنزلت الرسالة إليه ليؤمن بمبادئها ونعني بذلك الأسلوب التبليغي الذي يخطته الرسول (صلى الله عليه وآله) بهذا الميدان حيث يسمه الله سبحانه وتعالى بقوله بان النبي لو كان غليظ القلب وفضا لانفضوا من حوله، إن فضاضة القلب على سبيل المثال تعني السلوك الخشن سواء أكان هذا التعامل لفظيا أو حركياً ومن ثم فإن التعامل القاسي والخشن والشديد والحاد مما إلى ذلك من أنماط السلوك اللفظي الذي يستشف منه ما هو عدواني أو ما هو تعال ما إلى ذلك هذا النمط من الأسلوب الفض دون أدنى شك يجعل الشخصية الأخرى تنفر تماما من المبادئ التي تدعو إليها هذا الشخص أو ذاك.

إذا القلب الفض أو الغليظ يمثل نمطا من السلوك غير المطلوب وبالمقابل فإن القلب إذا اتسم بالرحمة أو الرقة أو الشفقة وبالانعكاسات التي تنعكس من خلال هذا القلب لفظيا من خلال الكلام الناعم والكلام الحسن، وما إلى ذك مما يشير إليه القرآن الكريم في مادته المتصلة بالظاهرة الأخلاقية كإشارته سبحانه وتعالى إلى المجادلة بالتي هي أحسن وكإشارته إلى أن العدو يتحول إلى صديق حميم في حالة ما إذا سلكنا وإياه مسلكا لفظيا يتمثل في انتخاب ما هو رقيق ومهذب من الألفاظ، أو يتمثل في ما هو مهذب من الأساليب المتبعة في الجدال، ومن ذلك مثلا ما يشير إلى القول الحسن حيث ورد في أكثر من موقع في قوله تعالى على سبيل المثال (وقولوا للناس حسنا) إلى آخر ما نلحظه من الإشارات المتصلة بضرورة التعبير عن السلوك من خلال اللفظ، أي من خلال الظاهرة اللفظية يظل واحدا من أشد الأنماط الأخلاقية بروزا في التعامل مع الآخرين من حيث انعكاساته على الآخرين وتحديد الاستجابات الإيجابية من قبل الآخرين، حيال هذا الشخص الذي يسلك سلوكاً أخلاقياً قائما على التعامل اللفظي الرقيق دون التعامل الفظ.

وإذا تركنا هذا الجانب المتصل بالتعامل اللفظي نجد أن هناك أنماطا أخرى من التعامل اللفظي والحركي أيضاً وهذا ما يتمثل في عملية السلام على الآخرين أو ما أطلق عليه القرآن الكريم نفسه مصطلح التحية عبر قوله تعالى (وإذا حييتم بتحية).. الخ. فالملاحظ في هذه التوصية القرآنية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى يتحدث ويرسم لنا السلوك المتصل بالسلام والرد عليه، حيث أن السلوك أساس وهذا ما تتكفل به النصوص الحديثية الشريفة المشيرة إلى أن السلام هو من أهم المظاهر التي يحرص عليه الإسلام كل الحرص حيث وردت التوصيات المتنوعة التي تشير إلى أن من سمات الشخصية المؤمنة أن تبدأ بالسلام وما إلى ذلك من سمات أخرى تتحدث عن التوصيات الإسلامية.

المهم إذا تجاوزنا ظاهرة السلام وإذا ما يترتب عليها من نتائج لاحظنا أن الآية القرآنية الكريمة تتحدث عن التحية والسلام تطالبنا بان نرد السلام بمثله أو بأحسن منه ترى ما هي المعطيات النفسية التي تترتب على أمثلة هذه التوصية، إنه من الوضوح بمكان كبير أن البادئ بالسلام إنما يعني أنه يجسد سلوكاً منفتحا نحو الآخر، أي تجسد عملية تصدير حب من أعماق هذا الشخص إلى الشخص الآخر من خلال عملية السلام، وحينئذ إذا قدر لأحدنا أن يتلقى محبة من شخص آخر من خلال السلام عليه، حينئذ فإن النزعة الإنسانية تفرض علينا أن نرده بمثل ما تفضل علينا من السلام، وهذا ما يجسد العبارة القائلة (فحيوه)، ولكن بما أن البادئ بالسلام هو البادئ بالفضل فحينئذ ينبغي أن نبادله لا بالمكافأة المساوية بين نمطي سلوك، بل يجب أن نبادل فنضيف الإحسان إلى إحسان سابق وهذا ما يتمثل في  رد التحية بأحسن منها فإذا قال على سبيل المثال السلام عليكم، ينبغي أن نقول له وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هذه عبارة رحمة الله وبركاته نكون قد رددنا التحية بأحسن منها، وبذلك  نجسد سلوكا يفضي دون أدنى شك إلى تعميق المحبة بين الطرفين فالمسلم وهو يبادر من خلال نزعة إنسانية لديه حينما يجدنا أننا نبادله هذه النزعة الإنسانية بل بأكثر نزوعا إنسانياً وهو الرد الأفضل حينئذ ستتعمق أواصر المحبة فيما بيننا كما هو واضح، وهكذا إذا تبعنا سائر أنماط السمات الأخلاقية التي يطرحها القرآن الكريم حيث تجسد معطيات نفسية بالنحو المعطى الذي حدثناكم عنه الآن بالنسبة إلى التحية والرد عليها.

ولعل ظاهرة الانفتاح على الآخر التي تبدأ من عملية السلام عليه هذه الظاهرة الانفتاحية على الآخرين يتناولها القرآن الكريم من زوايا متنوعة وفي مقدمتها على سبيل المثال مساعدة الآخرين أي البدأ بتصدير النزعة الإنسانية قبل أن يسبقنا الآخرون إليها وفي مقدمة هذه الظواهر المتمثلة في النزعة أو الانفتاح نحو الآخرين وظاهرة الإنفاق على سبيل المثال وإذا قدر لكم أن تطالعوا النصوص القرآنية الكريمة التي تتحدث عن هذا الجانب للاحظتم مثلا أن الحديث عن الصلاة يرتبط في كثير من الحالات بالحديث عن الزكاة أيضاً، والزكاة هي واحدة من أنماط التعامل ومن أنماط التجسيد للإنفاق لان الزكاة قد تكون وقد يقصد منها الضريبة المالية المعروفة وقد يقصد منها ما هو أوسع دلالة ولكن سنجد في النصوص القرآنية الكريمة ما يشير إلى هذا الجانب، وما يشير إلى الجوانب الأخرى كالإشارة إلى الخمس مثلا وكذلك الإشارة إلى الإنفاق بنحوه المطلق أي الإنفاق بنمطه الواجب وبنمطه المندوب، وسنتحدث عن هذا الجانب إن شاء الله سبحانه وتعالى عندما نحدثكم أو عندما نتحدث عن الجانب الاقتصادي أي المادة المعرفية المتمثلة في ظاهرة الاقتصاد وطريقة الطرح القرآني الكريم له، إذ أننا ما دمنا قد تحدثنا الآن عابرا عن الظاهرة الأخلاقية من خلال الانفتاح اللفظي حيث لاحظنا كيف أن مسألة التحية قد طرحت الدعاء الكريم بهذا النحو الذي يجسد معطيات متنوعة لتعميق الحب بين الآخرين، أقول إذا واصلنا الحديث عن هذا الجانب اللفظي حينئذ نجد إشارات متنوعة ترد هنا وهناك في النصوص القرآنية الكريمة لتفصح لنا عن مستويات التعامل اللفظي مع الآخرين ومنها على سبيل المثال الحديث عن الاختيار حيث ورد عن هذا الجانب نص قرآني كريم له خطورته ألا وهو الحديث عن الغيبة مثلاً، فالغيبة تعني سلوكا لفظيا يقوم على ليس تصدير الحب نحو الآخر بل على العكس من ذلك يكون على تصدير الحقد نحو الآخر وهو قمة الانتكاس الأخلاقي دون أدنى شك وهو بذلك عبر عنه القرآن الكريم من خلال سورة فنية مذهلة وهي قوله تعالى (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً).. الخ.

أن الاستشهاد بهذا النموذج أو بالآخر بهذا المثل الذي شبه الاغتياب بأكل اللحم الميت وهو كما تعرفون  الأكل بالنسبة إلى لحم الميت يقترن بظواهر كريهة من حيث المنظر المشوه للميت ومن حيث الرائحة الكريهة لللحم الميت من حيث الطعم الكريه للحم الميت.. الخ.

نقول إن هذه الأنماط من المستويات التي تجسد المفروض والكراهية الشديدة ربط بينهما وبين الغيبة التي تعني سلوكا لفظيا يقوم على تجريح الآخرين من خلال غيبتهم وليس من خلال حضورهم طبيعيا أن تجريح الآخرين من خلال حضورهم يجسد بدوره نمطا عدوانيا على الآخرين ولكن الاغتياب يمثل أسلوبا عدوانيا من نمط آخر هو أشد لأنه تعبير بالإضافة إلى كونه تعبيرا بطلانيا فإنه تعبر عن النزعة الخائنة في أعماق الشخصية، وذلك لسبب واضح هو أن تجريح الآخر وهو غائب يعني طعن له من الخلف وطعنة من الخلف تمثل الخيانة والغدر ونحو ذلك من الممارسات غير الإيجابية.

إذا الاغتياب بالنحو الذي لاحظناه يظل ممارسة بلغت من الإنكار إلى حد لاحظنا كيف أن النص القرآني الكريم قد توكأ على تشبيه بالغ المدى وتقريب دلالة هذا المفهوم إلى الأذهان على أية حال بغض النظر عن كل ما تقدم لا نريد مواصلة الحديث عن هذه الجوانب، حيث قلنا أن السنة الشريفة تتكفل بها ومن ثم فإن الحديث عن الجانب الأخلاقي في نمطه الآخر ونعني به النمط العام الذي ينسحب على سائر الممارسات أو سائر ضروب المعرفة المتصلة بالاجتماع والاقتصاد والسياسة ونحو ذلك كل أولئك أيضاً يفسح المجال أمامنا الحديث عن السمة الأخلاقية من وجهة نظر القرآن الكريم وهو أمر سنبدأ بالحديث عنه إن شاء الله عبر محاضراتنا اللاحقة حيث سنبدأ أولا بالحديث عن التصور القرآني الكريم للظاهرة النفسية وذلك من خلال الأسلوب الذي كررنا الإشارة إليه ونعني به الأسلوب الذي يتسم بالإجمال من جانب ويتصل بطرح ظاهرة دون أخرى من جانب ثان على نحو ما سنحدثكم عنه لاحقا إن شاء الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.