المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 39.doc

نواصل حديثنا عن القرآن الكريم من حيث موضوعاته أو من حيث مادته المعرفية، وهو القسم الثالث من الأبحاث المتصلة بعلوم القرآن وتاريخه حيث كان القسم الأول يتحدث عن الوحي وقضاياه وما يرتبط بجمع القرآن الكريم وترتيبه وما إلى ذلك وكان القسم الثاني عن بناء القرآن الكريم، وأما القسم الثالث يتحدث عن المادة المعرفية للقرآن الكريم، حيث حدثناكم في المحاضرة السابقة عن هذا الجانب وقلنا أن المادة المعرفية أساسا تصل بمحاور ثلاثة هي الحديث عن البعد الفقهي، والحديث عن البعد العقائدي والحديث عن البعد الأخلاقي.

وقلنا أن هناك في سياق هذه المحاور ثمة مادة معرفية تتصل بالعلوم البحتة ومادة تتصل بالعلوم الطبيعية، ومادة تتصل بالعلوم الإنسانية حيث ترد هذه الضروب من المعرفة في سياقات خاصة عبر المحاور الثلاثة المشار إليها، والمهم بدأنا بالحديث أولا عن المحاور الثلاثة الرئيسة على أن نتبع ذلك بالحديث عن المحاور الفرعية، وبالنسبة إلى المحاور الرئيسة تناولنا في المحاضرة السابقة القسم المتصل بالمادة الفقهية أو المتصل بالمادة الفقهية وقلنا في حينه أن المادة الفقهية في القرآن الكريم تحتل مساحة واسعة حيث تقدر بحوالي خمسمائة آية تتحدث عن مختلف الأحكام الفقهية، وقلنا في حينه أيضاً أن هذه المادة الفقهية في الواقع لا يمكن أن تفصل في المادة الفقهية التي تبنتها السنة الشريفة متمثلة فيما ورد عن الأربعة عشر معصوماً (عليهم السلام) وقلنا من ثم أن التعاليم التي تدخلها المادة الفقهية في القرآن الكريم يمكن تقسيمها إلى أربعة مستويات المستوى الأول هو الذي يتناول آيات من الأحكام، والمستوى الثاني يتناول ظاهرة الناسخ والمنسوخ، والمستوى الثالث يتناول ظاهرة الأداة الأصولية، والمستوى الرابع يتناول ظاهرة التضارب بين الأخبار وصلة ذلك بعضبها على القرآن الكريم.

وقد تحدثنا عن المستوى الأول بشكل عابر وبدأنا نتحدث عن المستوى الثاني ألا وهو مستوى الناسخ والمنسوخ وإلا أننا لم نتمم حديثنا عن الجانب المذكور بل عرضنا في المحاضرة إلى هذا الجانب وقلنا باختصار أن الحديث عن الناسخ والمنسوخ يتسم بعضه أهمية نسبية وأما البعض الآخر فلا يتسم التي يوليها المعنيون بالبحث القرآني قديما وحديثا، وقلنا أن قسما من الآيات القرآنية الكريمة التي يدعى نسخها تتصل بظاهرة التخصيص وبخاصة عند الأقدمين وبالنسبة إلى المعاصرين قد تناولوا هذه المسألة إلا انهم تفاوتوا في وجهات نظرهم حيال ذلك، ولكننا استشهدنا بمواقف متنوعة حيث بدأنا بالحديث عن أن بعض هذه الآيات التي يدعى نسخها أو عدم نسخها، تظل في الواقع غير ذات ثمرة عملية في التكييف الفقهي للمسألة وضربنا أمثلة على ذلك ومنه المثال القائل بان الآية الذاهبة أو القائلة (اتقوا الله حق تقاته) نسخت بآية (اتقوا الله ما استطعتم)، أوضحنا خلاله الآية استشهاد النصين المتقدمين بانه سواء قلنا بالنسخ فإن الثمرة العملية لهذا الضرب من البحث منعدم تماما لأن الطاعة بقدر الطاقة هي المتعينة دون أدنى شك.

بعد ذلك اتجهنا إلى الحديث عن المستوى الثاني من الناسخ والمنسوخ وذهبنا إلى أن هذا القسم في الواقع غير خاضع لعملية النسخ تماما، واستشهدنا أمثلة على ذلك، ثم انتقلنا إلى عكس هذه الظاهرة، أي ظاهرة النسخ دون الأحكام، حيث وقفنا عند هذا الحد ولم نتحدث عن الأمثلة المرتبطة بهذا الجانب، ويمكننا في هذا النطاق أن نستشهد ببعض الأمثلة وفي مقدمتها الآية القرآنية الكريمة القائلة (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراح).. الخ.

حيث نذهب نحن تباعا لما ورد عن المعصومين (عليهم ا لسلام) أن هذه الآية الكريمة قد نسختها الآية الكريمة القائلة (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا).. الخ.

ولكننا نجد قبالة ذلك لمن يذهب إلى أن هذه الآية غير منسوخة وذلك من خلال ذهابه إلى أن آية المتاع إلى الحول خاصة في حالة ما إذا كانت هناك وصية للزوجة بممارسة ذلك، وأما في حالة العدم فإن الآية القائلة بالأربعة أشهر والعشرة أيام، هي المعينة، وحينئذ لا نسخ بالموقف، ولكننا نرد على هذا الرأي نقول لا قيمة لهذا الرأي ما دام المعصومين (عليهم السلام) أوضحوا بان الآية منسوخة وان العصر الجاهلي كان قبل ذلك يمتع المرأة إلى الحول وجاءت الآية المتمثلة في أربعة أشهر وناسخة لذلك السلوك الجاهلي.

المهم أن هذه المستويات من الآيات التي دار الخلاف فيها من حيث النسخ وعدمه بالنحو الذي حدثناكم عنه في المحاضرة المتقدمة والمحاضرة الآنية نقول لا أهمية لأمثلة هذه المستويات التي وقعت في خلاف ما دامت إما لا ثمرة عملية لها، وإما أن النص الشرعي ونقصد به السنة الشريفة تكفلت بحل المسألة بهذا النحو أو ذاك، ولكن يبقى النمط الأخير من الآيات التي تتحدث عن الناسخ والمنسوخ، وتترتب عليه الآثار الشرعية هو بدوره قليل إلا أنه يتسم بالأهمية نظرا لكون الآثار الشرعية تترتب عليه لكن لحسن الحظ إن الحمل على الندب أو التخيير في الآيات المدعى نسخها يهون من الأمر وهذا بالنحو الآية القائلة (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين).. الخ.

حيث حملت هذه الآية على الندب مقابل الآية التي قيل أنها نسخت الآية المتقدمة، ونعني بها آية المواريث ويمكننا أن نستشهد بأمثلة أخرى تتوافق مع هذا النمط من المستوى الذي يتحدث أو لنقل يحمل الآية على وجه الندب دون أن يرتب أثرا على نسخها، ولكن كما قلنا أن أمثلة هذه الآيات لقليل ومن ثم فإن الأمر ليهون دون أدنى شك حينما يكيف الحكم فقهيا بعملية ندب وليس بعملية وجوب وهذا على العكس مما لو ترتبت الآثار الفقهية على ما هو محرم أو محلل، ولكن كما قررنا لحسن الحظ أن الحديث عن هذه الآيات المدعى نسخها أو المدعى عدم نسخها بالشكل الذي أوضحناه يظل موسوماً بالشكل الذي لا تترتب عليها اية أهمية أو ترتب عليها الأهمية ولكنها في نطاق محدود جدا.

وهذا فيما يتصل بالمستوى الثاني من مستويات السرد بين المادة الفقهية، وبين القرآن الكريم حيث كان المستوى الأول يتحدث عن صلة القرآن الكريم بالأحكام بالشكل العام، وإن كان المستوى الثاني عن صلة القرآن الكريم ما هو ناسخ ومنسوخ من الأحكام الفقهية، وأما المستوى الثالث الرابع هو الصلة بين النص القرآني الكريم وبين المعرفة أو المادة الفقهية، فيتمثل أولا في وجود صلة بين الأداة الأصولية في بعض نطاقاتها، وبين النص القرآني الكريم، ثم الصلة بين بعض الأحكام وبعض الروايات المتضاربة من خلال الذهاب إلى عرضها على القرآن الكريم، العمل بما يوافق القرآن الكريم وترك ما يخالفه.

وفي نطاق هذين المستويين من الصلة يمكنا أن نعرض عابرا جدا فنقول بالنسبة للمستوى الثالث وهو أداة الأصولية من الممكن أن يتوكأ الأصوليين على المادة القرآنية الكريمة لاستخلاص بعض القواعد الأصولية أو بعض القواعد الفقهية كقاعدة لا حرج مثلا أو استخلاص الأصوليين كالاعتماد على الخبر الواحد مثلا من خلال استشهاد آية (إذا جاءكم فاسق بنبأ).. الخ.

من الممكن أن يفيد الأصوليين والفقهاء من قاعدة فقهية أصولية يستنبطونها من النص القرآني الكريم.

وأما المستوى الأخير فهو كما قلنا التضارب حينا بين الفتاوى الواردة، أو بين الأخبار المتضاربة بحيث لا يمكن للتأليف بينها من خلال ما يسمى بالجمع العرفي بقدر ما يكون التضارب محكما على نحو التضاد أو التناقض، ومن هنا امرنا المشرع الإسلامي أن نعرض هذه الأخبار على النص القرآني الكريم ناخذ به وما يخالفه نتركه. وبهذا ينتهي حديثنا عن المحور الأول، ونعني به محور الصلة بين القرآن الكريم وبين المادة الفقهية.

ونتجه إلى المحور الثاني ألا وهو المحور الذي ندرجه ضمن عنوان القرآن والمادة العقائدية.

بالنسبة إلى المادة العقائدية وصلة ذلك بالقرآن الكريم نعتقد أن هذه المادة تحتل مساحة كبيرة جدا من القرآن الكريم وذلك لسبب واضح هو أن القرآن الكريم نزل في مجتمع مطبوع بلسمة الشرك والإلحاد واللا انتماء فضلا عن غلبة طابع الجهل، ومن ثم فضلا عن وجود مجتمع مؤلف من السعة بمساحة كبيرة، ولكنه من التأثير له أهميته، ونعني مجتمع الكتابيين وما واكب هؤلاء من تحريف في كتبهم وانسحاب ذلك على أفكارهم، ومن ثم انسحاب ذلك على مخاصماتهم ومناقشاتهم ضمن هذا المجتمع الذي نزلت فيه الرسالة الإسلامية.

المهم أن وجود أمثلة هذا المجتمع المنحرف بمستوياته المتقدمة يتطلب ولا شك مادة عقائدية مكثفة تتناسب مع ما ينبغي أن يجابه به مثل هذا المجتمع، من هنا فإن الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن البعد العقائدي تظل من الأهمية بمكان كبير الجانب، وتظل محتلة للمساحة الكبيرة أيضاً من جانب آخر، سواء أكان ذلك يتصل في الواقع بظاهرة التوحيد لله سبحانه وتعالى أو يتصل بظاهرة المرور، أو بظاهرة الإمامة من.. الخ.

كل هذه المستويات طرحها القرآن الكريم ولكن طبق ما لاحظناه أيضاً بالمستوى الفقهي أي يطرح موضوعات عامة فيها إجمال حينا وفيها تفصيل حينا آخر، ولكن التفصيل موكول كما هو بالفقه موكول إلى السنة الشريفة، على أية حال يحسن بنا أن معظم المرور لو عابرا جدا على بعض المظاهرة المتصلة بالبعد العقائدي من خلال طرحها بالقرآن الكريم، ونقول عرضا عابرا جدا لأن كل موضوع في الواقع يستحق المؤلف ضمن مجلدات، وليس ضمن دقائق معدودة في محاضرة ما، ويحسن بنا ان نبدأ أولاً بالحديث عن ظاهرة التوحيد بصفتها أهم الأبعاد العقائدية من حيث الموقف الفلسفي الذي يظهره الإنسان حيال المادة وحيال الكون والمجتمع.

المهم إذا أردنا أن نتحدث عن هذا الجانب نجد أن النص القرآني الكريم سلك مستويات متنوعة لبلورة هذا المفهوم، مفهوم التوحيد ولعل أهم ما طرحه القرآن الكريم في هذا المجال هو ظاهرة الفطرة التي أشار النص القرآني الكريم إليها من خلال التصريح بأن الله سبحانه وتعالى فطر عباده على توحده، وهو جانب له أهميته العظمى دون أدنى شك، عندما أكد القرآن الكريم بان المسألة تتصل بالفطرة قبل كل شيء وليس من خلال البعد الفكري فحسب، ومن البين جدا أن الفطرة عندما تنسحب على سلوك الإنسان حينئذ تأخذ مشروعيتها ومصداقيتها بنحو أشد بكثير من الأنحاء الفكرية الأخرى المستدلة أو المرتكنة إلى الاستدلال وما إلى ذلك.

ومسألة الفطرة أو مسألة أن الله سبحانه وتعالى فطرنا جميعا على توحيده هذه المسألة تظل في الواقع ليست متصلة بالجانب الفكري من الشخصية، بل لها صلتها العظمى من الجانب النفسي أي بطبيعة التركيبة البشرية التي تصدر خلال استجابتها لهذه الظاهرة أو تلك، تصدر النزعة الإيجابية متمثلة في هذه النزعة ونعني بها أنا نشير إلى ذلك بعدما نحدثكم عن ظاهرة أو عن مادة علم النفس، وصلة هذه المادة بالقرآن الكريم لعلنا نتحدث عن هذا الجانب بنحو أشد وضوحاً عندما نعرض لطبيعة التركيبة البشرية ولكن لا حرج في ذلك لو تحدثنا الآن عن هذا الجانب نظرا لارتباط كل من البعدين الفكري والنفسي ارتباط بعضهما مع الآخر، لاحظوا كيف أن الله سبحانه وتعالى يقول في آية محددة: (إن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) لاحظوا جيدا كيف أن هذه الآية الكريمة توضح بان الإيمان في التركيبة البشرية تقترن بالنزوع نحو هذا الإيمان ونعني به الحب إلى هذا الإيمان وبالمقابل الكراهية لكل من الكفر والفسوق والعصيان إذا الإيمان وما يقابله من الكفر الأول يقترن فطريا بالمحبة والثاني يقترن فطريا بالكراهة وهذا مما يعزز مفهوم الفطرة التي أشارت إليها الآية الأولى واعملوا بها الآية التي عن الله فطر عباده على التوحيد، في سياق ثالث نجد أن الآية الكريمة (ونفس وما سواها) والآيتين الكريمتين (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) فمع أن هذا الجانب يتصل بالتركيبة النفسية الصرفة، ولكن أيضاً تظل ملقية بإنارتها على الجانب الذي نتحدث عنه وهو الفطرة التي فطر الله عباده عليها، ونعني بها التوحيد قد اقترنت بوعي فطري هو أن كل شخصية تلهم إلهاما نعنى الفجور ومعنى التقوى، وفي مقدمة التقوى كما هو واضح الإيمان، وفي مقدمة الفجور الكفر، إذا التركيبة البشرية التي عرض لها لقرآن الكريم هي تركيبة تقوم على فطرة التوحيد وعلى معرفة ذلك وتمييز ما هو بتوحيد أو إيمان مقابل ما هو كفر وفسوق ومعصية.. الخ.

نستنتج من هذا كله بالإضافة إلى نمط رابع من المستويات التي سلكها النص القرآني الكريم ليدلل بها على أن الإنسان مفطور على التوحيد هو ما تعوله بعض الآيات الكريمة التي تتحدث عن القوم الكافرين وتقر أن هؤلاء هم قد استيقنوا هذه الظاهرة، ولكنهم جحدوها عنادا وجحدوا ذلك لأسباب نفسية تظل مرتبطة بالالتواء الداخلي أو الانحراف الذي يطرح هذه الشخصية أو تلك حيث نلفت نظركم إلى جانب مهم، وهذا الجانب قد فصلنا الحديث عنه بالمحاضرات الأخرى ترتبط بظاهرة التربية الإسلامية أو بعلم النفس الإسلامي حيث ذكرنا هناك في المحاضرات التي تليت عليكم أيضاً أوضحنا هناك كيف أن البعد النفسي والفكري يلتقيان في التصور الإسلامي للسلوك، حيث أوضحنا أن هناك الارتباط الواضح بين السلوكين الفكري والنفسي ولا ينفصل أحدهما عن الآخر.

بمعنى أن الشخصية المؤمنة تكون ضد الشخصية السوية حسب مصطلح علماء النفس، أي تخلو من الأمراض النفسية بكل أشكالها ومستوياتها وبالمقابل فإن الشخصية الكافرة أو المنحرفة تنحرف أيضاً نفسيا وحينئذ تعان جملة من الأمراض المعروف في قائمة السلوك العصابي. وهذا يعني أن السلوك المرضي من زاويته النفسية يلتقي مع سلوك الكفر وان السلوك السوي من زاوية التصور الإسلامي بطبيعة النفس البشرية أن السوية تلتقي تماما مع النفس المؤمنة بمعنى أن تكون النفس السوية هي بالضرورة مؤمنة ومن ثم فإن هذا التفاف بين السلوكين وعدم انفصال أحدهما عن الآخر يفضل لنا في الواقع كيفية إخفاق البحوث الأرضية التي تتحدث عن الأسرة وعن الأمراض مقابل الحالة السوية في السلوك تبرهن لنا بشكل واضح كيف أن هذه البحوث قد أخفقت في تحديدها لمعاني السلوك السوي، وافتراق ذلك عن السلوك العصابي، حيث فقدت هذه الرابطة الموجودة بين كل من الإيمان والسلوك السوي وبين الكفر والسلوك الاقتصادي إنه أمر أيضاً تحدثنا عنه مفصلا في محاضرات خاصة بعلم النفس على أية حال لا نطيل عليكم الحديث عن هذا الجانب بقدر ما وددنا الإشارة إلى أن القرآن الكريم في مجالا لتوحيد طرح لنا مفهوم الفطرة وما يواكبها من المستويات التي لاحظتموها كما رتب على ذلك مصاديق متنوعة من جانب، ومن جانب آخر قدم براهين متنوعة أيضاً تبدأ من الإشارة إلى خلق السماوات والأرض وما فيهما من عشرات الظواهر الإبداعية، ثم خلق الإنسان نفسه إلى آخر وما فيه في عشرات أو مئات الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن إبداع الله سبحانه وتعالى للظاهرة الكونية في شتى مستوياتها وأنماطها.

ولذاك لا نجد اننا بحاجة للاستشهاد بهذه الآيات الكريمة وتحديدها لأن ذلك لا يخص مسألتنا الخاصة بصلة القرآن الكريم بطرحه للظاهرة الإعتقادية أو المادة العقائدية، ولذلك سوف ننتقل من الحديث عن هذه الظاهرة إلى الظاهرة الثانية من ظواهر العقائد التي تأكيد أن تطرح في ثفافتنا الإسلامية ونعني بها العقيدة الخاصة بالوضوح وهذا ما ندرجه ضمن عنوان القرآن الكريم ومفهوم النبوة.

من البين أن الصلة بين القرآن الكريم وبين النبوة تفرض وثاقتها دون أدنى شك ،وإذا كانت الصلة بين القرآن الكريم وظاهرة التوحيد تحتل مسافة أو مساحة أولى فإن الصلة بين القرآن والنبوة سوف تحتل الدرجة الثانية من الأهمية، إلا انهما جميعا أي كلا من التوحيد والنبوة لا ينفصل أحدهما عن الآخر نظرا لأن النبوة تتطلع بتحديد المبادئ التوحيدية وتوصيلها إلى المجتمع البشري، أي أن الإنسان إذا كان كما لاحظنا في حديثنا عن التوحيد مفطورا على التوحيد فحينئذ يحتاج إلى من يعرفه المبادئ التوحيدية، وذلك بسبب أن الفطرة تظل مجرد أرضية عامة أو مجملة، وتحتاج إلى من يفصلها دون أدنى شك، هذا من جانب ومن جانب آخر، بما أن الله تعالى ألهم البشرية بالإضافة إلى فطرة التوحيد ألهمها فطرة الخير والشر تبعا لقوله تعالى (ألهمها فجورها وتقواها)، حينئذ فإن مبادئ الخير والشر مطلقا وهي مبادئ تتصل بجميع شؤون الحياة، حينئذ تشتمل على مطلق السلوك البشري وليس التوحيد وحده.

من هنا فإن الإلهام للخير والشر يتكفل بهذه الوظيفة ولكن المبادئ التفصيلية أيضاً لما هو خير وما هو شر، وتحديد مفردات ذلك يحتاج بدوره إلى مفهوم النبوة لتضطلع بتوضيحه وتوصيله إلى البشرية.

إذا فطرة التوحيد من جهة وإلهامية الخير والشر من جهة أخرى، بما أنها مجملان ويشكلان مجرد خلفية أو أرضية حينئذ فإن النبوة ستتطلع بالتوفر على التفصيلات وإيصال مبادئ الله تعالى إلى البشر جميعا، من هنا اكتسبت النبوة طابعا له أهميته الكبيرة، ونحن في الواقع إذا نظرنا من الزاوية الثالثة إلى أن الله تعالى قد أمرنا بممارسة الخلافة أو العبادة الأرض، وخلق البشرية من اجل ممارستها تبعا لقوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، حينئذ فإن المبادئ العبادية تتمثل في نفس المبادئ التي أشرنا قبل قليل إليها أي التفصيلات التي تتطلع النبوة إليها بتوصيلها إلى البشر، يترتب على ذلك جميعا أن نصل إلى نتيجة وهي ما دامت النبوة هي المضطلعة بحمل رسالة السماء إلى الأرض، حينئذ فإن الإيمان بها أي من خلال الشخصية التي تضطلع بهذه المهمة، يفرض ضرورته دون أدنى شك، يستوي في ذلك أن يكن الإيمان والشخصيات النبوية منسحبة على الأنبياء السابقين حيث يضطلع كل نبي بدءا من آدم (عليه السلام) وانتهاءً إلى ما قبل نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) لإيصال مبادئ الله تعالى إلى مجتمعاته المحلية أو العالمية، أو يكون الإيمان خاصا بمجتمع الأمة الإسلامية التي ختمت النبوات السابقة بها من خلال رسالة محمد(صلى الله عليه وآله) بصفتها الرسالة التي اكتسبت طابعا بشريا عاماً من جانب، واكتسبت الرسالة الخاتمة الممتدة إلى قيام الساعة من جانب آخر وما يعنينا مما تقدم هو أن النبوة السابقة بنحو عام، والنبوة الخاصة بشكل خاص هي ما تعنينا بطبيعة الحال، ولكن بما أننا مطالبون بأن نؤمن بمشروعية الرسالات السابقة من جانب ونسخ هذه الرسالات بالشريعة الإسلامية من جانب آخر، فإن الحديث عن النبوة بنحو عام من جهة وبنحو خاص من جهة ثانية يفرض مشروعيته.

والمهم الآن هو أن نتحدث عن موضوعنا الذي نعنى به الآن هو المادة القرآنية الكريمة في نطاق النبوة ومفهوماتها وحينئذ فإن الأجدر بنا أن نعرض لهذا الجانب فنقول:

إن الصلة القرآنية أو بالأحرى أن الصلة بين القرآن الكريم وبين النبوة هذه الصلة تتمثل في الواقع في جملة لا بد من ملاحظتها، النقطة الأولى هي بما أن هدف النبوة كما قلنا هو إيصال مبادئ الله تعالى من خلال تجسدها لمفهوم العبادة التي خلقنا من أجلها لذلك فإن الممارسة العبادية ولفت النظر إليها تظل واحدا من أهم الموضوعات التي توفر القرآن الكريم عليها، أي إن المفهوم المتمثل في مصطلح العبادة وما ينطلق عليها من الاستقلال تظل موضوع ملاحظة القرآن الكريم ويمكننا على نحو الاجمال أن نشير إلى هذا الجانب ونستشهد بما ورد على سبيل المثال في سورة الأعراف حيث طرحت هذه السورة من خلال القصص التي عرضت فيها طرحت المفهوم العبادي الذي خلقنا من اجله، طرحت ذلك من خلال مطالعة مجتمعاته التي قالت مثلا بالنسبة إلى نوح (عليه السلام) (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، أيضاً بعد ذلك تتحدث السورة الكريمة عن النبي صالح (عليه السلام) حيث تقول (والى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره)، وهكذا بالنسبة إلى النبي شعيب (عليه السلام) تقول (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره)، لاحظوا كيف أن هؤلاء الأنبياء الثلاثة طالبوا مجتمعاتهم بهذه الصياغة الموحدة التي صاغها القرآن الكريم متمثلا بالمطالبة بالعبادة أي المفهوم العبادي الذي يتمثل في حقيقته يتمثل بمطلق السلوك الذي يوظفنا بممارسته أو طولبنا بممارسته في نطاق العقائد والأحكام والأخلاق ومطلق السلوك ومطلق المبادئ التي رسمها الإسلام له.

بطبيعة الحال ما قدمناه مجرد نموذج واحد من مادة النبوة التي سلكها القرآن الكريم في توصيل الرسالة إلى المجتمعات البشرية ونعني بذلك مفهوم العبادة كما قلنا وهذا ما ننتهي إليه بالعبارة الآتية أن العبادة بنحو عام وهي تسويه جميع الممارسات التي كلفنا بها، تظل هي المحور الأول الذي يطرحه القرآن الكريم من خلال رسالة الأنبياء (عليهم السلام).

وهذا هو المفهوم الأول و النقطة الأولى.

وأما المفهوم الثاني فيمكن ملاحظتها من خلال طرح آخر هو الطرح بخطوط إجمالية للمفهوم العبادي أي في الطرح الأول وكانت الإشارة فحسب إلى المفهوم العبادي كمفهوم نطالب به بشكل عام، المستوى الثاني هو المطالبة بالمفهوم العبادي ولكن من خلال خطوط إجمالية وسنرى أن الخطوة الثالثة تشمل التعرض للمفهوم العبادي أيضاً ولكن من خلال عشرات أو مئات المصاديق التي تشمل جميع المحاور العقائدية والفقهية والأخلاقية وما إلى ذلك، فبالنسبة إلى المحور الثاني نقول أن في هذه المحور نجد خطوطا إجمالية تتمثل في الإشارة إلى كل من الكتاب والحكمة والتزكية، فقد ورد الحديث عن الأنبياء (عليهم السلام) بالنسبة إلى كل من التعليم الكتاب والحكمة ولكن ورد بالنسبة إلى النبي محمد (صلى الله عليه وآله) مفهوم التزكية أيضاً وهذا كقوله تعالى في سورة البقرة على لسان إبراهيم (عليه السلام) الذي طلب من الله تعالى أن يبعث في ذرريته رسول منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وكذلك ورد هذا الموضوع في سورة آل عمران من خلال قوله تعالى (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا يتلو عليهم آيات ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)، كذلك ويرد هذا المفهوم في سورة الجمعة حيث قال الله تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)، لاحظوا أن تكرار التزكية بالإضافة إلى المحورين اللذين طبعا سائر الأنبياء يفصح للنبي (صلى الله عليه وآله) ومجتمعه الإسلامي من حيث التزكية التي تحدد قمة نقاء النفس كما هو واضح.

والمهم أن كلا من الكتاب والحكمة طابعا مشتركا تطرق القرآن الكريم إليهما بالنسبة إلى سائر الأنبياء (عليهم السلام) والسؤال الآن هو أولا ما المقصود من الكتاب والحكمة، وثانيا ما المقصود من التزكية التي خص بها النبي (صلى الله عليه وآله) والمجتمع الإسلامي، وبما أن الوقت الآن لا يسعنا أن نتحدث عن هذا الجانب نظرا لانتهاء وقت المحاضرة لذلك سوف نحدثكم عن هذا الجانب إن شاء الله في المحاضرة اللاحقة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.