المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 37.doc

نحاول في هذه المحاضرة أن نختتم حديثنا عن بناء السورة القرآنية الكريمة وما يرتبط ببناء هذه السورة من إعجاز بلاغي، حيث كررنا وقلنا أن هدف السورة القرآنية الكريمة عندما تنتظم في آيات محددة تبدأ من نقطة معينة، وتنتهي إلى نقطة معينة فهذا يعني أن السورة الكريمة تستهدف تركيز هدف واحد أو هدفين أو ثلاثة أو أكثر تحاول أن تركز هذا الهدف في ذهن المتلقي بعد أن يكون قد انتهى من قراءة السورة الكريمة، وفي هذا المجال تحدثنا عن جملة من الأدوات التي تجعل السورة الكريمة محققة لهدفها المذكور وذلك من خلال بناءه المتمثل علاقة الآلات بعضها مع الآخر والموضوعات بعضها مع الآخر والعناصر بعضها مع البعض الآخر، ومع الآيات والأقسام أو الموضوعات التي تنتظم السورة الكريمة.

كل ذلك حدثناكم عنه في المحاضرات السابقة وبقي أخيراً أن نحدثكم عن الهيكل العام لبناء السورة الكريمة في حال إذا تعددت موضوعاتها، ومع أننا تحدثنا عن هذا الجانب عرضا إلا أننا نتحدث الآن بنحو رئيس حتى نختم حديثنا عن هذا الجانب، ومن ثم نتجه إلى القسم الثالث من علوم القرآن الكريم.

إذا تتذكرون جيدا أننا طرحنا في نهاية المحاضرة السابقة، طرحنا الآلية أو الأسلوب الذي يتبعه القرآن الكريم بالنسبة إلى إمارة السورة القرآنية الكريمة من حيث إخضاعها لتسلسل زماني أو موضوعي وعدناكم أن نحدثكم عن النمط الآخر الذي يتبع منهجاً آخر بهذا المجال ونعني به التنويع الزمني والموضوع بحسب متطلبات السياق النفسي للقارئ، ومن ثم يرتبط هذا الجانب بموضوع آخر وهو السور التي تناول موضوعات متعددة وصلة هذه الموضوعات المتعددة من خلال البناء العام للسور القرآنية الكريمة، بعد أن حدثناكم عن الادوات التي يستخدمها النص القرآني الكريم في ربط الأجزاء بعضها مع الآخر حيث استشهدنا بنماذج التي تتصل بأدوات التمهيد، وأدوات النمو، وأدوات التجانس، وأدوات التداعي الذهني، وما إلى ذلك.

إذا بقي أن نتحدث بالنسبة إلى ظاهرة هيكلية النص من حيث نمطه الأخير المتمثل في تعدد موضوعات السورة الكريمة من جانب، وفي تحديد الرحلة التي تقطعها السورة الكريمة من حيث البداية والوسط والنهاية، وما إلى ذلك مما يرتبط بهذا الجانب وحينئذ نقول:

إن أية سورة كريمة تشابه إذا صح لنا أن نستشهد بهذا التشابه، أية رحلة تقطع حيث تبدأ هذه الرحلة من مكان معين وتمر عبر محطات متنوعة، لتحط في نهاية المطاف إلى المحطة الأخيرة أو الشاطئ الذي ترسو عليه، وبنحو عام يمكننا أن نشير إلى جملة هياكل بالسورة الكريمة من حيث هذا النمط من البناء ولأنها جميعا وكل واحدة منها ترسم نحو أو آخر في تحديد الاستجابة الكلية للنص التي تترك أثرها عند القارئ للسورة الكريمة، ويمكننا أن نشير أولا إلى أحد أشكال هذه الهياكل وهو ما يمكن تسميته بالمرحلة الأفقية للسورة، أي أن السورة تبدأ بموضوع ما وتختتم بالموضوع نفسه، وأما الوسط فيتناول موضوعات متنوعة ترتبط وطبيعة الحال مع بعضها الآخر بالشكل الذي حدثناكم عنه في محاضرة سابقة والمهم أن المرحلة الأفقية للسورة الكريمة هي ما تبدأ بموضوع وتختتم بالموضوع ذاته، ولكن من خلال آليات متنوعة وهذا ما يمكن الاستشهاد به في كثير من السور القرآنية الكريمة ومنها مثلا، سورة المزمل حيث تبدأ هذه السورة بقوله تعالى يا أيها المزمل (قم الليل إلا قليلا نصفه أوانقص منه قليلا أو زد عليه).. الخ.

وبعد أن تقطع هذه السورة رحلتها تختتم بالموضوع ذاته، حيث تقول آخر آية (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل) فقيام الليل بمستوياته الثلاثة هو الموضوع الذي بدا به النص وختم به، وأما الوسط فقد تناول موضوعات أخرى كما هو واضح، ولسنا الآن في صدد تبيين هذه الموضوعات لأننا تحدثنا عن الانتقال من موضوع إلى آخر في محاضرة سابقة.

ولكن كان ما يعنينا الآن هو طريقة أو هيكلية السورة الكريمة، من حيث بدايتها ووسطها ونهايتها، ويمكنا أن نستشهد بأمثلة أخرى في هذا الميدان ومنها سورة الواقعة حيث نعرف جميعا أن هذه السورة بدأت على النحو التالي، بسم الله الرحمن الرحيم (إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباءا منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة والسابقون السابقون)، هذه هي مقدمة السورة وقد لاحظتم كيف أنها قسمت الشخوص إلى ثلاثة أنماط أزواجاً ثلاثة أصحاب الميمنة أصحاب المشئمة السابقون، ثم بدأت تحدث من خلال الوسط عن كل من هذه الفئات أو الأنماط أو الطبقات الثلاث طبقات السابقين، طبقات أصحاب اليمين، وطبقة أصحاب النار، وبعد أن انتهت من هذا العرض لكل طبقة وأوضحت بيئة الجنة للنمطين الأوليين ثم بيئة النار للنمط الثالث بعد ذلك عادت من رحلتها بنفس الخط الذي بدأت به، ولكن وفق نمط آخر من الرسم حيث تقول في نهاية السورة الكريمة (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إذا كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إذا كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم).

إذا لاحظتم كيف أن هذه السورة الكريمة بدأت بالحديث عن التقسيم الثلاثي وانتهت بالتقسيم الثلاثي أيضاً ولكن وفق طرح في مقدمته يختلف عن الختام وفي الوسط الذي فصل الحديث عن هذه الطبقات الثلاث أيضاً يختلف عن الآخر مما لا تسمح به محاضرتنا التفصيل في الحديث عن هذا الجانب، لأنه أيضاً يتصل بأدوات الربط التي حدثناكم عنه من خلال النمو والتجانس والتداعي وما إلى ذلك، حيث تنسحب هذه المستويات نفس النص، لو قدر لنا أن نبدأ ونفصل الحديث عنه ولكن هدفنا فقط أن نشير إلى نمط الهيكل الذي ينتظم السورة بهذا النحو أو بذاك، حيث كان الاستشهاد لهذين النمطين يمثل واحدا من أنماط الهيكلية التي تنتظم السورة القرآنية الكريمة.

وهذا ما أسميناه بالرحلة الأفقية للنص وهناك نمط آخر يمكن أن نسميه بالرحلة الطولية للسورة الكريمة ونقصد بذلك هو أن تبدأ السورة بموضوع ما وتنتهي بموضوع آخر، وهو ما يطبع بطبيعة الحال غالبية السور القرآنية الكريمة حيث تتشابك وتتنامى وتتلاقى خطوط البداية والوسط والنهاية، وفق هيكل محكم البناء سواء أكانت السورة تتضمن عشرات بل مئات الموضوعات الثانوية الفرعية والرئيسة والقارئة والمحتفظة كسور البقرة، أو كانت ذات موضوعين فحسب كسورة المطففين التي استشهدنا بها حيث كانت بدايتها تتحدث عن التطفيف ونهايتها عن الموقع الأخروي للمؤمنين، لكن النص ربط بينهما من خلال محور مشترك واليوم الآخر وجزاءاته.. الخ.

وأما النمط الثالث من الرحلات أو من البناء ما يمكن تسميته بالرحلة أو البناء المقطعي، أي أن السورة الكريمة تطرح جملة من الموضوعات، وتصل بينها عبر محطة مشتركة تجتمع عندها الموضوعات وأمثلته كثيرة في النصوص القرآنية الكريمة، وبعضها يرسم الهيكل العام للنص جميعاً أي للسورة بأكملها مثل سورة المرسلات، حيث تجتمع موضوعاتها عند الآية الكريمة (ويل ويومئذ للمكذبين)، ولعل القارئ لهذه السورة الكريمة وقف على أسلوب الرحلة التي اتبعتها هذه السورة الكريمة، حيث بدأت أولا بمقدمة تتحدث عن المرسلات والعاصفات والفارقات والمبيدات الخ. ثم تبدأ وتقول وما أدراك ما يوم الفصل، وهذا هو آخر آية كريمة وردت في البداية أو التبيين ولكن بعد هذا التمهيد تجيء السورة الكريمة، فتقطع رحلة تقف عند كل محطة موقفا خاصا ينتهي بعبارة أو بآية كريمة (ويل يومئذ للمكذبين)، حيث يقول (ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين)، لاحظوا هذه العبارة ويل للمكذبين جاءت بعد حديث تحدث عن الهلاك بالنسبة إلى الأولين، واتباع ذلك بالآخرين، وما يترتب على أمثلة هؤلاء من سلوك أو جزاء ينتظر المجرمين، بعدئذ انتقلت هذه السورة الكريمة في رحلتها إلى موضوع جديد هو (ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون)، ثم وقفت عند هذه المحطة محطة ويل يومئذ للمكذبين، إذا المحطة الأولى كانت تتحدث عن ماذا كانت تتحدث عن الجزاء الذي ينتظر أو انتظر أو وقع بالمكذبين، أما هنا فتتحدث عن خلق الإنسان (الم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه).. الخ، بعد ذلك تتحدث عن موضوع ثالث هو (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياءا وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا)، ثم تختتم هذا الموضوع بنفس المحطة ويل يومئذ للمكذبين، إذا لاحظنا مجيء موضوع ثالث هو قضية الأرض وما فيها من جبال ونحو ذلك، بعد إذا يجيء موضوع جديد انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ضليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالت صفر) ثم تنتهي بعبارة ويل يومئذ للمكذبين.

وهكذا بدأت الرحلة بالحديث عن الجزاء الدنيوي (ألم نهلك الأولين) ثم بالإشارة إلى بدء الإنسان من ماء مهين ثم الإشارة إلى الأرض وما فيها من معطيات ألم نجعل الأرض نباتا ثم تحدثت من جديد عن الجزاء، ولكن انتقلت من الجزاء الدنيوي إلى الجزاء الآخروي الذي ينتظر المكذبين عبر آيات ينطلق إلى ضل بثلاث شعب (لا ضليل ولا يغني من اللهب).. الخ.

بعد ذلك أيضاً تتحدث عن بعض المواقف في اليوم الآخر فتقول (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) ثم تختتم ذلك بالمحطة قائلة ويل يومئذ للمكذبين. بعد ذلك تتحدث عن هذا اليوم ولكن من خلال زاوية أخرى فتقول (هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون ويل يومئذ للمكذبين) بعد ذلك تنتقل إلى النمط الإيجابي الشخوص فتقول (أن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون انا كذلك نجزي المحسنين) وهكذا تختتم هذا المقطع بنفس المحطة القائلة (ويل يومئذ للمكذبين)، وهكذا إلى أن تنتهي السورة، كيف أن هذا النمط من الهيكل للسورة القرآنية الكريمة كيف يقطع رحلة أسميناها بالبناء المقطعي أو الرحلة التي تقطع جملة من الموضوعات وتصل بينها عبر محطة مشتركة، تجتمع عندها الموضوعات وهذه المحط عبارة (ويل يومئذ للمكذبين) والأمر نفسه من الممكن أن نلاحظه بوضوح في سورة الرحمن حيث أن هذه السورة تتعدد وتتضخم محطاتها المتمثلة في قوله تعالى (بأي آلاء ربكما تكذبان)، فإذا كانت سورة المرسلات تتحدث عن جزاء الإنسان دنيويا، أي جزاء المنحرف دنيويا ثم أخرويا، ثم التذكير بخلق الإنسان ثم بمعطيات الأرض من خلال جملة آيات تجسد مقطع واحد من سورة الرحمن، تسلك نفس السلوك ولكن من خلال تعدد هذه المحطات لدرجة أنها تكتفي أحيانا بورود آية قرآنية كريمة، بل بوجود عبارة واحدة تقع بين محطتين مثل قوله تعالى (فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان فبأي آلاء ربكما تكذبان)، فهنا نجد أن بين المحطتين لا يتجاوز العبارة الواحدة وهي عبارة مدهامتان أما نجد آية واحدة وهو الغالب من أكثر من ذلك وإما أكثر من ذلك وهو النادر من خلال ما لاحظناه في سورة المرسلات.ولكن لكل نمط من هذه الأنماط سياقه الخاص بطبيعة الحال، فإذا قدر لكم وإذا لاحظتم قبل قليل كيف أن المقطع كان يفرض مسوغه الفني، يتناول مرة الجزاء الدنيوي وأخرى الجزاء الأخروي ومرة يتناول البداية بالنسبة للخلق ومرة يتناول العطاء الذي يقدمه الله للخلق، حينئذ نفهم كيف أن هذه المحطات لها مسوغ دلالي وفني بالشكل الذي لاحظتموه، أما بالنسبة لسورة الرحمن فثمة مسوغات من الممكن أن نشير إليها بشكل عابر عندما نتجاوز المقدمة التي تحدثت عن القرآن الكريم من حيث تعلمه وخلق الإنسان وتعليمه البيان.. الخ.

حيث تبدأ المحطة المتمثلة في قوله تعالى (فبأي آلاء ربكما تكذبان) حيث تطرح خلال هذه المحطات أولا مسألة قيام الساعة، ثم الجزاء الذي ينتظر المنحرفين، ثم الجزاء الذي ينتظر السابقين ثم الجزاء الذي ينتظر أصحاب اليمين، حيث خصصت لكل من هذه الطوائف مقطعا قرآنيا كريما من هذه السورة وتخللتها المحطة ذات ونعني بها محطة (فبأي آلاء ربكما تكذبان).

طبيعيا لا نريد الآن أن نتحدث عن هذه الجوانب تفصيلا لأنها سوف تأخذ منا وقتا كبيرا لا يتناسب مع هذه المحاضرة بقدر ما نريد أن نشير إلى أن هذا النمط من التكرار له أهميته الكبيرة في إحداث الأثر المطلوب بالنسبة إلى نفسية المتلقي أو القارئ لهذه السورة القرآنية الكريمة، فإذا كانت سائر السور يختفي أثرها من خلال الوعي أو عدمها عند القارئ، حينئذ فإن قراءة هاتين السورتين ستكونان على العكس من ذلك تماما فإن القارئ الكريم عندما يقرأ سورة الرحمن على سبيل المثال، فإن الآية أو المحطة الكريمة القائلة فبأي آلاء ربكما تكذبان تظل ترن في أذنه وتذكره وأعماقه بحيث تترك أثرها دون أدنى شك ومما لا لبس فيه ولا غموض البتة، هو أن مجرد التكرار لهذه الآية الكريمة (فبأي آلاء ربكما تكذبان)، هذا تكرار يظل مرسخا لمفهوم نعم الله سبحانه وتعالى، حتى في حالة كونه يتحدث عن تعذيب المجرمين حتى هذا التعذيب أو الجزاء السلبي يرسمه وفق خارطة هي العطاء عطاء الله سبحانه وتعالى، وبذلك يترسخ مفهوم العطاء مفهوم عطاء الرحمن سبحانه وتعالى بشكل واضح، كما قلنا من خلال هذا التكرار الذي لا يحتاج إلى حديث تفصيلي لتبيين أثره في نفسية قارئ السورة الكريمة، حيث أن قراءته للسورة كاملة تختلف تماما عما لو وقف عند آية واحدة ثم قرأها وهي تعقب المحطة القائلة (فبأي آلاء ربكما تكذبان)، أي لو قرأ القارئ فحسب مثلا (ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربك تكذبان)، حينئذ سوف لا تترك نفس الأثر الذي يقرأه وهو يقطع عشرات الآيات الكريمة وكلها تتعقبها عبارة فبأي آلاء ربكما تكذبان.

على أية حال نكتفي من حيث البناء أو الهيكل العام للسورة القرآنية الكريمة بما تقدم، ونشير فحسب إلى سور متنوعة كسورة المؤمنين والقمر والصافات وو.. الخ.

حيث تتناول كل سورة موضوعا من الموضوعات، إما أن يختتم مقطعه أو يستهل مقطعه بمحطة ثم تتكرر هذه المحطات حينا من خلال الافتتاح فحسب، وحينا من خلال الاختتام فحسب، وحينا كلا من الافتتاح والاختتام، وهذا لا يمكن أن نلاحظه في سورة القمر على سبيل المثال حيث تظل ظاهرة التكذيب هي المحطة التي تكرر في الاستهلال كقوله تعالى (كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر)، ثم بعد ذلك يقول (كذبت ثمود بالنذر)، ثم يقول بعد ذلك (كذبت قوم لوط بالنذر)، لاحظوا كيف أن التكذيب من جانب وتحديد المجتمع من جانب ثان، والإشارة إلى التكذيب بالنذر من جانب ثلاث، يظل محطة تستهل بها كل قصة ويستهل كل موضوع أو كل مقطع من مقاطع السورة الكريمة، ويختتم أيضاً بمحطة مماثلة حيث نجد ان اختتام المحطة الأولى كانت بهذا النحو، نعني بها تكذيب عاد حيث كان التعقيب على النحو الآتي (فكيف كان عذابي ونذر)، ثم يجيء مقطع، أو تجيء محطة (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر)، وتتكرر هاتان المحطتان بالنسبة إلى سائر الأقوام الذين يعرض لهم النص القرآني الكريم كقوله تعالى بعد أن ينتهي من الحديث عن قوم صالح قائلا: (فكيف كان عذابي ونذر)، أيضاً تجيء هذه المحطة المشتركة (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر)، وهكذا تتكرر هذه أيضاً بعد أن ينتهي النص من الحديث عن الجزاء الذي طال قوم لوط حيث يقول بعد ذلك: (فذوقوا عذابي ونذر)، ثم تأتي هذه المحطة (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر)، لاحظوا هنا كيف أن هذه المحطات الثلاث كيف بدأت ترسم في هذه السورة الكريمة كما ترسم محطات مماثلة في السورة الأخرى كلها تخضع لهيكل دقيق جدا لا يمكننا الآن البتة أن نتحدث عنه، ولقد تحدثنا عن ذلك في دراستنا المتقدمة بالعنوان التفسير البنائي للقرآن الكريم.

المهم ما نود أن نلفت الانتباه إليه ونختتم به حديثنا عن الجانب البنائي للسورة القرآنية الكريمة هو أن رسم هذه الأنماط من المحطات المتكررة، إنما الهدف من ذلك هو أنها سوف ترسخ في الذهن عندما يقرأ القارئ السورة كاملة وليس عبر قراءة آية أو قسم فحسب، لأن التكرار من حيث كونه أساسا آلية معينة له إسهامه الكبير في تعميق الأهداف التي يستهدفها النص هذا من جانب، كون التكرار مجرد وسيلة من الوسائل، أما إذا تكرر بهذا النحو الذي لاحظناه في سورة الرحمن، وسورة المرسلات، وسورة القمر، وما تلاحظونه في سور أخرى، إنما يضيف بالإضافة إلى ما تقدم من أثر في تعميق الأهداف إنما يضيف تعميقا أشد أثرا من سواه عندما يتكرر من خلال السورة القرآنية التي تكرر هذه المحطات بالشكل الذي أوضحناه.

والآن إذا كنا قد ذكرنا نمطين من أشكال البناء العضوي النص ونعني به النمط الذي يربط بأجزاء النص بعضها بالآخر والنمط الذي يرتبط بهيكليته، ويبقى أخيراً النمط الثالث، ونعني النمط الثالث الذي به الحديث عن العناصر أو الأدوات التي تشكل الأدوات القصصية والصورية، والإيقاعية ونحوها، ومع أننا عرضنا عابرا لهذه الجوانب لكن ينبغي قبل أن نختم حديثنا عن ظاهرة البناء للسورة القرآنية الكريمة يجدر بنا أن نتحدث عن هذا الجانب فنقول:

بما أن السورة الكريمة تشكل موضوعا له استقلاليته من حيث طرحه لفكرة أو فكرتين أو اكثر، حينئذ فإن العناصر أو الأدوات الموظفة لهذه الفكرة تتمثل في كل من العنصر القصصي والعنصر الإيقاعي، و العنصر الصوري ولعل الاستسهاب بنماذج الشريعة من العنصر القصصي يظل أكثر ألفة بالنسبة للطالب فنشير ونقول له لننظر إلى سورة الكهف مثلا فيما حدثناكم عنها سابقا إن هذه السورة مثلا جاءت مقدمتها تتحدث عن الزينة فتقول: (انا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم احسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا ا جرزا)، إن هذه المقدمة وظف النص لها أكثر من قصة وفي مقدمتها قصة أصحاب الكهف التي أعقبت مباشرة الآية القرآنية الكريمة لتوضح لنا نموذج واحدا من نماذج النبذ لزينة الحياة الدنيا، أما الشطر الآخر من الآية القائل (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا)، فقد وظفت لها القصة الأخرى التي تتحدث عن صاحب المزرعتين فيما لا حاجة للحديث عنها، بحيث تحولت هاتان المزرعتان إلى صعيد جرز كما لاحظتم.

وفي سورة يس على سبيل المثال ما أن امتدت المقدمة التي تقول (وسواء عليهم أانذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)، بحيث أعقب هذا النص القصة التي أسميناها بقصة أصحاب القرية حيث أرسل إليهم رسولان فكذبوهما فعززا بثالث فكذبوه أكثر وساندهم الرجل بأقصى القرية، ومع ذلك لم يؤمنوا حيث جاءت القصة موظفة لتعزيز الآية القائلة بان الكفار أنذروا أم لم ينذروا لا يؤمنون، وبالفعل جاءت هذه القصة بأبطالها الأربعة لتؤكد أن هؤلاء القوم سواء انذروا أم لم ينذروا بدليل أن أربعة أشخاص جاءوا إليهم ولم يؤمنوا، إذا جاءت هذه القصة موظفة لما طرحت السورة الكريمة من الأفكار.

أخيرا نكرر ما سبق أن استشهدنا أيضاً به عابرا في بداية محاضرتنا عن علوم القرآن وتاريخه، من حيث الإشارة إلى السور القرآنية الكريمة، حيث استشهدنا بنموذج عن العنصر الإيقاعي ومساهمته في توظيف الهدف الذي ينفذه النص القرآني الكريم، ومن ذلك الاستشهاد بسورة القمر حيث تتذكرون بأنا عندما تحدثنا عن هذه السورة قلنا أنها تحدثت عن قيام الساعة، وقد وظفت هذه السورة بالواقع العنصر القصصي أيضاً لهذا الهدف، وبعد لك وظفت العنصر الإيقاعي المتمثل فيما أوضحناه في حينه من أن النص وصل بين القسم الذي يتحدث عن الجزاء الذي لحق الأقوام البائدين، وبين الختام الذي ورد في هذه السورة الكريمة من حيث الإشارة إلى قوله تعالى (بل الساعة موعدهم) أي موعد هؤلاء المكذبين، وهم مجموعة من الأقوام عبروا بشكل قصصي ليوظفوا من أجل إنارة قيام الساعة كما قلنا، (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون على وجوههم دوقوا مس سقر)، فالنص هنا اعتمد على تجانس العبارات أي عبارة صوت السين وهي الساعة، الساعة مرة جديدة، سعر يسحبون سقر، هذه الأصوات أو الحروف بالقياس إلى سواها تبقى بوضوح والإسهام العضوي الذي يحققه صوت السين هنا يتمثل في جملة خطوط، منها أن النص قد اتخذ عبارة الساعة دون غيرها من العبارات التي يستخدمها القرآن الكريم، حيث يستخدم تعبيرات متنوعة للتعبير عن اليوم الآخر وتهويلاته وجزاءاته، فعبارة الساعة تتضمن في الواقع بعدين أحدهما الاشتمال على حرف السين، والسين كما تعلمون هو حرف استهلال والبعد الآخر هو الدلالة الاستهلالية أساسا بصفة أن الساعة هدفا استقلاليا بطبيعة الحال، حيث أن انتخاب النص عبارات خاصة بأهوال الساعة وجزاءاتها، من حيث اشتمالها على حرف السين مثل سعر سقر مثل مس ويسبحون، ونحن نعلم جميعا أن لجهنم أسماء متنوعة وان للساعة أسماء متنوعة، وأن للأهوال المصاحبة لها أسماء متنوعة، بينما انتخب النص لليوم الآخر وجزاءاته وملابساته عبارت تتضمن صوت السين ليتسق هذا الصوت مع الدلالات التي أشرنا إليها، فالذي ينتظر المكذبين هو الساعة، والذي ينتظرهم من العذاب هو سقر وسعر، والذي يصاحبه من التعامل هو يسحبون ومس وهكذا، أي إذا لاحظنا كيف أن حرف السين من حيث انتخابه كان متجانسا مع طبيعة الموقف الذي أراد النص القرآني الكريم أن يبرزه لنا من خلال الأداة المتقدمة بالنحو الذي أوضحناه.

وبهذا ننتهي من الحديث عن بناء الصورة القرآنية الكريمة ونود في الختام أن نلخص ما ذهبنا إليه في محاضراتنا السابقة في هذا الميدان فنقول:

إن الآيات القرآنية الكريمة التي انتظمت عبر سور متنوعة بالشكل الذي نألفه في القرآن الكريم يظل مجسدا لهدف مهم جدا، هو أن قراءة السورة كاملة نترك أثرها عند المتلقي بنحو لا يحقق نفس الأثر إذا قدر للمتلقي أن يقرا آية واحدة فحسب، أو جملة آيات، من هنا ندرك أهمية السورة القرآنية الكريمة عندما تنتظم في هيكل خاص سواء أكان هذا الهيكل قصيرا، مثل سورة النصر أو سورة الكوثر، أو كان نصا مطولا كالسور الطوال مثل سورة البقرة وآل عمران والنساء و..و الخ.

وقد لاحظتم كيف أن صياغة السورة القرآنية الكريمة من خلال الابنية ال الأبنية بنية المختلفة التي سلكتها من جانب، ومن خلال الوسائل أو الأساليب التي اتبعتها في جعل هذا القسم من السورة الكريمة، يرتبط بالقسم الآخر كالوسائل أو الأساليب التي أشرنا إليها كالتداعي الذهني والتجانس والتمهيد والنمو وما إلى ذلك كلها كانت أساليب متنوعة لربط النص بعضه مع البعض الآخر، كما لاحظتم من جانب ثالث كيف أن الأدوات التي وظفها النص كالعنصر القصصي والإيقاعي أيضاً كان إسهامها من حيث تجاوبها مع الدلالات التي استهدفتها السورة القرآنية الكريمة، أولئك جميعا تجسد لنا سرا واضحا بالنسبة لمن يعي القرآن الكريم وبالنسبة لمن يتدبر آياته، وليس بالنسبة لمن يقرأ النص سريعا دون أن يتدبر هذه الآيات، أو دون أن يتدبر ما في صياغتها من أساليب فينة يتبعه النص القرآني الكريم من أجل أن يرسخ المفاهيم التي يستهدفها في ذهن القارئ.

ولا نجدنا بحاجة إلى التفكير مرة جديدة أن عنصر التكرار الذي لاحظتموه في بعض السور القرآنية الكريمة سواء أكان هذا التكرار متنوعا، أو كان التكرار لموضوعات كالقصص القرآنية التي تحدثت عن ظاهرة الإماتة والإحياء مثلا، وكالظواهر المتصلة بنبذ زينة الحياة الدنيا كل ذلك لاحظتموه من خلال عنصر التكرار الذي وظفه النص من خلال ترسيخ الدلالة المستهدفة بالأذهان، ومن ثم إن ما نود أن نختم به هذه المحاضرات المتصلة ببلاغة القرآن الكريم إعجازه، أن نشير في نهاية المطاف إلى أن هذه الأساليب البلاغية التي استخدمها القرآن الكريم إنما استخدمها في عصر يفهم إنارة القرآن الكريم ولكن الفهم لهذا الجانب يظل محدودا بطبيعة الحال بنمط البيئة الثقافية التي يحياها، بيد أن اعجاز القرآن الكريم يتجاوز هذه البيئة إلى البيئات الأخرى، ومنها بيئتنا المعاصرة بيد أن الصياغة التي لاحظتموها والبناء الفني الذي لاحظتموه الآن، كل ذلك يشكل في الواقع نماذج واضحة كل الوضوح بالنسبة إلى العنصر الإعجازي للقرآن الكريم الذي تحدد وفق مبادئ متنوعة وفق تتسق مع كل جيل سواء أكان الجيل موروثا أو جيلا معاصرا بالشكل الذي لاحظتموه.

والآن نكتفي بما قدمناه من الحديث عن القسم الثاني من قسم علوم القرآن وتاريخه ويبقى بعد ذلك أن نحدثكم سريعا عن القسم الثالث من موضوعات القرآن الكريم، وهو ما نعدكم به في محاضرات لاحقة والى ذلك الحين نستودعكم الله سبحانه وتعالى ونتمنى لكم مزيدا من التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.