المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 35.doc

تحدثنا في المحاضرة السابقة و ما قبلها عن أحد عناصر بلاغة القرآن الكريم وإعجاز ذلك حيث تمثل فيما أطلقنا عليه مصطلح بناء السورة القرآنية الكريمة، أي بلاغة السورة القرآنية الكريمة، من حيث علاقة آياتها بعضها مع الآخر، ومن حيث علاقة الموضوعات بعضها مع الآخر من حيث علاقة العناصر الأخرى كالقصة والسورة وما إلى ذلك وارتباط أولئك جميعا بالموضوعات المطروحة بالسورة من حيث انسجام ذلك مع مناخ السورة وفضائها الذي يتحدث حينا عن موضوع خاص وأحياناً كثيرة عن موضوعات متنوعة إلا أن هذه الموضوعات جميعا ترتبط بخيط يوحد بينها على أشكال معينة من الربط يمكنا أن نحدثكم عن بعض منها وندع تفسير ذلك إلى تفسير القرآن الكريم حيث يستطيع الطالب من خلال المشار إليه ليقف عن كافة التفصيلات المتصلة ببناء السورة القرآنية الكريمة.

المهم تحدثنا سابقا عن موضوع خاص هو ما ركزنا فيه على ظاهرة أن السورة القرآنية الكريمة عندما ترتبط آياتها بعضها مع الآخر أو عندما ترتبط موضوعاتها بعضها مع الآخر وعندما ترتبط ذلك جميعا بالعناصر الأخرى إنما يستهدف من ذلك التركيز على شيء أو على فكرة أو على ظاهرة معينة يحرص النص القرآني الكريم وتمثلاً بالسورة، يحرص على إبرازها في هذه السورة أو تلك بمعنى المتلقي عندما ينتهي بقراءة سورة بعينها عندها سوف يحفر شعوريا أو لا شعورياً المفهوم الذي أرادت السورة الكريمة استهدافه من خلال ما طرحته من موضوعات من خلال ما سلكته من أساليب متنوعة لتركيز أو لتوكيد الفكرة المستهدفة في السورة القرآنية الكريمة.

أما وقد حدثناكم بشكل عام عن نماذج متنوعة متمثلاً في أكبر سورة قرآنية كريمة كسورة البقرة والسور المتوسطة كسورة الكهف وسواها حينئذ نتقدم الآن بعد أن حدثناكم عن الهدف الرئيس الذي تستهدفه السورة الكريمة من وراء انتظام آياتها في سورة وليس من خلال مجرد آيات متناثرة هنا وهناك أي من خلال معرفتنا بفلسفة السورة، نتجه الآن لنتحدث عن المستويات التي يتم فيها الربط بين أقسام السورة أو موضوعاتها أو آياتها.

إذا لنتحدث عن هذا الجانب ولكننا لنمر عابرين جداً لأن الأمر يتطلب مئات الصفحات ويتطلب عشرات الساعات مما لا تسمح به محاضراتنا كما لا يسمح به موضوع حديثنا وهو علوم القرآن وتاريخه، المهم يمكننا في البداية أن نقول ونحن نتحدث عن الأساليب التي يتبعها القرآن الكريم في السورة الكريمة لكي يصل بين الموضوعات أو الأقسام أو الآيات بعضها مع الآخر، بحيث تفضي في النتيجة إلى بؤرة معينة من الأفكار التي يستهدف القرآن الكريم من خلال السورة توصيلها إلى المتلقي، نقول من الحقائق التي ينبغي أن نلفت الانتباه اليها هي أن علاقة الآيات بعضها مع الآخر لا تعني بالضرورة أن كل آية تجسد سببا أو مسبباً لما قبلها وما بعدها بقدر ما تعني أن ثمة شبكة من الخطوط تتواصل فيما بينها بنحو أو بآخر مباشرة أو غير مباشر، ولكنها تفضي في النهاية إلى الاستجابة المعرفية الكلية التي يستهدفها القرآن الكريم في السورة هذه أو تلك، مثلا عندما نواجه إحدى السورالمباركة وهي سورة الملك مثلا نجد أن الآية الاولى تتحدث عن المباركة وعن الملك وعن القدرة الإلهية عبر قوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير)، حيث تتضمن هذه الآية الموضوعات الثلاث المباركة، والملك، والقدرة، ونجد الآية التي تليها تتحدث عن خلق الموت والحياة بهدف الممارسة الخلافية التي أوكلت إلينا نحن البشر وهذا ما قالته الآية الكريمة (الذي خلق الموت والحياة ليبولكم أيكم احسن عملا) هذه الآية أيضاً كما تجدون جاءت من حيث التسلسل الآية الثانية بعد الآية الأولى (تبارك الذي بيده الملك).. الخ.

ونجد الآية الثالثة وما بعدها تتحدث عن خلق السماوات السبع وإحكامها ومنها السماء الدنيا، وتزيين هذه السماء جماليا بالمصابيح، وجعل هذه المصابيح في الآن ذاته أداة لرجم الشياطين ثم إعداد العذاب للشياطين ثم من بعد ذلك إعداد العذاب للكافرين.. الخ,

والآن لاحظوا كيف ترتبط هذه الشبكة من الخطوط التي تحدثت عن الموت والحياة وهدفهما، وتحدثت عن السماوات السبع وجماليتها وتحدثت عن مهمة إحدى هذه السماوات وهي السماء الدنيا، كما تحدثت عن الشياطين والعقاب الأخروي للكفار بيد أن الأهم من ذلك هو كيفية استجابتنا نحن المتلقين للأثر الكلي الذي يتركه النص في هذا الصدد في أذهاننا، مما لا شك فيه أن الآية الثانية فالثالث وما بعدها هي تجسيد في الواقع هي امتداد اللآية الأولى التي تتحدث عن المباركة والملك والقدرة، حيث يرتبط القسمان هذان بشبكة الخلق أي قول الله تعالى (خلق الموت والحياة)..الخ.

ثم قوله تعالى (خلق سبع سماوات)، لاحظوا خلق الموت من جانب والحياة، ثم خلق السماوات، هذه هي شبكة الخيط، ولكن نتسائل ما العلاقة بين الموت والحياة من جانب وبين خلق السماوات السبع من جانب آخر، صحيح انهما تشتركان في عملية الخلق، ولكن المئات من الظواهر تخضع لعملية الخلق أيضاً، فلماذا انتخب النص السماوات السبع مع التركيز على السماء الدنيا فحسب ما هي الأسرار الكامنة وراء ذلك، نقول:

أن النص عندما يربط بين الوظيفة الجمالية للمصابيح أي الكواكب وبين الوظيفة التأديبية لها أي أنها جعلت رجوما للشياطين ثم إعداد العذاب لهؤلاء الشياطين ثم إعداد العذاب للبشر المنحرفين، من خلال ذلك كله نجد أن هذا النمط من النص إنما يصل بين الخيط الذي ربط عملية خلق الموت والحياة، بالممارسة العبادية أي بالوظيفة الثلاثية، وبين الخيط الذي ربط إبداع المصابيح من خلال رجمها للشياطين ثم بينها وبين التمرد على هذه الممارسة العبادية، بما هو أحسن من العمل حيث التقيا في شبكة واحدة هنا هي العقاب الأخروي، لاحظوا أن النص ذكر أن الله تعالى أعد للشياطين عذاب السعير، (واعددنا لهم عذاب السعير)، وفيما ذكر النص أن الله تعالى جعل الكفار من أصحاب السعير (قالوا لو كما نسمع أو نعقل ما كانا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير)، إلى هنا ينتهي القسم الأول من السورة الكريمة حيث لاحظتم أن ظاهرة السعير هي الشبكة التي التقتها خطوط الآيات التي جمعت بين متمرد الشياطين والبشر وبهذا النمط من خطوط التواصل بين الآيات التي تأخذ سمتها الاستقلالية من جانب كما لاحظتم، وانصباب ذلك في اكثر من شبكة أو في شبكة واحدة من جانب آخر، نتبين مدى علاقة بعضها مع بعضها الآخر هنا نقول نستطيع من خلال هذا النموذج الذي استشرنا به أن نوضح واحدة فحسب من آليات الربط بين آيات النص أو موضوعاته، ولكن السؤال جديدا هو، ترى ما هي الآليات المتنوعة التي يسلكها النص في بناء الموضوعات وانعكاسات ذلك على استجابتنا نحن المتلقين أو القراء للنص القرآني الكريم من خلال السورة المباركة، نجيب هناك طرائق في الواقع متنوعة في ربط الأجزاء التي تنظم السور بعضها يتم من خلال التداعيات الذهنية، أي الذهن الذي يتداعى من فكرة إلى فكرة أخرى لا ارتباط له بعيد كل البعد، ولكنها ارتباط بفكرة أخرى يتداعى إليه الذهن، ومعنى ذلك أن هذه التداعيات الذهنية تشكل واحدة من طرائق متنوعة لربط الأجزاء، أو يتم ذلك من خلال نمو مفهوماتها، أي بداية الموضوع يطرح بشكل ثم ينتهى منه إلى شكل آخر بحسب تسلسله أو بحسب نمائه كنماء إنسان من مرحلة إلى أخرى بنحو سنوضح أمثلته فما بعد بطبيعة الحال.

أو من خلال التجانس بين موضوع وآخر، أي هنا قد يكون التماثل من بعض الجوانب بين الموضوع السابق ومن خلال هذا التجانس بين الموضوعين يتم الانتقال من موضوع إلى آخر، كما سنستشهد بذلك أيضاً، وأخيرا قد يتم من خلال التمهيد والحديث عن التمهيد، سبق أن عرضنا لكم بعض نماذجه في المحاضرة السابقة كما عرضنا عن مهمته عند حديثنا عن القصة القرآنية الكريمة، وكيفية بنائها، حيث قلنا أن للتمهيد أثر كبير في انسحابه على السورة المباركة، ويمكننا الآن أن نضيف إلى ذلك أو نستشهد بالإضافة إلى ما تقدم ببعض النماذج حتى نستطيع أن نلم بها من خلال عرض سلسلة الأساليب التي يتم من خلالها ربط آيات السورة الكريمة بعضها مع الآخر، أو ربط الآيات موضوعاتها، أو ربط الآيات والموضوعات بالعناصر الأخرى.

نقول لو أخذنا هذه الآلية الجديدة التي حدثناكم عنها وهي آلية التمهيد نجد أن هذا التمهيد الذي قد يتصدر السورة أولاً وقد يتخلل مقدمتها، ولكن في الحالة الأولى يكن التمهيد كما ستلاحظون مقدمة أو بداية للنص حيث سينعكس أثره على الوسط ونهاية السورة الكريمة، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى سمة بنائية مهمة هي وهو ما نكرر الحديث عنه الآن أن الكثرة من الآيات القرآنية الكريمة التي تستهل بها السورة أو لنقل أن الغالبية من السور القرآنية الكريمة يمكننا أن نتنبأ بموضوعاتها من خلال مقدماتها التي تستهل السورة بها، حيث تطرح المقدمة أو تطرح بنحو مجمل ولكن هذا الإجمال سوف ينحل إلى تفصيلات فيما بعد أو تكرر في الواقع في مواقع متقاربة أو متقابلة من النص حيث نجد بعض السور تحوم بأكملها على ما تطرحه مقدمة الأفكار، ونجد بعضا تحوم غالبيتها لاجما على ذلك ونجد بعضا ثالثا يكرر موضوع المقدمة في مواقع متنوعة من النص، وقد استشهدنا في المحاضرة السابقة ببعض النماذج في هذا الصدد، ولكننا الآن نريد أن نكرر الاستشهاد ولكن بنماذج أخرى حتى يتساوى لدى الطالب التسلسل الذي أردنا أن نوضح من خلاله الأساليب المتثملة في التمهيد وفي التداعي وفي التجانس وفي سواهم من الأبنية التي يتم الانتقال خلال هذا من موضوع إلى آخر، أو يتم الربط من خلال أقسام السورة الكريمة.

المهم أن يمكننا في هذا السياق أن نستشهد بنموذج يتمثل في سورة المائدة حيث طرحت هذه السورة في مقدمتها أو حيث عرضت هذه السورة في مقدمتها موضوعا يتصل بظاهرة الأكل أي الطعام وما يواكب ذلك من الحلية أو التذكية أو عدم التذكية بالنسبة للأنعام، وبالنسبة إلى طعام أهل الكتاب وبالنسبة إلى الصيد والهدي وما إلى ذلك، أولئك جميعا طرحتها المقدمة من السورة بشيء من الإسهاب حيث قالت مثلا احلت لكم بهيمة الأنعام، وقالت غير محل الصيد، وقالت حرمت عليكم الميتة و الدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقودة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع منه، إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب.

وقوله تعالى (احل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح)، وقوله تعالى (واذكروا اسم الله عليه) وقوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم).. الخ.

لاحظوا هذه الموارد المتنوعة كيف ركزها النص في البداية أو في القسم الأول من السورة الكريمة حيث أن المتلقي سوف يستخلص من هذه المقدمة بأن النص يستهدف تزكية النص دون أدنى شك، من خلال ظاهرة الطعام المذكى بالنحو الذي لاحظتموه وبالنحو الذي عندما نتابع رحلة السورة الكريمة، وهي تقطع مسافة طويلة وتطرح خلالها عشرات الموضوعات في سورة المائدة، بعض هذه الموضوعات يتصل في الوضوء والتيمم، وبعضها يتصل بسلوك المكذبين اليهود والنصارى، وبعضها يتصل بقصة ابني آدم (عليه السلام)، وقتل أحدهما للآخر إلى موضوعات أخرى متنوعة، ولكن مع التشديد أو التركيز على الكتابيين وانحرافاتهم.

لكن خلال ذلك يتسلل صدى المقدمة إلى هذا الموقع أو ذاك، مثل قوله تعالى (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) ومثل قوله تعالى (وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا)، ومثل قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما..) ومثل قوله تعالى (وليبلونكم الله بشيء من الصيد)، ومثل قوله تعالى (لا تقتلوا الصيد)، ومثل قوله تعالى (أحل لكم صيد البحر)، وهكذا في سائر الآيات التي تشير إلى هذه الدلالات أيضاً حيث نجد أن هذه النصوص وردت في مواقع متفرقة من السورة الكريمة، وهي كما تلاحظون ذات صلة بمقدمتها، لكن ماذا يعني ذلك أولا، ثم ما هو موقعها من عمارة السورة ومن ثم ما هي انعكاسات ذلك على المتلقي وهذا هو ما نستهدف التشديد فيه من حيث انعكاسات ذلك على المتلقي، ومن حيث استجابتنا نحو المتلقي حيال ذلك جميعا، أي من حيث كون ما نقرأه يجسد كلا وليس آيات متفرقة تتحدث عن الطعام، هذا هو المهم جداً، ونجيبكم على ذلك قائلين مما لا شك فيه أن استهلال النص أساسا بموضع ما يعني من حيث الاستجابة أن المتلقي سوف يتحسس بأهمية هذا الموضوع أي يتحسس بأهمية حلية الطعام وأثر ذلك في تزكية وتطهير البدن والنفس، أي في تزكية الشخصية الإسلامية هنا نقول أن المتلقي سوف تحتفظ ذاكرته بهذا الجانب ما دامت السورة الكريمة قد استفتحت الحديث به، وخلال ذلك سيواجه المتلقي موضوعات أخرى تتداعى بذهنه إلى مفهوم التزكية أو مفهوم التدقيق، وهذا كالوضوء والغسل والتيمم بصفة أن هذه الأنماط الثلاثة تجسد تطهيرا بخاصة أن السورة الكريمة تلفت نظرنا مباشرة إلى هذا الجانب حينما تقول في إحدى الآيات الكريمة ولكن يريد ليطهركم بها وهكذا تتوالى الموضوعات واحدا بعد الآخر، ليواجه المتلقي من جديد عبارة تقول له من يرد الله أن يطهر قلوبهم، تتحدث عن المنحرفين، كما يواجه عبارات تتكرر مرات متعددة مثل (وأكلهم السحت)، وواضح أن السحت له صلته الواضحة بعدم التطهير كما نواجه عبارة بنحو (إنما الخمر والمسير والأنصاب والألزام رجس)، وطبيعيا أن صلة الرجس تظل من الوضوح بمكان كبير أيضاً.

ثم نواجه عبارة قل لا يستوي الخبيث والطيب وهذا أيضاً أي الإشارة إلى كل من الخبث والطيب تظل من الوضوح بمكان كبير من حيث علاقتها بالتزكية وعدم التزكية، وهذا يعني أن السورة الكريمة قد استهدفت التركيز على تزكية النفس من خلال الطعام بخاصة، مضافا إلى ممارسات أخرى تصب جميعا في هذا المفهوم، إذا لاحظتم من خلال هذا النموذج كيف أن السورة الكريمة سوف تترك استجابة كلية في أذهاننا تتمثل في ظاهرة تزكية الطعام والنفس، أو تزكية النفس من خلال تزكية الطعام، أو تزكية الطعام من خلال تزكية النفس إلى آخر ما لاحظتموه الآن.

والآن نكتفي من الحديث عن قضايا التمهيد لهذا النموذج الذي قدمناه لكم وننتقل إلى موضوع آخر يتصف في الواقع بطريقة انتقال النص من موضوع إلى آخر، وهذا يمثل أو يجسد أسلوبا آخر من أساليب البناء للسورة القرآنية الكريمة، وصلة هذا الأسلوب بتركيز الهدف الكلي أو الاستجابة الكلية التي سيستجيب لها القارئ للسورة بما تتركه من أثر محدد حيال فكرة كفكرة تزكية النفس، وتزكية الطعام.

ولكننا سوف ننتقل إلى سورة أخرى حتى يتبين للطالب ليس من خلال سورة واحدة، بل من خلال عدة سور وإلا فإن الاستشهاد من الممكن أن يتم من خلال سورة البقرة وحدها، أو سورة المائدة، أو سورة الكهف، أو أية سورة أخرى، ولكننا سوف نتحدث عن كل موضوع أو كل شريحة من شرائح البناء البلاغي للسورة الكريمة، نقدم نموذجا من هذه السورة لننتقل إلى سورة أخرى، وبذلك يتبين للطالب كيف أن السور جميعا تسلك هذه الأساليب الفنية في تفسير المفهومات التي تستهدف التوصيل إلينا من خلال إحداث الأثر الكلي فيها.

والآن يمكنا أن نستشهد لكم بشكل تنعكس مقدمته على غالبية السورة، وهذا ما يمكن ملاحظته مثلاً في سورة الأحزاب، لو قدر لكم أن يطالع أحدكم المقدمة التي طرحتها هذه السورة الكريمة، سيجد أنها طرحت بعين قد لا تكن أية علاقة بينهما ألا وهما متمثلان في قوله تعالى عبر الاستهلال القائل يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين، هذا هو أحد موضوعات السورة الكريمة التي استهلت بها، وإليكم الموضوع الذي تلاه، يقول تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيائكم أبناءكم)، المضوعان من خلال النظرة السريعة يبدوان كأنهما لا علاقة لأحدهما بالآخر لكن إذا دققنا النظر نجد أن الموضوعين في الواقع يترابطان أو يتشابكان بنحو، يمكننا أن نوضحه من خلال ملاحظتنا بان الأول أي الموضوع الأول، طالب بعدم إطاعة المنافق والكافر، (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين)، أما الموضوع الآخر فقد عرض لبعض الوحدات الاجتماعية متمثلة في الأسرة ونطاقاتها والرابط بينهما أي الرابط بين الموضوع الأول والثاني هو إنكار العلاقة المزدوجة بين الحب والكراهية في آن واحد، لاحظوا قوله تعالى (ما جعل الله لرجل من قلبين)، أي ما جعل الله سبحانه وتعالى لرجل من قلبين يحب بأحدهما قوما ويحب بالآخر أعداء هؤلاء القوم، وهذا التفسير ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، كذلك لاحظوا يقول تعالى: ما جعل الله الزوجة التي يظاهر الرجل منها أما في آن واحد وكذلك ما جعل الله تعالى المتبنى ابنا للرجل في الآن ذاته، لاحظوا كيف وصل النص بين موضوعي المقدمة من خلال نفي الازدواجية في الحب والكراهية يقابلها نفي الازدواجية في الزوجة والأم من جانب، والابن والدعي من جانب آخر.

إذا هذان الموضوعان المجسدان لمقدمة السورة سوف ينعكسان على غالبيتها في ما يتجه النص أولا إلى عرض معركة الخندق، حيث تحزب الكافرون والمنافقون حيال الإسلاميين كما هو واضح، وحيث عرض النص لمواقفه المنحرفة ولكنه بعد ذلك يتجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليعرض أو ليقدم لنا حديث عن الأسرة ونطاقاتها، متمثلة في علاقته (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أزواجه كما يعرض بعد ذلك إلى الطلاق وعلاقة ذلك بمن لم يسمى لها المهر، ثم مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإحلال الزوجات له ممن أعطاهن المهر وما ملكت يمينه، وأيضا بأقربائه من بنات العم والعمات والخال والخالات الخ. وأيضا يعرض آداب الدخول إلى بيوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن ثم أحكام الحجاب لزوجاته.. الخ.

ومن البين هنا أن الموضوعات المشار إليها تدخل ضمن الأسرة ونطاقاتها وأحكامها أي مع أحد موضوعي المقدمة التي لاحظتم صلة هذه المقدمة بموضوعين يرتبطان بما حدثناه أو ما حدثنا عنه قبل قليل أي بعد أن كان العرض لمعركة الأحزاب، جاء تجسيد الموضوع الآخر للمقدمة وهوان قتل المنافقين وها هو الآن يتجه إلى الحديث عن المنافقين، فيقول لأن لم ينته المنافقون.. الخ.

وكان قبل ذلك قبل أن يتحدث عن الطلاق يخاطب ولا تطئ الكافرين والمنافقين كما أنه في آخر آية من النص يقول ليعذب الله المنافقين الخ. والآن من خلال هذا العرض السريع لمحتويات سورة الأحزاب نجد أن غالبية السورة تتحدث عن موضوعي الكفار والمنافقين من جانب، ثم الأسرة ونطاقات ذلك من جانب آخر وثم الموضوعان اللذان طرحتهما المقدمة خلال ذلك يطرح النص جملة موضوعات سريعة ولكن لا تتجاوز آيات معدودة كالإشارة مثلا إلى اليوم الآخر وجزاءاته والى ذكر الله وتسبيحه وعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال.. الخ.

وبهذا نستكشف أن غالبية السورة قد حامت على ما طرحته المقدمة، وان الوصل بين الموضوعات الثابتة والطارئة أو الثابتة والمتنوعة قد أحكم بناءها على النحو الذي أوضحناه بيد أن الأهم من هذا كله هو أن المتلقي وهو ينتهي من قراءة السورة ستحتفظ ذاكرته بأفكار وأحكام الأسرة والجهاد ومن حيث العلاقات التي تطبع هؤلاء بسمة الحب والأخرى بسمة الكراهية، وهذا كله في ما يرتبط ببناء النص من حيث انعكاس مقدمته على غالبية الموضوعات المطروحة في النص ولكن ألا يجدر بنا أن نحدثكم أيضاً عن انعكاس ذلك على النص بأكمله، وهنا يمكن أن نلاحظ ذلك بوضوح في سورة هي سورة الطلاق حيث أنها استهلت بآية تتضمن أيضاً محورين، إلا أن أحدهما يتفرع عن الآخر ألا وهما التقوى وما يترتب عليها من تيسير الأمر مثل قوله تعالى (واتقوا الله وقوله تعالى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)، طبيعيا هنا تتحدث الآية عن الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن).. الخ.

لكن بعد ذلك نواجه آيتين تطالبان بالإشهاد ثم تعقبان على ذلك بهذه العبارة ومن يتق الله يجعل له مخرجا، أي نفس المحورين التقوى وتيسير الأمر بعد ذلك تلاحظون مجيء آية جديدة لتطرح عدة اليائس وغير البالغ والحامل وأيضا تعقب على ذلك ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرى، أي نفس المحورين التقوى والتيسير بعد ذلك تجيء آية تطالب بالالتزام بأحكام الله ثم تعقب (ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته)، وهو محور التقوى كما تلاحظون، لكن من خلال المرور بقنوات تتصل بسكنى المطلقة والإنفاق عليها في العدة.. الخ.

وبعد ذلك يعقب قائلا (سيجعل الله بعد عسر يسرى)، وهذا هو المحور المتفرع من التقوى كما لاحظتم، وأخيرا هنا نلفت انتباهكم نجدان هذه السورة الكريمة تتقدم بحكاية أو أقصوصة تتحدث عن مجتمع منحرف بائد، وهنا قد يتسائل بعض قائلا ما علاقة الحديث عن مجتمع منحرف بائد بالحديث عن التقوى وبالحديث عن التيسير الأمر، هنا نجيبكم قائلين إن هذه السورة تخاطب مجتمع الرسالة وبكلمة أخرى نقول إن النص عندما يتقدم بحكاية أو أقصوصة تتحدث عن مجتمع بائد منحرف إنما تخاطب من خلال ذلك مجتمع رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تقول فاتقوا الله، لاحظوا أي جاءت التقوى هنا رابطة بين الموضوعات حيث أن السورة تختم بعد ذلك بالمعطيات التي أغدقها الله على مجتمع الرسالة أي مجتمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال الإشارة إلى القرآن الكريم ونزوله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعطاءاته الإبداعية، فالملاحظ أن المقدمة إذا عكست أثرها على النص بأكمله مع اختلاف الموضوعات بالنحو الذي عرضنا له حينئذ وهذا ما نؤكده فإن الحصيلة النهائية للنص أي السورة الكريمة ما هي أي الأثر الكلي على استجابتنا نحن القراء تظل نقرع ذاكرة المتلقي بمفهوم التقوى وما يترتب عليها من تيسير الأمر بالنحو الذي أوضحناه.

والآن قد يتسائل أحدكم فيقول لقد ذكرت بان التمهيد للموضوعات قد يتصدر السورة وقد يتخللها وذكرت أمثلة على ذلك، ولكن نريد أن توضح لنا التمهيد الداخلي للموضوعات حيث لا تزال هذه الظاهرة بحاجة إلى تقديم نموذج لها أي الحديث عن المستويات أو الطرائق التي يسلكها النص في هذا الصدد ويمكننا أن نجيبكم عن التساؤل المذكور فنقول:

أولاً نود أن نلفت النظر إلى أن التمهيد للموضوعات يظل أحد وسائل أو يظل واحدا من الطرائق، أو واحدة من الطرائق المرتبطة بالوصل بين أجزاء النص، وإلا فهناك طرائق متنوعة لإيجاد الوصلة الفنية المشار إليها هذا من نحو التداعيات الذهنية والنمو والتجانس، حيث أشرنا إلى ذلك في مقدمة هذه المحاضرة نقول نجد في ضوء ذلك النص الواحد قد يسلك مجموعة الطرائق المتقدمة لإيجاد الرابطة العضوية خاصة بالسور الطوال.

سنستشهد بنموذج للأسلوب الأخير ونعني به التجانس نقدم لكم في هذا الميدان نموذجا يتمثل في أحد مقاطع أو أقسام سورة البقرة، ولكن بما أن الوقت لا يسمح لنا الآن بالحديث عن هذا الجانب لذلك سنؤجل الحديث عن هذا الموضوع إلى محاضرة لاحقة حيث سنوضح لكم أسلوبا واحدا من الأساليب المتنوعة التي يسلكها النص القرآني الكريم في انتقاله من موضوع إلى موضع آخر لا علاقة بينهما، صحيح أن ما لاحظتموه قبل قليل من العلاقة بين موضوعي سورة المنافقين ولكن النموذج الذي نريد أن نستشهد به سوف يختلف في طريقة أسلوبه الواصل بين نمطين من الظواهر يختلف كل الاختلاف عن الحالة السابقة وهو ما يجدر بنا ملاحظته بالحديث الذي سنعرض له إن شاء الله لاحقاً.

وبذلك نستكشف خطورة وإعجاز القرآن الكريم وهو يسلك طرائق متنوعة من التجانس من خلال الربط بين موضوع وآخر على النحو الذي سنحدثكم عنه إن شاء الله في المحاضرة اللاحقة، وبهذا نكتفي بالحديث عن هذا الجانب.

ونستودعكم الله سبحانه وتعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.