المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 32.doc

نواصل حديثنا عن العنصر الصوري في القرآن الكريم من حيث كونه ظاهرة إعجازية بالشكل الذي حدثناكم عنه في بعض نماذج هذا العنصر متمثلة في أولا التشبيه بكل مستوياته وأدواته، ثانيا الاستعارة، ثالثاً التمثيل.

وقد أوضحنا أن لكل واحد من هذه الأنماط مسوغه الفني والدلالي حيث حدثناكم عن المسوغات المتمثلة في التشبيه من أن غالبية الظواهر التي نواجهها تتطلب بشكل عام مقارنة بين شيئين حتى تتعمق الدلالة المستهدفة في النص، واستشهدنا بالآية القرآنية الكريمة التي تشبه الكفار بالأنعام، حيث أن هذا التشبه يتمثل في قيام مقارنة بن العقل الإنساني المتدني أو المنحط أو المنغلق حيال الحقائق التي أوردها الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم، وبين ذهنية الأنعام من حيث انحطاطها الذهني أيضاً.

واستشهدنا بالنسبة إلى الفوارق بين مستويات التشبيه حيث حدثناكم عن ذلك مفصلا وانتقلنا بعد ذلك عن الحديث عن الاستعارة وبينا مسوغاتها واستشهدنا بالآية القرآنية الكريمة القائلة (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا)، حيث قلنا أن تشبيه أهوال القيامة بالوجه العابس، لا يعطي الظاهرة دلالتها الحقة بقدر ما ينبغي أن تصاغ هذه الحقيقة وفق صورة أخرى هي الاستعارة، لأن الاستعارة القائلة أن اليوم الآخر هو يوم عابس، حينئذ يكون أكثر تعميقا لدلالة العبوس وذلك لأن أهوال القيامة لا تقاس بالوجه العادي العابس، ولذلك كانت الاستعارة بان القيامة هي في الواقع وجه عابس وأكثر دلالة وكثافة للمعنى المستهدف.

ثم انتقلنا إلى الحديث عن التمثيل، والتمثيل أوضحنا الفارق بينه وبين التشبيه، حيث أن البلاغيين القدامى كانوا يجمعون بينه وبين التشبيه في خانة واحدة، وأوضحنا أن كل واحدة منهما يختلف عن الآخر لأن التشبيه هو مقارنة بين شيئين من خلال الأداة الرابطة بينهما، وأما التمثيل فهو تجسيم للشيء وان التجسيم للشيء أو التعريف للشيء في الواقع يختلف في وظيفته عن مجرد المقارنة بينهما، وضربنا أمثلة لذلك ومنها المثال القائل أن الدنيا لعب ولهو، أو المثال القائل ( الم نجعل الأرض مهادا) أو المثال القائل (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان)..الخ.

حيث أن هذه النماذج توضح بان المقصود من الشيء ليس هو المقارنة، بل المقصود من ذلك هو التعريف أو التجسيد لهذا الشيء لقوله تعالى: (إنما الدنيا لعب ولهو) لا يستدعي القيام بمقارنة تشبيهية بين الدنيا وبين اللعب، بقدر ما يستدعي التعريف بذلك أي تعريف الدنيا بأنها لعب ولهو ما إلى ذلك، والأمر نفسه بالنسبة لقوله تعالى (ألم نجعل الأرض مهاداً) حيث أن الهدف ليس هو قيام مقارنة بين الأرض وبين المهاد بقدر ما يتجسد الهدف لأن الله قد من على عباده بان جعل الأرض مهاداً لهم، يدبون عليها لتسير مصالحهم المختلفة في ذلك.

المهم أن هذه المسوغات هي التي تحدد لنا درجة استخدام أي من هذه الصور هل هو التشبيه أم الاستعارة أم التمثيل، السياق هو الذي يحدد ذلك وليس المبادئ العامة التي يرسمها البشر في تكثيفهم لهذه الصورة أو لذلك الشكل الذي نقلناه لكم بالمحاضرات السابقة، وبهذا ننتقل من الحديث عن المستويات الثلاثة من الصور إلى المستوى الرابع ألا وهو الرمز وهو أحد أشكال الكناية التي تطلق في المصطلح البلاغي الموروث، الرمز بدوره يجرنا إلى أن نطرح نفس المفهومات التي طرحناها قبل قليل، أو المفهومات التي طرحناها سابقا وقلنا أن البشر أو الأرضيين عندما يصوغون الصور الفنية إنما يفسرونها وفق تفسيرات لا تأتلف مع السياق الذي ينبغي أن تصاغ الصورة في نطاقه، بعكس القرآن الكريم الذي يمثل إعجازا فنيا حيث ينتخب الصور تبعا لما يتطلبه السياق، وهذا على عكس الاتجاهات الأرضية التي تتجه بين حين وآخر إلى إيثار صورة على أخرى عندما أشرنا إلى ذلك، كما قلنا أن بعض الاتجاهات الحديثة، مثلا تتجه إلى الاستعارة لتجعلها هي المحور إلى عمليات العدول او الانزياح وهناك اتجاه آخر يجعل الرمز هو المحور الذي ينبغي أن تتجه إليه الصورة حتى أننا نجد في حياتنا المعاصرة نماذج من نصوص فنية تتمحض في التعبير من خلال الرموز بدلاً من التعبير عن سائر الصور الأخرى فضلا عن التعبير المباشر. ولكن كما قلنا ليس المهم هو إيثار هذا الجانب على جانب آخر، أو أن هذا العصر يؤثر هذا الجانب أو هذه الصورة على صورة أخرى بقدر ما ينبغي أن نتحدث عن السياق وهذا ما يتوفر في القرآن الكريم، حيث يلجأ إلى الصورة الرمزية ولكن في سياقات خاصة لذلك نقول: أن التوكأ على صورة معينة يجيء في المرتبة الرابعة بعد المراتب التي لاحظناها بالنسبة إلى كل من التشبيه والتمثيل والاستعارة.

وهنا أيضاً ينبغي أن نحدثكم بشكل عابر وسريع عن المسوغ الفني للرمز وليس عن تفصيلاته بالنسبة إلى تفصيلاته نحيلكم أيضاً إلى كتبنا التي ألفت فيها بصدد دراسات فنية في صور القرآن وكتاب القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي، والإسلام والفن، والى الإسلام والأدب وغير ذلك من الكتب التي تحدثنا فيها عن هذا العنصر بشكل مفصل المهم نتجه الآن للحدث عن الرمز، ونتحدث فحسب عن المسوغ الفني له من جانب والاستشهاد ببعض نماذجه من جانب آخر، فنقول إن الآية أو العبارة القرآنية المشهورة التي تتكرر في اكثر من مواقع من مواقع الصورة القرآنية وهي عبارة أن الله سبحانه وتعالى (يخرجنا من الظلمات إلى النور) نجد أن النص القرآني الكريم في هذا السياق يحدثنا عن نعمه العظمى، متمثلة في من الجهل إلى العلم أو في انتقالنا من الكفر إلى الإيمان، أو انتقالنا من الظلال إلى الهداية الخ. يرمز ذلك كله من خلال العبارة القائلة يخرجكم من الظلمات إلى النور، أي إن الظلمات هي رمز للكفر وللجهل والانحراف و..و الخ، مقابلاً  للنور الذي هو رمز للإيمان والطاعة والخير و..و الخ.

طبيعيا إن الرمز يختلف من حيث تركيبته عن الأشكال الأخرى التي حدثناكم عنها، ونعني بها الأشكال التمثيلية الاستعارية يختلف عنها في كونه يتعامل أيضاً مع طرفين من الظواهر فإذا كان التشبيه يتعامل مع ظاهرتين من خلال المقارنة والاستعارة تتعامل مع ظاهرتين من خلال إكساب إحداهما الصفة الأخرى، وإذا كان التمثيل يتعامل من خلال ظاهرتين وذلك من خلال جعل أحدهما تجسيما أو تعريفا من باب آخر فإن الاستعارة تتعامل مع طرفين أيضاً، ولكن أحد هذين الطرفين يحذف وهو يمثل الوجه الغائب من الصورة، والآخر يثبت وهو يمثل الوجه الحاضر من الصورة، الوجه الغائب هو التفسير الذي ذكرناه بالنسبة إلى الظلمات والنور، أي أن الوجه الغائب بالنسبة إلى الظلمات والكفر والمعصية ظاهرة سلبية، ويقابلها النور الذي هو الوجه الحاضر ومقابل ذلك وجه الغائب المتمثل في الكفر أو المعصية وما إلى ذلك، إذا من حيث التركيبة يجسد الرمز ظاهرة أو إحداث علاقة بين ظاهرتين إحداهما غائبة، والأخرى حاضرة بالنحو الذي أوضحناه الآن هذا من حيث التركيب، وأما من حيث مسوغه فنعود إلى المثال المتقدم لذلك فنقول:

أن الله سبحانه وتعالى هو في صدد أن يعرض علينا نعمه المتمثلة من نقلنا من عالم هو الشرق والضلال والى آخره، إلى عالم كله خير وبركة وإيمان وطاعة و..الخ.

إذا إن الله سبحانه وتعالى في سياق الحديث عن منه علينا مثل هذا السياق هل يتطلب تشبيها فيقال مثلا والذي يخرجكم من الجهل والشر والكفر والمعصية وما إلى ذلك، يخرجكم من هذه جميعا كما يخرجكم من ظلام الليل هل نتوقع أن النص القرآني الكريم يحدثنا بهذه اللغة المطولة والتي لا تحمل مسوغاً له قيمته من حيث الإشارة إلى منه تعالى، كلا، بل إن طوي ذلك جميعا وجعله مكثفا في عبارة واحدة هي الظلمات أو النور هذه العبارة وحدها هي كافية بان تفصح عن جميع المعاني المتقدمة، حيث يتطلب الأمر لا تشبيها ولا صور أخرى، بقدر ما يتطلب اللجوء إلى الرمز لأن الرمز في واقعه هو إشارة لدلالات متعددة لا نهاية لها من خلال التعبير المحدود كما يعرف ذلك علماء الفن بحيث يقولون أن الرمز هو إشارة محددة لأشياء غير محددة، بمعنى أن الرمز يكمن ورائه عشرات من الظواهر التي يمكن أن يشار إليها وهذا كما لاحظتم بالنسبة إلى الظلمات، فالظلمات مثلا من الممكن أن يقرأها كل متلق بحسب مرجعه الثقافي بحسب خبرته الثقافية، فقد يقراها أحدكم وينتقل ذهنه إلى أن الظلمات هي الكفر، وقد ينتقل ذهن شخص آخر بالإضافة إلى أنها كفر أنها معصية وقد ينتقل ذهن شخص ثالث بالإضافة إلى أنها كفر ومعصية ينتقل أحدهما إلى أنها شر، ويجيء شخص رابع ويقدم قائمة طويلة من مفهومات الشرك والكذب والخيانة السرقة و..و..الخ.

إذا الرمز هو عنصر مكثف موشى بدلالات كثيرة لا حصر لها بحيث يستطيع كل شخص لان يستجيب أو أن يستخلص دلالة خاصة تختلف عن الدلالة التي يستخلصها شخص آخر وهكذا إذا وظيفة الرمز هنا هي أنها تكثف معاني متعددة في عبارة واحدة بالنحو الذي لاحظتموه، هذا من جانب ومن جانب آخر أيضاً تكثف ليس دلالة واحدة بل تكثف دلالات تصب في معنى واحد وهو الكفر مثلا، ولكن الكفر في هذا المجال نستطيع أن نعبر عنه بعبارة الظلمات ونستطيع أن نعبر عنه من خلال صورة تشبيهية كما مثلنا لكم قبل قليل، ولكن الصورة التشبيهية المفصلة والمطولة التي حدثناكم عنها، في الواقع لا تتناسب مع ما يرد الله مع الإشارة إلى نعمه العظمى علينا، بقدر ما يجسد هذه الإشارة كما قلنا، إذا المسوغ الفني للرمز يتضح من خلال استشهادنا بالأمثلة المتقدمة.

والآن إذا عرفنا أن أهم المسوغات أو من جملة المسوغات كاملة وراء استخدام الرمز، هو قابليتها على الإيحاء وتعدد الدلالات مضافا إلى انه يجسد دلالات حاضرا يسمح للمتلقي باستحضار المدلول الغائب نقول بغض النظر عن ذلك يمكننا أن نشير عابرا إلى مستوياته، فنشير أولا إلى أن الرمز يصاغ حينا مباشرة وحينا آخر يصاغ بنحو غير مباشر فمن الصياغة المباشرة، هو ما لاحظتموه قبل قليل ونعني به نموذج الظلمات والنور حيث يكون رمز فيها تعبيرا مباشراً عن الطرف المحذوف، أي عبارة النور حيث ترمز مباشرة إلى الإيمان والى ذلك دون أن تكون هناك وسائط تخلل ذلك، وهذا النمط في الواقع هو على نوعين أيضاً، هناك رمز مفرط كالنموذج المتقدم، وهناك رمز مركب كقوله تعالى بالنسبة إلى أحدهم (ولكنه اخلد إلى الأرض) وبالنسبة إلى شخص آخر (فأصبح يقلب كفيه) وبالنسبة إلى وقوف الظالم (يوم يعض الظالم على يديه).. الخ. حيث تشير الأولى إلى انشداد الإنسان نحو متاع الدنيا ولكنه اخلد إلى الأرض، وتشير الأخريان إلى الندم أي فأصبح يقلب كفيه وهما يعضان على يديه الخ. فعبارة اخلد في النص الأول ترمز إلى من ينشد إلى شيء، وعبارة الأرض ترمز إلى المتاع الدنيوي، ومجموع الجملة المركبة يرمز إلى من يتشبث بزينة الحياة الدنيا كما هو واضح، وهذا كله من حيث الصياغة المباشرة وهناك صياغة للرمز غير مباشرة كقوله تعالى (أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين)، فالحديث هنا في الواقع هو عن المرأة، وفي هذا السياق يكون الرمز تعبيراً غير مباشر عن الطرف المحذوف حيث تتخلله وسائط تقل أو تكثر في هذا المجال، فالحليلة ترمز إلى المرأة كما هو واضح، والمرأة ترمز إلى عدم التمكن من الخصام والمناقشة وجاء الرمز غير مباشر، أي جاءت الحلية الواسطة بين المرأة وبين عدم تمكنها من المناقشة، هذا من جانب، ومن جانب آخر نشير إلى أن الرموز قد تنفرد كما هو طابع النصوص المتقدمة وقد تحدد داخل الوحدة اللغوية وهذا كقوله تعالى مثلاً (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات)، إن هذا النص يتضمن أربعة رموز تداخل فيما بينها وهي ميتا فأحييناه، نورا، الظلمات، إلا أن الملاحظ أن الرمزين الأولين يستقلان الصياغة الرمز، أما الرمزان الآخران فقد صيغ آخرهما ضمن الصورة التنفيذية وهي قوله تعالى (جعلنا له نورا)، والآخر ضمن الصورة التشبيهية وهي قوله تعالى (كمن مثله في الظلمات)، ومن البين أن الرموز المتداخلة تبرز إلى أهمية الإيمان قبالة الانحراف، حيث تخضع إلى التشاكل الفني من حيث وقوف الميت قبالة الحي وقوف الظلمات قبالة النور، ثم تداخل الرمزين ميتا فأحييناه.. الخ.

هذه المستويات من الصياغة المتداخلة للرموز من جانب والمتزاوجة بين ما هو رمز وبين ما هو ضمن تشبيه أو استعارة، هذه المستويات من التركيب في الواقع تظل من التعقيد إلا أن هذا التعقيد في الواقع يفرضه السياق الذي وردت فيه هذه الصورة الكريمة حيث سبقها قوله تعالى (ولا تأكلون مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، بعد ذلك تأتي هذه الاية التي قرأناها عليكم ثم يأتي النص قائلاً (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم)..الخ.

إذا القضية ترتبط كما لاحظتم الآن بوجود مجادلة للمشركين يجادلون به المؤمنين من حيث الطعام المذكى وعدم ذلك، وان كبار هؤلاء، أو بالأحرى كما ذكر النص أن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم إلى كبار هؤلاء القوم. بعد ذلك أيضاً يشير النص وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها إذا هناك أكابر وهناك جدال، وهناك مكر، حينئذٍ ماذا ينبغي أن يسلكه المؤمن حيال ذلك تجيء الآية التي توسطت هاتين الآيتين وهي القائلة (أو مكانا ميتا فأحينناه وجعلنا له نورا يمشي)..الخ.

لاحظوا أن الميت بطبيعة الحال يرمز إلى من؟. يرمز إلى الكافر، أو المشرك الذين تحدثت عنهم الآية السابقة وهي الفئة التي تجادل المؤمنين في الدفع لهم، هذا هو الميت فأحييناه، أي هؤلاء المؤمنون الذين نقلهم الله من ظلمات الظلم والشرك، إلى نور الإيمان والطاعة..الخ.

هؤلاء النمط الذين أحياهم الله ونقلهم من الظلمات إلى النور، حينئذ ماذا ترتب على ذلك جعل لهم نورا يمشون به، النور هو ذلك الرمز الذي سكت عنه النمط الأول من الصورة، فنقصد به فأحييناه لأن الإحياء هو نقل إلى النور، وهاهنا جاء النص وهو أسلوب آخر من الأساليب الفنية حيث نقل رمز الحياة إلى رمز النور، ولكنه هنا جعل النور صورة تمثيلية، ولم يجعله صورة رمزية، وإنما الرمز جاء من قبل النور نفسه أي الرمز جاء من قبل الحياة، إلا انه جاء في صياغة تمثيلية لسبب واضح هو أن الله سبحانه وتعالى بصدد أن يبين كيف أنه صير لهم ما هو ظلمة إلى ما هو نور، بعد ذلك يتقدم النص بتشبيه وهي صورة التشبيه الثالث كمن مثله في الظلمات، فهنا النور الذي يمشي به المؤمن وهو المبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى وفي مقدمتها عنصر التذكية الذي يطيب النفس ويزكيها، لاحظوا هنا من جعل الله له نورا يمشي به بالناس كمن مثله في ظلمات الشرك والكفر والذبح غير الشرعي، الذي يفسق البدن وينجسه ويرجسه..الخ.

إذا جاءت المقارنة من جانب من خلال التشبيه حيث قلنا أن التشبيه دائماً يقوم بعملية المقارنة، جاء بالمقارنة أخيراً من حيث كل من المؤمن والمشرك، ولكن من خلال ماذا، من خلال أن الأول هو أن الله يجعل لهم نورا يمشي به، بينما الآخر هو شخص أو هو فئة أو هو طائفة، تتمثل في مشيها في الظلمات ولم تخرج منها لأنها لم تنتمي إلى مبادئ الله سبحانه وتعالى.

إذا جاء كل من الرموز المتداخلة من جانب فيما بينها والمتداخلة بينها وبين الاستعارة و التمثيل والتشبيه والتدخيل هذه الرموز متآزرة مع الصور الثلاث تفصح كما هو واضح عن مجموعة من الدلالات الدقيقة التي استهدف إبرازها النص القرآني الكريم من خلال عنصر المجادلة بين المشركين والمؤمنين من جانب، ومن حيث التركيز على التذكية بالنسبة إلى الطعام وافتراقه عن طعام غير المذكى وتخالط ذلك كله في تزكية النفس وعدمها.

إذا هذا التشابك كله يتناسب مع طبيعة التناسب الفكري المطروح في هذه الآية الكريمة.

ما يجدر بنا ونحن نتحدث عن الرمز أن نتحدث عن أحد أشكال التركيب الصوري عن الرمز من جانب والذي له استقلاله من جانب آخر ونعني به عنصر التورية، وقد اعتاد البلاغيون القدامى أن يدرجوا أحد أشكال التركيب الصوري ونعني به التورية ضمن ما يصطلح عليه مصطلح البديع، أي مجرد تزيين أو حلية للعبارة، ولكن هذا الرأي ليس بصائب لأن التورية بالواقع لا تختلف عن أي تركيب صوري ينتج من ظاهرتين تمكن ظاهرة ثالثة، وهذا ما دفعنا إلى أن نجعلها أحد أشكال الصورة القرآنية، حيث يمكن تعريفها على النحو الآتي، التورية هي إحداث علاقة بين طرفين من خلال جعل أحدهما متضمناً دالاً غائبا وهو المستهدف، والآخر يتضمن دالا حاضرا غير مستهدف، وإذا أردنا أن نستعير اللغة الدلالية القديمة نقول أن التورية هي إحداث علاقة بين الشيئين أحدهما يتضمن دلالة بعيدة وهي المستهدفة، والآخر دلالة قريبة وهي غير المستهدفة، ومثاله من النص القرآني المعجز والمدهش قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله)، لاحظوا أن النص يتحدث عن المنحرفين المعاصرين لرسالة الإسلام، حيث المح إلى أن الذي يستجيب لرسالة الإسلام هو من يمتلك سمعاً سليما فيتبع أحسن القول، وأما المنحرفون ففي آذانهم وقر لا يسمعون طبيعيا لم يقرر القرآن هذه الدلالات مباشرة، بل سلك سبيل الفن فرمز إلى المنحرفين وهم لا يمتلكون سمعاً سليماً، رمز إليهم إلى أنهم موتى، والموتى يبعثون دون ادنى شك كما هو ويحاسبون في اليوم الآخر، ولكن هل أن النص قصد بذلك مطلق الموتى، الذين يبعثون ويحاسبون ويجازون كما هو الملاحظ مثلا في المناطق المنوعة طبعا لا، بل قصد من صورة شريحة هؤلاء المنحرفون الذين لم يسمعوا كلام النبي مقابل الذين قال النص عنهم إنما يستجيب الذين يسمعون، وبذلك يكون النص وفق المصطلح البلاغي، أراد من اللفظ معناه البعيد أي الذين لم يسمعوا ولم يقصد معناه القريب وهو انبعاث الموتى في اليوم الآخر، لأن الموتى ينبعثون جميعاً ولا يحرس ذلك على المنحرفين فقط.

على أية حال هناك صورة متنوعة أخرى أوصلناها إلى اثني عشر قسما من الصور البلاغية، وقد أثبتناها أكثر من مرة في كتابنا من أمثال الإسلام والفن، الإسلام والأدب، القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي، تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي، وأخيراً هناك كتاب خاص يتضمن مئات الصفحات وكلها تتحدث عن العنصر الصوري في القرآن بخاصة ونعني به كتاب دراسات الصور الفنية في القرآن، يجدر بالطالب أن يعود إليه في حالة ما يستهدف الوقوف على هذا الجانب، نكمل حديثنا عن هذا الجانب نود أن نحدثكم بشيء أو بنحو من الإجمال عن ظاهرة الصورفي القرآن الكريم وما تسلكه من منحى كالصياغة يختلف في الواقع عن المنحى البشري، وذلك لأهمية هذا الجانب، فنقول:

إن الصورة كما لاحظناها تترتيب من ظاهرتين لا علاقة لهما بدنيا الواقع ولكنها تنتج ظاهرة ثالثة، وإذا عدنا إلى الاستشهاد الذي كررناه دائما وهو قوله تعالى بالنسبة إلى الكفار بأنهم كالأنعام نقول هاتان الظاهرتان وهي الكفار والأنعام لا علاقة لهما، أو لا علاقة بينهما في الدنيا الواقعة، لأن الحيوان عضوية خاصة والبشر عضوية خاصة إلا أن الصورة التشبيهية واكبت بينهما، أو أحدثت علاقة بينهما، من خلال العنصر العقلي المفقود أو المتدني عند الطرفين، هذا يعني أن الصورة بشكل عام تعتمد على عنصر تخيلي يحدث علاقة بين الطرفين، بيد أن الملاحظ وهذا هو أهم جانب من جوانب القرآن الكريم حيث يكثر بدوره عن الإعجاز القرآني الكريم، فكما لاحظتم عند حديثنا عن القصة القرآنية الكريمة، قلنا أن ا لقصة القرآنية الكريمة تختلف عن القصة البشرية في كونها لا تصطنع أحداثا وهمية فقدرنا في الواقع من خلال الصياغة الفنية له، وهكذا عندما يتجه القرآن الكريم إلى العنصر الصوري فهو لا يعتمد التخيل الذي لا واقعية له بقدر ما يتوكأ على العنصر الذي يجسد إما واقعا حسيا، أو واقعا نفسيا، أو واقعا غيبياً،

فالواقع كما يمكن أن نلاحظه هو ما يمكن رصده من جوهر معرفتنا بمبادئ الإسلام حيث يكون إما حسيا يعتمد الحواس المعروفة من بصر وسمع، أو يكون نفسيا يعتمد طبيعة الاستجابات التي نصدر عنها حيال حقيقة من حقائق الحياة، بحيث تنعكس في الواقع النفسي لا حقيقة في الواقع الخارجي وإما أن يكون غيبيا لا يخضع لحواسنا، بقدر ما يخضع تصوراتنا الذهنية عنه، وهذا من نحو على عوالم الغيب التي تحدثنا النصوص الإسلامية عنه، ولعلنا إذا ذكرناكم بالعنصر التخيلي الذي يعتمده البشر، نجد أن هذا العنصر في الواقع إما أن يعتمد في كثير من حالاته بطبيعة الحال على عنصر وهمي صرف، أو على عنصر لا يمكن تحققه في عالم الواقع، وقد استشهدنا في كثير من كتبنا ودراساتنا بنموذج يشكل هذه الظاهرة المنطوية على المفارقة متمثلة في تشبيه أحد الشعراء الموروثين لقائد عسكري يشبهه بأنه أي بان هذا القائد كان من البطولة لدرجة أن النطف لم تخلق بعد تخاف منهن إن هذا التصوير، أو إن هذه الصورة تظل صورة وهمية لا قيمة لها البتة، إنها وهم صرف لأن الطفل وهو نطفة لا يحس بشيء، ولا يتعقل شيئا، ولا يفهم ماذا يجري كالخارج وحينئذ أية علاقة بين هذا الجنين أو النطفة وبين هذا البطل، صحيح عندما يشبه الكافر بالحيوان حينئذ فإن ثمة نقطة مشتركة إنها مشتركة أو هي النقطة الواقعية، لأن الانحطاط الذهني لدى الكاتب وهو لا يستطيع أن يربط بين السبب والمسبب، حينها ما الفارق بينه وبين الحيوان، لا فارق بل هم أي الكفار أشد ضلالا من الأنعام لأن الأنعام لا تملك هذه القابلية بينما يمتلكها الإنسان لكنه لا يستخدمها في ذهنه.

إذا لابد من وجود عنصر مشترك يجسد واقعا، وليس يجسد وهما كالصورة التي استشهدنا بها بالنسبة إلى أحد الشعراء.

من هنا نجد أن القرآن الكريم حين يلتجأ إلى عنصر الصورة فهو يلتجأ إليها بأشكالها المتنوعة التي قد يكون بها واقع حسي، في التشبيهات الكثيرة التي مرت عليكم، أي التشبيه الذي يتضمن أحد طرفيه يتضمن شيئا حسيا يقع تحت السمع والبصر أو أي حاسة أخرى وهي ما لاحظتموها في كثير من النماذج التي استشهدنا بها، وأما أن يكون هذا الطرف طرفا نفسيا ونقصد بالطرف النفسي أن كثيرا من الظواهر لا وجود لها في دنيا الواقع من خلال الواقع المادي، ولكنها تنعكس على النفس من خلال أثرها، فكل واحد منكم على سبيل المثال عندما يحس بالفرح الشديد حيال ظاهرة ما، أي عندما يستجيب استجابة مفرحة حيال إحدى الظواهر حينئذ يتحسس وكأن كل ما حوله يتسم بسمات المرح والفرح، وما إلى ذلك والعكس هو الصحيح فعندما يستجيب الإنسان استجابة كئيبة، فسوف يسحب استجابته على ما يراه حتى أنه نجده يستجيب لمرآى النهر والجبل والمزرعة وما إلى ذلك يستجيب لها استجابة مكتئبة.

عندما نتجه إلى التعامل مع العنصر الثالث ونعني به واقع الغيب، فالصورة القرآنية الكريمة عندما ترتكن إلى الواقع الغيبي تبدو في بعض مظاهرها وكأنها لا ترتكن إلى ما هو حسي أو نفسي كالتشبيه الوارد عن شجرة الجحيم وكون طلعها كأنه رؤوس الشياطين فبالرغم من أن الشياطين ذات كيان واقعي، إلا أن الكيان المذكور لم يشاهد حسيا ولكنه نفسيا يخضع في الواقع إلى الواقع الذهني، بصفة أن المتلقي يمتلك تصورا ذهنيا عن الشياطين في صورة الأشباح التي نسجها في ذهنه، وهو نسيج له واقع غيبي ما دامت الشخصية الإسلامية مؤمنة بهذا الواقع، وليس انه واقع وهمي لا وجود له البتة، إذا الأحاسيس النفسية والغيبية التي يخلعها الإنسان على صورة كأنه رؤوس الشياطين إنما يجسد واقعا نفسيا وغيبيا وليس مستندا إلى الوهم بالنحو الذي أوضحناه.

على أية حال نكتفي بما حدثناكم به من خلال العنصر الصوري وما يتميز به النص القرآني الكريم من إعجاز بلاغي حيال هذه الظاهرة، نقول نكتفي بما قدمناه من الحديث وكنا نود أيضاً أن نحدثكم عن سائر العناصر المتصلة بظاهرة البلاغة، سواء أكان ذلك في ميدان البلاغة الدلالية كظواهر الحذف الذكر والتقديم والتأخير والإجمال والتفصيل والإسهاب والاقتصاد وعشرات الموضوعات الأخرى التي تتصل بهذا الجانب وجوانب أخرى متنوعة كثيرة، إلا أن محاضراتنا لا تسمح لنا بذلك ومن هنا نكتفي فحسب بما قدمناه من الحديث عن العنصر القصصي والصورة.

ونختم ذلك بالحديث عن العنصر البنائي حيث نجد أن العنصر البنائي يجسد في تصورنا أهم ما يمكن طرحه في موضوعات القرآن الكريم من حيث الإعجاز البلاغي فيه، وهو أمر سنخصص له أكثر من محاضرة إن شاء الله، في لقاءات لاحقة ونشدد على تذكيركم بأهمية هذا العنصر، وضرورة لفت النظر إليه ومن ثم ضرورة أن نمعن نظرنا حيال هذا الجانب لأنه يتعلق ليس بما نذكره فحسب بل يتعلق حتى بما قدمناه في محاضراتنا السابقة التي استهللنا بها حديثنا عن علوم القرآن حيث قلنا أن من جملة الظواهر المطروحة هي كيفية جمع القرآن الكريم، أولا من حيث ترتيب آياته، ثم من حيث ترتيب سوره، وقد تحدثنا عن ترتيب سوره وبقي الحديث عن ترتيب آياته وهذا ترتيب للآيات يندرج ضمن مصطلح ما أسمناه بالعنصر البلاغي البنائي حيث قلنا أن هذا العنصر يجسد أهمية كبيرة، فهو من جانب يجسد إعجازا ملحوظا للقرآن الكريم لأنه يتحدث عن صلة كل آية بما قبلها وما بعدها، وعن صلة العناصر المتفاوتة فيما بينها، وعن صلة الموضوعات التي قد تعد بالعشرات صلة هذه الموضوعات بعضها مع الآخر، وكل ذلك دون أدنى شك عن ظاهرة إعجازية بلاغية بالنحو الذي سنحدثكم عنه إن شاء الله تعالى، إذا سنحدثكم عن ذلك في محاضرات لاحقة إن شاء الله تعالى والى ذلك الحين نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى مرضاته والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.