المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 28.doc

نواصل حديثنا عن القصة القرآنية الكريمة بصفتها مظهرا من مظاهر الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم، حيث كانت الظاهرة البلاغية هي العنصر المعجز الأكثر ظهورا بالنسبة إلى معجزة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، نقول نواصل حديثنا عن هذه الظاهرة الفنية، ونقصد بها ظاهرة القصة القرآنية الكريمة، حيث حدثناكم في المحاضرات السابقة عن جملة من المبادئ القرآنية، وفي مقدمتها العنصر اللغوي ثم العنصر البنائي، وبعد ذلك تحدثنا عن مادة القصة القرآنية الكريمة، متمثلة في أهم ما تتمثل به هي مادة أو عنصر الشخصية وطريقة رسمها في القصة القرآنية الكريمة.

لقد تم الحديث عند رسم القصة القرآنية الكريمة من خلال الشخوص تم من خلال أولا رسم البطل أو الشخصية من حيث العدد الذي ينتظم هذه القصة أو تلك حيث أوضحنا أن لكل قصة عددا معينا من الشخوص يتناسب والأهداف التي تستبطنها القصة القرآنية الكريمة، وأما المستوى الثاني الذي حدثناكم عنه أيضاً فهو يرتبط بقضية الشخوص المتنوعة التي تتطلبها أيضاً طبيعة الفكرة المستهدفة في القصة القرآنية الكريمة حيث لاحظنا المسوغات البلاغية والنفسية، التي تكمن وراء انتخاب شخصيات بشرية معينة، ووراء انتخاب شخصيات من غير العضوية البشرية، كالملائكة والطير ونحو ذلك. كل ذلك حدثناكم عنه في محاضرات سابقة وانتهينا إلى الحديث عن مستوى ثالث من مستوى رسم الشخصيات في القصة القرآنية الكريمة، ألا وهو رسم الشخصيات من كونها إما شخصيات رئيسة أو ثانوية وقلنا أن الشخصية الرئيسة هي التي تتحرك في جميع أدوار القصة، وهي المستهدفة أساسا لذلك تجيء الشخصيات الثانوية ملقية بإنارتها على الشخصية الرئيسة، ولكن في الآن ذاته تتطلع كل شخصية أيضاً تتطلع بأداء مهمات أخرى هي أيضاً براز أفكار فرعية يستهدفها النص القصصي الكريم.

كل ذلك أيضاً حدثناكم عنه في المحاضرة السابقة أما الآن نتقدم إليكم بحديث جديد يتسم بمستوى الصياغة أو الرسم لشخصية القصة القرآنية الكريمة وهذا ما ندرجه ضمن عنوان الشخصية المتحركة والشخصية الثابتة أو لنقل الشخصية المتحولة الشخصية الثابتة ولنقل الثابت والمتحول من الشخصيات، إن هذا الطرح اعني طرح القصة للشخصية المنحرفة ورسمها الشخصية النامية أو المنبسطة كما يصطلح عليها في التقليد القصصي المعروف نقول أن هذا النمط من الطرح قد يرتبط بالقصة التقليدية التي تتحدث عن هذا الجانب، ولكنها كما كررنا ونكرر من جديد أننا لا نعنى بما هو جديد وما هو قديم بقدر ما نعنى بما هو مفيد ا وبما هو محقق للإمتاع الجمالي والدلالي للقصة القرآنية الكريمة، ومن ثم وهذا هو الأهم مما قلناه جميعا هو أن النص القرآني الكريم هو الذي يحدد لنا ماذا ينبغي لنا أن نسلكه من المبادئ الجمالية والبلاغية ودلالية في طريقة رسم الشخصية وسائر العناصر القصصية.

لذلك فإن الطرح لأمثلة هذه المبادئ البلاغية ما دامت تنزع إلى إلقاء الإنارة إلى توضيح مبادئ البلاغية التي تطبع القصة القرآنية الكريمة، حينئذ يتوفر على مدارسة أمثلة هذه المبادئ يفرض مشروعيته دون أدنى شك.

 والآن نعود إلى الحديث التقسيم الذي أشرنا إليه، وهو تقسيم البطل أو الشخصية إلى الشخصية المتحولة والثابتة أو للبطل الثابت والمتحول وماذا نقصد من هذا المصطلح الذي يخب نقاد القصص بشكل معروف نقول في هذا الميدان: إن مقصود من الشخصية الثابتة هي الشخصية التي يبدأ رسمها في القصة بنحو معين ثم تنتهي القصة والشخصية لا تزال محتفظة بسماتها المرسومة التي بدأ بها في القصة منذ الاستهلال، سواء أكان هذا الثبات يتصل بالسمات الجسمية أو النفسية أو العقلية أو الاجتماعية..الخ.

ويقابل ذلك الشخصية المتحولة، أي الشخصية التي تبدأ في القصة بشكل ما ثم تنتهي في نهاية القصة بشكل آخر يختلف ما بدأت به هذه الشخصية من سمات الاستهلال، وفي هذا الميدان أي في ميدان الشخصية المتحولة أو الشخصية النامية كما يصطلح علها القصصيون لابد من الإشارة إلى أن المتحول من الأبطال أو المتحولة من الشخصيات تكون على نمطين، فحين نجد أن التحول يبدأ في سياق السمات الإيجابية مثلا أو في نطاق السمات السلبية كل ما في الأمر أنه يتحول من حال إلى حال دون أن يخرج من دائرة السلوك السلبي أو الإيجابي، ومرة نقصد بذلك النمو أو التحول من ظاهرة إلى ظاهرة أخرى تضادها أو تفترق عنها، كما لو تحول من السلوك السلبي إلى الإيجابي أو من الإيجابي إلى العكس من ذلك، وهذان النمطان من التحول ربما يتم من خلال عملية الصراع أو ربما يتم من خلال عمليات خارجة عن دائرة الشخصية، وإنما تفرضها الظروف الخارجية بشكل أو بآخر.

وفي ضوء هذه القضايا جميعا نود أن نتحدث عن القصة القرآنية الكريمة عبر طرحها لأمثلة هذا النمط من رسم الشخصيات المتحولة والثابتة، وفي البادية ينبغي أن نشير إلى أن الشخصية الثابتة لا يعني أنها تتسم دائما بسمات إيجابية كما أن الشخصية المتحولة أيضاً لا تعني أيضاً بأنها تتسم بسمات إيجابية والعكس هو الصحيح أيضاً، كل ما في الأمر أن القاص يستطيع من خلال رسمه للشخصية الثاتبة ومن خلال رسمه للشخصية المتحولة أن يصطنع مواقف وأحداث بحيث هذه المواقف وهذه الأحداث تجعل من المتلقي أو بالأحرى تحمل المتلقي على أن يقتنع بإيجابية هذا السلوك الإيجابي أو سلبية السلوك السلبي الذي يستهدفه القاص من وراء رسمه لهذه الشخصية أو تلك، ولعلكم تتذكرون في هذا النطاق ما سبق أن أشرنا إليه عابراً أننا قلنا أن الأرضيين وهذا ما يقصد به في بعض اتجاهاتهم وخاصة تلك الاتجاهات التي ظهرت في القرن الماضي، والاتجاهات الأخرى التي لا تزال أيضاً تتقافز في هذا الجيل من جيل إلى آخر، وفي هذا العصر من جيل إلى آخر، نقول أن هذه الاتجاهات تجعل أحيانا من الضعف الإنساني المتمثل في سيطرة الشهوات الشريرة على شخصيته والنزوع إلى سلوك شخصي، وما يترتب على هذا السلوك من مأساة لهذه الشخصية أو تلك نقول أن المنقاد القصصيين من جانب وتؤازرهم الحفلة أو القاصة التي تنطلق بهذا الاتجاه من جانب آخر هؤلاء يذهبون مثلاً إلى أن الشخصية الإنسانية ما دامت متسمة بالضعف، حينئذ فإن رسم هذا الضعف وما يترتب عليه من نتائج ينبغي أن لا نحكم عليه بالسلب بل نجعله شيئاً طبيعياً.

وفي هذا النطاق لا نزال نذكركم بذلك الاتجاه الذي يبرر بالأحرى يسوغ سقوط أحد الأبطال في معركته الحاسمة مع العدو، سقوط هذا البطل بسبب وقوعه في حادثة غرام مع إحدى الفتيات حيث ساقته هذه الحادثة إلى أن يخسر هذا القائد العسكري المعركة وتترتب على بلاده نكبة عظمى بسبب خسران هذا القائد من وراء هيامه بالمرأة المشار إليها، وفي هذا الصدد يستشهد النقاد والقصصيون في أمثلة هذه القصص أو المسرحيات التي تخلع طابع المشروعية على أمثلة هذه الشخصيات المتسمة بالضعف النفسي بحيث تجعل الدافع الجنسي على سبيل المثال، تجعل من هذا الدافع دافعا ملحا إلى درجة أن الشخصية إذا صدرت عنه بهذا الشكل أو بذاك، حينئذ فإن عملها يعد مشروعا ولا عتابا على هذه الشخصية.

وهناك اتجاه لا يزال حديثا بطبيعة الحال، حدثناكم عنه أيضاً في محاضرات أخرى ليست في نطاق الإعجاز الفني في القرآن الكريم، بل في نطاق دروس أخرى وفي مقدمتها الدرس البلاغي، نقول قد حدثناكم أيضاً عن هذه الظاهرة وهي الظاهرة المعروفة منذ القديم، وامتداد ذلك حتى العصر الحاضر ونعني بها الاتجاه الجمالي الخالص لدى حفلة كبيرة من الأدباء قديماً وحديثاً حيث يرى هذا الاتجاه أن الهدف من الفن هو فحسب إبراز القيم الجمالية في الفن، بغض النظر عن الدلالة التي يحملها هذا الفن أو ذاك، وفي هذا السياق بطبيعة الحال نجد أن الأعمال الأدبية ذات الطابع الانحرافي التي ترسم ما هو منحرف، وما هو سلبي من السلوك سواء على المستوى الإسلامي أو على المستوى الإنساني، حيث أن ثمة مبادئ دون أدنى شك تصبح مشتركة بين البشر جميعا تتم على قوله تعالى بالنسبة إلى التركيبة البشرية بشكل عام وهي قوله تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) وهذا يعني أن كل شخصية سواء أكانت مؤمنة أو كانت منحرفة فإنها تعي ما هو سلبي من السلوك وما هو إيجابي من السلوك من حيث المبادئ العامة للسلوك وليس من حيث التفصيلات.

من هنا نجد أن هذا الاتجاه الجمالي الذي يحبذ أو بالأحرى لا يضع فارقا بين ما هو سلبي وبين ما هو إيجابي من السلوك ويرى أن المهم هو إبراز العنصر الجمالي فحسب، نقول إن أمثلة هذا الاتجاه تكون اتجاها منحرفا لأنه يتجاهل تماما المبدأ الإنساني العام، الذي أشار إليه القرآن الكريم فبأن كل نفس تعي فجورها وتقواها والمفروض بأن التقوى والمبادئ السليمة هي التي ينبغي أن تصدر عنها وليس المبادئ السلبية على أية حال نود أن نشير هنا عابرا إلى أن رسم الشخصية مع الأسف في كثير من الاتجاهات الأرضية المنحرفة اكتسب مشروعيته من خلال الإشارة إلى ظاهرة الضعف الإنساني والى أن مجموعة من الدوافع التي رتبت في الإنسان، تجعل هذه الشخصية أو تلك تنزع عن هذا الدافع، وتسلك سلوكا سلبيا لإشباع الدافع المشار إليه وأن مثل هذا الإشباع لا غبار عليه..الخ.

نقول إذا اتجهنا إلى القصة القرآنية الكريمة في رسمها للشخصيات السلبية أو الإيجابية، حينئذ نجد أن الأمر يختلف تماما عن تلك الاتجاهات الأرضية المنحرفة من هنا فإنما نستهدف هو أن نعرض لرسم القرآن الكريم بالنسبة للشخصية في نمطيها المتحول والثابت، ونرسم في هذا الميدان المبادئ القرآنية الكريمة التي ترسم أو بالأحرى نرسم في هذا الميدان المبادئ القصصية التي تسلكها القصة القرآنية الكريمة فنقول:

من البين أن الله سبحانه وتعالى جعل تركيبة البشرية قائمة على نمط من التجاذب بين قوتين هما الخير والشر، أو العقل والشهوة، إلى آخر ما يصطلح على هذين المصطلحين من عبارات متنوعة، ولكن المصطلح عبارة العقل والشهوة قد استخدمه المعصومين (عليهم السلام) ولذلك ما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله أن الله سبحانه وتعالى ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرمن البهائم. إن هذا النص يشير بوضوح إلى أن الكائن الآدمي يتجاذبه الطرفان، هما الشهوة والعقل، وان المفروض بالشخصية العبادية التي تمارس مبادئ العبادة في الأرض أن تصدر عن طرف الخير أو الطرف العقلي، و أن تقاوم الطرف الآخر الشرير أو الشهواني، وفي القرآن الكريم إشارات واضحة أيضاً إلى أن الجانب الخير من الشخصية البشرية هي الأساس الفطري لها، كقوله تعالى مما مؤداه انه حبب إلينا الإيمان وكره الفسوق والعصيان..الخ.

المهم أننا نريد أن نستهدفه الآن هو ان رسم الشخصية القصصية أو المتحولة ينبغي أن تأخذ هذه المبادئ بنظر الاعتبار، فإذا رسمت الشخصية ونحن نتحدث عن التجربة البشرية فإذا رسمت الشخصية شخصية إيجابية، أو رسمت شخصية سلبية، ينبغي أن تم هذا الرسم وفق منحى نفسي ينتهي بالمتلقي أي القارئ للقصة، ينتهي بها إلى أن تقتنع بمشروعية السلوك الإيجابي وعلى العكسي من ذلك أن تقتنع بسلبية السلوك السلبي..الخ.

وفي ضوء هذه المبادئ نجد أن القصة القرآنية الكريمة تسلك هذا المنحى الفني، أو هذا المنحى النفسي الذي يجعل المتلقي في نهاية المطاف عندما يرسم له شخصية بها النوع أو ذاك، تأخذ بنظر الاعتبار هذه المبادئ الإسلامية التي سماها القرآن الكريم وهو الآن ما نحدثكم عنه بصفة أن الإعجاز البلاغي يتمثل في جملة ما يتمثل به في هذا المنحى الذي أشرنا إليه.

إن القصة القرآنية الكريمة عندما ترسم الشخصيات، ترسمها كما نلاحظ في القصص الأرضية ترسم الشخصية الثابتة سواء أكان ثبوتها إيجابي أو سلبي أي قد ترسم الشخصية إيجابية من أول رسمها إلى آخر الرسم، وقد ترسمها سلبية من أول الرسم إلى آخر الرسم، وقد ترسمها متأرجحة بين الإيجاب والسلب، كأن تبدأ إيجابية وتنتهي سلبية، أو بالعكس تبدأ سلبية وتنتهي إيجابية، وقد ترسمها بنمط آخر وهو أن تظل متأجرحة متصارعة دون أن ترسو على شاطئ من هذين الشاطئين.

ولكن كل ذلك عندما يرسم فإن ما يرسم مطعونا بالنهاية التي تجعل المتلقي وهذا هو المهم جدا يتعاطف مع الشخصية الإيجابية ويستنكر الشخصية السلبية مهما كان نمط السلوك الذي انتخبته مرسوما أو مقرونا بما يثير الشفقة مثلا وما إلى ذلك.

في ضوء هذه الحقائق نتقدم فنجد أن القرآن الكريم يرسم شخصيات ثابتة كشخصيات الأنبياء مثلا ولكنه قد يرسم شخصيات سلبية كشخصيات الكفار، وهذا ما تتوفر عليه غالبية القصص القرآنية الكريمة الذي يتناول الأقوام البائدة، مثل أقوام نوح وعاد و..و الخ.

وهناك كما قلنا انتهى رسم يأرجح بين ما هو إيجابي، وبين ما هو سلبي، ورسم يجعل هذا التأرجح إما مستمراً، أو يجعل له نهاية حاسمة ويمكننا الآن أن نستشهد بأمثلة هذه النماذج فنقول:

سوف نتناول أولا النموذجين من الشخصيات الثابتة والشخصيات المتحولة ولنبدأ أولا بالحديث عن الشخصيات المتحولة، وذلك لسبب واضح هو أن عملية التحول من سمة إلى أخرى تظل مصحوبة كما تحدثنا تظل مصحوبة بعنصر من الصراع إلى حد ما وهذا الصراع هو الذي يحسم الموقف في نهاية المطاف فيما إذا كان مفضيا إلى ما هو إيجابي أو ما هو سلبي من السلوك، وهذا في حالة ما إذا أخضعنا رسم القصة القرآنية الكريمة في ميدان البعد العقائدي للشخصية، أما في ميدان السلوك الدنيوي الصرف حينئذ فإن التحول أو الصراع يبن السمة والأخرى وبين السلوك والآخر إذا لم يكن نابعاً من أزمة نفسية حينئذ فلا غبار على مثل هذا الصراع، بعكس ما لو كان هذا الصراع ينطلق من نزعة مرضية على سبيل المثال حينئذ ينبغي أن يسغب هذا السلوك وهذا قد توفرت القصة القرآنية الكريمة على رسمه، ويمكننا كما قلنا أن نستشهد بهذين النمطين من التحول للشخصية أو الشخصية المتحولة مقابل الشخصية الثابتة. لنأخذ شخصية يوسف (عليه السلام) إن شخصية يوسف من الممكن أن تنسحب عليها هاتان السمتان، أي الشخصية الثابتة والشخصية المتحولة، أما أنها شخصية ثابتة فلأن يوسف منذ حياته والى آخر المطاف، الذي رسمته القصة القرآنية الكريمة عندما استولى على العرش، حينئذ يكون السلوك منذ بدايته وحتى النهاية موسوما بالبعد العقائدي المطلوب دون أدنى شك، ففي أول القصة كما لاحظتم امتدحه الله سبحانه وتعالى، وعده من المحسنين وأشار إلى أن الله سبحانه وتعالى لما بلغ أشده أتاه الحكمة والعلم والتأويل وما إلى ذلك. وظلت هذه السمات سمات يحتفظ بها يوسف منذ بلغ أشده حيث جاءت التجربة الجنسية وفشلت عن هذا الثبات في مستواه العقائدي، وجاءت أيضاً حادثة السجن ومن ثم رسمه النص في نهاية القصة أيضاً مشيرا عبر أكثر من موقع لأنه من المحسنين وبأن الله آتاه الحكمة والعقل وتأويل الأحاديث..الخ.

ولكننا من جانب آخر إذا أخذنا التحول بمعناه الثاني، وليس بمعناه الأول أي أن التحول غير العقائدي بل التحول في السلوك حينئذ نجد أن هذه الشخصية تتسم بالشخصية المتحولة، وليس الثابتة لأنها بدأت بالقصة وهي ملقاة في البئر، وهي شخصية بمستوى العبد يشترى ثم انتهي بها إلى أن تصبح شخصية لها موقع ضخم في الدولة آنئذ، إذا هذه الشخصية تحولت من شخصية عادية في المعايير الدنيوية في طبيعة الحال، إلى مستوى قيادي بالشكل الذي نعرف ذلك جميعاً، والسؤال هو ما هي المسوغات الدلالية التي تجعل هذه الشخصية مرسومة بهذا النحو أي مرة ترسم متحولة ومرة ترسم ثابتة نعتقد أن الأمر يتضح بجلاء حينما نأخذ بعين الاعتبار أن ثبات هذه الشخصية سوف يحمل المتلقي على التجاوب تماماً مع هذه الشخصية التي لم تزلزلها الأحداث البتة، مع الشدائد التي مرت عليها هذه الشخصية فإنها ظلت محتفظة بموقفها العقائدي الصلب، وفي مقدمة ذلك التجربة الجنسية التي جعلت هذه الشخصية تختار السجن ويكون السجن احب إليها مما تمارسه من أعمال المنكر.

وأما التحول في الشخصية فأيضاً يستطيع القارئ أو المتلقي للقصة أن يستخلص منها أن الإنسان من خلال طاعته لله سبحانه وتعالى يستطيع أن يتحول من حالة إلى أخرى بالفعل وردت بعض الأحاديث المسيرة إلى أن يوسف (عليه السلام)، من خلال طاعته تحول من شخصية عبد إلى شخصية ذات موقع اجتماعي خطير، والعكس صحيح أيضاً حيث تحولت امرأة العزيز من امرأة ذات موقع مهم، إلى امرأة عادية في نهاية المطاف المهم أن رسم هذه الشخصية من خلال كونها شخصية ثابتة ومتحولة، استهدف مما أشرنا فكرتين إحداهما أن الشخصية من خلال الطاعة تربح دنياها وآخرتها، على العكس من ذلك من خلال المعصية قد تربح دنياها ولكنها تخسر آخرتها، ولكنني نرى في شخصية يوسف أن تحول شخصيتها لم يتم من خلال ما هو سلبي أو إيجابي من السلوك، بل من خلال موقع دنيوي صرف، ولذلك فإن الحديث عن الشخصيات الأخرى ينبغي أن نتابعه لنلقي الإنارة التامة على أمثلة هذا الرسم واستخلاص العظة من ذلك.

لنتجه إلى شخصية السحرة على سبيل المثال، إن شخصية السحرة بدأت كما نعلم ذلك جميعا شخصيات منحرفة كل الانحراف لأنها تمارس عملية السحر، ولأنها أرادت أن تقف موقفا مضادا لشخصية النبي موسى (عليه السلام)، هذا الموقف الانحرافي الذي بدأت القصة برسمه لهذه الشخصيات انتهى في نهاية المطاف إلى موقف مضاد تماما، ألا وهو إيمان السحرة، هذا نموذج واضح كل الوضوح بالنسبة إلى الشخصية المتحولة عقائديا، من سلوك سلبي إلى سلوك إيجابي، مقابل ذلك نستطيع أن نستشهد بشخصية إبليس ذاتها حيث تشير النصوص المفسرة إلى أنها كانت شخصية طائعة، وانتهت إلى شخصية مريدة بالشكل الذي نعرف ذلك جميعا. لكن هذا من حيث النصوص المفسرة، ولكننا إذا انطلقنا من الزاوية التي أكدناها من أن التلقي الفني للظاهرة الإعجازية ينبغي أن يتم من خلال الظاهر للقرآن الكريم، حينئذ يظل رسم شخصية إبليس من الأساس شخصية بدأت سلبية وانتهت سلبية أيضاً، وهذا ما توفرت عليه جميع القصص القرآنية التي تحدثت عن شخصية إبليس، حيث ظلت متمردة طوال مواقعها من القصص القرآني الكريم، حيث رسمتها القصص القرآنية الكريمة، حينا عندما رفضت السجود لآدم انطلاقاً من النزعة المتكبرة وهي أنها مخلوقة من نار وان آدم مخلوق من طين، وانتهاء إلى استمرايتها أو نهاية مواقفها المتمثلة في إصرارها على أن تغوي الناس أجمعين إلا عباد الله المخلصين..الخ.

طبيعيا إن مثل هذا الرسم للشخصية الملتوية المتمردة المستمرة على عصيانها سوف يحمل المتلقي على أن ينفر من هذه الشخصية كل النفور، وأن يأخذ عظة من ذلك وهذا من قبيل أن يستخلص مثلا بأن الشخصية إذا أطاعت الله سبحانه وتعالى ربحت دنياها وآخرتها، وإذا واصلت سلوكها التمردي حينئذ سوف تخسر كليهما، أو تخسر الآخرة على الأقل ومن هنا أنها تستطيع أن تستلهم من قصة الشيطان، أنه قد يكون ربح دنياه من خلال وسوسته للبشر، ولكن ما فائدة هذه الأمتعة الدنيوية حينما تنطفأ الحياة ونواجه الحياة الأبدية، التي يخلد فيها الإنسان مهانا، أو يخلد فيها عزيزا..الخ.

المهم أن كلا من ثبات الشخصية، أو بالأحرى ثبات الشخصية بمستويي الثبات الإيجابي والسلبي الثبات الإيجابي يتمثل في سلوك الشخصيات المصطفاة التي رسمها القرآن الكريم في قصص المجتمعات البائدة، والشخصيات السلبية متمثلة في شخصيات جماعية كالمجتمعات البائدة، والشخصيات الفردية كشخصية فرعون وهامان وأبي لهب وغيرهم.

بيد أن الأهم من ذلك جميعا أن نلاحظ في الواقع الشخصيات المتحولة الإيجابي والسلبي حيث نجد أن لكل شخصية متحولة في هذا الموقف أو ذاك لها دلالة خاصة يظل الكشف عن هذه الدلالة فارضا أهميته في هذه المحاضرات التي يتحدث فيها عن بلاغة القصة القرآنية الكريمة.

نستشتهد ببعض الأمثلة ونبدأ ذلك بالحديث عن الشخصيات الإيجابية التي يتم فيها التحول من موقف إلى آخر إلا أن هذا التحول في الواقع يظل موسوما بما هو إيجابي من السلوك، أو بما هو سلوك لا يصل إلى حد الانحراف. هناك من الشخصيات التي رسمها النص القرآني الكريم كشخصية إبراهيم (عليه السلام) حيث عرضها حينا في أقصوصة موقفه من الشمس والقمر، وما إلى ذلك حيث انتهى من تساؤلاته المتقدمة إلا انه يوحد الله سبحانه وتعالى، هذا موقف، وموقف آخر هو موقفه من الإحياء والإماتة، حيث أشارت القصة القرآنية الكريمة إلى أنه ألمح إلى انه يستهدف يقينا أو اطمئنان في القلب عبر العبارة القائلة (ولكن ليطمئن نفسي)، حينئذ جرت الأقصوصة المتمثلة في قضية الطيور الأربعة وما إلى ذلك.

هذا مستوى آخر من الرسم لشخصية تتحول من موقف إلى آخر إلا أن الموقف يظل متسما بالإيجابية، كموقفي إبراهيم في القصتين أو الأقصصوتين أو الحكايتين المتقدمتين، وهناك أمثلة أخرى مثلا قصة المار على قرية القائل أنا يحييها الله بعد موتها..الخ.

والحكاية أيضاً ترسم لنا شخصية بدأت متساهلة وانتهت موقنة، ولكن هل هذا التساؤل كان مبنيا على ما هو سلبي من السلوك، أي التشكيك مثلا كلا، وإنما كان مجرد إثارة سؤال وانتهى هذا السؤال إلى تجربة مفضية إلى الاطمئنان التام.

ومن الأمثلة أيضاً في هذا الصدد ممارسة القصة القرآنية الكريمة، بالنسبة إلى شخوص الملائكة في سورة البقرة ونقصد بها قصة آدم التي استشهدنا بها أكثر من مرة، حيث لاحظتم في هذه الأقصوصة أن الملائكة في البداية تسائلوا عن سر وجود خليفة في الأرض، بعد أن أشاروا إلى أن الأرض شهدت تجربة انحرافية استهلت بسفك الدم وما إلى ذلك.

لكن بعدما أعلمهم الله سبحانه وتعالى من خلال إنطاق شخصية آدم ببعض الأجوبة، انتهت هذه الشخوص من خلال الرسم القرآني الكريم، إلى شخوص ثابتة لا تساؤل لديها كالسابق، وهكذا نستطيع أن نستشهد بنماذج كثيرة من هذا النمط، ومنها النماذج المرسومة عبر مواقف قد تبدو للبعض أنها مواقف تبدأ سلبية وتنتهي إيجابية كموقف يونس (عليه السلام) مثلا في الأقصوصة التي أشارت إليها النصوص القرآنية الكريمة في أكثر من موقع، وسائر ما ورد بالنسبة إلى شخصية آدم (عليه السلام) وغير ذلك من المواقف التي يمكن أن نقول فيها أن عملية التحول في رسم سمات هذه الشخصية لم يكن تحولا من سلب إلى إيجاب، وإنما ما يجسد عملية تحول من موقف متسائل إلى موقف مطمئن..الخ.

ونستطيع في الواقع أن نستخلص من أمثلة هذا الرسم للشخصيات، إلى أن الله سبحانه وتعالى عندما يمنح هذه الشخصية أو تلك، عطاء من العطاءات إن هذا لا يعني أن الشخصيات العليا اكتسبت السمات المطلقة التي ينفرد بها الله سبحانه وتعالى فحسب، بل من أمثلته مثلا العلم الذي حددت النصوص الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) تتحدث النصوص من خلال أن الله سبحانه وتعالى، أعطى اثنين وسبعين حرفا من مجموع ثلاث وسبعين حرفا أعطاها للمعصومين (عليهم السلام)، واحتفظ بواحد منها فإن الاحتفاظ بهذا العلم الذي ينفرد به الله سبحانه وتعالى، يظل مفسرا لنا لكثير من أنماط السلوك التي رسمها القرآن الكريم بالنسبة لشخوص الأنبياء ومن إليهم، فمثلا لاحظتم في شخصية آصف الشخصية الثانوية التي وظفت لإنارة الشخصية الرئيسة في قصة سليمان وظفت لإنارة شخصية سليمان لاحظتم أن هذا الشخص قد أعطي علما من الكتاب واستطاع بواسطة هذا العلم أن يجتلب عرش بلقيس إلى سليمان، ورأيتم أيضاً من زاوية أخرى كيف أن سليمان (عليه السلام)، تفقد الهدهد دون أن يعلم أن للهدهد مهمة أخرى كانت غائبة عن سليمان، ومع أن سليمان كان نبي وأعطاه الله كل شيء، ولكنه لم يمنحه تلك المعرفة التي يستطيع من خلالها أن تبين بان الهدهد قد ذهب إلى مهمة خاصة، أي أنه حجب جانبا من العلم لدى هذه الشخصية وأولئك جميعا تفسر أن مسألة الكمال المطلقة ينفرد به الله سبحانه وتعالى، وان القصة القرآنية الكريمة إنما ترسم شخصية سليمان بهذا الشكل أو عندما ترسم آدم أيضاً بهذا الشكل أو عندما ترسم شخصية موسى (عليه السلام) حيث كانت واقعته مع شخصية الخضر (عليه السلام) كاشفة عن أن الله أعطى لكل نبي سمة لم يعطيها للآخر، فقد أعطى الخضر (عليه السلام) بما لم يعطه لموسى، وأعطى موسى (عليه السلام) ما لم يعطه للخضر وهكذا.

وهنا لاحظنا مثلا كيف أن شخصية موسى وهو يرحل في  رحلته المعروفة عبر القصة التي استشهدنا بها أيضاً في محاضرة سابقة ينتهي من شخص يبحث عن شخصية، ويبدأ في تلك الأقصوصة متسائلا عن الأسرى في قتل الغلام، وخرق السفينة، وبناء الجدار وينتهي إلى شخصية أخرى مطمئنة إلى ما صدر من السلوك الذي لاحظته في شخصية الخضر (عليه السلام).

إذا عندما يرسم النص القرآني الكريم أمثلة هذه الشخصيات المتحولة من موقف إلى آخر يرسمها حيناً وهي تتحول من موقف متسائل إلى موقف مطمئن ويرسمها من موقف مقترن بجهل سبب من الأسباب والانتهاء بعد ذلك إلى معرفة السبب المشار إليه كما حدث في قصة كل من موسى وقصة سليمان وهكذا.

نستخلص مما تقدم أن رسم الشخصيات المتحولة والثابتة تخضع جميعاً لأسرار بلاغية وجمالية بالنحو الذي حدثتاكم عنه وبهذا نكتفي بالحديث عن هذا الجانب، ونتجه إلى جوانب أخرى من القصة القرآنية الكريمة ونختمها في محاضرة لاحقة إن شاء الله، لنتحدث بعد ذلك بموضوع جديد والى ذلك الحين نستودعكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.