المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 24.doc

القصة المتداخلة

نواصل حديثنا عن العنصر القصصي في القرآن الكريم وفي مقدمة ذلك عنصر البناء حيث حدثناكم في محاضراتنا السابقة عن هذا الجانب ونواصل الآن حديثنا عنه ولكننا نطرح منحى آخر من انواع الأسلوب القصصي في القرآن الكريم من حيث البناء وهو ما نطلق عليه الآن مصطلح القصة المتداخلة أو القصة داخل قصة ونعني بذلك أن ثمة نمطاً من القصص وهو مألوف في النتائج الأرضية بطبيعة الحال نقول أن ثمة نمطاً من هذه القصص تسلك منحى خاصاً في الصياغة القصصية ألا وهو تداخل قصتين أو أكثر مع بعضها وذلك لجملة أسباب في مقدمتها التجانس بين هذه القصص ومجرد كون هذه القصة تتجانس مع أختها ولكن مع وجود فارق بينهما يسوغ فنياً اللجوء إلى أمثلة هذا البناء القصصي وبما أن القصة القرآنية الكريمة كما ذكرنا أن هذه القصة تواكب في الواقع مختلف أنماط القصة الأرضية مع استقلالي القرآن الكريم بطابعه الخاص بطبيعة الحال.

المهم نود أن نشير إلى أن هذا النمط من القصص ونعني به القصص المتداخلة تنحو منحى متفاوتاً من قصة إلى أخرى فهناك قصص تداخل على نحو يبدأ بعد البطل إحدى القصص مثلاً ثم يفسح المجال لبطل آخر بحيث يكون دور البطل الأول ويجيء البطل الثاني مكملاً للقصة المذكورة وهناك نمط آخر تداخل فيه القصص بنحو يفضي الى ملاحظة وجود سر ما بين تداخل قصتين قد تكونا غير مختلطتين أو غير متجانستين فالظاهر إلا أن التدقيق في ذلك يفضي لنا في نهاية المطاف إلى معرفة الجانب من الأسرار المتصلة بهذا النمط من البناء القصصي ويمكننا في هذا الميدان أن نستشهد من قصة تتصل بإبراهيم (عليه السلام) حيث أن قصص إبراهيم تتنوع في الواقع وترد في عدة مواقع وفي الغالب ترد هذه القصص مستقلة بذاتها ولكنها في أكثر من مورد نجد أن هذه القصة تتداخل مع قصة لوط ولوط نفسه (عليه السلام) في قصصه أيضاً يستقل حينا ويتداخل حينا آخر مع قصة إبراهيم (عليه السلام) ولنبدأ الآن ونتحدث عن هذا النمط من القصص المتداخلة على أن نمهل بعد ذلك إلى سائر الأنماط القصص المتداخلة.

فالملاحظ أن هذه القصة مثلاً ترد في سورة الحجر على النحو الآتي ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلام قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم إلا أبشرتموني على أن مسني الكبر فبما تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون قالوا فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين الاآ ل لوطإنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا أنها من الغابرين فلما جاء آل لوط  قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون  وأتيناك بالحق وإنا لصادقون فاسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولايلتفت منكم  أحد وامضوا حيث تأمرون وقضينا إليه ذلك الأمر ان دابر هؤلاء مقطوع مصبحين  وجاء أهل المدينة يستبشرون قال ان هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله لا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قالوا هؤلاء بناتي ان كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل.

لاحظوا أن هذه القصة الكريمة تجمع بين قصتي إبراهيم ولوط بالنحو الذي لاحظتموه أي من خلال وجود طابع مشترك بين القصتين هو إرسال الملائكة إلى إبراهيم ليبشروه بولادة غلام له وفي نفس الوقت اطلاع هؤلاء الرسل هي إبادة قوم لوط الذين كانوا يمارسون المنكر بالشكل الذي نعرفها عن ذلك جميعاً.

المهم أن السؤال هو ما هي العقلاقة التي تجعل هاتين القصتين متداخلتين بهذا النحو علماً بأن كلاً من إبراهيم ولوط ترد قصصهما مستقلة في كثير من مواقع القرآن الكريم كما ترد متداخلة في مواقع أخرى من القرآن الكريم حتى أننا لنجد في سورة واحدة ورود قصة لوط على سبيل المثال ورود هذه القصة مستقلة حيناً وحيناً آخر ترد متداخلة مع قصة إبراهيم وهذا ما نلاحظه في سورة العنكبوت حيث تتحدث أولاً عن إبراهيم (عليه السلام) قائلة وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون والآن تقول فما كان جواب قومه اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار الخ بعد ذلك تقول القصة فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب...الخ.

لاحظوا هنا كيف أن القصة أيضاً داخلت بين إبراهيم وبين شخصية لوط إلا أن هذا التداخل لم يتجاوز الإشارة إلى شخصية لوط وأنها آمنت بإبراهيم (عليه السلام) فحسب ثم واصلت القصة حديثها عن إبراهيم لكن السورة الكريمة بعد ذلك جاءت بقصة لوط وقالت ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين لذلك جاءت ثانية وقالت لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطاً قال نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ولما ان جاءت رسلنا لوطاً سئ بهم وضاق بهم ذرعاً وقالوا لا تخف ولاتحزن إنامنجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إلى آخر القصة لاحظوا كلا من هذه القصة التي وردت في سورة العنكبوت متكررة بالنحو الذي لاحظتموها وما لاحظتموه في سورة الحجر حيث يمكننا أن نطرح التساؤلات الآتية أولاً نلاحظ أن إبراهيم وأن لوطاً كليهما يتداخلان في هذه القصة التي تتعلق لا أقل بالبشرى بولادة ابن إبراهيم وتتعلق من جانب آخر بإبادة قوم لوط هذا من جانب من جانب آخر لاحظتم أيضاً من القصة التي وردت في سورة العنكبوت أن لوطاً ذكر مرتين فالمرة الأولى ذكر وحده بقصة مستقلة عبر قوله تعالى ولوطاً إذا قال لقومه إنكم إذ تأتون الفاحشة...الخ.

ويرد مرة ثانية ولكن من خلاله أيضاً الإشارة إلى مجيء رسل إبراهيم بالبشرى المشار إليها ونجد ورود هذه الشخصية ونقصد بها لوطاً أيضاً بشكل عابر في المرة الثالثة عبر ما ذكرناه لكم من قوله تعالى فآمن له لوط إن هذه الأنماط من التداخل في هذا الجانب فحسب أي تداخل قصص لوط وإبراهيم ترد في الواقع ضمن أسلوب خاص تنفرد به كما كررنا هاتان الشخصيتان من خلال اكثر من قصة ترد عبرهما ومن ذلك مما لاحظتموه من خلال المرات المتكررة التي ذكر فيها لوط وإبراهيم (عليه السلام) ترى ما هو السر الفني الكامن وراء ذلك كله عندما نعود إلى النصوص المفسرة يمكننا أن نعثر على مسوغات دلالية تفسر لنا سبب هذا التداخل ولكننا ونحن نتحدث عن القصة القرآنية من كونها إعجازاً بلاغياً فنياً حينئذٍ فإن الرجوع إلى النص المفسر لنلقي الإنارة على هذا الجانب ولكنه في الواقع يتقاطع مع ذهابنا إلى ضرورة أن تكون لنا قراءة قرآنية مستقلة عن التفسير الكامن وراء ذلك والسبب في هذا يعود إلى أن التذوق الفني شيء والتذوق الدلالي شيء آخر أن التذوق الدلالي نحن مأمورون من خلاله أن نعود إلى النصوص المفسرة الواردة عن أهل البيت (عليه السلام) وهذا ما لا ينكره أحد البتة ولكن بالنسبة إلى الإعجاز البلاغي فإن الأمر ليختلف تماماً ولذلك فالمفروض على كل من يتلقى النص القرآني الكريم بحس بلاغي عليه أن يستخلص من الظاهر الجوانب البلاغية ولكن من خلال الرجوع إلى التفاسير من هنا نقول أننا إذا عدنا إلى التفاسير فقد نجد بعض المسوغات التي يشير بعضها مثلاً إلى أن قرية إبراهيم وقرية لوط كانتا متقابلتين هذا من جانب ومن جانب آخر نجد إشارة أخرى إلى أن لوط هو في الواقع ابن أخت إبراهيم (عليه السلام) ولذلك فهما أقرباء وهذه القرابة تسوغ وورد قصتهما في آن واحد ولكن لندع هذه النصوص التفسيرية ونقف مع الظاهر القصصي والقرآن الكريم لنقول أن القصة ذاتها في الواقع تكشف في بعض مواقعها عن وجود الرابط بين هاتين القصتين حيث أن القصة التي تحدثنا عنها الآن ونعني بها القصة الواردة في سورة العنكبوت كانت بالنسبة إلى لوط بأنه هو أول من آمن برسالة إبراهيم (عليه السلام) وكون هذه الشخصية هي المؤمنة برسالة إبراهيم عبر الوجوم أو الصمت أو عبر الرفض الذي لاحظناه من قبل قومه حيث أفضى ذلك الرفض إلى أن يلقى في النار وان ينجيه الله سبحانه وتعالى من ذلك نقول في غمرة هذا الرفض الشديد من قبل المستمع المحرم حينئذ فإن إيمان لوط دون سواه يكتسب أهمية خاصة تسوغ من حيث الفن القصصي تسوغ وروده بهذا الشكل كما لاحظتم تأريخياً أيضاً بما أن لوط هو أول الرسل الذين مارسوا مهمتهم أو وظيفتهم التبليغية بعد إبراهيم (عليه السلام)  حينئذ فإن ورود قصته في هذه السورة الكريمة بعد قصة إبراهيم بهذا الشكل أيضاً تسوغ إلى ما واحداً من الدلالات التي تفسر معنى مجيء قصة لوط في صياغة قصة إبراهيم (عليه السلام).

وأما المستوى الثالث من المسوغات فنجده في هذه السورة الكريمة التي لا تزال تحدث عن لوط ولكن من خلال العودة إلى شخصية إبراهيم (عليه السلام) عبر قوله تعالى في هذه القصة الجميلة ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قال إنا مهلكوا أهل هذه القرية الخ. فهنا كما تلاحظون أن القصة انتقلت أيضاً  من إبراهيم إلى لوط في قوله فآمن به لوط ثم تابعه في الحديث عن إبراهيم وجاء الحديث عن شخصية لوط وقصته وخلال قصة لوط جاء الحديث من جديد عن شخصية إبراهيم الخ وبالعودة إلى ما لاحظتموه أيضاً إلى قصة إبراهيم ولوط في سورة الحجر نجد أن الحديث عن إبراهيم جاء أولاً وجاءت في قصة لوط ضمن ذلك أما في هذه السورة جاء الحديث عن شخصية لوط وجاء الحديث عن إبراهيم عرضياً كما لاحظت وهذا يعني أن هناك ارتباطاً عضوياً كبيراً بين هاتين القصتين بحيث نجد أن النص عندما يتحدث عن إبراهيم يتجه إلى شخصية لوط فيعرضها بشكل أو بآخر وإنا يتحدث عن شخصية لوط وشخصية إبراهيم بشكل أو بآخر إلا أن هذا الشكل يتمثل في وجود الرسل وفي تحديد وظائفهم متمثلة بالدقة فيما يلي وهي أننا نلاحظ أن كلاً من هؤلاء الرسل عندما يقدمون أو يزفون البشرى إلى إبراهيم بعملية ولادة يلوحون مقابل ذلك بعملية إبادة لمجتمع بأكمله هنا قد ثار السؤال الآتي البشارة بالولادة تتمثل في شخص فحسب مثلاً بينما التلويح بالعقاب يتمثل في مجتمع بأكمله ولكننا نجيب على هذا السؤال بسهولة حينما نقول أن القسمة هي في الواقع في النوع وليست في الكم لأن النوع الذي سيترتب على ولادة ذرية إبراهيم (عليه السلام) يتمثل في نمط عبادي مصطف وأما النمط المكابد فهو نمط منحرف فلذلك القيمة له مهما بلغ عدده هذا من جانب ومن جانب آخر نستخلص من هذا النمط من التداخل بين القصص كيف أن رسل الله أي الملائكة يتطلعون في آن واحد بوظائف تبدو متضاربة في الواقع ولكن يبدو تصب في منحى خيرياً واحد هو الحكمة أو المصلحة التي يتمناها الله سبحانه وتعالى في تقرير هذه الأنماط من السلوك الشخصية النبوية إبراهيم أو للشخصية النبوية لوط وما يترتب على مجتمع ما حيث أن المجتمعين كما لاحظنا يتنوعان إلى أسلوب واحد من الانحراف وأسلوب واحد من الرفض الذي طبع ذلك المجتمعين وفي الواقع يمكننا أن نلاحظ بالإضافة إلى جانب التضاد بين نمطي السلوك الملائكي الذي جاء أحد هذين السلوكيين مبشراً بولادة ذرية إبراهيم (عليه السلام) مقابل إبادة مجتمع لوط نقول هذا التضاد الذي يبدو ظاهرياً في هذا المجال يقابل تجانس واضح كل الوضوح ألا وهو أن البشرى بولادة ذرية إبراهيم في الواقع تتجانس أيضاً مع البشرى بإبادة مجتمع لوط لأن لوط نفسه قال في هذه القصة ربي انصرني على القوم المفسدين لذلك قال له الملائكة لا تخف ولا تحزن إنا ننجوك واهلك إذا القصتان كلتاهما تبشران بنمط واحد من البشرى هو إبادة المنحرفين وهي بشرى بالنسبة إلى لوط وولادة المصطفين وهي بشرة بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) وهذا النمط من التداخل بين قصص إبراهيم (عليه السلام) وقصص لوط (عليه السلام) يختلف في بناءه عن النمط الآخر الذي يتناول أيضاً قصص إبراهيم (عليه السلام) مع قصص أخرى ولكنها تصب في دلالات أخرى هي دلالة الإماتة والإحياء اللتين وردتا في سورة البقرة حيث حدثناكم عنه في محاضرة سابقة وقلنا أن ظاهرة الإحياء والإماتة تمثل واحدة من المحاضرات المهمة التي تنتظم سورة البقرة وان السورة الكريمة قدمت جملة من القصص التي تدور جميعاً على محور الإماتة والإحياء بيد أن هذه القصص الدائرة على الإماتة والإحياء بعضها متفرق أو متوزع في أكثر من موقع من مواقع  هذه السورة الكريمة وبعضها متجمع في مقطع واحد وهذا المقطع الذي نريد أن نحدثكم عنه الآن حيث يرتبط بعملية القصة المتداخلة أو القصة داخل القصة لاحظوا أن أول قصة تتحدث بعد مجيء آية الكرسي المعروفة تقول ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن ا تاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت بعد هذه القصة والأقصوصة أو الحكاية تجيء الأقصوصة أو الحكاية الثانية مباشرة فتقول أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه بعد ذلك مباشرة أيضاً تأتي شخصية إبراهيم بدوره من جديد ولكن لتطرح ظاهرة الإماتة والإحياء من زاوية أخرى تقول الأقصوصة وإذ قال إبراهيم ربي أرني كيف تحيي الموتى قال أولا تؤمن قال بلى ولكن لنقل أن قلبي قال فخذ أربعة من طير فرعهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهم جزءاً ثم ادعهن يأتيك كسعي...الخ.

فهنا نواجه ثلاثة أو بالأحرى نواجه ثلاث قصص أو ثلاثة أقاصيص أو ثلاث حكايات تحوم جميعاً على مفهوم الإماتة والإحياء والواقع أن هذه القصص المتداخلة لا تجسد قصة واحدة ذات شخصيات متعددة بل كل شخصية تستقل بذاتها ولا علاقة لها البتة بالشخصية الأخرى أي أن محاججة إبراهيم مع نمرود قصة مستقلة لا علاقة لها وقصة إبراهيم وهو يطلب من الله سبحانه وتعالى وهو يريه كيف يحيي الموتى لأن إبراهيم ذاته قال في الأقصوصة السابقة إن الله سبحانه وتعالى يحيي ويميت وحينئذ ما معنى أن نقول انه قال أرني كيف تحيي الموتى إلا كان ذل عبر حادثة أخرى بالإضافة إلى ذلك فإن هاتين القصتين القصة المتمثلة بإماتة من أماته الله مئة عام ثم أحياه.

إذاً كل واحدة من هذه القصص أو الحكايات مستقلة تماماً عن القصص والحكايات الأخرى إلا أنها جميعاً تشكل قصصاً متداخلة وتحوم حول معنى واحد والسؤال هو عن المسوغ الفني المتمثلة لهذا التداخل في القصص المشار إليها وفي الواقع يمكننا أن نسوغ صياغة هذه القصص الثلاث وهي متعاقبة على النحو المتقدم نستطيع أن نقول إذا اقتنعنا بأن هذه القصصة المتداخلة وإلا فمن الممكن أيضاً أن نعد كل قصة من هذه القصص مستقلة بذاتها ولا علاقة لها بالأخرى كل ما في الأمر أن النص القرآني الكريم أراد أن يجمعها في مقام واحد إلا أن هذا يواجهه سؤال آخر كيف أن سائر القصص الأخرى التي تتحدث أيضاً عن الإماتة والاحياء لماذا انفصل بعضها عن الآخر هذا السؤال لا يمكن أن يقترن بنفس الإجابة التي تنتظم بالحديث عن وجود قصص ثلاث متجاوبة مقارنة بقصص أخرى متجاوبة مع أن القصص تصب في محور واحد ولذلك استقنا مثل هذا التأمل بالفارق المشار إليها إلى أن هذه القصص في الواقع متداخلة والأمر أن كل قصة منها تتطلع بتدليل نسق معين من الاستجابة وهذا ما يمكن أن نوضحه بالشكل الآتي وهو أن القصة الأولى تقترن بشخصية أساساً رافضة لظاهرة الإماتة والإحياء لأنها شخصية منحرفة هي شخصية ابن لوط. أما الشخصية الثانية فهي شخصية مؤمنة لكن هاجساً دفعها إلى أن تتساءل إلى أن الله يحيي هذه بعد موتها وأما الشخصية الثالثة فهي شخصية مؤمنة تماماً ولا ينتابها أي هاجس هذه الشخصية الثانية بقدر ما أرادت أن تطمئن فحسب.

إذاً نحن الآن أمام ثلاث حكايات تتصاعد شخصياتها من أدنى مستوى إلى أعلى مستوى يتمثل في شخصية إبراهيم كما لاحظنا وإذا تجاوزنا هذاالنمط من التداخل نواجه نمطاً ثالثاً من التداخل وهذا ما يتمثل في القصص التي انتظمت في سورة آل عمران هل سنواجه خمس قصص بل يمكن أن نقول ست قصص أيضاً تتداخل فيما بينهما على هذا النحو بسم الله الرحمن الرحيم (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت ربي إني وضعتها أنثى والله اعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم وتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها  زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصورا ونبياً من الصالحين قال ربي أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء قال ربي اجعل لي آية قال آيتك إلا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والابكار وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين إلى أن يقول إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة من اسم المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وهو من الصالحين قالت ربي انى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) إلى آخر هذه القصص التي تحدثت عن شخصيات خمس كما لاحظتم هي قصص امرأة عمران مريم زكريا يحيى عيسى (عليه السلام) والتداخل بين هذه الحكايات من الوضوح بمكان كبير حيث امرأة عمران تلد مريم ومريم يهب الله سبحانه وتعالى عيسى وخلال تربية مريم أو خلال كفالة زكريا بمريم زكريا يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهبه يحيى ويحيى كما يصفه القرآن الكريم مصدقاً بكلمة الله أي انه سوف يكون أول من يصدق برسالة عيسى (عليه السلام) حيث كلاً من القرابة والمصاحبة أي كفالة تجعل هذه القصص متداخلة فيما بينها بحيث لا ينفصل واحدة من أجزاء هذه القصص عن الأخرى البتة امرأة عمران قلنا تلد مريم مريم كما قلنا يتكفلها زكريا زكريا بعدما يجد أن مريم قد أحيطت برعاية خاصة من السماء يطلب بدوره أن يهبها الله سبحانه وتعالى غلاماً الله سبحانه وتعالى يهب لزكريا الغلام المسمى يحيى ومريم كما لاحظنا أيضاً تلد شخصية هي عيسى (عليه السلام).

إذاً الشخصيات جميعا تنتسب إلى محور واحد من التداخل الذي لا تنقصم عراه كما هو واضح بيد أن الأهم من ذلك هو التجانس الذي نلاحظه من جانب والتفاوت أو التباين الذي نلاحظه من جانب آخر حيث أن كلا من التباين والتماثل يجعلان التداخل بين هذه القصص أمراً له مسوغاته وأما التماثل فيمكننا أن نجد أن كلاً من ظواهر الإعجاز من جانب وندرة الحوادث من جانب ثالث والإنجاب من جانب ثالث هو أو هي الطوابع التي تجسد طابعاً مشتركاً بين القصص الخمس فلاحظوا على سبيل المثال كيف أن عيسى يولد بشكل إعجازي كما هو واضح وتجدون كيف أن الرزق كان يأتي مريم بشكل إعجازي وتجدون كيف أن الإنجاب تم بنحو نادر بالنسبة إلى زكريا (عليه السلام) وهكذا نجد أن هذه القرابة المتاثلة بين القصص تجد نمطاً من التداخل فيما بينها وأما نقاط التباين فيمكن ملاحظتها من خلال كل شخصية لها وظيفتها واستقلالها عن الأخرى فامرأة عمران  ليس عملية نذر وزكريا يمارس عملية دعاء لله سبحانه وتعالى ويحيى يمارس عملية تصديق برسالة عيسى وعيسى يمارس عملية خاصة تتمثل في كونه قد أنيطت به النبوة والتكليم وما إلى ذلك منذ أن وضع في المهد...الخ.

إذاً كل واحدة من هذه الشخصيات تتطلع بوظيفة خاصة تختلف بها عن الوظيفة التي تمارسها الشخصية الأخرى ولكن في الآن ذاته من حيث التجانس في السمات نجد ثمة سمات الاعجاز والإنجاب والندرة من الحوادث أو المواقف يتبع جميع هذه القصص بالشكل الذي لا يسمح الآن المجال بأن نحدثكم عنه مفصلاً وقد تحدثنا من هذه القصة بعشرات الصفحات بشكل دقيق نرجو من الطالب إذا أراد تفصيل ذلك أن يقرأ كتاب دراسات فنية في قصص القرآن الكريم لكي يتبين له الجانب الإعجازي بشكل مدهش مما قلنا بأن المجال نعرضه بقدر ما نريد فقط أن نلفت نظر الطالب إلى أمثلة هذه الأبنية القصصية التي نتحدث عنها دائماً بشكل عابر وسريع ونطالب علماً يحرس على ملاحظة الطوابع الإعجازية نطالبه أو نطلب منه بالواقع أن يعود إلى الكتاب المشار إليه على أية حال نكتفي بما حدثناكم عن بناء القصة القرآنية الكريمة ونعدكم إن شاء الله في المحاضرة اللاحقة وما بعدها بان نتحدث عن جوانب قصصية أخرى في هذا الميدان وفي مقدمة ذلك الشخصية في القصة القرآنية الكريمة حيث تحتل الشخصية موقعاً خطيراً وموقعاً مهماً جداً بالشكل الذي نحدثكم عنه لاحقاً إن شاء الله تعالى وبعد ذلك نتناول الجوانب الأخرى من الإعجاز كالجانب الصوري والأهم من ذلك جميعا الجانب البنائي الذي نفصل الحديث عنه أكثر من سواه إن شاء الله سبحانه وتعالى وما نود أن نلفت الانتباه اليه هو أننا عندما حدثناكم عن البناء القصصي لأنه في الواقع  هو جملة من البناء الهندسي العام من السورة القرآنية الكريمة أي ما لاحظتموه الآن من بناء هندسي للقصص هو بالواقع صدى للبناء الهندسي للسورة ذاتها بل إن السورة في الواقع بأنها تتناول جملة موضوعات قد تعد بالعشرات حينئذ فإن أبنيتها سوف تسم بدقائق وبالمبادئ البلاغية المنوعة ومتشابكة بنحو يختلف عن التشابك الذي لاحظناه في البناء القصصي بيد أن الطابع المشترك لهم وهو الطابع البنائي يظل كما قلنا ونكرر ذلك يظل الجوانب الإعجازية التي ينبغي أن نفصل الحديث عنها وذلك ما اعترضناه ونكرره دائماً وهو باحثين سواء أكانوا في مرونة الحديث لم يعنوا بهذا الجانب العناية التي تنبغي أن تصدق بالنسبة إلى الإعجاز القرآني الكريم في هذه الجوانب المتسمة بالأهمية الكبيرة لأن ذلك في الواقع يتصل بالدلالة التي يصوغها النص القرآني الكريم وفق عمارة خاصة والأخذ بنظر الاعتبار طبيعة التركيب العقلي النفسي للكائن الآدمي الذي قد لا يعي شعورياً عندما يقرأ هذه السورة القرآنية الكريمة لا يعي شعورياً أن ما يقرأه سوف يحفظ في عصبه نمطاً خاصاً من الاستجابة التي تتوافق وما يستهدفه النص القرآني الكريم من عرض الحقائق بهذا الشكل أو ذاك حتى تصبح هذه الحقائق حجة على المتلقي بغض النظر عن الزمان والمكان وسائر الأنماط الثقافية التي تظل هذا المتلقي أو ذاك ولهذا نكتفي الحديث عن القصة القرآنية الكريمة في جانبها البنائي والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.