المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 14.doc

الاعجاز القرآني

التمهيد

انتهينا في محاضراتنا السابقة عن جملة من الموضوعات المرتبطة بعلوم القرآن وتاريخه حيث كان الحديث عن الوحي وطرائقه وكيفيته وكان الحديث عن القرآن الكريم من حيث جمعه ومن حيث قراءته ثم من حيث مكيه ومدنيه ومن حيث محكمه ومتشابهه ومن حيث ناسخه ومنسوخه إلى آخر ذلك.

حيث كان الحديث عن هذه الموضوعات هي من أهم المحاور التي دون عليها القرآن الكريم من حيث علومه وتاريخه أما الآن فنتقدم لقسم آخر من الأمور المرتبطة بالقرآن الكريم وهذا الموضوع يحمل عنواناً هو الإعجاز القرآني الكريم وعندما ننتهي من الحديث عن الإعجاز القرآني الكريم عندئذ نحدثكم عن نمط التعامل مع القرآن الكريم من حيث تلاوته من جانب ومن حيث تفسيره من جانب آخر حيث أن الهدف أساساً من قراءة القرآن الكريم هو تدبر معانيه بنحو يفيد منه متلقي بشكل أو بآخر ولذلك فإن جميع الموضوعات التي تقدم الحديث عنها والموضوعات التي سنحدثكم عنها كل ذلك ستصب في إطار واحد وتشكل مقدمة لفهم القرآن الكريم ولذلك ولحديثنا فيه إن شاء الله تعالى عن القرآن الكريم من حيث تفسيره يظل هو الحدث الأكثر أهمية من الموضوعات المتقدمة التي تشكل مقدمات أو تشكل تمهيداً أو تشكل وسائل للموضوع الرئيس ألا وهو فهم القرآن الكريم وتدبر دلالته على أية حال حتى نصل إلى ذلك الحين نبدأ الحديث كما قلنا عن الموضوع الثاني من الموضوعات القرآنية الكريمة ألا وهو موضوع الإعجاز القرآني الكريم إن موضوع الإعجاز القرآني الكريم طرح بجملة محاور وهي:

المحاور الثلاثة المعروفة بالنسبة إلى العلوم ونعني بها المحور الطبيعي أو العلوم الطبيعية ومحور العلوم البحتة ومحور العلوم الإنسانية بيد أن التركيز سيظل دون أدنى شك على المحور الثالث وهو المحور الإنساني ومن ثم أن المحور الإنساني بدوره يظل الحديث عنه بالنسبة إلى المحور الأدبي أو البلاغي بالدرجة الأولى مما لاشك فيه أن كل محور من محاور القرآن الكريم يتطلب تخصصاً معرفياً في هذا الجانب أو ذاك لذلك لا يمكننا أن نتحدث عن هذه الجوانب إلا إذا أتيح لكل متخصص أن يتطلع بالحديث عن تخصصه فحسب إما أن يتناول باحث واحد كل هذه الأنماط من المعرفة فأمر لا يمكن أن يتاح لأحد مهما أوتي من العلم.

المهم سندع الحديث عن الجانب العلمي المتمثل في كل من العلوم الطبيعية و العلوم البحتة ونتحدث كما قلنا عن العلوم الإنسانية بيد أن العلوم الإنسانية أيضاً كما أشرنا يظل حديثنا متمركزاً حول الجانب الأدبي أو البلاغي فحسب ولعلكم تتساءلون عن السر الكامن وراء هذا الانتخاب في الحديث عن الإعجاز القرآني الكريم مع أن القرآن الكريم يتمثل إعجازه في كل المحاور الثلاثة التي أشرتا إليها إن السر لواضح حينما نضع في الاعتبار أن القرآن الكريم يتميز إعجازه بالنسبة إلى البيئة الاجتماعية التي نزل القرآن الكريم خلالها أو البيئة الاجتماعية التي نزلت الرسالة الإسلامية من خلالها نقول إن الإعجاز القرآني الكريم في الواقع نزل من خلال نمط البيئة الاجتماعية التي كانت آنئذ تتمثل في البعد المعرفي الخاص بالأدب وبلاغته لذلك ورد عن المعصومين (عليه السلام) بالنسبة إلى الإعجاز القرآني الكريم حيث صرحوا بأن البيئة الجاهلية التي نزل القرآن الكريم خلالها كانت تعنى بجانب الأدبي كل العناية سواء أكان ذلك في مجال الشعر أو فنونه أو في مجال النثر وفنونه لذلك فإن المعصومين (عليه السلام) أشاروا إلى أن رسالة موسى (عليه السلام) كانت في بيئة اجتماعية تعنى بالسحر ونحو ذلك.

ولذلك جاءت  آية العصا كنموذج للتوافق والبيئة المذكورة لتبطل سحر المشار إليها والأمر كذلك بالنسبة إلى بيئة عيسى (عليه السلام) حيث كان الطب هو المسيطر على البيئة المشار إليها ولذلك كانت معجزة عيسى تتمثل في إبراءه الأكمه والأبرص وإحياءه الموتى بإذن الله سبحانه وتعالى..الخ.

وأما رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فتتمثل كما قال المعصومين (عليه السلام) تتمثل في البيئة الفنية أو الأدبية أو البلاغية التي عرف المجتمع الجاهلي بها حينئذٍ ولذلك نزل القرآن الكريم وفق أسلوب أدبي خاص جعل البيئة المشار إليها ستجلب استجابة المندهش إلى الأسلوب البلاغي أو الأدبي أو الفني المتمثل في نصوص القرآن الكريم.

وهنا نحسب أن كل واحد منكم سوف يتساءل قائلاً ما هي الخصائص الفنية أو البلاغية أو الأدبية التي تميز بها القرآن الكريم ويتشكل بذلك ظاهرة إعجازية هذا ما نحاول بإذن الله سبحانه وتعالى أن نحدثكم عنه بشكل أو بآخر تفصيلاً أو اختزالاً بحسب ما يمليه الموقف قبل أن نحدثكم عن ذلك نود أن نلفت انتباهكم إلى نقطة مهمة جداً تتصل بالإعجاز الفني أو البلاغي أو الأدبي للقرآن الكريم ألا وهو أن  هذا الفن أو الأدبي أو النص البليغ يتميز بطابعين مهمين جداً هما الطابع المحلي والطابع العالمي أو لنقل الطابع الخاص أو الطابع العام ونقصد بالطابع المحلي أو الخاص هو ما يتوافق والذوق الأدبي الذي تحياه البيئة التي جاء القرآن الكريم من خلالها وأما المقصود بالإعجاز العام فهذا ما يتناول الأجيال الأدبية جميعاً أي ثمة خصائص فنية أو بلاغية أو أدبية تعبر لتخوض الزمن الذي ولدت في نطاقه لتتسع وتشمل كل الأجيال من حيث الخصائص الفنية المشتركة بين هذا الجيل أو ذاك أو من حيث الخصائص التي يستطيع كل جيل أن يكتشف من خلالها بعداً واقعياً يتصل بالنص الأدبي وبلاغته من هنا نجد أن القدماء من البلاغيين مثلاً عندما تحدثوا عن القرآن الكريم من حيث إعجازه كان تناولهم لهذا الجانب يتمثل بالتقسيم المعروف بالعنصر البلاغي ألا وهو التقسيم الثلاثي القائل بأن الأدب والبلاغة تنقسم إلى ثلاثة محاور المحور الأول يرتبط بالمعاني والمحور الثاني يرتبط بالبيان والمحور الثالث يرتبط بالبديع.

والمقصود بالمعاني هو الأسلوب التركيبي الذي تأخذه النصوص القرآنية الكريمة من حيث تأليف المفردة والمركبة وطريقة صياغتها.. الخ. وأما المقصود بالمحور البياني فيستهدف منه الحديث عن الصورة الفنية المتمثلة بالتشبيه والاستعارة والكناية وما إلى ذلك.

وأما المحور الثالث فهو ملحقات بديعية وبالأحرى كما يعبر عنها باللغة القديمة هي مجرد محسنات لفظية ومعنوية في محوري المعاني والبيان ولكننا إذا تجاوزنا هذا الجانب وهو جانب محلي أو خاص أي أن البلغاء القدامى استطاعوا أن يشيروا إلى الظواهر الإعجازية للقرآن الكريم من خلال المحاور الثلاثة التي تمت بالإشارة إليها ولكننا سوف لم نتناول الظاهرة الإعجازية من خلال هذه المحاور فحسب وإنما نتناولها من خلال ما تفرزه مرحلتنا المعاصرة من مبادئ بلاغية وفنية متنوعة بلغت مرحلة من التطور خلال القرون المتمادية التي مرت علينا ولذلك عندما نتحدث عن هذا الجانب فإن حديثنا سوف يتناول الظاهرة الإعجازية من خلال المبادئ الجديدة التي تتمثل في جملة من العناصر قسمناها في كتبنا البلاغية التي ألفناها لأجل الحديث عن الأدب الشرعي وإعجازه وكماله الفني.

المهم إن التقسيم الذي أوردناه في هذا الميدان هو تقسيم ثماني وليس تقسيماً ثلاثياً التقسيم الثماني هو أولاً العنصر الفكري ثانياً العنصر الموضوعي ثالثاً العنصر الدلالي رابعاً العنصر الصوري خامساً العنصر اللفظي سادساً العنصر الإيقاعي سابعاً العنصر الشكلي ثامناً العنصر البنائي. وهذه العناصر الثانية أربعة منها تتمثل بالبعد الداخلي للنص والأربعة الأخرى تتمثل في البعد الخارجي للنص أي أن كلاً من العنصر الفكري والموضوعي والدلالي والصوري يتناول البعد الداخلي للنص وأما العنصر اللفظي والإيقاعي والشكلي والغنائي فيتناول البعد الخارجي للنص طبيعياً لا نريد أن نتحدث عن هذه العناصر جميعاً لأنها تتطلب كتاباً مستقلاً وهو أمر توفرنا عليه ولله الحمد حيث درسنا أدب القرآن الكريم من زواياه المشار إليها في كتب مستقلة خاصة وهي أننا عندما نتحدث عن الإعجاز نود أن نشير إلى أننا سوف نكتفي أو سوف نلفت نظركم إلى جانب من جوانب الإعجاز بصفة أن الإعجاز يتناول جانبين من التعامل:

التعامل الأول يقصد به الإعجاز الفني الذي ينفرد به القرآن الكريم من حيث توفره على صياغة خاصة لم يتح للآخرين أن يتوفروا عليها.

وأما الجانب الثاني من الإعجاز فيتمثل في مطلق المبادئ الأدبية أو البلاغي أو الفنية التي توفر القرآن الكريم عليها حيث يألفها المتلقون في ذلك الزمن وفي زماننا الحاضر أيضاً ولكن بالنسبة للنمط الأول من الإعجاز هو ما ينبغي أن نؤكد عليه ونعني به الزمن الذي لم يؤلف ولم يخطر في بال المجتمع الثقافي آنذاك ولسوف نضرب لكم مثالاً واضحاً في هذا الميدان ألا وهو المادة القصصية الموجودة في القرآن الكريم فمن المعروف جداً أن فن القصة سواء أكانت القصة أقصوصة أو قصة قصيرة أو رواية أو كانت مسرحية فإن الفن لم يألفه العرب حينئذٍ إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث تلقته العرب من المناخ الأوروبي وحتى بالنسبة إلى أوروبا ذاتها فإن تاريخها المألوف لم يألف القصة بكل مستوياتها بقدر ما ألف المسرحية الإغريقية وألف بعض الروايات التاريخية إلا أن الفن القصصي بشكل عام اكتسب مهارته منذ القرن التاسع عشر والقرن العشرين ولا يزال يخضع للتطورات حتى لحظاتنا المعاصرة المهم بالنسبة إلى الفن القصصي نقول هذا الفن لم يؤلف عربي في الأجيال الماضية بقدر ما كانت تصدر عنا وهناك بعض النصوص التي تنتسب إلى مصطلح القصة تجاوزاً كقصة كليلة ودمنة وقصة ألف ليلة وليلة إلى قصص أخرى تجري على ألسنة الحيوانات وما إلى ذلك بيد أن هذه القصص أو الحيوانات لم تخضع للبعد الفني الذي تخضع له القصة الفنية المعاصرة بقدر ما كانت إما شرحاً عابرا أو كانت تتضمن حواراً بسيطاً أيضاً وكل ذلك كما قلنا لا يشكل أمراً مألوفاً إلا بشكل نادر لم يأبه له في تلكم الأجيال.

ولعل أوضح دليل على ذلك هو ما نطالعه في كتب البلاغة الموروثة سواء أكانت هذه البلاغة الموروثة في بداياتها الأولى المتمثلة في جملة من المبادئ التي رسمها بعض الكتاب في القرن الأول أو في أواسط هذا القرن أو ما ظهر في القرن الثاني ثم ازدهر بخاصة في القرن الثالث والرابع حتى انتهى في القرن الخامس في أوج تطوره أي التطور البلاغي وظل مستمراً طوال ما يسمى بالقرون المظلمة أو ما نسميها بالقرون الوسطى حتى القرن العشرين حيث ظهرت البلاغة الحديثة مع القرن العشرين متأثرة بالتيار الأوروبي الوافد من الخارج.

المهم أن أكبر دليل على أن العرب آنئذٍ لم يألفوا فن القصة إطلاقاً أكبر دليل على ذلك كتبهم البلاغية المتنوعة التي تتناول ما أشرنا إليه سابقاً أي المعاني والبيان والبديع حيث نجد أن البديع وصل إلى أكثر من مئة وخمسين نمطاً أي الأساليب والمحسنات الفنية لفظياً ومعنوياً ولكنكم حينما تدققون النظر في هذه البلاغة بمبادئه البالغة في العشرات لا تجدون حدثاً واحداً يتحدث عن فن القصة كانت القصة مألوفة حينئذٍ لمكان الأدباء العرب أو البلاغيون القدامى يشيرون إلى هذا الجانب ويرسمون لها القواعد كما رسموا قواعد المعاني من تقديم وتأخير وحذف وذكر وإجمال وتفصيل إلى آخره كما تحدثوا عن مبادئ التمثيل وأنماطه والاستعارة وأنماطها.. الخ. أو كما تحدثوا كما قلنا عن عشرات المحسنات أو تحدثوا عن عشرات المبادئ البديعية للنص الأدبي نقول لم يكتب هؤلاء البلاغيون حرفاً واحداً عن القصة لأن القصة آنئذٍ لم تعرف البتة كما أشرنا قبل قليل وحينئذٍ إذ نقول أن القصة لم تؤلف حينئذٍ وهو أمر يجعل البلاغيين القدامى لم يتعرضوا لهذا الفن نقول إلا أن ثمة سؤال مهم جداً ألا وهو أن البلاغيين القدامى وقفوا دون أدنى شك على القرآن الكريم ظهر لهم بما هو واضح للجميع أن النص القرآني الكريم قد تضمن عنصراً قصصياً احتل مسافة عظمى من مساحة النص القرآني الكريم. فهناك ليس قصة واحدة بل أكثر بل هناك عشرات القصص كما هو معروف وهذه القصص تتناثر في كثير من السور القرآنية الكريمة ومن جملتها مثلاً في سورة البقرة وولادته وفي قصة البقرة ونجد قصة طالوت ونجد قصة إبراهيم ونجد قصة المار على القرية والى آخره. كذلك نجد في سورة آل عمران قصص العمران المتنوعة.

وهكذا في كثير من النصوص القرآنية الكريمة حيث ترد قصص الأنبياء وسواهم في تلكم السور سواء أكانت سوراً طوالاً أو متوسطة أو سوراً قصارى حتى أن بعض السور استقلت بسورة يوسف (عليه السلام) وكسورة نوح (عليه السلام) وقصة أصحاب الفيل.. الخ. نقول بما أن القرآن الكريم تضمن سوراً قصصياً هائلة ومع ذلك فإن البلاغيين القدامى لم يتوفروا على دراسة البلاغة القصصية بقدر ما توفروا على دراسة البلاغة بشكلها التقليدي الذي نعرفه جميعاً.

من هنا فإن القارئ الحديث يستطيع أن يستخلص ببساطة أن ظاهرة الإعجاز القرآني تتمثل في جملة ما تتمثل به في محور العنصر القصصي للقرآن الكريم فما دامت القصة غير مألوفة في تلكم العصور حينئذٍ حينما يتوفر القرآن الكريم بصياغة القصص بالنحو الذي ستقفون عنده إن شاء الله تعالى حينئذٍ ستعرفون أن هذا النص القرآني القديم يتضمن شكلاً أدبياً غير مألوفاً آنئذٍ فمن المعروف في العصر الجاهلي مثلاً أن الأشكال ألادبية كانت حينئذٍ كانت هي الشعر ومن جملته الأراجيز ومن جملة ما كان مألوفاً المثل ومن جملة ما كان مألوفاً المحاضرات القصيرة إلى آخره بعد أن مجرد وجود الشكل القصصي قد لا يشكل إعجازاً بقدر ما ينبغي أن ننظر إلى إلاعجاز من حيث الصياغة القصصية فلو لاحظتم أو لو قدر لأحدكم أن  يقرأ القصص التي نطلق عليها مصطلح القصة مجازاً لو قدر لأحدكم كليلة ودمنة أو لألف ليلة وليلة وسواها سوف يعرف أن هذا الفن القصصي سوف حينئذٍ يختلف تماماً كل الاختلاف عن الفن القصصي المعاصر وحينئذٍ لو أتيح لأحدكم أن يتوفر على دراسة عنصر القصصي في القرآن الكريم حينئذٍ سيجد أن هذا العنصر القصصي قد توفر على صياغة المبادئ.

يستطيع الناقد الأدبي المعاصر أن يستخلص تلكم المبادئ بالشكل الذي استطعنا ولله الحمد أن نلم بجانب من هذا الجانب حيث ألفنا كتاب بعنوان دراسات فنية في قصص القرآن تناولنا من خلال ذلك بيئة القصص الموجودة في القرآن الكريم بدءاً من السورة الكريمة سورة البقرة التي تضمنت عدة قصص أو أقاصيص وانتهاءً إلى آخر قصة بالنسبة إلى نسق القرآن الكريم وهي قصة أصحاب الفيل نقول وقد تناولنا ذلك كله وأخضعناه للدراسة الفنية المعاصرة أي درسنا قصص القرآن الكريم في ضوء مبادئ القصة الفنية الحديثة التي تعالج من خلاها أية قصة ورواية أو مسرحية معاصرة حينئذ.

يشكل هذا النمط من الصياغة القصصية وفقاً للمبادئ التي اكتشفت أخيراً حيث قلنا أن هذه المبادئ حتى أوروبياً لم تعرف بشكلها المتطور إلا في القرن التاسع العشر والقرن العشرين ولا تزال الأجيال الأدبية تألف نموذجاً قصصياً جديداً لحد لحظاتنا المعاصرة نقول كل ذلك يشكل دون أدنى شك واحداً من وجوه الإعجاز القرآني الكريم لتوفره على صياغة القصة المبادئ الفنية الحديثة.

طبيعياً أن نضع  في الاعتبار أيضاً أن المبادئ البلاغية لا يعني أنها تمتلك تصوراً كاملاً للفن وصياغته بقدر ما ينبغي أن يأخذ ذلك وفق نسبية معينة في هذا المجال وإلا لو كانت المبادئ الأدبية تتسم بالكمال لما تطورت خلال الأجيال المتقدمة ومجرد كون أن كل جيل يكتشف بعداً جديداً من المعرفة الأدبية أو المبادئ البلاغية تظل متسمة بالتصور بدليل أنها تخضع جيلاً بعد جيل لاكتشاف أو تخضع لتطور جديد.

وهكذا وإذا كان الأمر كذلك حينئذٍ فإن هذا لا يعني حين نقول أن القصة القرآنية عندما تعالج في ضوء المبادئ القصصية الحديثة فإن المبادئ القصصية الحديث مثلاً بل نريد أن نقول في نطاق هذه المبادئ ثمة قصصا قرآنية كريمة تتوافق مع المبادئ لأن القصص القرآنية كسائر النصوص القرآنية الأخرى إنما وجدت لتخاطب المجتمعات بلغاتها لذلك فقد استطاع العصر الإسلامي في قرونه الأولى استطاع أن يكتشف مبادئ بلاغية تتوافق وما لديه من مبادئ بلاغية واستطاع الجيل الحديث أيضاً أن يكتشف كثيراً من المبادئ البلاغية التي تحدث عنها بعض الكتاب عن النصف الأول من القرن العشرين والتي تحدث عنها أيضاً كتاب جدد خلال هذا النصف الأخير من القرن العشرين.

ومعنى ذلك كما قلنا أن القرآن الكريم بما أنه يخاطب كل جيل بلغته حينئذٍ يتضمن بالضرورة مبادئ تتوافق والمبادئ التي يكتشفها هذا الجيل أو ذاك سواء كان هذه الجيل موروثاً كما لاحظنا في البلاغة الموروثة أو كان الجيل حديثاً كما نلاحظ ذلك في البلاغة الحديثة أيضاً وهذا كله يستاقنا إلى القول بأن البلاغة أو الإعجاز القرآني البلاغي يظل مفتوحاً ولا يتحدد فحسب وفق المبادئ التي نكتشفها حديثاً بقدر ما يعني أن ثمة مبادئ أخرى لعلها تكتشف في ضوء ما يتوقع اكتشافه في العصور الواضحة أيضاً يترتب على ذلك نقطة مهمة جداً وهي أنه فضلاً عما قلناه من أن البلاغة القرآنية الكريمة لا تعني دائماً أنها تخضع لمقتضيات كل جيل بقدر ما نود أن نقول ما دام كل جيل يتسم بالقصور وما دمنا نتوقع أن كل جيل سوف يضيف جديداً حينئذٍ نقول أن مبادئ القصة القرآنية الجديدة لا تعني دائما أنها ينبغي أن تتوافق وما لدينا من المبادئ القرآنية التي نألفها أن يألفها هذا الجيل أو ذاك بقدر ما نود أن نقول في الوقت الذي نجد فيه خصوصية هذا الجيل أو ذاك نجد أيضاً خصوصية أخرى لا تتوفر في أي نص أدبي غير القرآن الكريم.

ومن جملة ذلك النص الخاص بالجملة القرآنية حيث أننا سنوضح ذلك في محاضرتنا اللاحقة حيث أننا وقفنا على التقنيات القصصية في القصص القرآني الكريم قد لا تتوافق مع مبادئ القصة ولكن هل يعني ذلك أننا نخضع القرآن قصصه إلى القصة الأرضية كلا وألف كلا بل علينا أن نكتشف من خلال القصة القرآنية الكريمة مبادئ جديدة ونستطيع في ضوء هذه المبادئ القرآنية الجديدة أن نوصي الأدباء أو البلاغيين أو الكتاب بشكل عام نوصي في ضوء ذلك أن يتأسوا بالقرآن الكريم وأن يأخذوا من مبادئه المبادئ الجديدة أن يتوافق وما يرسمه الله سبحانه وتعالى لنا من أساليب في القصة القرآنية أو ما يفرزه لنا القرآن الكريم من أساليب تتوافق ومبادئ الإسلام وذلك لأننا نعرف جميعاً أن القصة الأرضية الحديثة والموروثة أيضاً تتضمن كثيراً من المبادئ السلبية وفي الوقت نفسه تتضمن كثيراً من المبادئ الفنية الإيجابية ولكن ما دامت تتضمن مبادئ سلبية لا تتوافق والتصور الإسلامي للسلوك حينئذٍ ينبغي أن نخضع نحن أعمالنا الأدبية إلى ما يرسمه القرآن الكريم في نطاق القصة الكريمة وفي نطاق الأساليب أو الأشكال أو العناصر الفنية الأخرى.

من هنا حاولنا في دراساتنا المتأخرة كدراستنا الموسومة الإسلام والأدب والإسلام والفن من ذلك حاولنا أن نرسم المبادئ الإسلامية في صياغة النص الفني حيث أن للإسلام التصور الخاص للسلوك ومن ثم ينبغي أن يخضع الأدب أو الفن أو البلاغة أيضاً ينبغي أن تخضع لهذا السلوك أو لهذا التصور الذي رسمه القرآن الكريم لنا فمثلاً نجد أن من جملة التصورات الأرضية للقصة أو المسرحية أو سواء ذلك نجد على سبيل المثال تحديداً للعنصر الصراع على كافة أشكاله الباطلة أو نجد تصويراً للضعف الإنساني من حيث استتباعه في السلوك المنحرف مثلاً أو من حيث تعامله مع أوهام وتخيلات لا تمس أرض الواقع بصلة.

كل ذلك يجعلنا نتعامل مع النصوص الأدبية أو الفنية  من خلالها بقدر ما نكتشف من الخاصة من خلال النصوص القرآنية الكريمة وحتى من نصوص المعصومين (عليه السلام) على أية حال وددنا في هذا التمهيد أن نشير إلى أن الإعجاز الفني في القرآن الكريم يتمثل في جملة عناصر العنصر القصصي بالشكل الذي اطلعنا إليه وكذلك يمكننا أن نشير الآن بشكل عابر ونفصل الحديث عنه في محاضرة لاحقة إن شاء الله نقول نستطيع أيضاً نستشهد بعنصر آخر من عناصر البلاغة القرآنية الكريمة التي تفرز لنا نمطاً إعجازيا للنص المشار إليه ونعني به العنصر البنائي وهو العنصر الثامن من العناصر التي سردناها عليكم قبل قليل ونقصد به العنصر البنائي إن العنصر البنائي في النص القرآني لعله يشكل أهم عنصر فني بالنسبة إلى ما نلاحظه من الإعجاز المتنوعة وإذا كان الكتاب القدامى لم ينتبهوا الى فن القصة بالشكل الذي قلناه فإنهم لكذلك لم ينتبهوا أيضاً الى فن النص الأدبي من حيث صياغته المعمارية أو الهندسية أو البنائية بمعنى أن البلاغة القديمة أيضاً وهي تتناول الكثير من نماذجها نصوص القرآن الكريم لتشير إلى إعجازه إلا أنها لا تتحدث عن الجانب البنائي للقرآن الكريم إلا من خلال إشارة خجلة تتعلق بحسن الاستهلال وحسن التخلص وحسن الختام وما عدا ذلك فإن الحديث عن العنصر البنائي للسورة القرآنية الكريمة يظل مفقوداً في الدراسات البلاغية القديمة.

إن المقصود من العنصر البنائي في القرآن الكريم هو ما نلاحظه في السورة القرآنية الكريمة سواء أكانت هذه السورة قصيرة لا تتجاوز الثلاث آيات أو كانت طويلة كسورة البقرة التي تقارب الثلاثمائة آية نقول سواء أكانت السورة بهذا القصر أو بذاك الطول أو كانت متوسطة المدى حينئذ فإن كل سورة كريمة تخضع لبناء هندسي خاص لا يمكن أن يتوفر على صياغته أو بالأحرى لا يمكن أيضاً أن يهتدي إلى صياغته البلاغيون القدامى ما لم يهتدوا إلى فن القصة أيضاً فقد قلنا أن البلاغيين القدامى كانوا لم يتحدثوا عن كتبهم البلاغية عن مبادئ البناء الفني للنص أياً كان النص سواء أكان قصة قرآنية أو كان سورة قرآنية أو كان نصاً أو أدباً كالشعر أو الخطبة أو الخاطرة أو المثل.. الخ. نقول لم يتناولوا الجانب البنائي إلا بشكل عابر وهو الإشارة إلى حسن الاستهلال وحسن التخلص وحسن الختام وكل ذلك لا نجد البلاغة موروثة إشارة إلى البناء الفني الذي يتضمن عشرات المبادئ التي ينبغي أن يشاغل النص الأدبي من خلالها.

لذلك نجد أن البلاغة الموروثة حينما تتحدث عنها في مستوياتها الثلاثة أي مستوى المعاني ومستوى البيان ومستوى البديع لا تتحدث إلا عن عنصر جزئي فحسب لا يتجاوز نطاق ما يطلق عليه مصطلح مسند والمسند إليه وقيودهما لذلك نجد أن هذه البلاغة الموروثة عندما تتحدث عن التقديم والتأثير أو الحذف أو الذكر أو الإجمال أو التفصيل أو الخ في نطاق المعاني وكذلك عندما تتحدث عن التشبيه والاستعارة والكناية في نطاق البيان وكذلك عندما تتحدث عن عشرات المحسنات البديعية لا نتجاوز في ذلك نطاق الجملة الواحدة التي تتألف من مسند ومسند إليه وقيد يضاف إليهما ولم نجد في تلكم المبادئ ما يتناول من خلالها النص الكامل كالقصيدة كاملة أو الخطبة كاملة أو السورة القرآنية كاملة ولذلك نجد أن القدماء كانوا يجهلون تماما كثيراً من المبادئ الفنية التي تسم النص من حيث بنائه ومن جملة ذلك على سبيل المثال ما أشرنا إليه قبل قليل بالنسبة إلى القصة القرآنية الكريمة فمثلاً أن سورة يوسف (عليه السلام) تجسد قصة قرآنية كريمة ولكننا هل نستطيع أن نكتشف جميع المبادئ الفنية التي وسمت هذه القصة من خلال التناول الجزئي للنص القصصي كلا إن الإشارة إلى تقديم جملة أو تأخيرها أو الإشارة إلى إجمال بعد تفصيل أو الإشارة إلى حذف شيء هذه الإشارات الخجلة لا توضح لنا فنية القصة القرآنية الكريمة ونعني بها قصة يوسف (عليه السلام) فإن هذه القصة المثيرة من حيث أسلوبها من حيث صياغة أبطالها ومن حيث الحوارات الداخلية والخارجية فيها كل هذه المبادئ لم ينتبه عليها البلاغيون لسبب واحد بسيط هو أنهم كانوا يتناولون الجملة فحسب والجملة الواحدة منفضة عنه الجمل الأخرى لا تبين الخصائص الفنية بقدر ما تبين الخصائص الفنية الخاصة بتلك الجملة فحسب وهذا نص كبير من أدنى شك.

هنا فإن الباحث أو الناقد أو الكاتب الذي يتناول قصة يوسف نم حيث بنائها الفني أي أن هذه السورة كيف بدأت وكيف انتهت وما هو الوسط خلالها وكيف تآلفت العناصر المختلفة في صياغة هذه القصة كل أولئك يشكل العنصر البلاغي الذي أشرنا إليه كذلك حتى في سورة البقرة التي تنتظمها عشرات الموضوعات كما هو واضح نجد أن هذه الموضوعات تتناغم فيما بينها من جانب وتربطها خيط فكري من جانب ثان ونزيد أن كل موضوع إما يتسبب عن سابقة وإما أن يسبب في لاحقه وإما أن يتناول ظواهر معينة ولكنها تتشابك فيما بينها تماماً كشبكة الأسلاك الكهربائية التي يرتبط كل سلك فيها بسلك آخر دون أن يتحسس الناظر أو دون أن يتحسس المتلقي الأسرار الكامنة وراء ذلك التشابك هذا بالإضافة إلى تشابك العناصر المختلفة بالنص القرآني القديم كالعنصر الإيقاعي مثلاً وتجانس هذا العنصر مع العنصر الصوري من تشبيه أو استعارة وتجانس هذه العناصر مع الدلالة التي يطرحها القصة كل ذلك نجده من خلال الإشارة إلى البناء الفني الذي تتواشج وتتلاحم من خلاله هذه العناصر المتنوعة لتشكل في النهاية نصاً بلاغياً معجزاً قد لا ينتبه المتلقي على أسراره بقدر ما يحس بالانبهار والدهشة من خلال تذوقه بالنص المشار إليه إلا انه توفر على تحليل هذه العناصر حينئذٍ سوف يكتشف كيف أن ثمة أسراراً متنوعة يرتبط بها هذا النص من حيث الصياغة النهائية التي اتسم بها النص القرآني الكريم متمثلاً بالسورة القرآنية الكريمة على أية حال سنحدثكم إن شاء الله سبحانه وتعالى عن هذه الجوانب الإعجازية للنص القرآني الكريم وهذا ما نعدكم به إن شاء الله في محاضرات لاحقة وإلى ذلك الحين نستودعكم الله سبحانه وتعالى ونتمنى لكم مزيداً من التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.