المادة: علوم القرآن
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 10.doc

إن الذي فرض عليك القرآن لرادك الى معاد.. الخ. حيث نزلت هذه الآية الكريمة في طريق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة أي نزلت ما بين المدينتين ومع ذلك فإن الاتجاه الأول من الباحثين يذهب إلى أن هذا النص نص مكي لأنه نزل قبل وصول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة وهكذا بالنسبة إلى ما نزل بعد هجرته (صلى الله عليه وآله وسلم)  حيث أن بعض النصوص القرآنية الكريمة نزلت في مكة من بعد عام الفتح وبعضها نزل في أماكن أخرى كالحديبية والجحفة ونحو ذلك ما هو واضح.

وهذا هو الاتجاه أو الرأي الأول الذاهب إلى أن النص القرآني الكريم إذا نزل قبل هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة فهو مكي سواء أنزل في نفس مكة أم نزل في أماكن أخرى والمدني هو الذي نزل خلاله النص القرآني الكريم بعد هجرته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة سواء كان النص نازلاً في المدينة ذاتها أم في الأماكن الأخرى كما قلنا.

أما لاتجاه الثاني فيذهب إلى تمييز ما هو مكي عما هو مدني هو العبارة المعروف والمأثورة والتي يرددها الباحثون العبارة القائلة بأن أي نص قرآني كريم وردت فيه عبارة يا أيها الناس فهي نصوص مكية وأي نص وردت فيه عبارة يا أيها الذين آمنوا فهي نص مدني غير أن المعنيين بالبحث القرآني الكريم لم يوافقوا على هذا الاتجاه بل ذهب بعضهم إلى أن الاتجاه المذكور قد يتسم بالصواب في حالة ما إذا ذهبنا إلى أن أكثر النصوص القرآنية الكريمة النازلة بعبارة يا أيها الناس هي نزول أو هي نصوص مكية والنصوص الواردة بعبارة نصوص مدنية من حيث الكثرة أو الغلبة وإلا فهناك نصوص متنوعة فيها مصطلح يا أيها الناس وقد نزل بالمدينة و مع وجود هذا النمط من الاستثناء حينئذٍ لا يمكن أن يكون إلى الاتجاه الثاني القائل بأن المكي هو مصطلح يا أيها الناس والمدني ما واكبه مصطلح يا أيها الذين آمنوا.

والاستدلال الذي يرتكن إليه هؤلاء الباحثون يعتمد من جانب على ما رواه ابن عباس في هذا الصدد ويعتمد من جانب آخر على تعليل دلالي هو أن الكثرة الغالبة في مكة آنئذ كانت نصرته والكثرة الغالبة في المدينة كانت آنئذ مؤمنة ولذلك فإن الخطاب للكثرة المشكوكة يتناسب مع مصطلح يا أيها الناس لأن الناس تعم البشرية جميعاً وكذلك المصطلح الذي يصطلح عليه يا أيها الذين آمنوا يتوافق مع الكثرة المؤمنة آنئذٍ.

هذا إلى أن وصف آخر يندرج تحت هذا الاتجاه يقدم تعليلاً آخر بالنسبة إلى التمييز المدني بخاصة أن يشير من الباعثين إلى أن النص القرآني الذي يتضمن أحكام فضائية فهو مدني بيد أن الباحثين أيضاً انتقدوا هذا الاتجاه واستشهدوا بنصوص متنوعة فيها أحكام فرعية وردت في سورة البقرة التي هي سورة مكية كما هو واضح.

وأما وجهة النظر الثالثة فهي وجهة النظر التي تذهب إلى أن تمييز ما هو مكي ومدني من النصوص القرآنية هو طبيعة نزول النص في إما في مكة وإما في المدينة بغض النظر عن تاريخ الهجرة وعدم ذلك أي كل ما نزل بمكة سواء بالهجرة أو بعدها فهو مكي وما نزل بالمدينة فهو مدني. وأما ما نزل في الحواضر أو الأماكن الأخرى فهو لا مكي ولا مدني ونحن الآن حينما نعرض هذه الاتجاهات إنا نعتزم عرضها ومناقشتها أيضاً هذا من جانب. ومن جانب آخر نود أن نلفت الانتباه على أن الموضوعات التي أراد الباحثون طرحها في علوم القرآن وتاريخه ليس من الضروري أن تتسم بالأهمية بل نجد أن كثيراً من الموضوعات المطروحة لا تترتب عليها ثمرة يعتد بها ومن جملة ذلك ما لاحظناه الآن من الاتجاهات الحريصة على أن توضح المدنية من المكي وتصلح جهلاً كبير في معرفة هذا الجانب مع ملاحظة أن هذا الحرص أو هذه الملاحظة على اكتساب معرفة ما هو مدني وما هو مكي هذا النمط من الحرص أو المبالغة في الموضوع لا نعتقد أنها تتسم بأهمية النبال إلا في نطاق محدود أو في نطاق محدد يمكننا أن نشير إليه ف بعض الخطوط على النحو الآتي:

أولاً: قبل أن نناقش هذه الظاهرة: ظاهرة اكتساب معرفة المدني والمكي أهمية ما نقول قبل أن نناقش هذه الظاهرة نود أن نلفت الانتباه أيضاً الى جملة ملاحظات وفي مقدمتها الاختلاف أو التفاوت في وجهات النظر المحددة لما هو مكي ومدني بعد غض النظر عن الروابط الثلاث التي ذكرت قبل قليل بل هناك تفاوت بالواقع بين نفس الآيات المكية أو المدينة المحددة أي ثمة آيات مدنية بموجب الضابط المحدد أيضاً ولكن الباحثين يختلفون في ذهابهم إلى كون هذه الآية أو لنقل إلى كون هذا النص هو نص مكي أو مدني حيث يتفاوت الباحثون في ذلك وهذا التفاوت أيضاً بدوره يأخذ وقتاً من الباحثين لا نعتقد بأهميته بهذا النحو الذي يتوفر الباحثون عليه المهم هذه نقطة نود أن نلفت الانتباه إليها.

أما النقطة الأخرى التي نود أن نلفت الانتباه اليها أيضاً هي نقطة ترتبط بوجهات نظر الباحثين الذين يبدون تساؤلات أو استغراب حول الموضوعات المرتبطة بهذا الشأن ومن ذلك مثلاً ما ذهب إليه بعض الباحثين من القول بأن معرفة المكي والمدني لا يمكن التوسع عليها إلا إذا ورد نص شرعي ذلك وإلا فإن المعايير المقدمة كلها قابلة للمناقشة في الواقع أن هذا الرأي أو هذه الوجهة من النظر الذاهبة إلى أن النقل وحده هو الذي يعين لنا ما هو مكي وما هو مدني من جانب هو الذي يناقش أيضاً الرابط التي ذكرها المتقدمون نقول من المؤسف جداً أن الباحثين قديماً وحديثاً لم ينتبهوا على نقطة مهمة جداً سوف نحدثكم عنها بطبيعة الحال كما وعدناكم سوف نحدثكم عندما يصل الموقف إلى التفسير والمفسرين حيث سنوضح أن ثمة نمط من التفسير أسميناه بالتفسير البنائي للقرآن الكريم أي التفسير الذي يتناول السورة القرآنية الكريمة من حيث بناءها العماري أو بنائها الهندسي وما يحكم هذا البناء من علاقات عضوية تجعل أجزاء النص مرتبطة بعضا بالآخر وفق سبيبة محكمة نحدثكم عنها في حينها إن شاء الله إلا أننا استهدفنا إلى الشارة إلى نقطة مهمة تتصل بالبناء الهندسي للسور القرآنية الكريمة فمثلاً إن الاتجاه الذاهب إلى أن النص الذي انتخب عبارة أو مصطلح يا أيها الذين أمنوا فهو مدني وإذا انتخب عبارة يا أيها الناس فهو مكي نقول إن التعليل الذي يقدمه هذا الاتجاه هو ما أشرنا إليه من أن الغالبية أو الكثرة أو الجميع بالنسبة إلى أهل مكة هؤلاء بما أن المشركين أو الطابع المشرك هو الذي يسم هذه المدينة حينئذ فإن ما يناسب مخاطبته هو عبارة يا أيها الناس أما المدينة فبما أن الطابع الإيماني هو الذي يسم هذه المدينة حينئذ فإن الذي يتناسق مع هذا ا الطابع هو عبارة يا أيها الذين آمنوا نقول أن هذا التفسير أو التعليل الخطأ المذكور وأيضاً الإجابة عن هذا التعليل والرد عليها حيث ذهب الرادون على ذلك أن قسماً من النصوص القرآنية الكريمة نزلت بعبارة يا أيها الناس وقد نزلت بالمدينة المنورة وهذا ما يتنافى مع ذهاب الاتجاه المشار إليه نقول أن هذا الاتجاه يستشهد مثلاً بالآية القرآنية الواردة في أوائل سورة الناس التي تقول يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون.. الخ.

نقول إن هذا الاتجاه يرد على الاتجاه السابق باستشهاده هذه الآية التي تصدرتها عبارة يا أيها الناس ليشير إلى خطأ مما ذهب الاتجاه الأول إليه إلا أن هذا الاتجاه الأخير أيضاً يظل صامتاً إزاء هذه الظاهرة ولا يمتلك جواباً لذلك سواء بهذه إلى أن النقل عن الشرع هو الذي يسوغ لنا معرفة ما هو مكي وما هو مدني ولكننا نجيب هذا النمط من الباحثين فنقول المفروض على أي باحث في النص القرآني الكريم خاصة عندما يتناول السورة القرآنية الكريمة عليه أن ينظر السياق الذي وردت فيه هذه الآية الكريمة أو تلك فالملاحظ لمن تأمل في سورة البقرة يجد أنها تتناول عشرات المقاطع وكل مقطع يتناول موضوعاً ما قد يتكرر وقد لا يتكرر ولكن تربط هذه الموضوعات بخيوط فكرية متشابكة ومنها هذا الخيط الفكري الذي نلاحظه الآن بالنسبة إلى عبارة يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون نقول أن هذه الآية الكريمة وردت في أول المقطع الثالث من سورة البقرة.

كان المقطع الأول من سورة البقرة يرسم ست سمات للشخصيات المؤمنة وبعد ذلك يتجه المقطع الثاني إلى رسم سمات للفئات الكافرة أو المنحرفة بنمطيها الكفار أو المشركين والمنافقين فهو بعد أن يتحدث أي المقطع الثاني من سورة البقرة عندما يتحدث عن سلوك كل من المشركين أو الكافرين والمنافقين يختم حديثه عن ذلك بهذه الآية الكريمة التي تتحدث عن المنافقين وهي يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير. لاحظوا أن هذه الآية الختامية للمقطع الثاني من سورة البقرة هذا المقطع كان خاصاً كما قلنا لسلوك المنحرفين الكفار والمنافقين وحينئذ عندما يتحدث النص عن سمات الكافرين والمنافقين فإن ما يناسب هذا الحديث هو يا أيها الناس أم هو يا أيها الذين آمنوا دون أدنى شك إن السياق يتطلب أن يخاطب المجتمع آنئذ بخطاب يا أيها الناس لأن طابع المشركين قد وسم لا أقل هذا المقطع الذي يتحدث عنهم بغض النظر عن كون هذا الحديث هو يسم السلوك الكافرين في مكة أو الكافرين في المدينة أو المنافقين في مكة أو المنافقين في المدينة أو في مطلق المجتمعات المهم الحديث يتناول سلوك المجتمع الكافر أو المنحرف حينئذ فإن مخاطبة ذاك المجتمع بـ (يا أيها الناس) هو الذي يتناسب مع هذا الموقف ولذلك بعد أن ينتهي المقطع هو الحديث عن رسول الكافرين والمنافقين يوضح المقطع الثالث بعبارة يا أيها الناس اعبدوا ربكم.. الخ. 

والدليل على ذلك يلاحظ في هذا المقطع الثالث الذي تصدر بعبارة يا أيها الناس يقول وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله.. الخ. فيقول إن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين. لاحظوا الحديث هنا ينصب جميعاً على الكافرين وعلى تشكيكهم بما نزل الله سبحانه وتعالى (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتحداهم بالإتيان بسورة قرآنية إلى آخره.

إذاً السياق هو الذي فرض هنا عبارة يا أيها الناس وليس كون السورة مدنية أو مكية كما ذهب الباحثون قدماء ومعاصرين إلى ذلك من هنا نكرر لفت نظر الطالب إلى أن نتناول علوم القرآن الكريم وتاريخه بوجهة نظر جديدة ينبغي أن تتسم بنوع من التأمل الدقيق وليس بنوع من التقليد الأعمى للقدماء وحتى للمعاصرين الذين تجاهلوا بناء السور القرآنية الكريمة تماماً وتحدثوا بإسهاب وتفصيلات متنوعة عن مختلف شؤون القرآن الكريم وعن مناهج المفسرين ولكنهم لم يقفوا أو بالأحرى لم يتح لهم قديماً أو حديثاً على التوكيد على هذا الجانب من التفسير البنائي إلا بشكل مكتسب يشير إليه أيضاً في حينه إن شاء الله على أية حال استهدفنا من هذا الحديث أن نلفت النظر إلى أن الباحثين في علوم القرآن الكريم بالنسبة إلى معرفة ما هو مكي وما هو مدني انهم طرحوا وجهات نظر متفاوتة إلا انهم لم يلتفتوا إلى هذا الجانب الذي وصلنا إليه وبذلك تحل مشكلة ما هو مدني وما هو مكي من خلال العبارة القائلة يا أيها الناس أو العبارة القائلة يا أيها الذين آمنوا.

على أية حال لا نريد أن نتابع هذا الجانب ونناقش مثل هذه الاتجاهات ما دمنا نستهدف من وراء ذلك إلى لفت النظر فحسب إلى ما ينبغي على المعني بالشأن القرآني الكريم أن ينتبه عليه بالنحو الذي حدثناكم عنه وخارجا عن ذلك نود أيضاً أن نلفت النظر إلى أننا عندما نقرر بأن المعرفة ما هو مكي عن ما هو مدني فهذا لا يعني من جانب آخر وجود سياقات خاصة يتوقف عليها فهم النص القرآني الكريم من خلال معرفة ما هو مكي أو مدني ولذلك مثلاً ما حدثناكم عنه في محاضرة سابقة عندما تحدثنا عن فضاء النزول وقلنا في حينه إنه من المؤسف جداً أن نرى باحثين قدماء ومعاصرين ممن انحرفوا عن خط أهل البيت (عليه السلام) تورطوا أي طرح موضوعات متناقضة عن الأعماق الملتوية والمتوترة والعدوانية من حيث تعاملها مع خط أهل البيت (عليه السلام) مع أنه الخط الذي أوصى به الله وأوصى به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ذلك كما قلنا ما حدثناكم عنه في المحاضرة السابقة حيث حاول هؤلاء الحاقدون على خط أهل البيت (عليه السلام) أن ينالوا من شخصية الإمام علي (عليه السلام) ومن شخصية أبي طالب (عليه السلام) وحيث حاول بعضهم من القدماء ومن المعاصرين أيضاً حاول أن يربط بين الآية الكريمة التي تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن لا يستغفر للمشركين يربط بين هذه الآية وبين قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له لاستغفرن لك إلى آخر هذه الأسطورة التي اختلقها أعداء آل البيت (عليه السلام).

ولحسن الحظ كما قلنا فإن معرفة النص المكي من المدني في أمثلة هذه المواقف يظل مشروعاً بأهمية كبيرة حيث أن الباحثين المنصفين فضحوا هؤلاء الذاهبين إلى المقولة المذكورة قائلين له أن أبا طالب توفي في مكة وان هذه الآية التي استشهدتم فيها نزلت بالمدينة فكيف يتم مثل هذا الربط وبهذا تمت الفضيحة لأمثلة أولئك الباحثين الحاقدين وهذا ما يدعنا نكرر الإشارة أن معرفة ما هو مكي وما هو مدني في سياقات خاصة يظل مشروعاً بفائدة عظمى دون أدنى شك.

وهذا كله فيما يرتبط بالملاحظة الأولى التي أبديناها خلال الاتجاه الذاهب إلى أن النص المدني والنص المكي يخضعان لمعايير محددة والاتجاه الذي يرد على هذا الذهاب وهناك أيضاً ملاحظات أخرى وفي مقدمتها الاتجاه الذاهب أو الذي يستنكر مثلاً أن تكون لبعض السور المكية ذات طابع مدني وبعض السور المدنية ذات طابع مكي أي يقول هؤلاء الرهط من الباحثين لا يمكننا أن نقتنع بإمكان وجود سورة مكية تتضمن آيات مدنية أو سورة مدنية تتضمن آيات مكية. ويعلل هذا الرهط من الباحثين يعلل ذلك بأن السنوات الفاصلة بين مكة وبين المدينة كما لو مثلاً لوحظت الفاصلة بين أوائل مكة وبين أواخر المدينة فإن ذلك يمتد حوالي عقدين من الزمن حينئذٍ لا مسوغ إلى أن تجيء آية مدنية مثلاً لتكون ضمن سورة مكية أو آية مكية ضمن سورة مدنية.

نقول هذا الرد أيضاً يتسم بعدم العمق في معالجة الموقف تماماً كما لاحظنا الموقف السابق وما يمكننا الآن أن نلحظه في الموقف الآتي أيضاً من حيث التعليل الباحث الذي يقدمه هذا الرهط من الباحثين والذي نود أن نقوله هنا إن أية آية قرآنية كريمة ما دامت ترتبط من خلال السورة الكريمة بسياقات خاصة وبشبكة من الخيوط المتواصلة فيما بعضها من البعض الآخر إذا كان الأمر كذلك حينئذ أليس من حقنا أن نقول إذاً ما معنى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا أمر مجمع عليه كان يقول لكتبة الوحي ضعوا هذه الآية الفلانية في السورة الفلانية نقول ألا يعني هذا أن هناك بين آيات القرآن الكريم أو بين أجزاء السورة الواحدة ألا يكون بين أجزاء هذه السورة انتظام خاص أو وحدة عضوية تربط بين الآيات وإذا كان الأمر كذلك حينئذٍ فما المانع أن تكون آية ترد في سياق معين وبعد عشر سنوات ترد آية أخرى تتناول موضوعاً متماثلا أو مرتبطا عضوياً بالموضوع الأول وحينئذٍ توضع هذه الآية التي نزلت في سورة مكية توضع في نفس السورة المكية التي طرحت هذا الموضوع أو ذاك أي الموضوع المتجانس والمرتبط عضوياً بهذه الآية الجديدة التي وضعت في سورة مكية وكانت قد نزلت بالمدينة إن الإجابة على هذا الشكال الواهي تتضح تماماً إذا ارتكنا أيضاً إلى ما قلناه من أن السورة القرآنية الكريمة هي عمارة أو بناء هندسي محكم متقن ترتبط آياته ومقاطعه وموضوعاته وعناصره أيضاً كل ذلك يرتبط بعضها مع الآخر وفق بناء محكم فمثلاً قد ورد أن سورة الواقعة هي سورة مكية إلا أن البعض استثنى منها هذه الآية الكريمة ثلة من الأولين وثلة من الآخرين الآن لنلاحظ سورة الواقعة وهي سورة فيها من الإحكام البناء ما يدهش حقاً حيث نعرف جميعاً أن هذه السورة بدأت بالحديث عن وقوع الواقعة ثم قسمت الفئات في اليوم الآخر إلى ثلاث هي عبر الآية القرآنية الكريمة القائلة السابقون والسابقون والآية القرآنية القديمة القائلة أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين والآية القرآنية الكريمة القائلة وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال فهذه الطوائف الثلاث قد رسمها النص وفق بناء محكم كل الإحكام ومتقن كل الإتقان بحيث تتجانس المواقف والأحداث والعناصر أيضاً تتجانس فيما بينها بشكل مذهل لا تسمح محاضرتنا بالحديث عنه إلا أننا فصلنا الحديث عن ذلك في كتابنا دراسات في قصص القرآن الكريم وفي كتابنا التفسير البنائي للقرآن الكريم فصلنا الحديث عن ذلك  بشكل يلفت النظر من حيث الإعجاز الملاحظ في بناء هذه السورة الكريمة وسواه.

المهم نود أن نشير إلى مدى التجانس في هذه الآيات المكية التي تقول مثلاً عن السابقين والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين لاحظوا هاتين الآيتين الكريمتين ثلة من الأولين وقليل من الآخرين لاحظوا هاتين الآيتين من حيث التوازن أو التجانس بين كلمات كل منهما فكل من هاتين الآيتين يتألف من ثلاث كلمات هذا واحد.

ثانياً لاحظوا في هذين الآيتين الكريمتين تقابلاً بينهما من حيث الأولين وما يقابلها من الآخرين والآن لنلتفت إلى الآية التي يقول عنها الباحثون أنها آيات مدنية وليست مكية لاحظوا هذه الآية الكريمة القائلة ثلة من الأولين وثلة من الآخرين إن هاتين الآيتين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين تتجانسان تماماً مع الآيتين السابقتين المتحدثتين عن السابقين لاحظوا هذا التجانس أولا من حيث حجم ومساحة الكلمات ذاتها أي كل جملة تتألف من ثلاث كلمات هذا واحد كما لاحظوا التقابل ثلة وثلة والتقابل الأولي الأخر ثم لاحظوا هذا النمط من التجانس وهو الأهم من ذلك جميعاً ونعني به السياق ذاته والسياق الذي تحدثت السورة فيه عن السابقين يرد بنفس السور الفنية التي وردت في الحديث عن أصحاب اليمين.

إذاً قوله تعالى ثلة من الأولين وقليل من الآخرين يتجانس تماماً مع قوله ثلة من الأولين وثلة من الآخرين أي أن الآيات المكية والآيات المدنية تتجانس فيما بينها تجانساً ملحوظاً كل الملاحظة إذاً ما المانع لأن نقول أن الآية القرآنية الكريمة التي نزلت عبر قوله تعالى ثلة من الأولين وثلة من الآخرين نزلت في المدينة ما المانع من نزلها في المدينة ثم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لكتبة الوحي اكتبوها في سورة الواقعة في الآية الفلانية في المكان الفلاني بعد الآية القائلة مثلاً لأصحاب اليمين حيث تلتها هذه الآية التي قيل أنها مدنية إذاً لا مانع من أن تتضمن السورة الواحدة آيات مدنية أو آيات مكية أو أن الغالب لهذه السورة هو الآيات المكية والغالب السورة الأخرى الآيات المدنية أو مجرد استثناء آية أو آيتين حيث أن البعد الزمني من جانب والهجرة من مكة إلى المدينة من جانب آخر هاتان المناسبتان لا تتعارضان البتة مع نزول آيات تتجانس مع السورة الفلانية التي كانت تتحدث عن هذا الموضوع أو ذاك تماماً كما لاحظنا بالنسبة إلى السورة المكية التي كانت تتحدث عن اليوم الآخر وعن التصنيف الجزائي للبشر حيث قسمهم الله سبحانه وتعالى إلى ثلاثة أقسام هم السابقون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال على أية حال نصل في هذه النقطة التي حدثناكم عنها إلى نتيجة نرجو أن ينتبه الطلاب الأعزاء اليها ألا وهي ضرورة أن لا نهمل التفسير القرآني الكريم من حيث البناء الفني للسور القرآنية الكريمة حيث أن البناء أو بالأحرى حيث أن الحديث عن البناء الفني للصورة الكريمة وما يواكب هذا البناء من ظواهر إعجازية نقول أن هذه الظاهرة تحل غالبية المشكلات التي طرحها العلماء قديماً وحديثاً بالنسبة لما لاحظوه من أوهام حول تداخل الآيات المكية مع المدنية أو حول الآيات التي أثار الباحثون حيالها استغراباً من حيث إمكانية أن ترد عبارة يا أيها الناس في سورة مدنية مثلاً بالنحو الذي أوضحناه حيث أن الاعتماد على التفسير البنائي للسورة البنائية الكريمة مما سنعرض لها إن شاء الله في حينه عندما نحدثكم مفصلاً عن التفسير البنائي للقرآن الكريم.

على أية حال ننتهي بهذا من الحديث عن ظاهرة فضاء النزول وهو الفضاء المتصل بقضية ما هو مكي وما هو مدني من السور حيث يمكننا أن نلخص ما قدمناه سابقاً وفق الكلمات الآتية وهي إن معرفة ما هو مكي وما هو مدني يتسم بأهمية ما في سياقات خاصة كالتي حدثناكم عنها وأما خارجاً عن ذلك فإن الحديث عن معرفة ما هو مكي وما هو مدني وما هو مختلف إلى آخر ما يطرحه الباحثون من تفصيلات متنوعة في هذا الميدان بيد أن ذلك كله لا يتسم تلكم الأهمية التي خلعها الباحثون عن الموضوع المتقدم والأمر نفسه من الممكن أن نسحبه على موضوعات متفرعة مما تقدم كما ورد ذلك بخاصة مثل الباحثين القدامى فالحديث عن معرفة ما هو صيفي أو شتائي لو ليلي أو نهاري... الخ مع ملاحظة أن بعض هذه السياقات أن تلقي إضاءة ما على النص ولكنها بشكل عام لا تتسم بتصورنا  بتلكم الأهمية التي يسحبها الباحثون وبخاصة القدامى على الموضوع المتقدم.

المهم أننا بهذه كله نود أن نلفت النظر من جديد أن البحث عن هذه القضايا المرتبطة  بالنص المكي والمدني وتفريعاته تحل الإشكالات المثارة حوله إذا تناولنا القرآن الكريم من زاوية الصور الكريمة التي روي فيها بناء هندسي وفكري خاص بحيث يذوب خلالها ما هو مكي وما هو مدني إلا في سياقات خاصة حدثناكم عنها في حينه وبهذا نكتفي بالحديث عن هذا الجانب ونستودعكم الله سبحانه وتعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وإلى محاضرة لاحقة إن شاء الله.