المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 55.doc

فقدان القرائن

القرائن جمع، مفردة قرينة على زنة فعليّة بمعنى فاعلة، مأخوذة من المقارنة بمعنى المصاحبة والملازمة.

وفي (الهادي): القرينة - في اللغة - هي الدلالة على المقصود، تفهم من سياق الكلام وعلاقته، من غير ذكر الكلمة أو الكلمات صراحة.

وهي - في المصطلح العلمي كما يعرّفها الجرجاني -: أمر يشير إلى المطلوب.

ويراد بها - هنا - ما يصاحب الحديث من مقال أو حال، له مدخليّة في بيان المطلوب منه.

ويرجع اهتمام العلماء بالقرينة لما لها من دخالة في فهم المراد من النصّ، ولسعة شيوعها في عالم الحديث الشريف.

وتقسّم القرينة إلى:

1- مقالية:

ويراد بها الكلام الذي يكتنف الشي‏ء ويتدخّل في بيان المقصود منه.

1- حاليّة:

ويراد بها ما يحتف بالشي‏ء من أفعال أو أحوال ممّا له علاقة بإيضاح المراد منه.

وتقسّم أيضا إلى:

أ- خاصة:

وهي التي تختصّ بشي‏ء، ولا تعمّ سواه.

ب- عامّة:

وهي التي تكون مفهومة من قبل عامّة الناس، ومرتكزة في أذهانهم.

وربّما سمّيت لهذا بالقرينة الإرتكازية.

ومن الاُصول التي ذكرها العلماء للقرينة ما يلي:

1- أصالة تقديم القرينة على ذي القرينة.

ويعني بذلك، ما إذا كان صاحب القرينة يفيد معنى، والقرينة تصرّفه لآخر، يؤخذ بما تفيده القرينة.

2- أصالة عدم القرينة:

ويرجع إلى هذا الأصل عند الشكّ بوجود القرينة وعدمه.

فـ (من جملة ما يكون سببا في نشوء التعارض بين النصوص أيضا ضياع كثير من القرائن المكتنف بها النصّ أو السياق الذي ورد فيه نتيجةً للتقطيع أو الغفلة في مقام النقل والرواية، حتّى كان يرد أحيانا التنبيه على ذلك من قبل الإمام نفسه، كما في الحديث الوارد في المسألة الفقهيّة المعروفة (ولاية الأب على التصرّف في مال الصغير) حيث كان يستدلّ أصحابه على ولايته بما كان يروى عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): (أنت ومالك لأبيك)، فقد جاء في رواية الحسين بن أبي العلاء أنّه قال: قلت لأبي عبداللَّه(عليه السلام): ما يحلّ للرجل من مال ولده؟

قال: قوته بغير سرف إذا اضطر إليه.

قال: فقلت له: فقول رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) للرجل الذي أتاه فقدم أباه، فقال له: (أنت ومالك لأبيك)؟

فقال: إنّما جاء بأبيه إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يارسول اللَّه هذا أبي وقد ظلمني ميراثي عن اُمّي، فأخبره الأب أنّه قد أنفقه عليه، وعلى نفسه، وقال: أنت ومالك لأبيك، ولم يكن عند الرجل شي‏ء، أو كان رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يحبس الأب للإبن؟!.

فقد حاول الإمام(عليه السلام) أن ينبّه في هذه الرواية على أنّ الحديث المنقول عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد جرّد من سياقه، وما كان يحتف به من القرائن التي يتغيّر على أساسها المدلول، فإنّ قوله(صلى الله عليه وآله وسلم):(أنت ومالك لأبيك) لو كان صادرا مجردا عن ذلك السياق أمكن أن يكون دليلا على حكم شرعي، هو ولاية الأب على أموال إبنه، بل نفسه أيضا، ولكنّه حينما ينظر إليه في ذلك السياق لا يعدو أن يكون مجرّد تعبير أدبي أخلاقي(1).

ويحصل التعارض في مقامنا هذا من إفتقاد الباحث للقرينة التي تفصح عن المطلوب من الحديث كما رأيناه في التطبيق على حديث ولاية الأب.

ويشير السيّد الأعرجي في كتابه (الوسائل) إلى الجانب التاريخي لهذه العوامل بقوله: فقد حدث بطول الغيبة وشدّة المحنة وعموم البليّة، ما لولا اللَّه وبركة أل اللَّه لردّها جاهليّة.

فسدت اللغات وتغيّرت الإصطلاحات وذهبت قرائن الأحوال وكثرت الأكاذيب وعظمت التقيّة واشتدّ التعارض بين الأدلّة حتّى لا تكاد تعثر على حكم يسلم منه، مع ما اشتملت عليه من دواعي الاختلاف وليس هنا أحد يرجع إليه بسؤال.

وكفاك مائزا بين الفريقين قرائن الأحوال وما يشاهد في المشافهة من الإنبساط والإنقباض.

وهذا بخلاف من لم يصبّ إلا أخبارا مختلفة وأحاديث متعارضة يحتاج فيها إلى العرض على الكتاب والسنّة المعلومة... فإنّه لابدّ له من الإعداد والإستعداد والتدرّب في ذلك كي لا يزل فانّه إنّما يتناول من بين مشتبك القنا(2).

وكلام السيّد الأعرجي هذا يحدونا إلى ان نذكر عاملا آخر، هو:

(مستوى فهم وثقافة الفقيه ومدى سلامة منهجه عند التعامل مع النصّ): ويعتمد هذا اعتمادا كبيرا على التالي:

1- فهم اللغة العربية: تاريخها وعلومها وآدابها وبخاصة النحو والدلالة والمعجم.

2- دراسة النصّ في إطار ظروفه التي ولد فيها.

3- دراسة النصّ مرتبطا بالواقع التطبيقي له كمادّة تحمل حكما شرعيّا.

وأعني بهذا النظرة إلى الفقه الإسلامي كنظام حياة وظّف لتنظيم علاقات الإنسان باللَّه وبالمجتمع والدولة.

4- الذوق الأدبي والفنّي لإدراك النكت العلميّة والدقائق الفنّية في النصّ.

5- التعامل مع النصّ كمفردة من مفردات الكلام الإجتماعي لا وحدة خاضعة للتحليل الكلامي أو الفلسفي.

إنّ إختلاف المستوى بين الفقهاء من حيث الفهم والثقافة عامل آخر ومهمّ من عوامل حصول التعارض.

(موارد التعارض):

عيّن الاُصوليون مورد التعارض - وهو ما يقع فيه التعارض - من حيث مستوى الدلالة، في الدليلين الظنيّين.

يقول القمّي في (القوانين): تعارض الدليلين: عبارة عن تنافي مدلوليهما.

وهو لا يكون في قطعيّين لاستحالة إجتماع النقيضين.

وكذلك لا يكون في قطعي وظنّي لانتفاء الظنّ عند حصول القطع، فالتعارض إنّما يكون في دليلين ظنّيين.

(تقسيم التعارض):

وقسّموا التعارض من حيث مستوى التوازن بين الدليلين إلى: التعادل والتفاضل.

التعادل: إذا كان الدليلان متساويين في أوصاف الترجيح بحيث لا يوجد ما يرجّح أحدهما على الآخر.

التفاضل: إذا كان في أحد الدليلين مزيّة ترجّحه وتفضّله على الآخر.

(الأقوال في المسألة):

والذي ذكروه: قولان بالإطلاق وثالث بالتفصيل وكالتالي:

1- القول بلزوم إسقاطهما من الإعتبار من حيث السند مطلقا، أي متعادلين كانا أو متفاضلين.

وذلك لأنّ كلّ واحد منهما يكذب الآخر ويسقط إعتباره فيتساقطان.

ويتحدّد الموقف - هنا - بالرجوع إلى الاُصول الجارية في موردها من البراءة أو الإحتياط أو غيرهما.

2- القول بلزوم الأخذ بهما معا، مطلقا، متعادلين كانا أو متفاضلين. وذلك بمحاولة الجمع بينهما لقاعدة (الجمع أولى من الطرح).

3- التفصيل بين:

- المتعادلين فيجب التخيّر بينهما.

- والمتفاضلين فيجب الترجيح فيهما.

وهو الرأي المشهور.

قال الميرزا المشكيني في (تحرير المعالم)(3) -: وفصّل المشهور في المسألة فأوجبوا الترجيح في المتفاضلين، والتخيير في المتعادلين، بمعنى انّه ينظر فان كان لأحدهما مزيّة فيؤخذ ذو المزيّة سندا ودلالةً ويعمل به ويطرح الآخر.. وان كانا متساويين فيؤخذ أحدهما مخيّرا سندا ودلالةً ويطرح الآخر كذلك.

وهو الأقوى.

(أدلّة الأقوال):

استند القائلون بالقول (الإسقاط) إلى أخبار رويت في المقام عرفت بأخبار التوقّف والإرجاء.

ومعنى التوقّف: عدم العمل بأي من مفاد الحديثين لا على نحو التخيير، ولا على نحو الترجيح.

ومعنى الإرجاء: تأجيل البتّ بأمريهما إلى حين الإلتقاء بالإمام والسؤال منه.

وأهمّ ما استدلّ به لذلك:

- ما نقله ابن إدريس في (النوادر أو مستطرفات السرائر)(4) - عن كتاب (مسائل الرجال ومكاتباتهم إلى مولانا أبي الحسن(عليه السلام): من مسائل محمّد بن علي بن عيسى: حدّثنا محمّد بن أحمد بن محمّد بن زياد وموسى بن محمّد عن محمّد بن علي بن عيسى: قال: كتبت إلى الشيخ موسى الكاظم - أعزّه اللَّه وأيّده - أسأله... وسألته(عليه السلام) عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك - صلوات اللَّه عليهم - قد اختلف علينا فيه، كيف:

- العمل به على اختلافه؟

- أو الردّ إليك فيما اختلف فيه؟

فكتب(عليه السلام): ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموه فردّوه إلينا.

وهذه الرواية - كما تراها - ظاهرة في الأرجاء إلى حين التشرّف بلقيا الإمام.

ولازم الارجاء التوقّف عن العمل.

إلا أنّه يلاحظ على الإستدلال بالرواية من زاوية السند وزاوية الدلالة.

فمن حيث السند: يؤاخذ عليه جهالة حال محمّد بن علي بن عيسى صاحب المسائل.

ومن حيث الدلالة: يلاحظ أنّه قد ورد فيها عبارة (أو الردّ إليك فيما اختلف فيه) وهي ظاهرة في الردّ إلى الإمام الحاضر الذي يمكن التشرّف بلقياه وسؤاله بقرينة ضمير الخطاب، ومعنى هذا أنّ التأجيل فيها لمدّة يمكن حلّ التعارض فيها والعمل المطلوب فلا يشمل ما نحن في معرض بحثه وهو التعارض الحاصل في زمن الغيبة حيث لا يمكننا التشرّف بلقيا الإمام والسؤال منه.

فالرواية ليس فيها عموم ولا إطلاق يشمل أزمنة ما بعد الغيبة الكبرى، فحملها على إرادة مطلق الإمام خلاف الظاهر، ولا دليل عليه.

- ما جاء في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة عن الإمام الصادق(عليه السلام) الواردة في بيان الترجيح بصفات الراوي من قوله(عليه السلام): إذا كان ذلك فأرجئه حتّى تلقى إمامك فانّ الوقف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات.

وهي صريحة بالأمر بالإرجاء، ولازمه التوقّف.

إلا أنّ الإستدلال بها على المطلوب غير تامّ أيضا، وذلك لأنّ العبارة المذكورة التي استدلّ بها جاءت بعد إفادة اليأس من الإستفادة من صفات الراوي المذكورة فيها لتساوي الراويين في جميعها، ومن الإستفادة من المرجّحات الاُخرى التي ذكرت فيها.

وهو أمر طبيعي أن لا يكون مجال للترجيح فينتقل إلى الارجاء، لأنّ السائل في زمن يمكنه الرجوع إلى الإمام والسؤال منه.

واستند القائلون بالعمل بهما معا، إلى قاعدة (الجمع أولى من الطرح) ويناقش: انّ هذا لا يتأتّى إلا إذا كانت العلاقة بين الخبرين علاقة تخالف حيث يمكن الجمع بين الحديثين بحمل أحدهما على الآخر - كما تقدّم -، فلا علاقة لها بعلاقتنا هذه وهي (علاقة التعارض).

أمّا القائلون بالتفصيل فأيضا استندوا إلى أحاديث رويت في المقام وهي المعروفة بأخبار الترجيح.

(أخبار الترجيح):

المراد بالترجيح - هنا - هو تفضيل أحد الحديثين المتعارضين وتقديمه على الآخر لمزيّة توفّرت فيه ولم تتوفّر في الآخر.

والأخبار الدالّة عليه كثيرة، ويمكننا توزيعها كالتالي:

- ما يرتبط بسند الحديث.

- ما يرتبط بدلالة الحديث.

- ما يرتبط بتاريخ الحديث.

(ما يرتبط بالسند):

ذكر في هذه الأخبار المتعلّقة بسند الحديث مرجّحان هما:

أ- صفات الراوي.

ب- شهرة الرواية بين الأصحاب.

 

الهوامش:

(1)- تعارض الأدلة الشرعية 31.

(2)- المعالم الجديدة ط 3 ص 53- 54.

(3)- ص 239- 240.

(4)- ص 69.