المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 54.doc

ومن أمثلة الإدراج ما وقع من السيّد العاملي في (مدارك الأحكام)(1) - عند تعليقه على عبارة (الشرائع) القائلة: يقضي الحجّ من أقرب الأماكن.

وقيل: يستأجر من بلد الميّت.

وقيل: إن اتّسع المال فمن بلده، وإلا فمن حيث يمكن.

والأوّل أشبه.. بقوله - أعني صاحب المدارك -: وعن زكريا بن آدم قال: (سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن رجل مات وأوصى بحجّة، أيجزيه أن يحجّ عنه من غير البلد الذي مات فيه؟ فقال: ما كان دون الميقات فلا بأس)، ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) انّه قال: (وان أوصى أن يحجّ عنه حجّة الإسلام ولم يبلغ ما له ذلك ليحجّ عنه من بعض المواقيت)...

هذا ماذكره صاحب المدارك، والملاحظ عليه: أنّ عبارة وان أوصى.. الخ ليست حديثا، وإنّما هي عبارة الشيخ الطوسي في (التهذيب) ذكرها بعد إشارته إلى رواية الحلبي، وتقدمةً لرواية موسى بن القاسم التي ذكرها بعد العبارة المذكورة، وإليك نصّ ما جاء في (التهذيب)(2) ط بيروت لسنة 1401هـ تصويرا لطبعة النجف الأشرف -:

(1409) 55- موسى بن القاسم عن صفوان عن معاوية بن عمّار: قال: سألت أبا عبداللَّه(عليه السلام) عن رجل مات فأوصى أن يحجّ عنه؟ قال: إن كان صرورة فمن جميع المال، وان كان تطوّعا فمن ثلثه.

(1410) 56 - وعنه عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن الحلبي عن أبي عبد اللَّه(عليه السلام) مثل ذلك.

وزاد فيه فإن أوصى أن يحجّ عنه رجل فليحجّ ذلك الرجل.

فإن أوصى أن يحجّ عنه حجّة الإسلام ولم يبلغ ماله ذلك فليحجّ عنه من بعض المواقيت.. روى ذلك:

(1411) 57 - موسى بن القاسم عن الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب قال: سألت أبا عبداللَّه(عليه السلام) عن رجل أوصى أن يحجّ عنه حجّة الإسلام فلم يبلغ جميع ما ترك إلا خمسين درهما؟ قال: يحجّ عنه من بعض المواقيت التي وقتها رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم) من قرب.

ومن غير ريب انّ هذا وقع من صاحب المدارك عن غفلة منه.

وقد نقل نصّ عبارته - على ما فيها - غير واحد ممّن جاء بعده من الفقهاء(3).

ومن غير شكّ انّ نقلهم عبارته مع ما فيها من إدراج لم ينتبهوا إليه كان عن ثقة منهم به، وهو من حيث الإعتماد عليه موضوع الثقة وفوق الشبهات، ولكنّ الوثاقة - من ناحية منهجيّة - لا تعفي العالم أو الباحث من التوثّق من صحّة وسلامة نقولات الآخرين، ولزوم توثيقها.

وعليه: فالحلّ لمشكلة الإدراج يتمّ بالتوثّق والتوثيق.

(تقطيع الحديث):

مصطلح (التقطيع) - في لغة الاُصوليين - مأخوذ بمعناه اللغوي العامّ، وهو فصل بعض الشي‏ء وإبانته عن بعضه الآخر.

فتقطيع الحديث: تجزئته إلى مقاطع.

وتختلف أسباب ذلك، وأهمّها الإختصار، وهو أن يقتطع الباحث من الحديث ما يحتاج إليه كشاهد أو دليل على موضع حاجته.

ويكثر هذا في الأحاديث الطوال نحو حديث المناهي المروي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وهذا التقطيع قد يسبّب فوات معرفة الحكم الشرعي كاملا، ممّا قد يتوهّم معه التعارض أحيانا.

ومن أمثلته ما أشار إليه السيّد السيستاني في (اختلاف الحديث) من التقطيع في الحديث التالي:

- الاستبصار(4) ط دار التعارف 1412هـ: باب جواز غسل الرجل امرأته والمرأة زوجها:

5- الحسين بن سعيد عن علي بن النعمان عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبداللَّه(عليه السلام): في الرجل يموت في السفر في أرض ليس معه إلا النساء؟

قال: يدفن ولا يغسّل.

والمرأة تكون مع الرجل بتلك المنزلة، تدفن ولا تغسّل إلا أن يكون زوجها معها، فإن كان زوجها معها غسلها من فوق الدرع، ويسكب الماء عليها سكبا، ولا ينظر إلى عورتها.

وتغسله امرأته إن مات.

والمرأة إن ماتت ليست بمنزلة الرجل، المرأة أسوأ منظرا إذا ماتت.

- الإستبصار(5): باب الرجل يموت وليس معه رجل ولا امرأته ولا واحدة من ذوات أرحامه والمرأة كذلك تموت وليس معها امرأة ولا زوج ولا أحد من ذوي أرحامها ومعها رجال غرباء:

5- الحسين بن سعيد عن علي بن النعمان عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبداللَّه(عليه السلام) قال: قال في الرجل يموت في السفر في أرض ليس معه إلا النساء؟ قال: يدفن ولا يغسل.

والمرأة تكون مع الرجال بتلك المنزلة تدفن ولا تغسل.

وبالمقارنة بين الموضعين نرى المقتطع والمحذوف، كما يقول السيّد السيستاني يوجب تغيير الحكم، وإنّما لم ينقله في الإستبصار لخروجه عن مورد حاجته.

وهذا قد يوهم التعارض عند لم ينتبه إلى التقطيع الحاصل.

(التقيّة):

التقيّة - لغة - الخشية والخوف.

وهي من ضروريات الحياة كاجراء وقائي يلتزمه الإنسان اتّقاء وقوع خطر معتد به لا يستطيع دفعه.

ولم تكن ممارسة أصحابنا الإماميّة وأئمتنا المعصومين: للتقيّة إلا كما يمارسها جميع الناس عندما تدعو الضرورة لها..

والذي يفهم من الأحاديث الواردة عن الأئمّة: في موضوع التقيّة أنّهم كانوا يتّقون ويوصون أتباعهم بها في الظروف التالية:

1- خوف الإنسان على نفسه أو ماله أو عرضه.

2- الخوف على المذهب.

3- الخوف على الطائفة.

4- الخوف على وحدة المسلمين.

5- الخوف على قدسيّة مقام الإمام والإمامة.

شريطة أن يكون منشأ هذا الخوف هو:

1- بطش السلطان وفتكه.

2- ثورة الرأي العامّ التابع للسلطان وهيجانه.

فقد كان الأئمّة - على ضوء هذا - يفتون - عند التقيّة -.

- وفق مذهب السلطان إذا كانت الخشية منه.

- أو وفق مذهب الرأي العامّ إذا كان الخوف منه.

- أو لأجل المحافظة على وحدة المسلمين إذا كان عدم التقيّة يعرضها للتصدّع الذي يشكل خطرا يضرّ بكيان المسلمين كاُمّة، أو بمبدأهم كدين، أو دولتهم كمؤسسة إسلامية.

- أو للمحافظة على قدسيّة مقام الإمامة من أن يكون موضوع طعن أو تشكيك.

وقد نقل شيئا غير قليل من الأحاديث التي تعرب عن هذا اُستاذنا الشهيد الصدر في محاضراته عن (تعارض الأدلّة الشرعيّة)(6) -، واليكها:

عن أبي بصير: قال: سألت أبا عبداللَّه(عليه السلام) عن القنوت؟.

فقال: فيما يجهر فيه بالقراءة.

قال: فقلت له: إنّي سألت أباك عن ذلك فقال: في الخمس كلّها.

فقال: رحم اللَّه أبي، إنّ أصحاب أبي أتوه فسألوه فأخبرهم بالحقّ، ثمّ أتوني شكاكا فأفتيتهم بالتقيّة.

- عن أبي عمرو الكناني: قال: قال أبو عبداللَّه(عليه السلام): ياأبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث، أو أفتيتك بفتيا، ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه فأخبرتك بخلاف ذلك، بأيّهما كنت تأخذ؟

قلت: بأحدثهما وأدع الآخر.

فقال: قد أصبت ياأبا عمرو، أبى اللَّه إلا أن يعبد سرّا، أما واللَّه لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم، وأبى اللَّه عزّوجلّ لنا ولكم في دينه إلا التقيّة.

- عن أبي عبيدة عن أبي جعفر(عليه السلام): قال: قال لي: يازياد ما تقول لو أفتينا رجلا ممّن يتولانا بشي‏ء من التقيّة؟

قال: قلت له: أنت أعلم جعلت فداك.

قال: إن أخذ به فهو خير له وأعظم أجرا.

وفي رواية اُخرى: إن أخذ به أجر، وإن تركه واللَّه أثم.

- عن أحمد بن محمّد بن نصر عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) قال: قال أبو جعفر(عليه السلام) في القنوت: إن شئت فاقنت، وان شئت فلا تقنت.

قال أبو الحسن: وإذا كانت التقيّة فلا تقنت، وأنا أتقلّد هذا.

- عن عبداللَّه بن زرارة قال: قال لي أبو عبداللَّه(عليه السلام): إقرأ منّي على والدك السلام، وقل: إنّما أعيبك دفاعا منّي عنك، فإنّ الناس والعدو يسارعون إلى كلّ من قربناه وحمدنا مكانه بإدخال الأذى فيمن نحبّه ونقرّبه...

(إلى أن قال): وعليك بالصلاة الستّة والأربعين، وعليك بالحجّ أن تهلّ بالإفراد، وتنوي الفسخ إذا قدمت مكّة فطفت وسعيت فسخت ما أهللت به، وقلبت الحجّ عمرة...

(إلى أن قال): هذا الذي أمرناك به حجّ التمتّع، فالزم ذلك ولا يضيقنّ صدرك، والذي أتاك به أبو بصير من صلاة إحدى وخمسين، والإهلال بالتمتّع بالعمرة إلى الحجّ، وما أمرنا به أن يهلّ بالتمتّع فلذلك عندنا معانٍ وتصاريف لذلك ما تسعنا وتسعكم، ولا يخالف شي‏ء من ذلك الحقّ ولا يضادّه، والحمد للَّه ربّ العالمين.

- عن معاذ بن مسلم النحوي عن أبي عبداللَّه(عليه السلام): قال: بلغني انّك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟، قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج، وإنّي أقعد في المسجد فيجئ الرجل فيسألني عن الشي‏ء فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون، ويجئ الرجل أُعرّفه بمودّتكم وحبّكم فأخبره بما جاء منكم، ويجيئ الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك، فقال(عليه السلام): اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع.

وطريقة التخلّص من قضيّة التعارض التي تنشأ بسببها هو عمل استقراء لأحاديث الأحكام وفرز ما ورد منها تقيّة، ليكون هذا المفرز المرجع المساعد في معالجة التعارض.

(حال السائل):

كما في أحكام الحجّ فانّ تدارك الخطأ فيها يعتمد على حال المكلّف من حيث علمه بالحكم الشرعي وجهله به ونسيانه له.

فقد يسأل مكلّف الإمام بعرض حاله له، ثمّ ينقل جوابه للآخرين من دون أن يذكر حاله لهم الذي هو قرينة معيّنة للمراد من الجواب، فيحصل التنافي بينه وبين جواب سائل آخر يختلف حاله عن حال السائل الأوّل.

وقد عنون اُستاذنا الشهيد الصدر المسألة هذه بـ(ملاحظة ظروف الراوي)، وقال فيها: وقد ينشأ التعارض بين الحديثين نتيجة انّ الإمام حينما قال أحدهما كان يلاحظ حالة في السائل يتغيّر على أساسها الحكم الشرعي ويتأثّر بها، فإنّ الأحكام الشرعيّة قد تتغيّر باختلاف حالات العلم والجهل والنسيان والعذر ونحو ذلك، فيكون الإمام في أحد الموردين قد أفتى سائله بما يكون وظيفته الشرعيّة المقرّرة له وهو بتلك الحالة لا مطلقا، ولكن السائل قد نقل ذلك الحكم كقضيّة مطلقة دون أن يلتفت إلى احتمال دخالة الحالة التي كان عليها في الحكم، فيحصل من أجل ذلك التعارض بينه وبين ما صدر عن المعصوم في مورد آخر كانت تختلف فيه ظروف الراوي للحديث عن ظروف الراوي الأوّل.

وقد ورد التنبيه على ذلك من قبل الأئمّة أنفسهم أيضا في بعض الروايات، حين عرض عليهم بعض موارد التعارض من كلماتهم، فقد روي صفوان عن أبي أيّوب قال: حدّثني سلمة بن محرز أنّه كان يتمتّع حتّى إذا كان يوم النحر طاف بالبيت والصفا والمروة، ثمّ رجع إلى منى ولم يطف طواف النساء فوقع على أهله، فذكره لأصحابه فقالوا: فلان قد فعل مثل ذلك فسأل أبا عبداللَّه(عليه السلام) فأمره أن ينحر بدنة.

قال سلمة: فذهبت إلى أبي عبداللَّه(عليه السلام) فسألته، فقال: ليس عليك شي‏ء، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بما قال لي.

قال: فقالوا: اتّقاك وأعطاك من عين كدرة، فرجعت إلى أبي عبداللَّه(عليه السلام) فقلت: إنّي لقيت أصحابي فقالوا: اتّقاك، وقد فعل فلان مثل ما فعلت فأمره أن يذبح بدنة، فقال(عليه السلام): صدقوا، ما اتّقيتك، ولكن فلان فعله متعمّدا وهو يعلم، وأنت فعلته وأنت لا تعلم، فهل كان بلغك ذلك؟ قال: قلت: لا، واللَّه ما كان بلغني، فقال: ليس عليك شي‏ء(7).

 

الهوامش:

(1)- 7/ 86.

(2)- 5/ 404- 405.

(3)- راجع: اختلاف الحديث للسيد السيستاني.

(4)- 1/ 197.

(5)- 1/ 201.

(6)- ص 36- 38.

(7)- تعارض الأدلة الشرعية 38- 39.