المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 51.doc

علاقة التخالف:

التخالف ضدّ التوافق، مثلما انّ الإختلاف ضدّ الائتلاف، والخلاف ضدّ الوفاق.

والتقابل بينهما تقابل تضادّ - بالمصطلح المنطقي - فكما يرتفع الإختلاف ويحلّ محلّه الإئتلاف، يرتفع التخالف ويحلّ محلّه التآلف.

وقد رأينا هذا في الجمع بين العامّ والخاص والمطلق والمقيّد.

وأومأنا آنفا إلى أنّ علاقة التخالف تتمثّل بالتالي:

1- علاقة العامّ بالخاص.

2- علاقة المطلق بالمقيّد.

3- علاقة الحاكم بالمحكوم.

ولأنّنا بحثنا العلاقتين الأوّليين في موضوعي العامّ والخاص والمطلق والمقيّد من مباحث دلالة الألفاظ نكتفي بأن نحيل لئلّا نطيل، وأن نقتصر على بحث موضوع الحكومة.

 

الحكومة:

(تعريفها):

جاء في المعجم (الهادي إلى لغة العرب):الحكومة: هي الحكم الفاصل في خلاف أو خصومة.

ولعلّ تسمية مصطلحنا هذا بـ(الحكومة) لأنّه يقوم بنفس الدور أو الوظيفة التي تقوم بها الحكومة بمعناها اللغوي.

والملا الآخوند يرمز إلى هذا بجمعه بين (الحكومة) و (الخصومة) في عبارته التي أوردها في كتابه (الكفاية)(1) تعريفاً للتعارض بين الأدلّة والأمارات، وهي: التعارض: هو تنافي الدليلين أو الأدلّة بحسب الدلالة ومقام الإثبات، على وجه التناقض أو التضادّ، حقيقة أو عرضا بان علم بكذب أحدهما إجمالا مع عدم إمتناع إجتماعهما أصلا.

وعليه: فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلوليهما إذا كان بينهما حكومة رافعة للتعارض والخصومة، بأن يكون أحدهما قد سيق ناظرا إلى بيان كميّة ما اُريد من الآخر.

ويعرّف الشيخ الأنصاري في (الرسائل)(2) - الحكومة بقوله: وضابط الحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضا لحال الدليل الآخر، ورافعا للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه، فيكون مبيّنا لمقدار مدلوله، مسوقا لبيان حاله.

(موردها):

ويعيّن الشيخ الأنصاري مورد الحكومة، أي ما تطبّق فيه وتنطبق عليه، عن طريق التفرقة بينها وبين مصطلح (الورود )المقابل لها تقابل (التخصيص) و (التخصّص) اللذين يفرّق بينهما بأنّ التخصيص إخراج لبعض أفراد العامّ من الحكم، لا من الموضوع، بينما التخصّ-ص خروج عن موضوع العامّ.

فيقول - وهو يقارن بين الدليل والأصل - فإن كان الأصل ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل كأصالة البراءة العقليّة والإحتياط والتخيير العقليين، فالدليل أيضا وارد عليه، ورافع لموضوعه، لأنّ موضوع الأوّل (يعني البراءة) عدم البيان، وموضوع الثاني (يعني الاحتياط) إحتمال العقاب، ومورد الثالث (يعني التخيير) عدم الترجيح لأحد طرفي التخيير، وكلّ ذلك مرتفع بالدليل العلمي المذكور.

وان كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة كالإستصحاب ونحوه كان ذلك الدليل حاكما على الأصل، بمعنى أنّه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الأصل، فالدليل العلمي المذكور وان لم يرفع موضوعه أعني الشكّ إلا أنّه يرفع حكم الشكّ أعني الإستصحاب.

ويمثّل لذلك بالدليل الدالّ على انّه لا حكم للشكّ في النافلة أو مع كثرة الشكّ أو مع حفظ الإمام أو المأموم أو بعد الفراغ من العمل فإنّه حاكم على الأدلّة المتكفلّة لأحكام هذه الشكوك.

ثمّ يذكر الفرق بين الحكومة والتخصيص بقوله: والفرق بينها وبين التخصيص: أنّ كون التخصيص بيانا للعامّ بحكم العقل، الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع القرينة الصارفة.

وهذا (أي الحكومة) بيان بلفظه للمراد، ومفسّر للمراد من العامّ، فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير.

ونستخلص من هذا: أنّه عندنا أربعة مفاهيم، هي:

1- التخصّص.

2- التخصيص.

3- الورود.

4- الحكومة.

وهذه المفاهيم هي قواعد مستفادة من واقع الأدلّة في التعاملات الإجتماعيّة والاُخرى الشرعيّة.

وكلّ هذه القواعد تقوم بوظيفة الإستثناء، إلا أنّها تختلف في نوعيّة ما يستثنى منه.

- ففي التخصّص والورود يكون الإستثناء خروجا عن موضوع القضيّة، بمعنى انّ الفرد الخارج ليس من أفراد العامّ فلا يشمله حكم العامّ.

وما يدور في لغة الاُصوليين من قولهم: (إنّه خارج موضوعا) أو (هو خارج موضوعا) يريدون به هذا الذي ذكرناه.

- وفي التخصيص والحكومة يكون الإستثناء إخراجا من الحكم، بمعنى انّ هذا الفرد المخرج لم يستثن من الموضوع الذي هو أفراد العامّ، وإنّما استثنى من حكمها، أي انّه لا يشمله حكم العامّ، فهو داخل موضوعا خارج حكما.

- وتختلف الحكومة عن الورود في مورد إنطباقهما والرجوع إليهما.

وينطلق الشيخ إلى بيان هذا الإختلاف من تقسيمه الاُصول العمليّة باعتبار دليل إعتبارها إلى.

أ- اُصول عقليّة:

وهي تلك التي استفيدت من قاعدة عقليّة، وهي:

- البراءة العقليّة التي استفيدت من قاعدة: (قبح العقاب بلا بيان).

- الإحتياط العقلي الذي اُفيد من قاعدة: (لزوم دفع الضرر المحتمل).

- التخيير العقلي عند دوران الأمر بين المحذورين وليس أمام المكلّف إمّا الفعل وإمّا الترك، فالعقل - هنا - يحكم بالتخيير لأنّه الأمر الواقع الذي لا مفرّ منه، لقاعدة: (لابدّ ممّا لابدّ منه).

ب- اُصول نقليّة أو شرعيّة:

وهي التي استفيدت من النصوص الشرعيّة، وهي:

- البراءة الشرعيّة التي أخذت من أمثال حديث الرفع.

- الإحتياط الشرعي الذي أخذ من أمثال حديث التثليث.

- التخيير الشرعي الذي أخذ من أمثال قوله(عليه السلام) : إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت.

 - الإستصحاب المستفاد من قوله: (ليس لك أن تنقض اليقين بالشكّ). فمورد الورود هو الاُصول العقليّة.

ومورد الحكومة هو الاُصول النقليّة (الشرعيّة).

وكما تختلف الحكومة عن الورود في مورد إنطباقهما تختلف عن التخصيص في طريق الإخراج والإستثناء.

فكلّ من التخصيص والحكومة بيان لكميّة ومقدار المستثنى من العامّ، ولكنّه في التخصيص يتمّ بحكم العقل الحاكم بعدم جواز إرادة العامّ بعمومه مع قيام القرينة الصارفة عن ذلك.

وفي الحكومة يتمّ بلفظ الدليل نفسه حيث يفسّر ويوضّح مراد المتكلّم من الدليل الآخر الذي هو العامّ.

وقد نفرّق بينهما بأنّ كلا منهما وسيلةً استثناء من حكم العامّ، ولكنّها في التخصيص هي قرينة صارفة، وفي الحكومة هي أشبه بما يصطلح عليه في القانون بالمذكرة التي تلحق به باعتبارها بيانا يشرح بعض مواده أو مسائله ويوضّح المراد منه.

وفي ضوء هذا يمكننا أن نسمّيها (المذكّرة التفسيريّة)(3).

ففي قوله تعالى: (إنّ الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا): انّ أداة الاستثناء - وهي (إلا) - قرينة صارفة تصرف حكم الخسران عن أن يطال المؤمنين، فهي تخرج المؤمنين لا من أفراد الإنسان الذي هو موضوع القضيّة، وإنّما من حكمه وهو الخسران، بمعنى انّ الخسران منصرف عن المؤمنين فلا يحكم عليهم به.

ومثله ما لو قلنا: (كلّ من شكّ في أثناء صلاته بين الركعة الاُولى والركعة الثانية يعيد إلا من كان كثير الشكّ).

فأداة الاستثناء - هنا - تعدّ قرينة صارفة عن شمول حكم الإعادة لمن كان كثير الشكّ.

ولكن إذا رأينا نصّا يقول: (كلّ من شكّ في أثناء صلاته بين الاُولى والثانية يعيد صلاته)، فإنّه عامّ يشمل قليل الشكّ وكثيره.

ثمّ رأينا نصّا آخر يقول: (لا شكّ لكثير الشكّ)، فإنّه ناظر إلى النصّ الأوّل، مقصودا به بيان الكمّية المشمولة بالحكم في النصّ الأوّل.

أي انّه مذكّرة مفسّرة لمادّة النصّ الأوّل.

هنا نقول: النصّ الثاني حاكم على النصّ الأوّل، فيكون معناه: انّ كثير الشكّ مستثنى من الحكم المذكور في النصّ الأوّل وهو الإعادة.

فالنصّ الثاني جاء يفسّر النصّ الأوّل ببيان الكميّة من الأفراد المشمولة بالحكم وهي ما عدا كثير الشكّ.

والفرق بين الدليل في التخصيص والدليل في الحكومة:

- انّ دليل التخصيص قرينة صارفة، والقرينة من حيث الدلالة أقوى من ذي القرينة، لأنّها إمّا نصّ أو أظهر فتقدّم عليه من باب تقديم النصّ على الظاهر أو الأظهر على الظاهر.

ودليل الحكومة دليل مفسّر (مذكّرة تفسيريّة)، والمفسِّر عرفا يقدّم على المفسَّر، سواء كان أقوى منه أو لم يكن أي انّه يقدّم على كلّ حال.

وتقديم الحاكم على المحكوم هو لون من ألوان الجمع الدلالي العرفي، أي أنّ بناء العقلاء قائم على هذا.

وبسيرتهم سار المشرّع الإسلامي في طريقة تشريعه حيث استعمل في الاستثناء والإخراج من الحكم المذكور في نصّ تشريعي القرينة الصارفة والمذكّرة المفسّرة.

والشواهد في الشرعيّات على هذا كثيرة.

 

الهوامش:

(1)- ص 437.

(2)- 2/ 750.

(3)- في القانون الانجليزي مذكّرة تفسيرة: تبسط مستند أو عقدا أو ما إلى ذلك - المعجم القانوني، حارث سليمان الفاروقي، مادّة . Memorial