المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 50.doc

الموازنة:

وبعد أن رأينا ما استدلّ به على وجوب الإحتياط في الشبهات على نحوين:

- إمّا إرشادي يفيد إستصحاب الإحتياط لا وجوبه.

- وامّا ناهض بالدلالة على إمضاء قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، إلا أنّنا غير ملزمين بالأخذ بالقاعدة لوجود المؤمن الشرعي من الوقوع بالضرر، وهو قاعدة البراءة.

(حقّ الطاعة)

كنّا - قبل هذا - مع قاعدتين عقليتين هما:

- قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) التي استدلّ بها العلماء الاُصوليون على براءة الذمّة من التكليف عند الشكّ في الشبهات مطلقا.

- وقاعدة (لزوم دفع الضرر المحتمل) التي استدلّ بها العلماء الإخباريون على إشتغال الذمّة بالتكليف عند الشكّ في الشبهة الحكميّة التحريميّة.

وهنا نكون مع قاعدة عقليّة ثالثة هي (انّ للمولى تعالى على الإنسان حقّ إطاعته في جميع التكاليف المعلومة والمحتملة).

وهي تفيد وجوب الإحتياط ما لم يقم دليل شرعي على نفي الوجوب.

والدليل - هنا - هو حديث الرفع القائل: (رفع عن اُمّتي... ما لا يعلمون)، الذي يسلّمنا إلى الإعفاء من حكم وجوب الإحتياط وإشغال الذمّة بالتكليف المحتمل إلى براءة الذمّة من ذلك التكليف المحتمل.

وهو ما أفاده اُستاذنا الشهيد الصدر وأطلق عليه عنوان (مسلك حقّ الطاعة).

ونقرأه وهو يوضّحه نظريّا ويعرب عنه تطبيقيّا، قال في كتابه (دروس في علم الاُصول: الحلقة الاُولى)- ط 1ص1978م(1) وما بعدها -: والصحيح في رأينا هو أنّ الأصل في كلّ تكليف محتمل هو الاحتياط، نتيجة لشمول حقّ الطاعة للتكاليف المحتملة، فإنّ العقل يدرك انّ للمولى على الإنسان حقّ الطاعة لا في التكاليف المعلومة فحسب، بل في التكاليف المحتملة أيضا، ما لم يثبت بدليل انّ المولى لا يهتمّ بالتكليف المحتمل إلى الدرجة التي تدعو إلى إلزام المكلّف بالإحتياط.

فالإحتياط - إذن - واجب عقلا في موارد الشكّ، ويسمّى هذا الوجوب أصالة الاحتياط أو أصالة الإشتغال - أي إشتغال ذمّة الإنسان بالتكليف المحتمل - ونخرج عن هذا الأصل حين نعرف انّ الشارع يرضى بترك الإحتياط.

وهكذا تكون أصالة الإحتياط هي القاعدة العمليّة الأساسيّة.

وقد انقلبت بحكم الشارع تلك القاعدة العمليّة الأساسيّة إلى قاعدة عمليّة ثانوية، وهي أصالة البراءة القائلة بعدم وجوب الإحتياط.

والسبب في هذا الإنقلاب أنّا علمنا عن طريق البيان الشرعي، أنّ الشارع لا يهتمّ بالتكاليف المحتملة إلى الدرجة التي تحتّم الاحتياط على المكلّف، بل يرضى بترك الإحتياط.

والدليل على ذلك نصوص شرعيّة متعدّدة، من أشهرها النصّ النبوي القائل: (رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون)، بل استدلّ ببعض الآيات على ذلك كقوله تعالى: (وما كُنّا معذّبين حتّى نبعث رسولا) فإنّ الرسول يفهم كمثال على البيان والدليل فتدلّ الآية على انّه لا عقاب بدون دليل، وهكذا أصبحت القاعدة العمليّة هي عدم وجوب الإحتياط بدلا عن وجوبه، وأصالة البراءة شرعا بدلا عن أصالة الإشتغال عقلا.

وتشمل هذه القاعدة العمليّة الثانويّة موارد الشكّ في الوجوب، وموارد الشكّ في الحرمة على السواء، لأنّ النصّ النبوي مطلق، ويسمّى الشكّ في الوجوب بـ(الشبهة الوجوبيّة) والشكّ في الحرمة بـ(الشبهة التحريميّة).

كما تشمل القاعدة أيضا الشكّ مهما كان سببه، ولأجل هذا نتمسّك بالبراءة إذا شككنا في التكليف، سواء نشأ شكّنا في ذلك من عدم وضوح أصل جعل الشارع للتكليف أو من عدم العلم بتحقّق موضوعه.

ومثال الأوّل: شكّنا في وجوب صلاة العيد، أو في حرمة التدخين، ويسمّى بالشبهة الحكميّة.

ومثال الثاني: شكّنا في وجوب الحجّ لعدم العلم بتوفّر الإستطاعة مع علمنا بأنّ الشارع جعل وجوب الحجّ على المستطيع.

وان شئت قلت: إنّ المكلّف في الشبهة الحكميّة يشكّ في الجعل، وفي الشبهة الموضوعيّة يشكّ في المجعول وكلّ منهما مجرى للبراءة شرعا.

الأقوال في المسألة:

1- في الشبهة الموضوعيّة:

يتّفق الإخباريون والاُصوليون على القول بالبراءة فيها.

2- في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة:

أيضا يتفق الجميع على القول بالبراءة.

3- في الشبهة الحكميّة التحريميّة:

ذهب الإخباريون إلى القول بوجوب الإحتياط، والاُصوليون إلى البراءة.

قال الوحيد البهبهاني في (الفوائد الحائرية)(2) -: اعلم أنّ المجتهدين ذهبوا إلى أنّ ما لا نصّ فيه، والشبهة في موضوع الحكم الأصل فيهما البراءة:

والإخباريون على أربعة مذاهب فيما لا نصّ فيه:

الأوّل: التوقّف، وهو المشهور بينهم.

الثاني: الحرمة ظاهرا.

الثالث: الحرمة واقعا.

الرابع: وجوب الإحتياط.

وصرّح بعضهم بأنّ هذه المذاهب فيما إذا احتمل الحرمة وغيرها من الأحكام.

وامّا إذا احتمل الوجوب وغيره سوى الحرمة فهم مثل المجتهدين يقولون بالبراءة.

هذا فيما لا نصّ فيه.

وأمّا في الشبهة في موضوع الحكم فهم مثل المجتهدين يقولون بالبراءة.

وقال معاصره المحدّث البحراني في (الحدائق)(3): اعلم أنّ البراءة الأصليّة على قسمين:

أحدهما: أنّها عبارة عن نفي الوجوب في فعل وجودي إلى أن يثبت دليله. بمعنى أنّ الأصل عدم الوجوب حتّى يثبت دليله.

وهذا القسم ممّا لا خلاف ولا إشكال في صحّة الإستدلال به والعمل عليه، إذ لم يذهب أحد إلى انّ الأصل الوجوب، لاستلزام ذلك تكليف ما لا يطاق وللأخبار الدالّة على انّ (ما حجب اللَّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم) و (الناس في سعة ما لم يعلموا) و (رفع القلم عن تسعة أشياء)، وعدّ منها: (ما لا يعلمون).

وثانيهما: أنّه عبارة عن نفي التحريم في فعل وجودي إلى أن يثبّت دليله بمعنى أنّ الأصل الإباحة وعدم التحريم في ذلك الفعل إلى أن يثبت دليل تحريمه.

وهذه هي البراءة الأصليّة التي وقع النزاع فيها نفيا وإثباتا.

فالعامّة (يعني أهل السنّة) كَمَلا وأكثر أصحابنا (يعني الإماميّة) على القول بها (أي بالبراءة) والتمسّك في نفي الأحكام بها.. وجملة علمائنا المحدّثين وطائفة من الاُصوليين على وجوب التوقّف والإحتياط.

وربّما نقل - أيضا - القول بأنّ الأصل التحريم إلى أن تثبت الإباحة، وهو ضعيف.

النتيجة:

وقد رأينا عند استعراضنا لأدلّة الطرفين القائلين بالقولين المشهورين في الموقف عند الشكّ في الشبهة الحكميّة التحريميّة وهما البراءة والإحتياط أنّ القول بالبراءة هو المختار لقبح العقاب بلا بيان المعزّز برفع المؤاخذة عن هذه الاُمّة المرحومة فيما لا يعلمونه من أحكام عند المخالفة، والذي اعتدّ مؤمّنا في دفع الضرر المحتمل.

 

مباحث علاقات الأدلّة

علاقات التخالف

علاقات التعارض

علاقات الأدلّة

تنطق كلمة (علاقة) في لساننا العربي بكسر عينها وفتحها، وهي بالكسر تطلق على الماديّات، وبالفتح على المعنويات، يقول الجوهري في (الصحاح):العلاقة (أي بالكسر): علاقة القوس والسوط ونحوهما، والعلاقة (أي بالفتح): علاقة الخصومة وعلاقة الحبّ.

وهو بقوله: (علاقة الخصومة وعلاقة الحبّ) يلمح - ومنذ زمنه البعيد - إلى ما يذهب إليه علم النفس الإجتماعي الحديث من أنّ العلاقة قد تكون ودّية وقد تكون غير ودّية.

أي انّ كلمة (علاقة) من الأضداد في اللغة العربية.

فهي نمط من الصلات، ولكنّها قد تكون صلة توافق كما في الصداقة، وقد تكون صلة تخالف كما في العداوة.

وهذا التنويع اللغوي للعلاقة المعزّز بالرأي العلمي ممّا يفيدنا في تنويع العلاقات القائمة بين الأدلّة، لأنّها - كما سيأتي - تتنوّع إلى علاقات تخالف تنتهي إلى توافق، وعلاقات تعارض قد تتعادل وقد تتفاضل.

 أمّا الأدلّة فالمراد منها - كما يفيد اُستاذنا الشهيد الصدر -: كلّ ما كان متكفّلا للكشف عن حكم شرعي(4).

ويعتدّ موضوع العلاقات بين الأدلّة من أهمّ الموضوعات الاُصوليّة لما له من علاقة مهمّة بعمليّة الإستنباط.

وهذه العلاقات نشأت في جانب منها - وهي علاقات التخالف - نشأةً تلقائية فتحوّلت إلى ظاهرة، وفي جانبها الآخر - وهي علاقات التعارض - نشأت نشأةً غير تلقائية فتحوّلت إلى مشكلة تفرض التماس الحلّ لها.

وهي في كلتا الحالتين شي‏ء معروف ومألوف في السنن العرفيّة والتقنيات المدنية، فقد يصدّر التشريع عامّا ثمّ يخصّص بعد ذلك، وقد يصدّر مطلقا ويقيّد بعد حين، وقد يأتي نصّ تشريعي ثمّ يأتي بعد ذلك نصّ تشريعي آخر توضيحي يفسّر ويعيّن حدود مراد المشرّع من النصّ الأوّل.

وقد يستحكم التعارض فيكون مشكلة تتطلّب الحلّ بتعرّف الطريق الموصل إلى المطلوب.

والشريعة الإسلامية حيث اعتبرت الإجتهاد عملا مشروعا، واعتمدته طريقا حيّا إلى معرفة الحكم الشرعي واستقائه من مصادره، لا غرابة ان يقع في فقهها تخالف أو تعارض بين الأدلّة لوجود ما يرفع هذا عن طريق الإجتهاد بالموازنة بين الدليلين أو الأدلّة.

مادّة الموضوع:

وبالقاء نظرة على محتوى ومادّة موضوعنا هذا في مؤلّفات اُصول الفقه التي تناولته بالبحث والدراسة نراه يتمثّل في هذين الأمرين:

1- ظاهرة التخالف بين الأدلّة التي تنتهي بها - بواسطة ما إصطلح عليه الاُصوليون بالجمع الدلالي العرفي - إلى التوافق.

2- مشكلة التعارض بين الأدلّة التي التمس لها الاُصوليون الحلّ بواسطة الترجيح أو التخيير أو الإسقاط.

(الجمع الدلالي العرفي):

ويعنون بالجمع العرفي تلكم الطريقة التي يسلكها أبناء المجتمع في حياتهم عند التعامل مع الدليلين المتخالفين لتحويل التخالف القائم بينهما إلى تآلف يجمع بينهما.

ويأتي هذا في الموضوعات التالية:

- العامّ والخاص.

- المطلق والمقيّد.

- الحاكم والمحكوم.

وقبل أن يثير الشيخ الأنصاري موضوع (الحكومة) كان الاُصوليون الذين سبقوه يبحثون الجمع المشار إليه ويوفّقون بين الأدلّة المتخالفة بالتخصيص أو التقييد في موضوعي (العامّ والخاص) و (المطلق والمقيّد).

ولأنّنا سرنا بسيرتهم حيث درسنا الموضوعين المذكورين كاُسلوبين من الأساليب التي تنقّح صغريات كبرى الظهور، ورأينا هناك كيف يحمل العرف (أبناء المجتمع) العامّ على الخاص والمطلق على المقيّد، فيوفّقون بينهما بالجمع بين دلالتيهما بما يحوّل علاقة التخالف بينهما إلى علاقة تآلف، لا نكون بحاجة إلى الإعادة.

فما علينا - هنا - إلا البحث في موضوع (الحكومة) ودراسته وحده فقط.

إمّا في الشقّ الثاني للموضوع وهو مشكلة التعارض فقد بدأ الأقدمون دراستهم لها مقصورة على التعارض بين الخبرين أو الأخبار، فقد عنونها الشيخ الطوسي في كتابه (عدّة الاُصول) بعنوان يفيد (الترجيح بالأخبار) من خلال تسميته للموضوع بـ(فصل في ذكر القرائن التي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد أو على بطلانها وما يرجّح به الأخبار بعضها على بعض وحكم المراسيل)، وأسماها المحقّق الحلّي في كتابه (معارج الاُصول):الترجيح بين الأخبار المتعارضة، ومن بعده عنونها ابن اُخته العلامة الحلّي في كتابه (مبادئ الوصول إلى علم الاُصول): الفصل الحادي عشر في الترجيح، وصنفه إلى الأبحاث التالية: (البحث الأوّل في تعارض الدليلين) و (البحث الثاني في العمل عند وقوع التعادل) و (البحث الثالث في حكم الأدلّة المتعارضة) و (البحث الرابع في ترجيح الأخبار).

ثمّ وبعد أن تطور البحث الاُصولي وتوسّع في مادّته العلميّة توسّع معه موضوعنا هذا إلى ما يشمل مطلق الأدلّة أخبارا وسواها.

ومع هذا يبقى البحث في التعارض بين الأخبار أوسع منه في سواه لأنّ نسبة الأخبار كأدلّة أعلى بكثير من غيرها.

ومن هنا رأينا المعاصرين يعنونون أبحاثهم بعنوان (تعارض الأدلّة) وكمثال لهذا:

- كتاب (تعارض الأدلّة الشرعيّة) وهو تدوين لمحاضرات الشهيد الصدر (ت 1400هـ) بقلم تلميذه أخينا العزيز السيّد محمود الهاشمي.

- كتاب (تعارض الأدلّة) وهو تدوين لمحاضرات السيّد السيستاني بقلم تلميذه أخينا العزيز السيّد هاشم الهاشمي.

وفي هدي ما تقدّم سوف ندرس هنا موضوع الحكومة تحت عنوان (علاقة التخالف)، وموضوع التعارض بين الخبرين تحت عنوان (علاقة التعارض).

 

الهوامش:

(1)- ص 172.

(2)- ص 239.

(3)- 1/ 43 و 44.

(4)- تعارض الأدلة الشرعية 24.