المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 49.doc

أمّا الاُصوليون فيرون انّ الأحكام شرّعت كاملة، وبلّغت إلى من وصل إليهم البيان كاملة.

أمّا من لم تصل إليهم الروايات الحاملة للأحكام كوسيلة تبليغ لا يصحّ أن نلزمهم بالإمتثال لأنّ شرطه وهو التبليغ لم يتحقق، وعليه ليس أمام المكلّف إلا الرجوع إلى البراءة.

وذلك لأنّ جهله بالحكم يعني الشكّ في التكليف وهو مجرى البراءة.

هذا هو أهمّ ما يثبت أنّ البراءة من الظواهر الإجتماعيّة العامّة.

وبعده علينا أن نتساءل: هل أمضى المشرّع الإسلامي هذه السيرة العقلائيّة، وأقرّ هذا التباني الإجتماعي؟

استدلّ لذلك بأكثر من نصّ شرعي، أهمّها، وأقواها دلالةً النصّان التاليان:

1- الآية الكريمة (وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولا).

فمن ثنايا سياق الآية - وهو (من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها ولا تزر وازرة وزر اُخرى وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولا) - نستظهر أنّ اللَّه تعالى لا يعذّب الضالّ إلا بعد إلقاء الحجّة عليه وذلك ببعث الرسل.

والرسول حجّة على الناس بما يبلغه من أحكام أرسل بها.

فالتبليغ شرط امتثال التكليف، وحيث لا تبليغ لمن لم يصل إليه الحكم - بعد الفحص التامّ - لا يعذّب على مخالفته الحكم.

وهذا يعني أنّ الآية تطبيق لقاعدة قبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلّف، تلك القاعدة التي تفيد الرجوع إلى البراءة عند عدم العثور على الحكم.

والتطبيق أدلّ على الإمضاء من التصريح.

2- الحديث الشريف المروي في كتاب (الخصال) بسند صحيح عن حريز عن أبي عبداللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم): قال: قال رسول اللَّه(صلى الله عليه وآله وسلم): (رفع عن اُمّتي تسعة:

- الخطأ.

- والنسيان.

- وما اُكرهوا عليه.

- وما لا يعلمون.

- وما لا يطيقون.

- وما اضطروا إليه.

- والحسد.

- والطيرة.

- والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة).

- وموضع الشاهد من هذا الحديث هو قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما لا يعلمون.

وتقريب الإستدلال به: انّ الإلزام المحتمل من الوجوب أو الحرمة ممّا لا يعلم فهو مرفوع بمقتضى الحديث الشريف.

والمراد من الرفع هو الرفع في مرحلة الظاهر لا الرفع في الواقع ليستلزم التصويب، وذلك للقرينة الداخليّة والخارجيّة.

أمّا القرينة الداخليّة التي قد يعبّر عنها بمناسبة الحكم والموضوع فهي أنّ نفس التعبير بما لا يعلم يدلّ على أنّ في الواقع شيئا لا نعلمه، إذ الشكّ في شي‏ء والجهل به فرع وجوده، ولو كان المرفوع وجوده الواقعي بمجرد الجهل به لكان الجهل به مساوقا للعلم بعدمه كما هو ظاهر.

وأمّا القرينة الخارجيّة فهي الآيات والروايات الكثيرة الدالّة على إشتراك الأحكام الواقعيّة بين العالم والجاهل.

وان شئت فعبّر عن القرينة الخارجيّة بقاعدة الإشتراك، فإنّها من ضروريات المذهب.

وأيضا: لا إشكال في حسن الإحتياط، ولو كان المراد من الرفع هو الرفع الواقعي لم يبق مورد للاحتياط كما هو ظاهر، فيكون المراد من الحديث: أنّ الإلزام المحتمل من الوجوب أو الحرمة مرفوع ظاهرا، ولو كان ثابتا في الواقع، فإنّ الحكم الشرعي - واقعيّا كان أو ظاهريا - أمر وضعه ورفعه بيد الشارع.

وتفسير الرفع بعدم المؤاخذة على المخالفة يعني التطبيق لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وهذا - في واقعه - إمضاء لظاهرة البراءة.

 

(الإحتياط)

تعريفه

قال الشريف الجرجاني في (التعريفات): الاحتياط - في اللغة - هو الحفظ، وفي الإصطلاح: حفظ النفس من الوقوع في المآثم.

وفي هادي الكرمي: احتاط الرجل: لزم التحفّظ من الخطر حمايةً لنفسه.

ويقال: اتّخذنا هذا الإجراء احتياطا، أي من غير حاجة حاضرة ولكن احتسابا لحاجة قد تحدث.

وفي (المعجم الوسيط):احتاط: أخذ في اُموره بأوثق الوجوه.

والإحتياط - اُصوليا - هو الأخذ بالرأي أو القول الذي يحرز معه المكلّف انّه خرج من عهدة التكليف وما يترتّب على مخالفته من عقوبة.

وفي هدي هذا عرّفه الشيخ حسين الكركي العاملي في كتابه (هداية الأبرار)(1) - بأنّه العمل بما يتعيّن معه براءة الذمّة عند عدم وضوح الحكم الشرعي.

أدلّته:

والبعد العلمي الذي ينصبّ عليه الإستدلال - هنا - هو (وجوب الإحتياط) في الشبهات الحكميّة التحريميّة.

1- وينطلق الإخباريون إلى الإستدلال على ذلك من الإيمان بثبوت المقدّمات التالية المترتبة والمتكاملة في الإيصال إلى النتيجة المطلوبة، وهي:

- المقدّمة الاُولى:

إنّ الأخبار عن أهل البيت: استفاضت بأنّ للَّه في كلّ واقعة حكما شرعيّا مخزونا عند أهله حتّى أرش الخدش، والجلدة ونصف الجلدة(2).

ويبتني على هذه المقدّمة انّ جميع الأحكام قد ورد فيها خطاب شرعي أي بيان شرعي واصل إلى المكلّف.

- المقدّمة الثانية:

وتتمثّل في انّ شغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وهي مترتبة على المقدّمة الاُولى، وتقوم على:

إيماننا بأنّ كلّ واقعة فيها حكم شرعي.

وانّ ذلك الحكم الشرعي قد وصل إلينا بإيداعه عند أهله، وهم أهل البيت(عليهم السلام):

انّ هذا يعني أنّ هناك علما إجماليا بحكم مردّد بين الحظر والإباحة.

وانّ ذمّة المكلّف مشغولة بذلك الحكم، وشغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

- المقدّمة الثالثة:

وهي مترتبة على المقدّمة الثانية، وتتمثّل في انّ فراغ الذمّة على نحو اليقين يقتضي وجوب الإحتياط بالأخذ بالحرمة دفعا للضرر المتوقّع (المحتمل) من ترك الإحتياط بالأخذ بالحرمة، وهو العقاب الاُخروي(3).

وقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل - وهي معطى عقلي - هي ممّا قام عليها بناء العقلاء، وهي مدرك وجوب الإحتياط كظاهرة إجتماعيّة.

كما إنّها - أعني القاعدة - سليمة فيما تقتضيه من وجوب الإحتياط إذا لم يكن هناك مؤمّن شرعي من الوقوع في الضرر المحتمل.

وحيث يوجد المؤمّن الشرعي، وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لا يأتي دور الأخذ بقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، ذلك أنّ المراد بالبيان خروج أمر التكليف من مبلغ التشريع - وهو المعصوم - ووصوله إلى المكلّف، وهذا لم يحدث في مقام الشبهات، وقد أشار إلى هذا المحدّث البحراني في (الحدائق)(4) بقوله:

أمّا عندنا - معاشر الإماميّة - فحيث استفاض في أخبارنا، بل صار من ضروريات ديننا، أنّه (يعني النبي) أودع علومه عند أهل بيته وخصّهم بها دون غيرهم.

واستفاض - أيضا - أنّه لم يبق شي‏ء من الأحكام - جزئي وكلّي - إلا وقد ورد فيه خطاب شرعي وحكم إلهي.

وأنّ جميع ذلك عندهم (يعني أهل البيت).

وأنّهم (أي أهل البيت) كانوا في زمن تقيّة وفتنة:

فقد يجيبون عن السؤال بما هو الحكم الشرعي الواقعي تارةً.

وقد يجيبون بخلافه تقيّة.

وقد لا يجيبون أصلا.

وقوله الأخير: (وقد لا يجيبون أصلا) يعني أنّ الحكم لم يصل إلى المكلّفين.

يضاف إليه: ذلك الذي ألقوه من أحكام على السائل ثمّ فقد منه لسبب من الأسباب فانّه - هو الآخر - لم يصل إلى المكلّفين الآخرين غير السائل.

ومن هنا جاء التأمين بالبراءة (قبح العقاب بلا بيان) واصلٍ للمكلّف الذي قام بالفحص التامّ عن الحكم ولم يعثر عليه، إمّا لعدم خروجه من مصدره كما نصّ على ذلك في (الحدائق)، وإمّا لفقدانه كما أشرت إليه. ونخلص من هذا:

- إلى أنّ قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل من متبنيّات العقلاء، وعليها قامت سيرتهم.

- وإلى أنّها تقتضي وجوب الإحتياط إذا لم يكن هناك مؤمّن من الوقوع في الضرر المحتمل.

وناقش السيّد السبزواري الإستدلال بهذه القاعدة بقوله في (التهذيب)(5) الثالث (يعني الدليل الثالث من أدلّة وجوب الإحتياط): قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، فإنّ إقتحام محتمل الحرمة مظنّة للضرر، والعقل حينئذ يحكم بعدم جوازه دفعا للضرر.

ويُردّ:

أوّلا: بالنقض بالشبهات الوجوبيّة.

وثانيا: بأنّه إن اُريد بالضرر العقاب فلا عقاب في البين لقاعدة قبيح العقاب بلا بيان.

2- وأهمّ النصوص الشرعيّة التي استدلّوا بها هي:

أ- قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما الاُمور ثلاثة:

- أمر بيّنٌ رشده فيتّبع.

- وأمر بيّنٌ غيه فيجتنب.

- وشبهات بين ذلك.

والوقوف عند الشبهات خير من الإقتحام في الهلكات، ومن ترك الشبهات نجا من المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات، وهلك من حيث لا يعلم - هداية الأبرار(6).

- عن عبدالرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن رجلين أصابا صيدا، وهما محرّمان، الجزاء بينهما، أو على كلّ واحد منهما جزاء؟

فقال: لا، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد.

قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك، فلم أدر ما عليه.

قال: إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالإحتياط، حتّى تسألوا عنه فتعلموا - م. ن -.

ويلاحظ على الإستدلال بهما:

- انّ الحديث الأوّل اشتمل على كلمة (خير)، وهي - كما ينصّ علماء العربيّة.. اسم تفضيل، وهذا يعني أنّ المفضّل عليه يشارك المفضّل في الوصف إلا أنّه دونه.

وهذا يفيد أنّ الحديث الشريف ورد مورد الإرشاد لا مورد الإلزام.

وإذا لم يحمل على الإرشاد فهو من نوع الإمضاء لقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، وقلنا: إنّ هذه القاعدة يرجع إليها ويؤخذ بمفادها إذا لم يكن هناك مؤمّن شرعي، وحيث يوجد المؤمّن الشرعي وهو البراءة لا تصل النوبة إليها.

أمّا الحديث الثاني فلا علاقة له بما نحن فيه وهو إختفاء الحكم حيث لا يمكن الرجوع إلى المعصوم والإستفسار منه، لأنّه - أعني الحديث - يرشد السائل حيث يمكنه السؤال من الإمام بعد ذلك.

 

الهوامش:

(1)- ص 223.

(2)- الحدائق 1/ 45.

(3)- أنظر: هداية الأبرار للشيخ حسين الكركي العاملي (ت 1076هـ) ص 224. والحدائق الناضرة للشيخ يوسف البحراني(ت 1186هـ) ج1 ص 45.

(4)- 1/45.

(5)- 2/160.

(6)- ص 224.