المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 46.doc

ومن العجب أنّه انتصر بهذا الخبر الضعيف المختصّ بمورد خاص، ولم يتمسّك بالأخبار الصحيحة العامّة المعدودة في حديث الأربعمائة من أبواب العلوم.

وأوّل من تمسّك بهذه الأخبار في ما وجدته والد الشيخ البهائي في ما حكي عنه، في (العقد الطهماسبي)، وتبعه صاحب الذخيرة وشارح الدروس، وشاع بين من تأخّر عنهم.

نعم، ربّما يظهر من الحلّي في (السرائر) الإعتماد على هذه الأخبار، حيث عبّر عن إستصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه بـ(نقض اليقين باليقين)، وهذه العبارة ظاهر انّها مأخوذة من الأخبار(1) ومنه نتبيّن انّ الخلاف بين القدامى ومن تأخّر عنهم يدور بين عدّ الإستصحاب أمارة وعدّه أصلا.

أمّا المعاصرون فقد انتقل محور الخلاف بينهم إلى مستوى اُصوليّته، والأكثر على انّه إحرازي وذلك لما لاحظوا من انّ لسان إعتباره يختلف عن كلّ من لسان جعل الطريقيّة للأمارة وجعل الحجيّة للاُصول المنتجة للوظائف الشرعيّة.

فقد اعتبر في لسان جعله عدم نقض اليقين بالشكّ، فهو من ناحية فيه جنبة نظر إلى الواقع، ولكن هذه الناحية لم يركّز عليها الجعل الشرعي، وإنّما ركّز الجعل على الأمر باعتبار المكلّف مشكوكه متيقنا، وإعطائه حكم الواقع وتنزيله منزلته من حيث ترتيب جميع أحكامه عليه، فهو من حيث الجري العملي واقع تنزيلا، وان كانت طريقيّته للواقع غير ملحوظة في مقام الجعل.

بينما انّ لسان جعل الأمارة ركّز على ما فيها من اراءة وكشف، وإعتباره كاملا، فهو يقول بفحوى كلامه: إنّ مؤدّى الأمارة هو الواقع (فإذا حدّث فعنّي يحدّث) كما جاء ذلك في بعض ألسنة جعل الحجيّة لخبر الواحد، والمسؤول عنه أحد الرواة من أصحاب الأئمّة.

أمّا الأصل غير الإحرازي فهو لا يتعرّض إلى أكثر من إعتبار الجري العملي على وفقه مع فرض إختفاء الواقع.

 وبهذا يتّضح الفرق بين الإستصحاب والأمارة والأصل:

 فالأمارة تحكي عن الواقع، والشارع بلسان جعله يقول:

 إنّ مؤدّاها هو الواقع.

 والإستصحاب لا يقول بلسان جعله: إنّه هو الواقع، وإنّما يأمرك باعتباره واقعا.

 أمّا الأصل فلا يزيد على كونه مجعولا كوظيفة عند إختفاء الواقع بجميع مراحله، فهو لا يزيد على طلب الجري والسلوك العملي وفق مؤدّاه(2).

ويفاد من نتيجة هذا البحث في باب تعارض الأدلّة، وسيأتي.

 

بين البراءة والإحتياط

عنوان البحث:

دأب العلماء في دراساتهم ومدوّناتهم الاُصوليّة على إفراد كلّ من البراءة والإحتياط بعنوان مستقلّ.

ويعود هذا إلى أنّ الاُصول الإماميّ دوّن في البداية من قبل علماء المدرسة الاُصوليّة الذين عرفوا بالاُصوليين نسبةً إلى هذا العلم لإعتمادهم على قواعده في مجال الإستنباط.

وهم - من خلال ما أوصلهم إليه الدليل - يرون انّ المرجع في جميع الشبهات موضوعيّة وحكميّة بقسميها الوجوبيّة والتحريميّة هو البراءة.

وبعد نشوء المدرسة الإخباريّة وما قامت به من مداخلات وملاحظات على علم الاُصول الاُصولي، ومن خلال أدلّتها من الأحاديث الشريفة ذهب علماؤها إلى انّ المرجع في الشبهة الحكميّة التحريميّة هو الإحتياط.

ممّا دفع الاُصوليين من علماء الاُصول أن يدخلوا عليهم في ما ذهبوا إليه فيدرجوا مبحث الإحتياط ضمن مباحث الاُصول ليقولوا فيه رأيهم المخالف لرأي الإخباريين ويردّوا عليهم فيما ذهبوا إليه.

لهذا كلّه إنفرد كلّ من البراءة والإحتياط بمبحث مستقلّ.

ولكنّه بالنظر:

- لإشتراك البراءة والإحتياط في موضوع واحد، وهو الشبهات الحكميّة التحريميّة، يجريان فيه ويطبّقان عليه.

- ولأنّ الإختلاف بين الاُصوليين والإخباريين - الذي ألمحت إليه - في أيّهما الأصل الذي يرجع إليه عند حصول الشبهة، وتبعا للدليل الناهض بذلك، وهو ذهاب فريق إلى أنّه البراءة، وذهاب آخر إلى أنّه الإحتياط، تبعا لاختلافهم في انّ الشكّ في الشبهة المذكورة شكّ في التكليف فيرجع إلى البراءة، أو هو شكّ في المكلّف به فيرجع إلى الإحتياط.

لهذا وذلك رأيت الجمع بينهما في عنوان واحد، لأنّه - من ناحية منهجيّة - الأولى في تنظيم البحث.

وقبل أن نعرف البراءة ونتعرّف ما هو الإحتياط نحدّد محور البحث أو ما يعبّر عنه الأقدمون بـ(تحرير محلّ النزاع).

ثمّ ننتقل إلى بيان الخلاف في المرجع وإيضاح معنى البراءة ومعنى الإحتياط، وعرض أهمّ أدلّة كلّ من الفريقين، مضافا إليها رأي اُستاذنا الشهيد الصدر في المسألة، منتهين - بعد ذلك - إلى الموازنة بين الأقوال وأدلّتها، وما تسلّمنا إليه من نتيجة.

محور البحث:

ومحور البحث الذي هو محطّ تطبيق أحد الأصلين البراءة أو الإحتياط هو الشبهة المثيرة للشكّ عند المكلّف في واقع الموضوع أو واقع الحكم.

وعلى أساس من هذا قسّموا الشبهة إلى قسمين: الشبهة الموضوعية والشبهة الحكميّة.

والشبهة - لغة - تعني الإلتباس والإشتباه، وكلّ ما إلتبس أمره لا يدرى أهو حلال أم حرام، وحقّ هو أمّ باطل(3)، هو شبهة إصطلاحا.

انّ هذه الشبهة عندما تتمركز بحيث لا يوجد دليل يرفع هذا الإلتباس ويحدّد المطلوب من المكلّف تورث الشكّ عند المكلّف الذي هو حالة نفسيّة يتردّد معها الذهن بين الإثبات والنفي ويتوقّف عن الحكم(4)، فيذهب يفتّش عمّا يرفع هذا الشكّ الذي هو فيه، ويزيل هذه الحيرة التي تعتريه.

وهنا قد يجد ملتمسه في تطبيق قاعدة البراءة على المورد أو في تطبيق قاعدة الإحتياط على الخلاف الذي سنوضحه فيما يأتي.

ولهذا حدّد العلماء موضوع البحث في (الشكّ في الشبهة...).

ولكن قد يشكل على هذا التعبير الاُصولي الذي يتردّد على ألسنة الاُصوليين وفي لغتهم العلميّة، وهو قولهم (الشكّ في الشبهة...).

ويتركّز الإشكال في انّ الشكّ يعني التردّد مع تساوي الإحتمالين أو الاحتمالات، والشبهة كذلك، فهي - الاُخرى - تعني التردّد مع تساوي الاحتمالين أو الاحتمالات.

وهذا يعني أنّهما مترادفان يتواردان على معنى واحد.

وعليه: يكون مؤدّي عبارة (الشكّ في الشبهة): (الشكّ في الشكّ)، فكيف يصحّ هذا.

إلا أنّنا برجوعنا إلى معرفة حقيقة كلّ منهما لا ترد الملاحظة المذكورة، ذلك أنّ الشبهة هي الإلتباس فما التبس أمره فلا يدري أحلال هو أم حرام، وحقّ هو أم باطل هو شبهة إصطلاحا - كما مرّ -.

وهذا يفيدنا انّ متعلّق الشبهة هو الاُمور الخارجيّة (الواقعة خارج الذهن).

أمّا الشكّ فهو حالة نفسيّة يتردّد معها الذهن بين الإثبات والنفي ويتوقّف عن الحكم - كما سبق-.

وعلى هذا فعندما نقول (الشكّ في الشبهة) نعني الحالة النفسيّة التي تحصل للإنسال من إلتباس شي‏ء بمستوى لا نعرف حقيقته ولا حقيقة حكمه.

فمثلا: الحيوان المذبوح الذي لا يدرى هل هو مذكّى أو غير مذكّى، شي‏ء مشتبه في واقعه كموضوع للحكم، ذلك انّه إن كان مذكّى فهو حلال الأكل، وإن كان غير مذكّى فهو محرّم أكله.

ومثل: التبغ فإنّه معلوم ومعروف باعتباره موضوعا، ولكنّه مشكوك الحكم، هل هو حلال أو حرام.

هذا الإلتباس في الموضوع أو في الحكم يثير الشكّ عند المكلّف.. وعليه - أي من هذه الزاوية - يصحّ التعبير بقولهم: (الشكّ في الشبهة...) ولا غبار عليه.

ومع هذا نقول: موضوع البحث هو الشبهة نفسها، وليس الشكّ فيها، ذلك انّ البراءة كقاعدة، وكذلك الإحتياط إنّما يجريان في الشبهة نفسها ويطبّقان عليها لينتجا ما يزيل الشكّ ويرفع الحيرة.

ولا يريدون بالشكّ - هنا تساوي الإحتمالين أو الإحتمالات فقط، بل يعمّمونه إلى ما يشمل الظنّ غير المعتبر أيضا.

أو قل: إنّ مرادهم من الشكّ - هنا - عدم العثور على الدليل المعتبر أي الحجّة التي يصحّ الإستناد إليها في معرفة الموضوع أو الحكم.

يقول السيّد السبزواري في (التهذيب)(5) - المراد بالجهل والشكّ في مورد الاُصول عدم الحجّة المعتبرة، فيعمّ موارد وجود الظنون الغير المعتبرة أيضا.

ويفصّل الشيخ الأنصاري في بيان ذلك بالمقارنة بين الحالات النفسيّة الثلاث التي تحصل للمكلّف، وموقع الشكّ منها وبيان القاعدة التي يرجع إليها في مقام الشكّ وبشكل عامّ، فيقول: قد قسّمنا في صدر هذا الكتاب المكلّف المتلفت إلى الحكم الشرعي العملي في الواقعة على ثلاثة أقسام لأنّه:

- إمّا أن يحصل له القطع بحكمه الشرعي.

- وإمّا أن يحصل له الظنّ.

- وإمّا أن يحصل له الشكّ.

وقد عرفت:

انّ القطع حجّة في نفسه لا بجعل جاعل.

والظنّ يمكن أن يعتبر في متعلّقه، لكونه كشفا ظنّيا ومرآة لمتعلّقه، لكن العمل به والإعتماد عليه في الشرعيّات موقوف على وقوع التعبّد به، وهو غير واقع إلا في الجملة.

 أمّا الشكّ، فلمّا لم يكن فيه كشف أصلا لم يعقل فيه أن يعتبر.

فلو ورد في مورده حكم شرعي كأن يقول: الواقعة المشكوكة حكمها كذا كان حكما ظاهريا، لكونه مقابلا للحكم الواقعي المشكوك بالفرض، ويطلق عليه الواقعي الثانوي أيضا، لأنّه حكم واقعي للواقعة المشكوك في حكمها، وثانوي بالنسبة إلى ذلك الحكم المشكوك فيه، لأنّ موضوع هذا الحكم الظاهري، وهي الواقعة المشكوك في حكمها، لا يتحقّق إلا بعد تصوّر حكم نفس الواقعة والشكّ فيه.

مثلا: شرب التتن في نفسه له حكم، فرضنا فيما نحن فيه شكّ المكلّف فيه، فإذا فرضنا ورود حكم شرعي لهذا الفعل المشكوك الحكم كان هذا الحكم متأخّرا طبعا عن ذلك المشكوك، فذلك الحكم واقعي بقول مطلق، وهذا الوارد ظاهري، لكونه المعمول به في الظاهر، وواقعي ثانوي لأنّه متأخّر عن ذلكم الحكم لتأخّر موضوعه عنه.

 

الهوامش:

(1)- الرسائل( الفرائد) 2/543.

(2)- الأصول العامة 449- 450.

(3)- المعجم الوسيط: مادة: شبه.

(4)- م. س: مادة: شك.

(5)- 2/ 143.