المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 44.doc

وينقسم الحكمي تقسيما آخر، وإلى قسمين أيضا، هما: الكلّي والجزئي.

أ- استصحاب الجزئي:

يراد بالجزئي - هنا - الجزئي المنطقي.

كاستصحاب بقاء زيد - مثلا - عند الشكّ في بقائه.

ب- إستصحاب الكلّي:

ويراد به المصطلح المنطقي المعروف بالكلّي الطبيعي.

ومثّلوا له بما إذا علم بوجود حيوان في الدار وشكّ في كونه فيلا يعيش أعواما أو بقّا لا يعيش إلا أيّاما، فإذا مضت بعد ذلك شهور يحصل الشكّ لا محالة في بقاء أصل الحيوان، إذ لو كان الموجود فيلا فهو باق قطعا، ولو كان بقّا فهو فانٍ قطعا، فيمكن هنا إستصحاب كلّي الحيوان.

ويراد بالحكم في القسمين (الكلّي والجزئي)(1) ما يشمل التكليفي والوضعي.

-2العدمي:

ويراد به الشي‏ء الذي كنّا على يقين من عدمه ثمّ شككنا في إرتفاعه.

وقسّموه إلى: نعتي ومحمولي.

أ- العدم النعتي:

ويراد به العدم الثابت للشي‏ء بعد وجود متعلّقه، أي بمفاد ليس الناقصة.

كما إذا علم بعدم عدالة زيد ثمّ شكّ بارتفاع ذلك العدم(2).

ب- العدم المحمولي:

وهو العدم السابق على وجود موضوعه ويراد إثباته للموضوع بعد وجوده.

وهو المعبّر عنه بمفاد ليس التامّة، وبالعدم الأزلي.

ويمثّل له بإستصحاب عدم القرشيّة عند الشكّ في امرأة أنّها قرشيّة أم غير قرشيّة(3).

وتندرج تحت الأمر العدمي جميع أقسام الأمر الوجودي المتقدّمة بحكم النقيض، بمقتضى المقابلة بينهما(4).

مشروعيّة الإستصحاب:

المقصود بالإستصحاب - هنا - القاعدة العامّة المجعولة في مقام العمل، وليس الوظيفة التي يقوم بها المكلّف عند إبقائه ما كان على ما كان عليه، تطبيقا للقاعدة.

أو قل: يراد به النظريّة لا التطبيق.

والطريق إلى تعرّف هذا هو إستعراض الأقوال في حجيّة الإستصحاب وعدمها، ثمّ تناول الأدلّة التي اُقيمت على ذلك بالبحث والمناقشة.

)الأقوال):

قال الشيخ الأنصاري في (الرسائل)(5) بعد ان استعرض الأقوال في المسألة عند حديثه في أقسام الإستصحاب - هذه جملة ما حضرني من كلمات الأصحاب، والمتحصّل منها في بادي النظر أحد عشر قولا:

الأوّل: القول بالحجيّة مطلقا.

الثاني: عدمها مطلقا.

الثالث: التفصيل بين العدمي والوجودي.

الرابع: التفصيل بين الاُمور الخارجيّة وبين الحكم الشرعي مطلقا، فلا يعتبر في الأوّل.

الخامس: التفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره، فلا يعتبر في الأوّل إلا في عدم النسخ.

السادس: التفصيل بين الحكم الجزئي وغيره، فلا يعتبر في غير الأوّل.

وهذا هو الذي تقدّم أنّه ربّما يستظهر من كلام المحقّق الخوانساري في حاشية شرح الدروس، على ما حكاه السيّد في شرح الوافية.

السابع: التفصيل بين الكلّي التكليفي الغير التابع للحكم الوضعي وغيره، فلا يعتبر في الأوّل.

)التفصيل بين الأحكام الوضعيّة، يعني نفس الأسباب والشروط والموانع، والأحكام التكليفيّة التابعة لها وبين غيرها من الأحكام الشرعيّة، فيجري في الأوّل دون الثاني).

الثامن: التفصيل بين ما ثبت بالإجماع وغيره، فلا يعتبر في الأوّل.

التاسع: التفصيل بين كون المستصحب ممّا ثبت بدليله أو من الخارج استمراره، فشكّ في الغاية الرافعة وبين غيره، فيعتبر في الأوّل دون الثاني، كما هو ظاهر (المعارج).

العاشر: هذا التفصيل مع اختصاص الشكّ بوجود الغاية، كما هو الظاهر من المحقّق السبزواري.

الحادي عشر: زيادة الشكّ في مصداق الغاية من جهة الإشتباه المصداقي دون المفهومي، كما هو ظاهر ما سيجئ من المحقّق الخوانساري.

ثمّ انّه لو بني على ملاحظة ظواهر كلمات من تعرّض لهذه المسألة في الاُصول والفروع لزادت الأقوال على العدد المذكور بكثير، بل يحصل لعالم واحد قولان أو أزيد في المسألة، إلا أنّ صرف الوقت في هذا ممّا لا ينبغي.

ثمّ ذكر إختياره، فقال: والأقوى هو القول التاسع، وهو قول المحقّق في (المعارج) كما نصّ(قدس سره)على ذلك.

ونصّ ما جاء (المعارج)(6) -: المسألة الثانية: إذا ثبت حكم في وقت، ثمّ جاء وقت آخر، ولم يقم دليل على انتفاء ذلك الحكم، هل يحكم ببقائه على ما كان أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دلالة، كما يفتقر نفيه إلى دلالة.

حكي عن المفيد(رحمه الله): أنّه يحكم ببقائه ما لم تقم دلالة على نفيه، وهو المختار.

وقال المرتضى(رحمه الله): لا يحكم بأحد الأمرين إلا لدلالة.

مثال ذلك: المتيمّم إذا دخل في الصلاة، فقد أجمعوا على المضي فيها، فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة، هل يستمر على فعلها إستصحابا للحال الأوّل أم يستأنف الصلاة بوضوء؟..

فمن قال بالإستصحاب قال بالأوّل، ومن اطّرحه قال بالثاني.

)الأدلّة(:

وهي، فيما أرى - تتنوّع إلى نوعين:

 -ما يرتبط بالنظرية.

 -وما يرتبط بتطبيق النظريّة.

وأهمّ ما يستدلّ به للنظريّة هو (بناء العقلاء).

وأهمّ ما يستدلّ به للتطبيق هو الروايات.

وسنتحدّث عن كلّ من هذين النوعين في حدود ما يرتبط بالبرهنة فقط.

 -بناء العقلاء:

ويقوم هذا على أساس من أنّ الإستصحاب ظاهرة إجتماعيّة عامّة، اهتدى إليها الإنسان بفطرته دونما إقامة برهان، وتعامل معها بشكل تلقائي لا تقليد فيه أو محاكاة، وأقام عليها مختلف شؤون حياته الفرديّة والإجتماعية.

وهكذا ظاهرة بهذه الشموليّة، وبهذا الفهم لها من قبل الإنسان، وبهذه السعة من تعامله معها، منذ فجر تاريخه وحتّى يوم الناس هذا لا تحتاج في إعتبارها والإعتماد عليها لأكثر من الإلتفات إلى قيام هذه السيرة العقلائيّة وتباني الناس على العمل بها، ثمّ إمضاء المشرّع المقدّس لها، وهو ما سنراه في دراستنا للروايات.

يقول اُستاذنا الشيخ المظفّر في (اُصول الفقه)(7): لا شكّ في أنّ العقلاء من الناس على اختلاف مشاربهم وأذواقهم جرت سيرتهم في عملهم وتبانوا في سلوكهم العملي على الأخذ بالمتيقّن السابق عند الشكّ اللاحق في بقائه.

وعلى ذلك قامت معايش العباد، ولولا ذلك لأختلّ النظام الإجتماعي ولما قامت لهم سوق وتجارة.

 فإنّ بناء العقلاء في عملهم مستقرّ على الأخذ بالحالة السابقة عند الشكّ في بقائها، في جميع أحوالهم وشؤونهم، مع الإلتفات إلى ذلك والتوجّه إليه.

وإذا ثبتت هذه المقدّمة ننتقل إلى مقدّمة اُخرى فنقول: إنّ الشارع من العقلاء بل رئيسهم فهو متّحد المسلك معهم، فإذا لم يظهر منه الردع عن طريقتهم العمليّة يثبت على سبيل القطع أنّه ليس له مسلك آخر غير مسلكهم، وإلا لظهر وبان، ولبلّغه للناس.

وهذا الدليل - كما ترى - يتكوّن من مقدّمتين قطعيتيّن:

-1 ثبوت بناء العقلاء على إجراء الإستصحاب.

2- كشف هذا البناء عن موافقة الشارع واشتراكه معهم.

ويقول اُستاذنا التقي الحكيم في (الاُصول العامّة)(8): والذي يبدو لي أنّ الإستصحاب من الظواهر الإجتماعيّة العامّة التي ولدت مع المجتمعات ودرجت معها، وستبقى - ما دامت المجتمعات - ضمانة لحفظ نظامها واستقامتها، ولو قدر للمجتمعات أن ترفع يدها عن الإستصحاب لما استقام نظامها بحال، فالشخص الذي يسافر - مثلا - ويترك بلده وأهله وكلّ ما يتّصل به، لو ترك للشكوك سبيلها إليه - وما أكثرها لدى المسافرين - ولم يرفعها بالإستصحاب لما أمكن له أن يسافر عن بلده، بل أن يترك عتبات بيته أصلا، ولشلّت حركتهم الإجتماعيّة وفسد نظام حياتهم فيها، فقول شيخنا النائيني: إنّ عملهم على طبق الحالة السابقة إنّما هو بالهام إلهي حفظا للنظام لا يخلو من أصالة وعمق نظر، ومناقشته بأنّ منكري حجيّة الإستصحاب لم يختلّ النظام عليهم بعد، ولو كان حفظ النظام يقتضي ذلك لأختلّ على المنكرين، تحتاج إلى تأمّل، فالمنكرون لحجيّة الإستصحاب عندما أنكروها لم يتخلّوا في واقع حياتهم عن الجري على وفق الإستصحاب، وان تخلّوا عنه في الشرعيّات.

وكونه ظاهرة إجتماعيّة يصدر عنها الناس في مجتمعاتهم حتّى مع الشكّ صدورا تلقائيا - كما هو الشأن في الظواهر الإجتماعيّة - لا ينافي ان يلتقي أحيانا الرجاء أو الإحتياط أو الظنّ بالبقاء أو الإطمئنان أو غيرها، لكن هذه الاُمور ليست هي الباعثة على خلق هذه الظاهرة ككل، وإنّما هي من وسائل التبرير عن السلوك على وفقها في بعض الأحيان ممّا يخيّل للإنسان الفرد انّ جملة تصرّفاته منطقيّة ومبرّرة.

وإذا صحّ ما ذكرناه من كونها من الظواهر الإجتماعيّة العامّة. فعصر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان بدعا من العصور ولا مجتمعه بدعا من المجتمعات ليبتعد عن تمثّل وشيوع هذه الظاهرة، فهي بمرأى من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) - حتما - ولو ردع عنها لكان ذلك موضع حديث المحدّثين، وهو ما لم يحدّث عنه التاريخ، فعدم ردع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عنها يدلّ على رضاه وإقراره لها، وبخاصة وهو قادر على الردع عن مثلها، وليس ما يمنعه عنه.

 

الهوامش:

(1)- تحرير المعالم 196.

(2)- الإستصحاب الشيخ كوثراني ص 53.

(3)- م. ن.

(4)- م. س/ ص 54.

(5)- 2/ 560.

(6)- ص 206.

(7)- 2/ 251.

(8)- 459.