المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 41.doc

الأقوال في المسألة:

قال صاحب المعالم: اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهي عنه على أقوال:

- ثالثها: يدلّ في العبادات لا في المعاملات.

وهو مختار جماعة، منهم المحقّق والعلّامة.

ويقابل هذا التفصيل قولان بالإطلاق، هما:

- أوّلهما: الدلالة على الفساد مطلقا، أي في العبادات والمعاملات.

- وثانيهما: عدم الدلالة على الفساد مطلقا، لا في العبادات ولا في المعاملات.

وقال صاحب القوانين: الأقوال في المسألة خمسة:

الأوّل: الدلالة على الفساد مطلقا.

الثاني: عدمها مطلقا، نقله فخر الدين عن أكثر أصحابه، والأوّل عن بعضهم، وهو مذهب جمهور الشافعيّة والحنابلة.

والثالث: الدلالة في العبادات لا في المعاملات مطلقا (أي في الشرع واللغة)، نقله فخر الدين عن أكثر أصحابنا وبعض العامّة.

الرابع: الدلالة فيهما (يعني العبادات والمعاملات) شرعا لا لغة، وهو مذهب السيّد(رحمه الله) وابن الحاجب.

والخامس: الدلالة في العبادات شرعا لا لغة، وقد نسبه بعض الأصحاب إلى أكثرهم.

ثمّ اختار فقال: والأقرب القول الثالث.

والذي ينبغي - من ناحية منهجيّة - هو أن يفرّق في البحث بين النهي في العبادة، والنهي في المعاملة، لورود التفرقة بينهما في الشواهد من النصوص الشرعيّة.

فتؤخذ العبادة على نحو الإطلاق لأنّ نصوصها الشرعيّة هكذا.

ويفصّل في المعاملة بين ما إذا كان المنهي عنه هو أصل وجود المعاملة، وما إذا كان هو التسبيب في وجود المعاملة، أي إنشاء المعاملة.

وهذا التفصيل في المعاملة مستمدّ من واقع ما جاء من التشريعات الشريفة، وممّا عليه العرف الإجتماعي، وممّا يدركه الإنسان المكلّف، وبالضرورة لأدنى التفاتة إليه.

ولهذا لا نطيل بذكر أدلّة الأقوال الاُخرى ومناقشاتها بعد أن كان هذا التفصيل يعلم بالبداهة.

ففي العبادة حيث قوامها التقرّب بها إلى اللَّه تعالى، ولا يتقرّب للمحبوب إلا بما هو محبوب، والمنهي عنه غير محبوب.

وهذا يستلزم بطلان العبادة، ويكشف بأنّها غير مرادة للشارع المقدّس، لأنّ الملاك في الفساد والبطلان هو مبغوضيّة الفعل.

أمّا في المعاملة: فإنّ النهي - بداعي الردع والمنع - قد تمثّل في النصوص الشرعيّة بالموضعين التاليين:

1- النهي عن التسبيب في وقوع المعاملة وهو إنشاء المعاملة، كالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللَّه وذروا البيع).

2- النهي عن المسبّب الذي هو أصل وجود المعاملة، كالنهي عن بيع المصحف.

والفرق بينهما أنّ المعاملة في الموضع الأوّل غير مبغوضة للمولى، وإنّما نهى عن التسبيب في وقوعها لئلّا تزاحم أداء صلاة الجمعة، فالتسبيب هو المبغوض فقط.

بينما هي في الموضع الثاني مبغوضة لذاتها، أي انّ المولى لا يريد وقوعها بأي حال من الأحوال.

وعليه:

- ففي الأوّل لا دلالة للنهي عن التسبيب على فساد المعاملة إذ لم تثبت المنافاة لا عقلا ولا عرفا بين مبغوضيّة العقد والتسبيب به وبين إمضاء الشارع له بعد ان كان العقد مستوفيّا لجميع الشروط المعتبرة فيه(1).

وفي الثاني - أعني النهي عن أصل وجود المعاملة - فدلالته على الفساد واضحة لوضوح أنّ المشرّع لا يريد وقوع مثل هذه المعاملة، وهذا يعني أنّها مبغوضة له، وما هو مبغوض يستلزم - وبالضرورة - فساد وقوعه.

 

مباحث الاُصول العمليّة

 

الاُصول العمليّة

الإستصحاب

بين البراءة والإحتياط

 

مباحث الاُصول العمليّة

تناولنا في مباحث الألفاظ دلالة اللفظ، وركّزنا أكثر على دلالة الظهور، وعلى موارد هذه الدلالة التي تنقّح الصغريات لكبرى الظهور في قياس الإستنباط.

وتناولنا في مباحث الملازمات العقليّة دلالة العقل بدراسة قاعدة الملازمة ومواردها التي تتمثّل فيها.

وكلّ هذا يدخل ضمن ما يعرف عند الاُصوليين بالأدلّة الإجتهاديّة، وهي التي يحاول الفقيه المجتهد أن يصل عن طريقها إلى الحكم الواقعي، المطلوب منه الوصول إليه كمجتهد والإمتثال على وفقه كمكلّف.

فإذا انكشف الواقع أمام المجتهد إنكشافا تامّا سمّيت هذه المرحلة بمرحلة العلم، لأنّها تعني أنّ المجتهد عند وصوله إلى الحكم الواقعي، وبإنكشاف تامّ، قد أصاب الواقع، وإصابة الواقع وإنكشافه لدى المجتهد إنكشافا تامّا هي نفس العلم.

ويترتّب عليه أنّ المجتهد يمكنه أن يقول - وبضرس قاطع - هذا حلال وهذا حرام.

والمسلمون جميعا على هذا، يقول الإمام الشافعي (ت 204هـ) في (الرسالة)(2) -: على أنّ ليس لأحد أبدا أن يقول في شي‏ء حلّ ولا حرم إلا من جهة العلم.

وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس.. وباستبدال القياس عند من لا يقول به بالعقل تتمّ قائمة الأدلّ-ة الإجتهاديّة.

وبعد هذه المرحلة (مرحلة العلم بالحكم) تأتي مرحلة الظنّ بالحكم، وهو أمر طبيعي، إذ ليس دون العلم إلا الظنّ.

ويتأتّى هذا عندما لا يقدر للمجتهد أن يصل إلى الحكم الشرعي عن طريق الكشف التامّ عنه من خلال الدليل الذي تعامل معه.

ففي هذه الحال يحاول أن يلتمس الدليل الذي يكشف له عن الواقع ولو كشفا ناقصا، وهذا ما يعرف - اُصوليّا - بالأمارات كخبر الثقة من حيث السند، والأخذ بظواهر الألفاظ من حيث الدلالة.

وعندما لا يصل المجتهد إلى الواقع عن طريق الدليل الذي يكشف عنه كشفا تامّا (مرحلة العلم)، ولا عن طريق الأمارة التي تشكف عنه كشفا ناقصا (مرحلة الظنّ)، ويصبح في مرحلة الشكّ، وتحت تأثير الشكّ الذي يضعه في حيرة من أمره يأتي دور الاُصول العمليّة التي في ضوئها يحدّد المجتهد الوظيفة التي تقوم مقام الحكم من حيث التكليف منّةً ولطفا من اللَّه تعالى بعباده، ورفعا لحيرة الشكّ.

وتسمّى هذه الاُصول بالأدلّة الفقاهيّة، والاُصول العمليّة، لأنّها تحدّد للمكلّف العمل الذي ينبغي أن يقوم به في هذه المرحلة.

وحاصله: أنّ لدينا في مجال الاستنباط ثلاث مراحل، هي:

1- مرحلة العلم بالحكم.

2- مرحلة الظنّ بالحكم.

وكلتاهما توصلان إلى الحكم.

3- مرحلة الشكّ بالحكم.

وتوصّلنا هذه المرحلة الأخيرة (مرحلة الشكّ) إلى الوظيفة التي تسدّ مسدّ الحكم حتّى ينجلي أمره.

فإذن: المجتهد يبحث عن شيئين مترتبين:

الأوّل: الحكم.

وهو الذي تناولنا ما يرتبط به في مباحث الألفاظ ومباحث الملازمات العقليّة.

الثاني: الوظيفة العمليّة.

وهو ما سنتناوله هنا، أي في مباحث الاُصول العمليّة، على خلاف بين القوم في تصنيف (الإستصحاب) هل هو أمارة أو هو أصل إحرازي أو أصل غير إحرازي، يأتي هذا في موضعه.

الاُصول العمليّة

لأجل أن نعرف معنى هذا العنوان علينا أن نتوصّل إليه عن طريق تعريف مفردتي العنوان: الأصل، العمل.

(الأصل):

لغويّا - أصل الشي‏ء: أساسه الذي يقوم عليه.

وعلميّا - الأصل: القاعدة التي يبنى عليها الحكم.

وهو - هنا مصطلح اُصولي خاصّ، يقابل الدليل والأمارة، ويراد به القاعدة التي تنتج لنا الوظيفة العمليّة.

وفي ضوء تقسيمنا غاية المجتهد من البحث الفقهي التي هي الوصول إلى الحكم ثمّ الوظيفة على نحو الترتيب: ينقسم الدليل الذي يتعامل معه الفقيه إلى نوعين: دليل حكم ودليل وظيفة.

ودليل الوظيفة هو الأصل.

ويقيّد بالعملي فيسمّى (الأصل العملي) للتفرقة بينه وبين الأصل بمعناه العامّ الذي هو مطلق الدليل، ومطلق القاعدة.

(الوظيفة):

يراد بها العمل الذي يقوم به المكلّف عند عدم وصول الحكم إليه. فالوظيفة تساوي العمل، ولهذا وصفت بالعمليّة حيث يقال (الوظيفة العمليّة).

وله أيضا سمّي الأصل الموصل إليها بالأصل العملي.

وقد حصر الشيخ الأنصاري في كتابه (الفرائد = الرسائل) الاُصول العمليّة حصرا عقليّا في الاُصول الأربعة التالية:

1- الإستصحاب.

2- البراءة.

3- الإحتياط.

4- التخيير.

قال في مقدّمة المقصد الثالث من كتابه المذكور: ثمّ إنّ إنحصار موارد الإشتباه في الاُصول الأربعة عقلي، لأنّ حكم الشكّ:

- إمّا أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه.

- وإمّا أن لا يكون، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يلحظ.

والأوّل: مورد الإستصحاب.

والثاني: إمّا أن يكون الإحتياط فيه ممكنا أم لا.

والثاني: مورد التخيير.

والأوّل: إمّا أن يدلّ دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول.

وإمّا أن لا يدلّ.

والأوّل: مورد الاحتياط.

والثاني: مورد البراءة.

وعلى هذا سار من جاء بعده من المؤلّفين في اُصول الفقه الإمامي.

ويوضّح شيخنا المظفّر التصنيف الأنصاري فيقول: إنّ الشكّ على نحوين(3):

أن تكون للمشكوك حالة سابقة وقد لاحظها الشارع، أي قد اعتبرها، أو كانت ولكن لم يلاحظها الشارع.

وهذا هو مجرى (الإستصحاب).

2- أن لا تكون له حالة سابقة.

وهذه الحالة لا تخلو من إحدى صور ثلاث:

أ- أن يكون التكليف مجهولا مطلقا، أي لم يعلم حتّى بجنسه.

وهذه هي مجرى (أصالة البراءة).

ب- أن يكون التكليف معلوما في الجملة مع إمكان الإحتياط.

وهذه مجرى (أصالة الاحتياط).

ج- أن يكون التكليف معلوما كذلك ولا يمكن الإحتياط وهذه مجرى (قاعدة التخيير)...

 

الإستصحاب

أعطى الاُصوليون الإماميّون موضوع الاستصحاب أهميّة مميّزة بالنسبة إلى ذات الاُصول العمليّة الثلاثة (البراءة والإحتياط والتخيير).

فقديما ذكروه في كتبهم الاُصوليّة وحده، أي دون اُخوته الثلاثة، وهذا ما نراه في أقدم كتاب اُصولي إمامي وصل إلينا، وهو مختصر الشيخ المفيد، فقد تناوله بالذكر وحده وباختصار شديد جدّا، وفي سطرين فقط، قال -: والحكم باستصحاب الحال واجب، لأنّ حكم الحال ثبت باليقين، وما ثبت فلن يجوز الإنتقال عنه إلا بواضح الدليل(4).

وما نراه في (الذريعة) للشريف المرتضى، وهو ثاني كتاب اُصولي إمامي وصل إلينا، فقد عقد له بابا يخصّه تحت عنوان (باب في النافي والمستصحب للحال: هل عليهما دليل أم لا؟)، وأطال فيه إلى حدّ، وختم به كتابه.

وبلغ من الاهتمام به عندهم أن خمّس به المحقّق الحلّي في كتابه الفقهي (المعتبر) الأدلّة الأربعة (الكتاب والسنّة والإجماع والعقل)، قال في مقدّمة الكتاب المذكور: الفصل الثالث في مستند الأحكام، وهي عندنا خمسة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل والإستصحاب.

وبعد تطور علم اُصول الفقه على يد الوحيد البهبهاني وإعادة النظر في تبويب مواد الاُصول، وتقسيم الأدلّة الفقهيّة إلى اجتهاديّة وفقاهيّة أدرج الإستصحاب في قائمة الأدلّة الفقاهيّة.

ولمزيد الإهتمام به أفرده غير واحد من علمائنا بالبحث. ومن هذا ما ذكره شيخنا الطهراني في كتابه الفهرسي (الذريعة)، فقد أدرج تحت عنوان (الاستصحاب) ثمانية عشر عنوانا، منها:

- الإستصحاب، الوحيد البهبهاني (ت 1206هـ).

- الإستصحاب، السيّد المجاهد محمّد بن السيّد علي صاحب الرياض (ت 1242هـ).

- الإستصحاب، المولى الكلباسي الاصفهاني (ت 1292هـ).

- الإستصحاب، الفاضل الايراواني (ت 1306هـ).

- الإستصحاب، الشيخ محمّد هادي الطهراني (ت 1321هـ).

- وممّن أفرده بالبحث زميلنا العزيز الشيخ محمود الكوثراني تحت عنوان (الإستصحاب في الشريعة الإسلاميّة - المذاهب الثمانية).

وهي رسالة جامعيّة حصل بها على ماجستير الشريعة الإسلاميّة من جامعة بغداد.

تعريف الإستصحاب:

- في اللغة العربية:

الاستصحاب مصدر الفعل (استصحب) المزيد من أوّله بالألف والسين والتاء، الدالّة - غالبا - على الطلب.

ومتى حملت هذه الزيادة على الطلب كان معنى الإستصحاب: الدعوة إلى الصحبة، جاء في (القاموس المحيط): استصحبه: دعاه إلى الصحبة.

ومتى لم تحمل الزيادة على الطلب يحمل معنى الإستصحاب على معنى الإصطحاب، قال في (محيط المحيط): واستصحبه.. جعله في صحبته، وفي (المصباح المنير): واستصحبت الكتاب وغيره، حملته على صحبتي، ومن هنا قيل: استصحبت الحال إذا تمسّكت بما كان ثابتا، كأنّك جعلت تلك الحالة مصاحبة غير مفارقة.

أو يحمل على معنى الملازمة، كما جاء في (تاج العروس): وكلّ ما لازم شيئا فقد استصحبه، قال:

إنّ لك الفضل على صحبتي***** والمسك قد يستصحب الرامكا(5)

وفي (المعجم الوسيط): استصحب الشي‏ء: لازمه.

وفي (المصباح المنير): وكلّ شي‏ء لازم شيئا فقد استصحبه، قاله ابن فارس وغيره.

أو يحمل على معنى اللزوم كما في (معجم لغة الفقهاء): الإستصحاب: اللزوم، ومنه: استصحبت فلانا إذا لزمته.

وفي رسائل الشيخ الأنصاري: وهو - لغة -: أخذ بشي‏ء مصاحبا، ومنه: استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.

 

الهوامش:

(1)- أصول المظفر 1/ 310.

(2)- ص 39.

(3)- 2/ 234.

(4)- ص 42/ ط1: مركز الدراسات والبحوث العلمية العالية ببيروت.

(5)- الرامك: شيء أسود يخلط بالمسك.