المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 39.doc

النهي عن الضدّ

تحرير المسألة:

يتمركز موضوع البحث - هاهنا - في الإجابة عن التساؤل التالي:

هل الأمر بوجوب شي‏ء يقتضي النهي عن ضدّه؟

ولهذا عنون العاملي المسألة في معالمه بـ(إقتضاء الأمر النهي عن الضدّ)، والسبزواري في تهذيبه بـ(إقتضاء الأمر بالشي‏ء النهي عن ضدّه).

ولأجل أن نتبيّن مرتكز البحث بشكل أجلى نقوم ببيان مرادهم من مفردات الموضوع، وهي: الإقتضاء، الأمر، النهي، الضدّ.

(الإقتضاء):

يراد به - هنا - الإستلزام بالمعنى الذي فسّرناه به في أوّل الباب، أي انّ الأمر بالشي‏ء على نحو الإيجاب هل يستلزم النهي عن ضدّه على نحو الحرمة؟

(الأمر):

يراد به - هنا - الأمر المولوي وهو طلب الإتيان بالفعل على نحو الإلزام والإيجاب.

(النهي):

ويراد به النهي المولوي وهو طلب ترك الإتيان بالفعل على نحو الإلزام والتحريم.

(الضدّ):

كلمة (ضدّ) من ألفاظ التضادّ في اللغة العربية، أو قل هي من الأضداد في اللغة، ذلك لأنّها تطلق على المخالف والمنافي وعلى المثل والنظير والكف‏ء.

والضدّ في علم المنطق واحد الضدّين وهما الوصفان المتقابلان اللذان لايجتمعان في شي‏ء واحد، ولكن يرتفعان عنه كالأبيض والأسود.

وهو في علم الاُصول مصطلح خاص يراد به ما هو أعمّ من الضدّ المنطقي، أي بما يشمل النقيض أيضا.

أو قل: يراد به الضدّ العرفي.

ويعرّفونه - كما في الكفاية - بأنّه مطلق المعاند والمنافي، وجوديّا كان أو عدميّا.

 وقيّده بقيد )وجوديّا كان أو عدميّا( ليعمّ الضدّين المنطقيين، لأنّهما لا يكونان إلا وجوديين، والنقيضين لأنّهما لا يكونان إلا أحدهما وجودي والآخر عدمي.

 يقول السيّد السبزواري في إيضاح التعريف: أي الضدّ العرفي، لا خصوص الضدّ الإصطلاحي الحكمي، فيشمل الترك الذي يعبّر عنه بالنقيض، والضدّ الخاصّ كالضدّين اللذين لا ثالث لهما، والقدر المشترك بين الأضداد الوجوديّة الذي اصطلحوا عليه بالضدّ العامّ.

 وفي ضوء تعريف الاُصوليين للضدّ قسّموه إلى قسمين:

 - 1الضدّ الخاص: ويريدون به الفعل الوجودي المعاند والمنافي للمأمور به.

 - 2الضدّ العامّ: ويعنون به ترك الإتيان بالمأمور به، بما يصدق عليه أنّه نقيض المأمور به.

 وفي هدي ما تقدّم يستبين - وبوضوح - موضوع البحث في المسألة، وهو ما إذا كان هناك أمر من الشارع المقدّس بالإتيان بفعل من الأفعال على نحو الإلزام والوجوب، فهل يستلزم هذا الأمر النهي عن ترك المأمور به، أو النهي عن أي فعل يعاند ويضادّ المأمور به وعلى نحو الإلزام والتحريم؟

هذا هو موضوع البحث بما يدخل المسألة حريم الملازمات العقليّة.

تصنيف المسألة:

ولكن القوم كما اختلفوا في مسألة الإجزاء، ومسألة مقدّمة الواجب، هل هما من مباحث الألفاظ أو مباحث الملازمات العقليّة، اختلفوا في مسألتنا هذه الإختلاف نفسه.

- فمن قال: إنّ ثبوت النهي عن الضدّ عند الأمر بالشي‏ء مدلول عليه بإحدى الدلالات الثلاث (المطابقة أو التضمّن أو الإلتزام) يدرجها في قائمة مباحث الألفاظ، لأنّ الدلالات الثلاث هي أقسام الدلالة اللفظيّة الوضعيّة.

- ومن قال: إنّ ثبوت النهي المذكور مدلول عليه بحكم العقل بالملازمة بينه وبين الأمر، أي بين حكم الوجوب المستفاد من الأمر الشرعي وحكم الحرمة المستفاد من حكم العقل بالملازمة بين الحكمين المذكورين يدرجها في قائمة مباحث الملازمات.

ولأنّ الجمع بينهما ليس جمعا بين الضرّتين، وإنّما هو لقاء ودّ بين المتحابّين سوف نتعامل مع المذهبين في هذه المسألة كما تعاملنا معهما في المسألتين السابقتين.

حكم الضدّ:

قال السيّد المروّج تعليقا على قول صاحب الكفاية: (الأمر بالشي‏ء هل يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟، فيه أقوال): وهي في الضدّ العامّ خمسة: أحدها: نفي الإقتضاء رأسا.

وهذا منسوب إلى صريح العضدي والحاجبي والعميدي وجمهور المعتزلة وكثير من الأشاعرة، قال في (التقريرات): ودعوى بعض - كصاحب المعالم - انّ لا خلاف في الضدّ العامّ في أصل الإقتضاء، بل في كيفيته، - كما تقدّم - لا أصل له.

وفي (البدائع): فما في المعالم، والوافية، وشرحها للسيّد الصدر من إنكار هذا القول، وإختصاص النزاع بكيفيّة الإقتضاء، لا في أصل الإقتضاء غريب.

ثانيهما: الإقتضاء على وجه العينيّة، بمعنى انّ الأمر بالشي‏ء كالصلاة، والنهي عن تركه عنوانان متحدان، فالمراد من قوله (صَلِّ) حرمة تركها.

ثالثها: الإقتضاء على وجه التضمّن، بناءً على كون المنع من الترك جزءا من ماهيّة الوجوب، فقوله (صلّ) - مثلا - ينحلّ إلى: وجوب الصلاة، والنهي عن تركها.

وهو المحكي عن المعالم وغيره.

رابعها: (الإقتضاء على وجه) الإلتزام اللفظي.

خامسها: (الإقتضاء على وجه الإلتزام) العقلي.

وهما منسوبان إلى جماعة من المحقّقين.

وأمّا الضدّ الخاص:

فالأقوال المذكورة جارية فيه إلا القول بالتضمّن، ويزيد على تلك الأقوال هنا قولان آخران:

أحدهما: ما عن صاحب المقابيس من التفصيل بين كون فعل الضدّ رافعا للقدرة على الواجب عقلا، كركوب السفينة فرارا من الغريم، أو شرعا كالإشتغال بالصلاة عن أداء الشهادة.

فقال في الأوّل بالإقتضاء.

وفي الثاني بعدمه.

ثانيهما: قول الشيخ البهائي(قدش سره) على ما في البدائع - وهو: أنّ الأمر بالشي‏ء يقتضي عدم الأمر بضدّه الخاص، دون النهي عنه، فيبطل لمكان عدم الأمر)....

وفي هدي ما التزمناه في مسائل الملازمات العقليّة من انّ الإستلزام شي‏ء بديهي يدركه المكلّف بأدنى التفاتة إليه، نقول، إنّ المشرّع المقدّس ترك أمر معرفة استلزام الوجوب في المأمور به لحرمة ضدّه إلى المكلّف يدركه بالبداهة عند الإلتفات إليه.

فالحرمة - هنا شرعيّة أيضا لكنّها لم ينصّ عليها بنصّ لفظي شرعي وإنّما اكتشفها العقل.

ولا فرق في هذا بين الضدّ العامّ والضدّ الخاص.

ثمرة المسألة:

تظهر فائدة تطبيق هذه المسألة في ما إذا كان الضدّ المزاحم للمأمور به خاصا وعباديّا، وطبّقنا عليه القاعدة القائلة بأنّ النهي عن العبادة يستلزم فسادها.

مثال ذلك:

كما إذا كان المأمور به إنقاذ نفس محترمة من الهلكة، وكان هذا في وقت الصلاة الواجبة المضيّق والمكلّف بعد لما يصل، حيث تكون الصلاة - هنا - الضدّ الخاص الذي لو فعله المكلّف فوّت على نفسه فعل المأمور به.

ففي مثل هذه الحالة: يقدّم الواجب الأهمّ وهو إنقاذ النفس المحترمة.

ويترتّب عليه: أنّ المكلّف لو ترك إنقاذ النفس المحترمة وجاء بالصلاة تكون صلاته باطلة.

 

إجتماع الأمر والنهي

تصنيف المسألة:

البحث في المسألة ذو حيثيّات متعدّدة ومختلفة جعل منها مجالا للدراسة في أكثر من حقل معرّفي، فأمكن أن تكون من مسائل الفقه، ومن مسائل علم اُصول الفقه ومسائل علم الكلام.

يقول السيّد السبزواري في (التهذيب)(1): يصحّ تقرير هذا المبحث فقهيّا بأن يقال: الصلاة في المحلّ المغصوب هل تصحّ أو لا؟ وتقريره أُصوليّا بأن يقال: إنّ تعدّد العنوان في الواحد هل ينفع في دفع محذور التضادّ بين الأمر والنهي أو لا؟

ويمكن أن يكون من المبادئ الاحكاميّة إن كان البحث في نفس الأمر والنهي من حيث حالاتهما الفرديّة والإجتماعيّة.

ويمكن تقريره كلاميّا إن كان البحث في أنّه هل يصحّ من الحكيم تعالى الأمر بشي‏ء واحد والنهي عنه أو لا؟

ففيه ملاك البحث عن جميع ذلك.

تحرير المسألة:

وفي ضوء ما تقدّم يكون موضوع البحث هو ما إذا كان هناك عنوانان إنطبقا على معنون واحد، تعلّق الأمر بأحدهما وتعلّق النهي بالآخر، كالأمر بالصلاة، والنهي عن الغصب، واتّفق ان أقام المكلّف صلاته في أرض مغصوبة.

ففعل الصلاة - بما هو فعل - هو صلاة، وفي الوقت نفسه هو تصرّف في الأرض المغصوبة.

فالفعل هو المعنون الواحد الذي إجتمع فيه عنوان المأمور به (وهو الصلاة) وعنوان المنهي عنه (وهو الغصب).

وعبّر بعضهم عن العنوان بـ(الجهة) كما في المعالم، وبـ(الوجه) كما في آخر.

والجهة والوجه - صرفيّا - واحد، والفارق بينهما في قلب الواو من أوّل الكلمة هاءً في آخرها.

ففي (المعالم) تحريرا لمحلّ البحث: وان تعدّدت الجهة بأن كان للفعل جهتان، يتوجّه إليه الأمر من إحداهما، والنهي من الاُخرى، فهو محلّ البحث.

وفي اُصول شيخنا المظفّر: فإنّ حاصل النزاع في المسألة يكون أنّه في مورد إلتقاء عنواني المأمور به والمنهي عنه في واحد وجودا: هل يجوز إجتماع الأمر والنهي؟...

ويوضّحه أكثر فيقول: هل يصحّ أن يبقى الأمر متعلّقا بذلك العنوان المنطبق على ذلك الواحد، فيكون المكلّف مطيعا وعاصيا معا في الفعل الواحد، أو أنّه يمتنع ذلك فيكون ذلك المجتمع للعنوانين إمّا مأمورا به فقط، وإمّا منهيّا عنه فقط.

وعلى أساس من هذا أقاموا وجهة نظرهم في المسألة، يقول السيّد السبزواري في (التهذيب)(2): اتّفق العلماء على أنّه لو كان تعدّد الوجه والعنوان في الواحد كافيا في دفع محذور التضادّ يصحّ الإجتماع.

كما اتّفقوا على عدم الصحّة مع عدم الكفاية.

مفردات المسألة:

قد رأينا في حديثنا عن تحرير محلّ الخلاف في المسألة أنّ فيها مفردات قد تحتاج إلى تعريف وتوضيح، وهي: الإجتماع، الواحد، الجواز.

(الإجتماع):

يريدون به الإلتقاء الإتّفاقي بين المأمور به والمنهي عنه في شي‏ء واحد.

نحو التقاء الصلاة مع الغصب في فعل واحد، هو فعل الصلاة الذي هو في الوقت نفسه تصرّف في الأرض المغصوبة.

(الواحد):

يعنون به الفعل الواحد الذي يكون ملتقى لعنوان المأمور به وعنوان المنهي عنه كفعل الصلاة في مثال الصلاة في الأرض المغصوبة حيث اجتمع عنوان المأمور به وهو الصلاة وعنوان المنهي عنه وهو الغصب في فعل واحد هو فعل الصلاة الذي هو في الوقت نفسه تصرّف في الأرض المغصوبة.

(الجواز):

يريدون به الإمكان العقلي في مقابل الإمتناع العقلي.

الأقوال في المسألة:

وحيث فسّروا (الجواز) بالإمكان يدور الرأي الاُصولي في المسألة بين الإمكان والإمتناع.

وحينئذٍ، فمن جوّز الإجتماع حكم بتحقّق الإطاعة وإستحقاق الثواب بالنسبة إلى الأمر، وتحقّق المخالفة وإستحقاق العقاب بالنسبة إلى النهي. و (أمّا) من أحال الإجتماع.

فإن قدّم جانب النهي حكم بالحرمة. بلا حصول الطاعة.

وان قدّم جانب الأمر حكم بالوجوب بلا حصول المخالفة(3).

دليل المانعين:

احتجّ القائل بالإمتناع بأنّ تعدّد العنوان أو الجهة لا يوجب تعدّد المعنون أو المتعلّق.

ولازم هذا سريان الحكم من العنوانين إلى المعنون والمتعلّق الواحد، وما هذا إلا إجتماع للمتنافيين، وهو شي‏ء مستحيل وممتنع.

يقول صاحب المعالم في تقرير الدليل: إنّ الأمر طلب لإيجاد الفعل، والنهي طلب لعدمه، فالجمع بينهما في أمر واحد ممتنع.

وتعدّد الجهة غير مجد مع اتّحاد المتعلّق، إذ الإمتناع إنّما نشأ من لزوم إجتماع المتنافيين في شي‏ء واحد.

وذلك لا يندفع إلا بتعدّد المتعلّق، بحيث يعدّ في الواقع أمرين، هذا مأمور به وذاك منهي عنه، ومن البين انّ التعدّد بالجهة لا يقتضي ذلك، بل الوحدة باقية معه قطعا.

فالصلاة في الدار المغصوبة، وان تعدّدت فيها جهة الأمر والنهي، لكن المتعلّق الذي هو الكون متّحد، فلو صحّت لكان مأمورا به من حيث إنّه أحد الأجزاء المأمور بها للصلاة، والأمر بالمركب أمر بأجزائه، ومنهيا عنه باعتبار أنّه بعينه الكون في الدار المغصوبة، فيجتمع فيه الأمر والنهي، وهو متّحد، وقد بيّنا إمتناعه فتعيّن بطلانها.

 

الهوامش:

(1)- 1/ 88.

(2)- 1/ 89.

(3)- تحرير المعالم 83.