المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 38.doc

مقدّمة الواجب

عنوان المسألة:

عنونت هذه المسألة بعنوانين رئيسين، أحدهما قديم، والآخر حديث، ففي القديم سمّيت بـ(ما لا يتمّ الواجب إلا به)، وفي الحديث سمّيت (مقدّمة الواجب).

ولعلّ التسمية الاُولى جاءت من أنّ البحث في هذه المسألة هو في أنّ الشي‏ء الواجب هل يقتضي ويستلزم وجوب ما لا يتمّ إلابه، سواء كان ذلك الشي‏ء الذي لا يتمّ الواجب إلابه متقدّما وهو ما يسمّى في لغتنا بالمقدّمة أو كان مقارنا للواجب أو متأخّرا عنه.

فالتسميّة جاءت ليشمل العنوان الشروط المقارنة والمتأخّرة في التكاليف الشرعيّة، فإنّها - لغة - لا يطلق عليها عنوان مقدّمة لمقارنتها أو تأخّرها.

أمّا التسميّة الثانية فأخذت على أنّ كلمة (مقدّمة) مصطلح اُصولي حُمّل معناه العلمي بما يشمل الشروط المقارنة والمتأخّرة في ظلّ إصطلاح وتعارف العلماء عليه.

تصنيف المسألة:

وكما اختلفوا في رصيفة هذه المسألة وهي مسألة الإجزاء، هل هي من مباحث الألفاظ أو هي من مباحث الملازمات العقليّة؟، اختلفوا الإختلاف نفسه في هذه المسألة.

وممّن أدرجها ضمن مباحث الألفاظ الشيخ حسن العاملي في كتابه (معالم الدين)، فقد صنّفها واحدة من مسائل الأوامر، واستدلّ على انّ إيجاب المشروط غير مستلزم لإيجاب شرطه بقوله: وأمّا غير السبب (من المقدّمات) فالأقرب فيه عندي قول المفصِّل (وهو أنّ وجوب المشروط لا يقتضي وجوب الشرط)، لنا: انّه ليس لصيغة الأمر دلالة على إيجابه بواحدة من (الدلالات) الثلاث (المطابقيّة والتضمّنية والإلتزاميّة) وهو ظاهر.

فاستدلاله بالدلالات الثلاث التي هي أقسام الدلالة اللفظيّة الوضعيّة دليل إعتباره إياها واحدة من مسائل الألفاظ.

والملاحظ أنّ صاحب الكفاية مع إدراجه للمسألة ضمن مسائل الأوامر، نصّ على انّها عقليّة لا لفظيّة لأنّ البحث فيها عن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

قال: ثمّ الظاهر - أيضا - أنّ المسألة عقليّة، والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه (أي عدم إستقلال العقل)، لا لفظيّة، كما ربّما يظهر من صاحب المعالم حيث استدلّ على النفي بإنتفاء الدلالات الثلاث، مضافا إلى ذكرها (من قبل صاحب المعالم) في مباحث الألفاظ.

ويقيم شيخنا المظفّر تصنيفها ووضعها في موضعها في أي من البابين:

مباحث الألفاظ أو مباحث الملازمات العقليّة، على أساس من نوعيّة الملازمة منطقيّا، يقول: فان كانت هذه الملازمة - في نظر القائل بها - غير بيّنة، أو بيّنة بالمعنى الأعم(1)، فإثبات اللازم وهو وجوب المقدّمة شرعا، لا يرجع إلى دلالة اللفظ أبدا، بل إثباته إنّما يتوقّف على حجيّة هذا الحكم العقلي بالملازمة، وإذا تحقّقت هناك دلالة فهي من نوع دلالة الإشارة(2).

وعلى هذا فيجب أن تدخل المسألة في بحث الملازمات العقليّة غير المستقلّة، ولا يصحّ إدراجها في مباحث الألفاظ.

وان كانت هذه الملازمة - في نظر القائل بها - ملازمة بيّنة بالمعنى الأخص، فإثبات اللازم يكون - لا محالة - بالدلالة اللفظيّة، وهي الدلالة الإلتزامية خاصة، والدلالة الإلتزامية من الظواهر التي هي حجّة.

تقسيمات المقدّمة:

تعدّدت تقسيمات المقدّمة، والهدف من هذا التعدّد بيان مركز النزاع ومحور البحث في المسألة، وهي:

1- تقسّم أوّلا إلى: مقدّمة وجوب ومقدّمة واجب.

أ- مقدّمة الوجوب:

وتسمّى المقدّمة الوجوبيّة أيضا، وهي التي تؤخذ شرطا للوجوب بحيث لا يتحقّق وجوب الشي‏ء إلابوجودها.

مثل الإستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، فإنّ وجوب الحجّ مشروط بتحقّق الإستطاعة.

ومن هنا سمّي الواجب بالنسبة إلى هذه المقدّمة (الواجب المشروط).

ب- مقدّمة الواجب:

وتسمّى المقدّمة الوجوديّة لتوقّف وجود الواجب عليها، على أن لا يكون وجوبه مشروطا بها.

ومن هنا سمّي الواجب بالنسبة إليها (الواجب المطلق).

مثل السفر إلى مكّة بالنسبة إلى الحجّ، فإنّ وجوب الحجّ غير مشروط بالسفر إلى مكّة، لأنّ المطلوب هو الوجود في مكّة لأداء مناسك الحجّ في مشاعره الزمانيّة والاُخرى المكانيّة، وهو - أعني الوجود - بالنسبة إلى هذه المقدّمة - وهي السفر - مطلق.

ومحطّ البحث في الملازمة بين المقدّمة وصاحبها هو القسم الثاني (مقدّمة الواجب).

ويوجّه شيخنا المظفّر هذا بقوله: والسرّ واضح لأنّه إذا كانت المقدّمة الوجوبيّة مأخوذة على أنّها مفروضة الحصول فلا معنى لوجوب تحصيلها، فإنّه خلف.

فلا يجب تحصيل الإستطاعة لأجل الحجّ، بل ان اتّفق حصول الإستطاعة وجب الحجّ عندها.

وذلك نظير الفوت في قوله(عليه السلام): (اقض ما فات كما فات) فإنّه لا يجب تحصيله لأجل إمتثال الأمر بالقضاء، بل إن اتّفق الفوت وجب القضاء.

2- وتقسّم المقدّمة الوجودية إلى قسمين أيضا: داخليّة وخارجيّة.

أ- المقدّمة الداخليّة:

وهي كلّ جزء من أجزاء المأمور به المركب، كالركوع والسجود بالنسبة إلى الصلاة.

وإنّما اعتبروا الجزء مقدّمة فباعتبار أنّ المركب متوقف في وجوده على أجزائه، فكلّ جزء في نفسه هو مقدّمة لوجود المركب.

ب- المقدّمة الخارجيّة:

وهي كلّ ما يتوقف عليه الواجب ممّا هو خارج عن وجوده ومستقلّ عنه.

وقد اتّفقوا على دخول المقدّمة الخارجيّة حريم النزاع ومجال البحث.

واختلفوا في ذلك بالنسبة إلى المقدّمة الداخليّة، فأنكره قوم لما يلزم منه من إستحالة إجتماع المثلين وهما:

الوجوب النفسي.

لأنّ الجزء الذي هو أحد أجزاء الواجب والذي إصطلح عليه - هنا - بالمقدّمة الداخليّة واجب بانبساط وجوب الواجب المركب على إجزائه، وهو وجوب نفسي.

والوجوب الغيري.

المبحوث عنه كوجوب للمقدّمة.

وذلك تطبيقا للمبدأ المنطقي القائل بإستحالة إجتماع المثلين.

وبعد فرض هذه الإستحالة التي أفادها الاُصوليون في تطبيقهم للمبدأ المذكور تكون المقدّمة الداخليّة واجبة بوجوب المركب.

وعليه ينحصر مجال البحث في المقدّمة الخارجيّة.

والذي ينبغي أن يقال: إنّ البحث عن وجوب الجزء بعد وجوب المركب لا فائدة عمليّة منه، ولا علميّة أيضا لأنّه حاصل، فعلينا ان نبحث عن وجوب المقدّمة الخارجيّة.

3- وتقسّم المقدّمة الخارجيّة إلى قسمين: شرعيّة وعقليّة.

أ- المقدّمة الشرعيّة:

وهي كلّ شرط يتوقّف عليه الواجب بحكم الشرع، ومن هنا يسمّى أيضا (الشرط الشرعي).

مثل الطهارة بالنسبة إلى الصلاة للحديث الشريف (لا صلاة إلابطهور).

ب- المقدّمة العقليّة:

وهي كلّ شرط يتوقّف عليه وجوب الواجب توقّفا واقعيّا يدركه العقل بنفسه من دون إستعانة بالشرع، كتوقّف الحجّ على قطع المسافة، ويطلق عليه أيضا اسم (الشرط العقلي).

وأيضا - هنا - اتّفقوا على دخول المقدّمة العقليّة دائرة البحث ومحلّ النزاع.

واختلفوا في المقدّمة الشرعيّة، ولأنّنا - هنا - نبحث عن حكم المقدّمة التي لم ينصّ الشارع على حكمها، ولم يصرّح به، نبحث عنه عن طريق حكم العقل بالملازمة، لا نكون بحاجة إلى ما أثاره البحث الاُصولي من الخلاف في دخول المقدّمة الشرعيّة، (الشرط الشرعي) لأنّ وجود النصّ الشرعي الدالّ على حكمه يتطلّب - منهجيّا - أن يكون البحث في دلالة النصّ الشرعي لا في الملازمة، لأنّه لاموقع لها هنا. وننتهي ممّا تقدّم إلى الخلاصة التالية:

 

                         المقدمة

مقدمة وجوب                             مقدمة واجب

                                     خارجية                داخلية

                            شرعية         عقلية

ومن هذه التقسيمات وتسلسلها انتهينا إلى أنّ محور البحث في مسألة مقدّمة الواجب هي (المقدّمة العقليّة) أو (الشرط العقلي).

حكم المقدّمة:

تكثّرت الأقوال في حكم مقدّمة الواجب تكثّرا ملحوظا، فقد بلغت عدّتها في اُصول شيخنا المظفّر عشرة.

يقول شيخنا المظفّر: لقد تكثّرت الأقوال جدّا في هذه المسألة على مرور الزمن نذكر أهمّها:

1- القول بوجوبها مطلقا.

2- القول بعدم وجوبها مطلقا.

3- التفصيل بين السبب فلا يجب، وبين غيره كالشرط وعدم المانع والمُعِدّ فيجب.

4- التفصيل بين السبب وغيره أيضا، ولكن بالعكس، أي يجب السبب دون غيره.

5- التفصيل بين الشرط الشرعي فلا يجب بالوجوب الغيري، باعتبار أنّه واجب بالوجوب النفسي نظير جزء الواجب، وبين غيره فيجب بالوجوب الغيري.

6- التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره أيضا، ولكن بالعكس، أي يجب الشرط الشرعي بالوجوب المقدّمي دون غيره.

7- التفصيل بين المقدّمة الموصلة أي التي يترتّب عليها الواجب النفسي فتجب، وبين المقدّمة غير الموصلة فلا تجب.

8- التفصيل بين ما قصد به التوصّل من المقدّمات فيقع على صفة الوجوب وبين ما لم يقصد به ذلك فلا يقع واجبا.

9- التفصيل المنسوب إلى صاحب المعالم، وهو إشتراط وجوب المقدّمة بإرادة ذيها، فلا تكون المقدّمة واجبة على تقدير عدم إرادته.

10- التفصيل بين المقدّمة الداخليّة أي الجزء فلا تجب، وبين المقدّمة الخارجيّة فتجب.

والذي ينبغي أن يقال هنا: انّ المشرّع المقدّس قد أحال أمر معرفة حكم مقدّمة الواجب في النقطة التي حصرناها بها (وهي المقدّمة العقليّة) إلى المكلّف يدركه بعقله وببداهة.

ودور العقل - هنا - هو أن يقوم بالكشف عن حكم الشرع الذي لم يصرّح به، لأنّ المكلّف يدركه بعقله وببداهة عند أدنى انتباه له والتفات إليه.

الهوامش:

(1)- ما ذكره من المعاني الثلاثة (البيّن بالمعنى الأخصّ والبيّن بالمعنى الأعمّ وغير البيّن) هي أقسام اللازم الذي هو أحد قسمي العرضي (اللازم والمفارق).

أ- اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ: هو ما يلزم تصوره من تصور ملزومه، بلا حاجة إلى توسّط شي‏ء آخر.

ب- اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ: هو ما يلزم من تصوره وتصور الملزوم وتصوّر النسبة بينهما الجزم بالملازمة.

ج- اللازم غير البيّن: هو الذي لا يكتفي فيه بتصور اللازم والملزوم والنسبة بينهما، وإنّما يحتاج - مضافا إلى هذه - لإقامة الدليل على إثبات الملازمة.

اُنظر: المنطق للمظفّر 1/ 79- 80 ط2.

(2)- دلالة الإشارة: هي التي تكون الملازمة فيها من نوع البيّن بالمعنى الأعمّ أو غير البيّن اُنظر: اُصول الفقه للمظفّر 1/120 ط2.