المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 37.doc

الإجزاء

تعريفه:

الإجزاء - بكسر الهمزة من أوّله -: مصدر الفعل (أجزأ) المتعدّي بزيادة الهمزة من أوّله.

يقال: (أجزأ الشي‏ء فلانا) بمعنى كفاه.

ويقال: (أجزأ الراعي الإبل) إذا كفاها عن الماء بالرطب والكلأ فالإجزاء - في اللغة - الكفاية.

وإستعمال الكلمة يلمح إلى أنّ الإجزاء لا يكون إلا في حالة إستعمال البديل.

ففي المثال الثاني: المطلوب للإبل هو الماء لأنّها عطشى، ولكن الراعي أعطاها البديل، وهو الرطب والكلأ، فكفاها هذا البديل وأجزأها عن الأصل.

والإجزاء في الإصطلاح الاُصولي هو الإجزاء بمعناه اللغوي، أو يراد به الكفاية أيضا.

يقول صاحب الكافية: الظاهر انّ الإجزاء - هاهُنا - بمعناه لغة، وهو الكفاية.

موضوعه:

تبيّنا من التعريف اللغوي للإجزاء أنّ محطّ إستعماله هو أن يكون هناك مطلوب ولا يؤتى بذلك المطلوب لسبب من الأسباب، وينتقل إلى الإتيان ببديله.

وهنا يأتي التساؤل الذي يحدّد موضوع الإجزاء، وهو:

هل هذا البديل مجزئ وكافٍ عن المطلوب؟

وهذا كما في مثالنا الثاني: فالمطلوب للإبل هو الماء، والبديل هو المرعى الرطب والكلأ.

وفي هديه: فموضوع الإجزاء في مجال التطبيقات الشرعيّة هو إغناء وكفاية المأمور به البديل عن المأمور به المطلوب.

ولهذا كان موضوع الإجزاء - هنا - هو الأوامر الشرعيّة، ذلك انّ الأوامر الشرعيّة كغيرها من الأوامر القانونيّة والاُخرى العرفيّة، فيها ما ينصبّ على المطلوب الأوّلي، وفيها ما يوجّه إلى بديله، كما في الحالات الطارئة.

وهنا يأتي التساؤل الذي يطرحه الاُصوليون ليعيّنوا به محطّ بحث الإجزاء علميّا وهو:

إن أتى المكلّف بالبديل الإضطراري ثمّ ارتفعت الحالة الطارئة وأصبح بإمكانه الإتيان بالمطلوب الإختياري، فهل يجزئه إمتثال البديل أو لابدّ من الإتيان بالمطلوب؟

وهكذا لو جاء بالبديل مع الأمر الظاهري فهل يكفيه عن الإتيان بالمطلوب مع الأمر الواقعي؟

وبتعبير مختصر:

هل يقتضي أو يستلزم الإتيان بالمأمور به البديل الإجزاء، فيكون كافيا عن الإتيان بالمطلوب عند القدرة على الإتيان به؟

ويتّضح هذا في العبادات ذوات البدائل كالوضوء وبديله الذي هو التيمّم، وأشكال الصلاة وبدائلها أمثال الصلاة من قيام وبديلها الذي هو الصلاة من جلوس.. والخ.

ويستبين أكثر مع التنويع للأوامر الذي مرّ بنا في مباحث الألفاظ، فالمطلوب من المكلّف هو إمتثال الأمر الواقعي الأولي (الاختياري)، وعند تعذره أو تعسره ينتقل إلى امتثال الأمر الواقعي الثانوي (الإضطراري).

وعند الجهل بالحكم الواقعي تنتقل وظيفة المكلّف إلى الإتيان بالحكم الظاهري المستفاد من الأمارات أو الاُصول.

فهل تجزي هذه البدائل؟

حرّر الاُصوليون الإجابة عن هذا السؤال ضمن مسألتين هما:

1- إجزاء المأمور به بالأمر الإضطراري عن المأمور به بالأمر الإختياري.

2- إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن المأمور به بالأمر الواقعي.

ففي المسألة الاُولى:

لا خلاف بينهم في إجزاء المأمور به بالأمر الإضطراري عن المأمور به بالأمر الإختياري.

ذلك أنّ المشرّع الذي أمر بالإتيان بالتكليف الإختياري كمطلوب أوّلي هو الذي أمر بالإتيان ببديله الذي هو التكليف الإضطراري كبديل ثانوي، فلو كان حكمه الثاني لا يكفي ولا يسدّ عن الحكم الأوّل لنبّه لذلك، وحيث لم يرد منه نصّ على ذلك أو تصريح به يدرك العقل استلزام الإتيان بالمأمور به بالأمر الإضطراري الكفاية عن المأمور به بالأمر الإختياري.

وقال الآخوند الخراساني في (الكفاية) - بعد أن ذكر الأنحاء التي يمكن أن يقع عليها الإضطراري -:  وأمّا ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى: (فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيدا طيّبا)، وقوله(عليه السلام): (التراب أحد الطهورين) و (يكفيك عشر سنين)، هو الإجزاء، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء.

ولابدّ في إيجاب الإتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص.

وبالجملة: فالمتّبع هو الإطلاق لو كان، وإلا فالأصل، وهو يقتضي البراءة من إيجاب الإعادة لكونه شكّا في أصل التكليف، وكذا عن إيجاب القضاء بطريق أولى.

- وأمّا في المسألة الثانية:

فأهمّ الآراء فيها تدور بين القول بالإجزاء مطلقا والقول بالتفصيل بين العمل وفق الأمارة مع إنكشاف الخطأ، والعمل وفق الأصل، ومع إنكشاف الخطأ أيضا.

ولأنّ الحكم الظاهري كمصطلح اُصولي يطلق على معنيين، هما:

أ- الحكم المستفاد من الأدلّة الفقاهيّة في مقابل الحكم الواقعي المستفاد من الأدلّة الإجتهاديّة.

ب- الوظيفة المجعولة للمكلّف عند جهله بالواقع.

فأيّهما المبحوث فيه هنا؟

إنّ موضوع البحث في مسألتنا هذه هو الحكم الظاهري بالمعنى الثاني.

ولنبدأ - أوّلا - بالقول التفصيلي في المسألة:

أ- إنّ الحكم الظاهري المستفاد من الأصل حيث يكون مفاد دليله جعل الحكم وإنشاءه حقيقة، نحو جعل الحليّة والطهارة المستفادتين من مثل قوله: (كلّ شي‏ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام) و (كلّ شي‏ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر)، يقتضي ويستلزم الإجزاء  لأنّ لسان الاُصول إنشاء شرط من الطهارة والحليّة في ظرف الشكّ.

ولازم هذا الجعل هو كون الشرط أعمّ من الطهارة والحليّة الواقعيتين والظاهريتين، فتكون الاُصول حاكمة على أدلّة الشرائط مثل: (لا صلاة إلا بطهور) الظاهر في اعتبار الطهارة الواقعيّة في الصلاة، لأنّ مثله لا يتكفّل لصورة الشكّ في الطهارة بخلاف الأصل فإنّه متكفّل لها فيكون ناظرا إلى دليل الشرطيّة هذا(1).

ب- أمّا الحكم الظاهري المستفاد من الإمارة حيث يكون مفاد دليله ثبوت الحكم واقعا، والكشف عن وجوده واقعا فإنّ البيّنة القائمة على طهارة شي‏ء أو كون اللباس الكذائي ممّا يؤكل لحمه تحكي عن ثبوت الطهارة الواقعيّة أو كون اللباس من الحيوان المحلّل أكله واقعا.

ودليل حجيّة الأمارة يقتضي إمضاء مضمونها فيدلّ على صدق حكايتها الموجب لثبوت الطهارة واقعا، وكون اللباس من المحلّل أكله كذلك فإنّه لا يقتضي الإجزاء لأنّ مفاد الأمارة ثبوت الواقع لا توسعة دائرة الشرط، فإذا انكشف الخلاف فلا وجه للإجزاء(2).

2- ونثني - ثانيا - ببيان القول بالإطلاق في مقابلة القول بالتفصيل المتقدّم:

يقول السيّد السبزواري في (التهذيب)(3):الجهة الثالثة: في إجزاء الإتيان بما يصحّ الإعتذار به كما في مورد الأمارات والاُصول والقواعد المعتبرة، عن الواقع عند إنكشاف الخلاف فهو من لوازم إعتبارها وصحّة الإعتذار بها، لأنّها إن طابقت الواقع فلا ريب في الإجزاء، وان خالفت فالمكلّف معذور في ترك الواقع:

- لعموم أدلّة إعتبارها.

- وامتنان الشارع على اُمّته في هذا الأمر العامّ البلوى.

- وحكومة أدلة إعتبارها على الواقعيّات.

ويشهد له الطريقة العقلائيّة في الطرق المعتبرة لديهم، فانّهم عند تبيّن الخلاف فيها يرتّبون الأثر من حين تبيّن الخلاف من دون استئناف العمل من الأوّل.

وهذا لسعة فضل اللَّه أنسب، فكما انّه - تعالى - يسقط العمل المأتي به عن الإعتبار لأجل بعض الجهات، كذلك ينزل العمل غير المطابق للواقع منزلة الواقع.

وهو الأقرب إلى الإعتبار وإلى طبيعة تشريع الأحكام، حيث تأتي هذه الأمارات والاُصول طرقا مشروعة، وسلوك المشروع مشروع.

ومنه يدرك العقل إستلزام الإمتثال وفقها للإجزاء، بلا فرق بين الاُصول والأمارات.

 

الهوامش:

(1)- منهتى الدراية 2/ 72.

(2)- م. ن.

(3)- 1/ 196.