المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 21.doc

- وحكي عن بعض المرجئة انّه قال: ليس في اللغة لفظ للعموم، وإنّما يكون اللفظ عامّا بالقصد.

وزعموا انّ الألفاظ التي يقول خصومهم: (إنّها عامّة) هي مجاز في الاستغراق، حقيقة في الخصوص.

ويشبه أن يكونوا جعلوا لفظة (من) حقيقة في الواحد، مجازا في الكلّ.

أو يكونوا جعلوا بقيّة ألفاظ العموم حقيقة في جمع غير مستغرق، لأنّه يبعد أن يجعلوا ألفاظ الجمع المعرفة باللام كقولنا (المسلمون) حقيقة في الواحد، مجازا في الجمع، ولفظ (كلّ) و (جميع) في ذلك أبعد.

- وذهب شيوخنا المتكلّمون والفقهاء إلى أنّ في اللغة ألفاظا وضعت للاستغراق فقط، فهي حقيقة فيه مجاز فيما دونه.

والملاحظ:

ان ذكر المتكلّمين وفرقهم الكلامية رموزا بارزة في هذا الخلاف دليل انّ المسألة بحثت أوّلا في علم الكلام، ثمّ سرت منه إلى علم اُصول الفقه.

ويؤكّد هذا منهج التعامل معها لدى الاُصوليين عند الإستدلال على الأقوال حيث أوغل وأغرق في استخدام الاُصول والضوابط الكلاميّة.

ولتجلية الفرق بين المنهج الكلامي والمنهج اللغوي الاجتماعي نقول:

1- انّ المنهج الكلامي لأجل أن يصل إلى أنّ الكلمة أو الجملة أو الاُسلوب موضوع لهذا المعنى يعتمد علائم الحقيقة التي منها التبادر، فمتى تبادر المعنى عند سماع اللفظ إلى الذهن فإنّ المعنى حقيقي أي أنّ اللفظ موضوع له.

2- بينما يعتمد المنهج اللغوي الاجتماعي استقراء النصوص الموروثة في تطبيقاتها على مواردها، وملاحظة الاستعمال الاجتماعي الراهن.

ونحن - هنا - حيث نبحث عن دلالة الألفاظ التي عنونت بـ(ألفاظ العموم) عندما نرجع إلى أهل اللغة - وهم العرب - ونلاحظ طريقتهم في الفهم والإفهام، أي اُسلوبهم في الاستعمال من حيث اللفظ والدلالة، وفي مجال التطبيق خاصّة نراهم يفرّقون بين نوعين من هذه الألفاظ، أو قل: إنّهم يصنّفونها إلى مجموعتين، هما:

أ- مجموعة تفيد الاستغراق بنفسها، أمثال:

(كل) و (جميع) وما في معناهما.

الجمع المحلّى بأل الجنسيّة نحو (إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا).

النكرة في سياق النفي، مثل (لا عتق إلا في ملك).

اسم الجنس المعرّف بأل الجنسيّة كقوله تعالى: (وأحلّ اللَّه البيع وحرّم الربا). والخ.

ب- مجموعة لا تفيد الاستغراق إلا بمساعدة قرينة السياق.

كأسماء الشرط وأسماء الاستفهام والأسماء الموصولة، لأنّها تستعمل في المفرد والمثنّى والجمع، المذكّر منها والمؤنّث، والقرينة السياقيّة هي التي تعيّن مراد المتكلّم.

ويبدو لي أنّ الخلاف نشأ من هذا، وذلك أنّ من لاحظ استعمالات المجموعة الاُولى قال بوجود ألفاظ في اللغة العربية تفيد العموم وتدلّ عليه.

ومن لاحظ الاستعمالات في المجموعة الثانية، وهي تفيد العموم تارةً ولا تفيده اُخرى أنكر وجود ألفاظ تختص بالعموم.

وبالرجوع إلى كتاب (المعتمد) لأبي الحسين البصري وكتاب (الذريعة) للشريف المرتضى تتضّح الصورة أكثر وتنجلي الفكرة بشكل أبين.

ونحن - هنا - لسنا بحاجة ماسّة إلى المنهج الكلامي لأنّنا نتعامل مع اللغة، واللغة اعتبار ونقل لا مسرح للعقليّات فيها إلا في حدود ما يسمح به البحث حيث تمسّ الضرورة لذلك، وما نحن فيه ليس منه.

فالمرجع - على هذا - هو العرف الاجتماعي.

والعرف يفرّق في الاستعمال بين المجموعة الاُولى والمجموعة الثانية، ويميّز بين معطياتهما.

(الألفاظ):

سأستعرض - هنا - كلّ ما ذكره علماء الاُصول تحت هذا العنوان، وهي من حيث الإحصاء سبع وحدات، وكالتالي:

1- ألفاظ التوكيد:

وهي المفردات التي تستعمل في اللغة العربية لتوكيد الأسماء من جموع وأسماء جموع تنطوي على مجموعة من الأفراد أو مركبات لها أجزاء أو كليّات لها جزئيات.

وتلكم المفردات، هي:

- كلّ:

جاء في (المعجم الوسيط): كل: كلمة تفيد الاستغراق لأفراد ما تضاف إليه أو أجزائه، نحو:

(كلّ امرئ بما كسب رهين).

و (كل المسلم على المسلم حرام: (دمه وماله وعرضه)....

وهي من حيث اللفظ تعتبر مفردا ومذكّرا، ومن حيث المعنى فبحسب ما تضاف إليه:

(كل إمرئ بما كسب رهين).

(كلّ نفس بما كسبت رهينة).

وفي (الصحاح): كل: لفظه واحد، ومعناه جمع، فعلى هذا تقول: (كل حضر) و (كل حضروا) على اللفظ مرّة، وعلى المعنى اُخرى.

وفي (مغني ابن هشام): كل: اسم موضوع لاستغراق:

أفراد المنكّر نحو: (كلّ نفس ذائقة الموت).

و (أفراد) المعرّف المجموع نحو: (وكلّهم آتيه يوم القيامة فردا).

وأجزاء المفرد المعرّف نحو: (كلّ زيد حسن).

فإذا قلت: (أكلت كلّ رغيف زيد) كانت لعموم الأفراد.

فإن أضفت الرغيف إلى زيد (أي قلت: أكلت كلّ رغيف زيد) صارت لعموم أجزاء فرد واحد.

- جميع:

في (المعجم الوسيط): جميع: من ألفاظ التوكيد، يقال: أخذت حقّي جميعه.

وفي (الصحاح):جميع: يؤكّد به، يقال: (جاؤوا جميعا) أي كلّهم.

فهي بمعنى (كلّ) في إفادتها الاستغراق ودلالتها على الشمول.

ومن شواهدها في القرآن الكريم: (خلق لكم ما في الأرض جميعا).

وفي اللغة العربية - وهي لغة فنّ القول - ألفاظ غير قليلة تفيد ذلك، مثل:

عامّة:

تقول: (جاء القوم عامّة) أي جميعا.

وتقول: (جاء القوم عامّتهم) أي كلّهم، جميعهم.

وكافّة:

نحو (وقاتلوا المشركين كافّة).

ومن هذا:

قولهم: (أخذت الشي‏ء برمّته).

و (أخذته بحذافيره).

و (أخذته فلم أبق على شي‏ء منه).

و (تناولته بكامله).

و (تناولته بتمامه).

و (جاء القوم بقضّهم وقضيضهم) أي جاءوا جميعهم أو كلّهم فلم يتخلّف منهم أحد.. والخ.

أنّ استقراء النصوص التي استعملت فيها هذه الألفاظ في الشرعيّات وغيرها، وملاحظة الاستعمالات لها بين أبناء مجتمع اللغة يفيد أنّها تدلّ على العموم وظاهرة فيه، وهي فيه حقيقة، وفي غيره مجاز.

2- الجموع:

أ- الجمع المعرّف بأل:

ويريدون به الجمع المعرّف بأل الجنسيّة، ويطلقون عليه أيضا اسم (الجمع المحلّى)، مثل:

- (اقتلوا المشركين).

- (والمطلّقات يتربصنّ بأنفسهنّ ثلاثة قروء).

- (اُوفوا بالعقود).

- (للرجال نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب).

والجمع - هنا - يشمل الجمع واسم الجمع نحو (الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء).

قال الوحيد البهبهاني في (الفوائد الحائرية) - الفائدة الثامنة عشرة - تحت عنوان (دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم):لا نزاع بينهم في عموم الجمع المحلّى باللام كالنكرة في سياق النفي وسائر ألفاظ العموم، مثل: (كل) و(من) و (ما) و (متى) و (مهما) وأمثال ذلك.

وقال صاحب المعالم: الجمع المعرّف بالأداة يفيد العموم حيث لا عهد. ولا نعرف في ذلك مخالفا من الأصحاب.

ومحقّقو مخالفينا على هذا أيضا.

وربّما خالف في ذلك بعض من لا يعتدّ به منهم، وهو شاذّ ضعيف، لا التفات إليه.

يشير بهذا إلى الخلاف المحكي عن أبي علي الفارسي النحوي وأبي هاشم الجبائي المعتزلي، ففي (إرشاد الشوكاني):الألف واللام الحرفيّة - لا الإسميّة - تفيد العموم إذا دخلت على الجمع - سواء كان سالما أو مكسرا، وسواء كان من جموع القلّة أو الكثرة.

وكذا إذا دخلت على اسم الجمع كركب وصحب وقوم ورهط.

وكذا إذا دخلت على اسم الجنس.

وقد اختلف في اقتضائها للعموم إذا دخلت على هذه المذكورات على مذاهب ثلاثة:

الأوّل: أنّه إذا كان هناك معهود حملت على العهد، فإن لم يكن حملت على الاستغراق.

وإليه ذهب جمهور أهل العلم.

الثاني: إنّها تحمل على الاستغراق إلا أن يقوم دليل على العهد.

الثالث: انّها تحمل عند فقد العهد على الجنس من غير استحقاق(1).

وحكاه صاحب الميزان(2) عن أبي علي الفارسي، وأبي هاشم (الجبائي).

والراجح المذهب الأوّل، وقال ابن الصبّاغ هو إجماع الصحابة.

وفي (مستصفى الغزالي):اختلفوا في الجمع المعرّف بالألف واللام كالسارقين والمشركين والفقراء والمساكين والعاملين.

- فقال قوم: هو للاستغراق.

- وقال قوم: هو لأقل الجمع، ولا يحمل على الاستغراق إلا بدليل.

ودلالة الجمع المحلّى بأل الجنسيّة على العموم هي بواسطة أداة التعريف التي هي (أل الجنسيّة).

أو كما يعبّرون: هي بالوضع، أي أنّ الأداة المذكورة وضعت في اللغة العربية لذلك.

ولابدّ من حصرها بأل المقصود بها حقيقة الجنس، إذ أنّها هي التي تستعمل لشمول الوحدات أو الأفراد، وذلك ليفرّق بينها وبين أل الجنسيّة المقصود بها خصائص الجنس لا حقيقته.

ومن ضوابط التفريق بينهما نحويا هو:

- انّ التي تحلّ كلمة (كل) في موضعها وتعطي معنى الشمول على نحو الحقيقة، هي الجنسيّة على نحو الحقيقة.

وهي المقصودة هنا.

- والاُخرى هي التي تحلّ كلمة (كل) في موضعها مجازا، وهي الجنسيّة المجازية.

وهي غير مقصودة هنا.

يقول ابن هشام في (المغني) موضحا هذا الفرق: والجنسيّة: - إمّا لاستغراق الأفراد، وهي التي تخلفها (كل) حقيقة نحو (وخلق الإنسان ضعيفا)، ونحو (انّ الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا).

- أو لاستغراق خصائص الأفراد، وهي التي تخلفها (كل) مجازا، نحو (زيد الرجل علما) أي الكامل في هذه الصفة.

وسمّى علاء الدين الاربلي في كتابه (جواهر الأدب)(3) الاُولى التي هي لاستغراق الأفراد بـ(الاستغراقية) والثانية التي هي لاستغراق الخصائص أو الصفات بـ(الإحاطيّة).

ويقول أبو حيّان الأندلسي في (ارتشاف الضرب)(4): والجنسيّة: هي التي لم يتقدّم للاسم الداخلة عليه لفظ، ولا هو حاضر مبصر، ولا حاضر معلوم، نحو (دينار) - فإنّه يدلّ على كلّ دينار على طريق البدل، فإذا قلت: (الدينار) دلّ على الشمول، وصلح مكان (أل): (كل)، إمّا حقيقة فيصحّ الاستثناء من مصحوبها كقوله تعالى: (إنّ الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا)، ويصحّ وصفه بالجمع كقوله تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا)....

وفي هديه نقول: أنّ المقصود - هنا - أل الاستغراقيّة لأنّها بمعنى (كل)، ولهذا أفادت العموم، ودلّت هي ومدخولها عليه، واستفيد الظهور في العموم من المركب منهما.

والضابط لإفادة العموم من الجمع المحلّى هو:

صحّة حلول (كل) محل (أل) على نحو الحقيقة.

وصحّة الاستثناء من مدخولها.

ب- الجمع المعرّف بالإضافة:

ويريدون به الجمع المعرّف بالإضافة إلى المعرفة، نحو:

(خذ من أموالهم صدقة).

(حرّمت عليكم اُمّهاتكم).

(يوصيكم اللَّه في أولادكم للذكر مثل حظّ الاُنثيين).

(ياقومنا أجيبوا داعي اللَّه).

(ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه).

ولم يتناوله بحثا إلا القليل من العلماء، أمثال: ابن الحاجب (ت 646هـ) في (منتهى الوصول والأمل)، والمحقّق الحلّي (ت 676هـ) في (معارج الاُصول) من المتقدّمين، وعرضا إلا أمثال: الشيخ خلاّف في (اُصول الفقه) والدكتور حمّودة في (دراسة المعنى عند الاُصوليين) والدكتور السيّد محمّد عبدالغفّار في (التصوّر اللغوي عند الاُصوليين) من المعاصرين.

وكان تناول ابن الحاجب له ضمن تناوله لأخواته من ألفاظ العموم، مستدلا على ظهوره في العموم بأمرين:

1- التبادر العرفي.

2- التطبيق الشرعي من قبل أهل البيت والصحابة، ومنه احتجاج السيّدة فاطمة الزهراء على أبي بكر في قضيّة فدك.

قال(5): وهي (يعني ألفاظ العموم) عند المحقّقين منهم (أي من الاُصوليين): أسماء الشرط والاستفهام، والموصولات، والجموع المعرّفة، وما في معناها، تعريف جنس، والمضافة، واسم الجنس المعرّف تعريفَ جنس، والمضاف ممّا يصلح للبعض، والجميع، والنكرة في (سياق) النفي.

ثمّ استدلّ لذلك فقال: لنا: القطع بأنّ السيّد إذا قال لعبده: (لا تضرب أحدا من الناس) فضرب واحدا، عد مخالفا.

وأيضا فانّا نقطع بأنّهم كانوا يستدلّون بها في العموم، مثل:

(والسارق والسارقة).

و (والزانية والزاني).

و (وحرّم الربا).

و (يوصيكم اللَّه في أولادكم).

فان قيل: إنّما فهم ذلك بالقرائن.

فالجواب: إنّا نقطع بأنّه لو قال: (كلّ من قال لك (ألف) فقل له (باء).. ) فترك واحدا، عد مخالفا.

واستدلّ بوقائع متعدّدة:

كاحتجاج عمر في قتال أبي بكر مانعي الزكاة بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): (اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا اللَّه).

واحتجاج فاطمة على أبي بكر بقوله: (يوصيكم اللَّه في أولادكم) واجيبت بالتخصيص (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث)...

 

الهوامش:

(1)- (من غير استحقاق) هكذا في المطبوعة، والصواب: (من غير استغراق).

(2)- (الميزان): ميزان الاُصول لعلاء الدين السمرقندي الحنفي ت553هـ.

(3)- ص 381.

(4)- 1/14هـ.

(5)- ص 103.