mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 022.doc

وبالإضافة إلى تحقق القدوة الصالحة في شخصيته هناك أبعاد أخرى جعلت من شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) في القمم العالية من الصفات الحميدة والفضائل، من هذه الأبعاد أنه عاش في وسط اجتماعي هو أحلك ما يكون في ظلام الجاهلية والرذيلة والخرافة فكان عليه أن يبذل ما أودعه الله له من امكانية وقدرة لاصلاح ذلك المجتمع فتغيير المجتمع الجاهلي لم يكن بمقدور أحد إلا من على استعداد لتحمل الصعاب والآلام والاهانات ولم يكن حتى بين الأنبياء من يطيق ذلك الوضع الاجتماعي الذي عاشه رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي عمل على تغييره واستبداله بنموذج إنساني قل نظيره في التأريخ البشري ولم يكن ذلك ليتحقق إلا على يد ذلك النبي العظيم الذي وهبه الله تلك الصفات العظيمة.

ومن هذه الأبعاد أيضاً أن رسالته عليه الصلوات والسلام هي رسالة عالمية للبشرية جمعاء ويتطلب ذلك أن تكون شخصيته بمستوى المسؤولية العظمى التي يتحملها فهو ليس قدوة لجزيرة العرب فقط بل العالم أجمع.. بل لكل إنسان خلقه الله في ذلك الوقت وإلى آخر يوم من عمر الكون، فكل البشر يبحثون عن قدوة.

والرسول (صلى الله عليه وآله) هو القدوة الصالحة فأية شخصية عظيمة يجب أن تكون شخصيته حتى تصبح قدوة لكل أبناء العالم من يومه وحتى آخر يوم في الدنيا..

وأي عمل جبار يجب أن يبذله هذا النبي (صلى الله عليه وآله) ليوصل رسالته إلى كل إنسان يعيش على هذه الأرض.

وأي جهد كبير عليه أن يبذله ليمد الجسور إلى قلوب بني البشر الذين سيولدون وسيعيشون في كرتنا الأرضية جيلاً بعد جيل.

البعد الآخر المؤثر في شخصية النبي (صلى الله عليه وآله) هو أن رسالته شاملة لكافة شؤون الحياة السياسية الاقتصادية الاجتماعية الثقافية فكانت على تلك الشخصية التي ستقود البشرية باتجاه التغيير الشامل أن تكون شخصيته مثالية في كل شيء وأن لا تكون محصورة في نطاق محدد، فكان الرسول هو القائد الذي يُدير أمور الناس الحياتية وكان إمامهم في الصلاة وخطيبهم الذي يوعظهم وكان القائد في المعركة والمعلم للدين والأخلاق فشمولية الرسالة جعلت من شخصية النبي (صلى الله عليه وآله) شخصية شاملة في صفاتها وأبعادها وهذا هو سر عظمة الرسول ففي ذات الوقت الذي كان فيه النبي (صلى الله عليه وآله) يمارس دوراً أخلاقياً كان يمارس دوراً سياسياً وعسكرياً واجتماعياً أيضاً فقلما يوفق الإنسان أن يجمع بين عدد من الصفات فيصل إلى ذروة القمة في أغلب تلك الصفات إلا الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي وصل القمم العالية فجمع كل الصفات الحميدة وتحلى بكل الفضائل الإنسانية فكان كتلة من الأخلاق والصفات والفضائل.

  •  محمد الحاكم الإنسان:

لم يقدم التاريخ البشري حتى الآن حاكماً وزعيماً لدولة كمحمد (صلى الله عليه وآله) في إنسانيته وعدله وإخلاصه وتواضعه للناس وصبره واستقامته وشجاعته وهذا هو سر العظمة في شخصية الرسول القائد فهو في الوقت الذي تتجلى فيه مهابة القائد وسمو الحاكم يتحلى أيضاً بالصفات الإنسانية الأخرى بحيث من الصعب تمييزه عن صحابته عندما كان يجلس معهم فكان كثيراً ما كان الموفدون يأتون إلى مجلسه فيفترسون الوجوه بحثاً عنه وعندما يصعب عليهم تمييزه يضطرون إلى مناداته أيكم محمداً ولربما صعب علينا أن نتصور إنساناً كاملاً في صفاته وأخلاقه يستطيع أن يحتفظ بصفاته كحاكم وهو يعايش الناس كفرد بسيط يعمل معهم يحرث الأرض ويزرعها يجلس على الأرض وينام عليها ويأكل عليها يرقع ثوبه ويخصف نعله ويركب الحمار ويعلف الناضح ويجيب دعوة المملوك، في شخصيته كإنسان متواضع يتعامل مع الناس وكأنه واحد منهم.

على رغم مشاكله الكثيرة فقد كان وقته مقسم إلى حصص لا تتعدى حصة على أخرى، فعن الحسين بن علي (عليه السلام) إذا دخل منزله (صلى الله عليه وآله) جزّء دخوله ثلاثة أجزاء، جزء لله، وجزء لأهله، وجزء لنفسه ثم جزّء جزءه بينه وبين الناس، هذا هو رسول الله في المحراب لا يسبقه أحد في عبادته وطاعته كان (صلى الله عليه وآله) يصلي الليل كله ويعلق صدره بحبل حتى لا يغلبه النوم (1) وفي لحظات تهجده كانت تذوب مشاكله وتتوارى متاعبه وكان يستمد في تلك اللحظات القوة والعزيمة من خالقه ليمضي في اليوم التالي في مواصلة مسؤوليته الكبرى.

وفي بيته كان يساعد عياله يقطع اللحم ويطحن الطحين ويجلب عنز أهله ويتحمل تربية الأولاد يخدم في مهنة أهله (كما ورد) ولم تُسمع منه كلمةً يغضب منها أحد من أهل بيته.

قال أنس بن مالك: إني خدمت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشر سنين ما رأيته قط أدنى ركبتيه من ركبة جليسه وقال لشيء صنعته لم صنعت كذا.

وفي المجتمع كان يسأل عن أصحابه واحداً واحداً كان يعود المرضى ولو في أقصى الدنيا ويجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويناولهم بيده، يصل ذوي الرحم من غير أن يفضلهم على غيرهم وكان يغفر ويصفح ويبتدأ بالسلام.

وفي دار الحكومة في المسجد كان يستقبل الناس بدون حاجة ولا حرس وكان يقول لمن يحضر ليبلغ الشاهد الغائب... أبلغوني حاجة من لا يستطيع ابلاغي حاجته، فإنه من أبلغ سلطان حاجة من لا يستطيع ابلاغها  إياه ثبّت الله قدميه يوم القيامة.. وكان يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين ولا يدعوه أحمر ولا أسود من الناس إلا أجابه.. وكان يقّسم لحظاته على أصحابه ينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية فقد كان يحرص على التعامل مع أصحابه بروح من المساواة.

ومن فرط عدالته حتى في الأمور الطفيفة كان يعطي كل واحد من جلسائه نصيبه من النظر حتى لا يحسب جليسه أن أحداً اكرم عليه منه من جالسه.

أما في تلبية حاجات الناس فقد ورد في كتب السيرة من سأله حاجة لم يرده إلا بها، وكان من فرط اهتمامه بالداخلين عليه أن كان يكرم من يدخل عليه كما ورد في الروايات وكان بابه مفتوحة للسيد والعبد المسكين والأمة وإذا لقيه أحد فقام معه أو جالسه أحد لم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه.

وكان يصغي بكل مسامعه لمن يعرض عليه شيئاً من مشاكله أو ما يهمه فقد ورد عند أرباب السير ما وضع أحدٌ فمه في آذانه إلا استمر صاغياً حتى يفرغ من حديثه بل يلتفت إليه بكل جسمه.

فمن كان يجلس أمامه لم يكن ليلمس ما يمنعه من التحدث بصراحة فقد أزال (صلى الله عليه وآله) الحواجز النفسية التي قد تنشأ بين الحاكم والمحكوم، عندما جاءه إعرابي وأراد أن يكلمه ارتعدت فرائصه عندما استحضر أنه يجلس قبال حاكم الدولة لكن الرسول أسرع مخففاً عنه، هوّن عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القد.

 رواه ابن مسعود (2).

فأين هذا مما يصنعه بعض الحكام من الأبهة والفخفخة أين هذا من الذين يضعون على قصورهم الحجاب والحرس ويمنعون من له حاجة ومن له مشكلة يريد حلها.

أين هؤلاء الذين لا يشاهدهم الناس إلا من شاشات التلفزيون عن ذلك الحاكم الإنساني الذي كان يقول أبلغوني حاجة من لا يستطيع ابلاغي حاجته.

أين أولئك الذين تكبروا على الناس وشمخوا بانوفهم ولم يسمحوا لأنفسهم أن يستمعوا رأياً لأحد عن ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) الذي كان يشاور أصحابه في الرأي (3) وكان يقول لأصحابه ما من أحد يشاور أحداً إلا هدى إلى الرشد فاستشارهم في معركة الخندق فكان صاحب الرأي هو سلمان القادم من فارس واستشارهم في أحد هل يبقى في المدينة أو يخرج إلى القوم وكان من رأي الرسول أن يبقى في المدينة.. وكان رأي أصحابه أن يخرجوا ليلتقوا بالأعداء خارج المدينة فاتبع رأي الصحابة.

أين أولئك الذين انصرفوا إلى الدنيا وملأوا بطونهم بألوان الأطعمة والأشربة عن ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) الذي جاء عنه أنه لم يشبع من خبز ثلاثة أيام حتى مضى لسبيله.

وجاء أيضاً في كتب السيرة لقد قبض (صلى الله عليه وآله) وان درعه مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً من شعير استلفها ينفقه لأهله.

عن ابن عباس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثّر في جنبه فقال يا نبي الله لو اتخذت فراشاً فقال: ما لي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها (4).

ودخل على النبي (صلى الله عليه وآله) رجل وهو على حصير قد أثّر في جسمه ووسادة ليف قد أثّرت في خده فجعل يمسح ويقول ما رضي بهذا كسرى ولا قيصر أنهم ينامون على الحرير والديباج.. أنت على هذا الحصير؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لأنا خير منهما لأنا أكرم منهما (5).

فأين هذا من أولئك الذين أصبح همهم ملء الأرصدة وبناء القصور والفلل واليخوت فكم هم اليوم بعيدين عن منهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكم هم بحاجة إلى أن يعودوا إلى ذلك القائد العظيم ليستلهموا منه الزهد والاخلاص والصدق وحب الناس وليتعلموا منه العدالة والمساواة وكيف كان يحافظ على أمانات الناس ولا يخونهم حتى في الأمور الطفيفة فكيف الأمور الكبيرة.

والحاكم قد يدفعه تشبثه بالسلطة أو اعتزازه بمنصبه وغروره بكرسيه إلى الانتقام ممن يخالفه فكم من حاكم قتل الآلاف دون ذنب لهم سوى عدم امتثالهم لأوامر السلطة وكم من حاكم انتقم من أصدقائه وأهل بيته وحتى أقرب الناس إليه نتيجة كلمة غير مرضية أو عمل غير مرضي فتاريخ الحكومات تاريخ مملوء بالانتقام مصبوغ بدماء الأبرياء.

وكلما أسبرنا الغور بحثاً عن حاكم تعامل مع خصومه معاملة إنسانية سوف لا نجد في سجل الحكام قائداً كرسول الله (صلى الله عليه وآله) فعن عائشة أنه ما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم الله..

وجاء أيضاً أنه إذا غضب لم يظهر من أثر غضبه إلا نقرة عرق بين حاجبيه.

وعن أنس بن مالك قال أن النبي (صلى الله عليه وآله) أدركه اعرابي فأخذ بردائه فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة رسول الله وقد آثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال له يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك.

فالتفت إليه رسول الله: فضحك وأمر له بعطاء.

فأين ستجدوا مثل هذا الحاكم الذى يقابل الاساءه بالاحسان . فلقد تفنن الحكام في معاقبة المعارضة ووصل الأمر بالبعض منهم أن يصدروا قراراً بقتل من ينال منهم بكلمة واحد بقصد الاهانة، فكيف إذا تطاولوا عليهم باطلاق الهتافات أو الخروج في المظاهرات فإن الإعدام حينذاك سيكون قليلاً بحقهم وبحق ذويهم..

أما رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإذا جاء رمضان اطلق كل اسير واعطى كل سائل فكان اصبر الناس على أوزار الناس كما ورد في الرواية وهكذا كان مع عبد الله ابن آُبي يوم أساء له وتآمر عليه وأراد المسلمون قتله وجاء ابنه متطوعاً لتنفيذ هذا العقاب لكن صاحب القلب الرحيم الذي كان يعطف حتى على الحيوان امتنع عن ذلك ويوم وفاة رأس النفاق خلع رسول الله ردائه ولفه بها فكان يقابل الإساءة بالإحسان.

هذا في ميدان الإنسانية والرحمة أما في ميدان الحرب فكان رحيماً حتى مع الذين قاتلوه يعطف على الأسير ويداوي الجريح وقد سنّ سنة لم تكن تعرفها العرب وهو اطلاق سراح الأسير بفدية أو مقابل عمل ينجزه بعد أن كان الأسير يسترق ويصبح كالعبد المملوك وكان في ميدان المواجهة المقاتل الأول الذي يتقدم على جموع المقاتلين فعن علي (عليه السلام) قال: لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو أقرب إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً (6).

وعنه أيضاً كنا إذا أحمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله (صلى الله عليه وآله) فما يكون أحدٌ أقرب إلى العدو منه (7).

وفي مواضع الخطر كان المبادر قبل الآخرين ففي رواية أنس قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) اشجع الناس وأحسن الناس وأجود الناس. قال،فزع أهل المدينة ليلة فانطلق الناس قبل الصوت قال: فتلقاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد سبقهم وهو يقول لن تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة وفي عنقه السيف قال فجعل يقول الناس: لم تراعوا وجدناه بحرا، أو أنه البحر.

وكان صادقاً مع نفسه ظاهره كباطنه لا يمارس الحيل السياسية التي يمارسها اليوم السياسيون. فكان يعرف رضاه وغضبه في وجهه.

فعن ابن عمر: كان إذا رضي فكأنما تلاحك الجذر وجهه (المرآة التي توضع في الشمس فيرى نورها) وإذا غضب خُسف لونه.

وكان فعله وقوله واحد... لا يطلق الشعارات الجوفاء ولا يمارس شيئاً معاكساً لما يقوله.

ففي أحد الأيام كان يخطب في المسجد ويحث المسلمين على الزواج وما أن انتهت الخطبة حتى أعلن من على المنبر عن تزويج ابنة عمه ضباعة من المقدار الأسود وكان ولياً لها كما يظهر من الحادث فقد زوج هاشمية من بيت رفيع في قريش من إنسان عادي حتى يكسر الطوق الذي اصطنعه المجتمع الجاهلي وحتى يقول للآخرين بأن المقياس في الكفاءة الزوجية هو الإيمان وليس الحسب والنسب... هكذا عبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبصورة عملية عن أفكاره في المساواة فكان المترجم الأول للقيم التي حملها ودعى إليها على عكسه اليوم الكثير ممن يحملون قيماً عظيمة لكنهم في الممارسة على عكس ذلك فهناك واقعهم لا يمارسونها فيفرقون بين هذا وذاك فيفضلون من يرتاحون إليه فيغدقون عليه بالأموال والعطايا لا لكفاءة له بل لأنه فقط وفقط يمتدح هذا الحاكم ويحني رأسه له.. لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هكذا فقد كان يعامل أصحابه بالسوية حتى في توزيع نظراته أثناء الحديث وكان يحاسبهم حتى لو كانوا أقرب الناس إليه.

وكان يوعظهم ويرشدهم إن بدر منهم الخطأ فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجل من بني فهد وهو يضرب عبداً له والعبد يقول أعوذ بالله فلم يقلع الرجل عنه فلما أبصر العبد برسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أعوذ بمحمد فأقلع عن الضرب فقال رسول الله: يتعوذ بالله فلا تعيذه ويتعوذ بمحمد فتعيذه؟ والله أن يحق أن يجار عائذه من محمد فقال الرجل: هو حر لوجه الله فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

والذي بعثتني بالحق نبياً لو لم تفعل لواقع وجهك حرّ النار (8).

أما في عدله فليس هناك أدل على هذه الصفات مما ذكره المؤرخون أن يهودياً كان له على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دنانير فتقاضاها فقال له يا يهودي ما عندي ما أعطيك فقال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تقضيني فقال: إذا أجلس معك فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتهددونه ويتواعدونه فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) اليهم فقال: ما الذي تصنعون به فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك فقال (صلى الله عليه وآله) لم يبعثني ربي عز وجل بأن أظلم معاهداً ولا غيره.. فلما علا النهار قال اليهودي أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وشطر ماله في سبيل الله.. أما والله ما فعلت بك الذي فعلت إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة، فإني قرأت نعتك في التوراة محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره بطيبة وليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب ولا متزيين بالفحش ولا قول الخناء وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وهذا مالي فاحكم به بما أنزل الله وكان كثير المال (9).

وكان من عدله وكرمه هذه الحادثة المنقولة عن الصادق (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد بلى ثوبه فحمل إليه اثنى عشر درهماً فقال: يا علي خذ هذه الدراهم فاشتري لي ثوباً ألبسه قال علي (عليه السلام) فجئت إلى السوق فاشتريت له قميصاً باثني عشر درهماً وجئت به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنظر إليه فقال: يا علي غير هذا أحب إليّ أترى صاحبه يُقيلنا فقال: لا أدري فقال: انظر فجئت إلى صاحبه فقلت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد كره هذا، يريد ثوباً دونه، فأقلنا فيه فردّ عليّ الدراهم فجئت به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فمشى معي إلى السوق ليبتاع قميصاً فنظر إلى جارية قاعدة على الطريق تبكي فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما شأنك؟ قالت: يا رسول الله إن أهل بيتي أعطوني أربعة دراهم لأشتري لهم بها حاجة فضاعت فلا أجسر أن أرجع إليهم، فأعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أربعة دراهم وقال لها ارجعي إلى أهلك ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى السوق فاشترى قميصاً بأربعة دراهم ولبسه وحمد الله وخرج فرأى رجلاً عرياناً يقول: من كساني كساه الله من ثياب الجنة فخلع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قميصه الذي اشتراه وكساه السائل ثم رجع إلى السوق فاشترى بالأربعة التي بقيت قميصاً آخر فلبسه وحمد الله ورجع إلى منزله وإذا الجارية قاعدة على الطريق فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما لك لا تأتين أهلك قالت: يا رسول الله إني قد أبطأت عليهم وأخاف أن يضربوني فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مري بين يدي ودليني على أهلك فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى وقف على باب دارهم ثم قال: السلام عليكم يا أهل الدار فلم يجيبوه فأعاد السلام فلم يجيبوه فأعاد السلام فقالوا: عليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال لهم مالكم تركتم اجابتي في أول السلام والثاني قالوا : يا رسول الله سمعنا سلامك فأحببنا أن نتكثر منه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) إن هذه الجارية أبطأت عليكم فلا تؤاخذوها فقالوا: يا رسول الله هي حرة لممشاك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحمد لله ما رأيت اثنى عشر درهماً أعظم بركة من هذه كسى الله بها عريانين واعتق بها نسمة (10).

هذا هو محمد (صلى الله عليه وآله) قائد وهادي لم تنسه مشاغل الحكم ومشاكل السلطة وتعقيدات العمل الاداري إنه نبي الرحمة والرسول الهادي الذي بعثه الله لهداية الناس وإنقاذهم من تخلف الجهل وتخلف الرذائل.

لم تنسه كثرة المهام التي كان يتواصل في القيام بها عن البحث عن إنسان جائع ليسد جوعه وعن إنسان عريان ما يتستر به، لم تصرفه مسؤولياته الكبيرة عن البحث بين سكك المدينة عن كل محتاج، عن تلك الجارية التي فقدت دراهمها فلم يكن هيناً عليها العودة إلى البيت خاوية اليد.

فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمثل السلطة العليا للدولة الإسلامية لكن ليس بالمفهوم الذي تعارف عليه الناس فالسلطة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليست تسلطاً على رقاب الناس وليست فقط اصدار الأوامر بل هي اغاثة الملهوف واعانة الفقير والبحث عن المحتاج فلقد اقترنت السلطة بالهداية فأخذت صورة أكثر شفافية في أعين المسلمين حتى لم يعد المسلم يرى فاصلاً بينه وبين رئيس الدولة وهي شهادة أقر بها جميع من اتصلوا به (صلى الله عليه وآله).

فهذا عروة بن مسعود يعود إلى قريش بعد ايفاده إلى المدينة يعود ليقول لهم:

يا معشر قريش إني أتيت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمدٍ في أصحابه.

ومحمد (صلى الله عليه وآله) لم يتغير فقد ظل على منهجه وسلوكه الرسالي حتى التحاقه بالرفيق الأعلى.

وهذه هي إحدى ركائز العظمة في شخصية الرسول أنه لم يتغير خلقه وسلوكه بعد أن صار الرجل الأوحد في جزيرة العرب فقد ظل على وفائه للفقراء والمساكين وظل بيته منزهاّ عن حياة الترف حتى عن الحياة الاعتيادية فقد كان يكتفي بالحدود الأدنى من احتياجاته الدنيوية وعندما اعترضن زوجاته على هذه الحياة وضع أمامهن خياراً صعباً إما القبول بهذا الوضع وإما الطلاق فهذه عائشة تقول مازالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما قبض صبت علينا الدنيا صبا (11) وكانت تقول: إنا كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلّة في شهرين وما وقدت في بيوت رسول الله نار فقال لها عروة بن الزبير ما كان يعشيكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء، وقد ظل على هذا المنهج حتى في فترة غنى المسلمين وكان باستطاعته أن يعيش على الأقل عند المستوى المتوسط من الناس لكن كان رسول الله يريد أن يواسي أفقر الناس في طعامه وشرابه حتى لا يشعر الفقير بالحسرة والحرج طالما قائده يعيش بنفسه مستواه فلم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حاكماً وحسب بل كان معلماً أيضاً، مرشداً أيضاً فأراد أن يجمع بتلك الخصال الدنيا والآخرة معاً الواقعية والفضيلة معاً، السياسة والهداية معاً، فكان كتلة فضائل تتحرك بين الناس سواء كان في دست الحكم أو على كرسي القضاء أو في قيادة الجيش أو في زعامة المجتمع، خلق يتحرك وفضائل تجوب بين المسلمين تلبي حاجة المحتاج وترشد من هو في ظلال وتيه فكان بحق القدوة الصالحة لكل بني البشر من الإنسان العادي حتى الحاكم.. من الإنسان العامل حتى المدير.

وحقاً جاء القرآن ليهتف بالمسلمين ويطلب منهم الاقتداء بنبيّهم فهو القدوة الصالحة.

{ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.}

ــــــــــــ

الهامش

1)- بحار الأنوار: ص 302.

2)- بحار الأنوار: ص 229.

3)- أعيان الشيعة: 222.

4)- بحار الأنوار: ص 239.

5)- بحار الأنوار: ج16- ص282.

6)- بحار الأنوار: ج16 – ص232.

7)- بحار الأنوار: ج16 – ص232.

8)- بحار الأنوار: العلامة المجلسي: ج16 ص 282.

9)- بحار الأنوار: ج16 ص 216.

10)- بحار الأنوار: الخصال: 2، ص 86-87، الأمالي: ص 144.

11)- بحار الأنوار: ج16 ص 246.