mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 42.doc

رابعاً: مبدأ الشورى.

الشورى مبدأ إسلامي أوجبهُ الله على ولاة الأمور، إذ ورد في القرآن الكريم: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ].

وهناك حثٌّ شديد في السنة الشريفة على المشاورة. كذلك نجد هذا الحث في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) . وفي قبالها أحاديث كثيرة تنبذ الاستبداد منها " من استبد برأيه هلك"، فالشورى هي قاعدة ثابتة في النظام السياسي الإسلامي لا يستغني عنها الحاكم ولا الشعب. إلاّ أن هناك حدوداً للشورى فالشورى ينتهي دورها مع وجود النص أو الضرورة الدينية، عندها لا مكان للشورى، وقد حاول البعض النيل من الإمام الحسين (عليه السلام) والطعن به يقول أحمد شلبي: نجيء إلى الحسين لنقر - مع الأسف-  أنّ تصرفاته كانت في بعض نواحي هذه المشكلة غير مقبولة فهو أولاً، لم يقبل نصح الناصحين وخاصة عبد الله بن عباس، وأستبدّ برأيه(1). وقد غفل (شلبي) حقيقة الدوافع الكامنة وراء قيام الإمام الحسين (عليه السلام) ، فقد وجد الإمام من الواجب علية إنقاذ الأمة من براثن الظُلم والفساد والتحريف الذي كان يتم باسم الدين، فخروجه كان أكثر من ضرورة شرعية، وقد شرح الإمام بنفسه مشروعية خروجه عندما ذكر بأنه يُريد أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وقد ذكرنا سلفاً أنه لا يجوز المشورة في أصل الأمر الواجب، وقد ذكر العلماء لا مورد للشورى في الأحكام الشرعية، هذا بغض النظر عن كون الإمام الحسين (عليه السلام) إمامٌ مفترض الطاعة عند طائفة كبيرة من المسلمين فتصميمه هو بمثابة حكم شرعي لا مجال فيه للشورى إلا أن ذلك لا يعني أنّ الإمام لم يكن يستشيره بل كان يشاور أصحابه في كل صغيرة وكبيرة، ويجمعهم لمناقشة تطورات الأوضاع ويسمع كلامهم ويعمل بموجبه في بعض الأحيان إذا لم يجد مانعاً من ذلك. وفيما يلي بعض مشاوراته لأصحابه.

 

1- مشورته لآل عقيل.

عندما وصل خبر مقتل مسلم بن عقيل جمع أبناء عقيل واستشارهم في الأمر، يقول الشيخ المفيد: ونظر إلى ابن عقيل فقال: " ما ترون؟ فقد قتل مسلم؟ فقالوا: والله ما نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق، فأقبل علينا الحسين (عليه السلام) فقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء، فعلمنا انه قد عزم رأيه على المسير(2).

 

2- مشورة بعد مقتل عبد الله بن يقطر:

يقول الشيخ المفيد: فأخرج للناس كتاباً فقرأ عليهم فإذا فيه" بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعدُ فإنه قد أتان خبرً فظيع، قتل مسلم بن عقيل، وهانيء ابن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلت شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج، ليس عليه ذمام، فتفّرق الناس عنه، وأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفرٌ يسير ممن انضموا إليه وإنما فعل ذلك لأنه (عليه السلام) علم أنّ الأعراب الذين اتبعوه وهم يظنون انه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهلها، فكره أن يسيروا معهُ إلاّ وهم يعلمون على ما يقدمون(3).

 

3- استشارة عسكرية.

عندما لاح جيش الحر بن يزيد الرياحي استشار الإمام أصحابه قائلاً لهم: ما لنا ملجأً إليه ونجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد؟ فقلنا له: بلى هذا ذو قسم إلى جنبك، فأخذ الإمام برأيهم فأتجه نحو المكان الذي اقترحهُ الأصحاب، ومرةً أخرى قرر الإمام أن يسلك طريقاً آخر غير الطريق المعتاد فقال للأصحاب هل فيكم أحد يخبر الطريق على غير الجادة؟ فأجابه الطرماح بن عدي الطائي فقال له: أنا أخبر الطريق فقال له: سر بين أيدينا فلم يمنع الإمام مع علمه الوافر والكامل أن يسأل ويستشير في الأمور المختلفة.

 

4- مشورة بالقتال.

عندما وصل كتاب عبيد الله بن زياد إلى الحر أصدر الحر بن يزيد الرياحي أوامره إلى الإمام الحسين بالنزول في مكانه على غير ماء ولا في قرية، فأقترح الإمام أن ينزل بنينوى أو الغاضرية، فرفض الحر ذلك فأجتمع الإمام بأصحابه في تلك الساعة، فقال لزهير بن القين: إني والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشدّ ما ترون، يا أبن رسول الله إنّ قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به.

فقال الإمام الحسين (عليه السلام) : ما كنتُ لأبدأهم بالقتال(4) وقد رفض الإمام مقترح زهير لأنه يخالف مبدأ من مبادئ الثورة، وهو مبدأ السلام.

 

5- اجتماع ذي حُسم.

بعد أن وصلت رسالة عبيد الله بن زياد جمع أصحابه وقام خطيباً فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه نزل من الأمر ما قد ترون، وإنّ الدنّيا تغيرت وتنكرت وأدبر مفعولها (أو معروفها)، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحقِّ  لا يُعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقاً حقاً، فإني لا أري الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما، فقام زهير بن القين فقال لأصحابه، تكلموا أم أتكلم : قالوا: لا بل تكلم فقال: " قد سمعنا هداك الله يا ابن رسول الله مقالتك، لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنا فيها مخلدين لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها(5)

قال: ووثب هلال بن نافع البجليُّ فقال: والله ما كرهنا لقاء ربنا وإنا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك، ونعادي من عاداك.

قال: وقام بُرير بن خُضير فقال: والله يا ابن رسول الله لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك، فيقطع فيك، أعضاؤنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.

 

6- اجتماع بعد وصول خبر شهادة قيس بن مسهر الصيداوي.

لما بلغ الإمام مقتل قيس أستعبر باكياّ ثم قال: " اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منك منزلاً كريماً واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك إنك على كل شيء قدير.

قال: فوثب إلى الحسين (عليه السلام) رجل من شيعته يُقال له هلال بن نافع البجلىّ فقال: يا ابن رسول الله أنت تعلم أن جدّك رسول الله لم يقدر أن يشرب الناس محبته ولا أن يرجعوا إلى أمره وما أحبَّ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ويضمرون له الغدر، يلقونه بأحلى من العسل، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل حتى قبضهُ الله إليه وإنّ أباك علياً رحمة الله عليه قد كان في مثل ذلك، فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين حتى أتاه أجله إلى رحمة الله ورضوانه، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة، فمن نكث عهده وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه والله مغني عنه، فسِر بنا راشداً معافاً مشرِّقاً إن شئت، وإن شئت مغرِّباً فوالله ما أشفقنا مِن قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربنا، وإنا على نياتنا وبصائرنا فوالي من والاك، ونعادي من عاداك.

ثم وثب إليه برير بن خضير الهمداني فقال: " والله يا بن رسول الله لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديّك نقطِّع فيه أعضاؤنا ثم يكون جدُّك شفيعنا يوم القيام بين أيدينا، لا أفلح قوم ضيعوا أبن بنت نبيهم، أُفّ لهم غداً ماذا يلاقون؟ ينادون بالويل والثبور في نار جهنم".

 

7- اجتماع ليلة عاشوراء.

ذكر الطبري: "جمع الحسين أصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد وذلك عند قرب المساء قال على بن الحسين فدنوت منه لا سمع وأنا مريض فسمعتُ أبي وهو يقول لأصحابه: أُثني على الله تبارك وتعالى أحسن ثناء وأحمده على السراء والضراء اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ولم تجعلنا من المشركين، أما بعدُ فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً مِن أصحابي ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل مِن أهل بيتي فجزاكم الله علي جميعاً خيراً إلا وأني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ألا ورآني قد رأيت لكم فأطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام، هذا ليلٌ قد غشيكم  فاتخذوه جملاً ثم ليأخذ كل رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قد أصابوني هذا عن طلب غيري، فقال له إخوته وأبناؤه وابنا أخيه وابنا عبد الله بن جعفر لِمَ نفعل لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً، بدأهم بهذا القول العباس بن علي ثم إنهم تكلموا لهذا ونحوه فقال الحسين (عليه السلام) : يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا قد أذنتُ لكم قالوا: فما يقول الناس ، يقولونه أنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرْم معهم بسهمٍ ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيفً ولا ندري ما صنعوا، لا والله لا نفعل ولكن نفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبّح الله العيش بعدك .وقام إليه مسلم بن عوسجه الأسدي، فقال: انحنُ نتخلى عنك ولما نقدر إلى الله في أداء حقك، أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمهُ في يدي ولا أفارقك ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك، وقال سعد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيك والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم احرق ثم أذرُّ يُفعلُ ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلةٌ واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً، وقال زهير بن القين: والله لوددتُ أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتله وأن يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك، وتكلّم جماعة أصحابه بكلامٍ يشبه بعضهُ بعضاً في وجه واحد، فقالوا: "والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا وقضينا ما علينا(6).

كانت تلك نماذج من مشورة الإمام الحسين (عليه السلام) لأصحابه، فكان يستشيرهم في القرارات الحاسمة، وكان يجمعهم في الأوقات الحرجة ويناقشهم في مختلف شؤون الثورة، وهذا هو ديدن القائد الناجح الذي يُعتبر أصحابه شركاء له في الثورة، فلا بُدّ أن يُشاركهم في اتخاذ القرار ويرى رأيهم في مختلف الأمور لأنّ الاستبداد في الثورات يعدُّ كارثة، فالاستبداد يُفرق الجماعات ويُمزِّق الثوار، ويجعلهم يتفرقون عن القائد بينما الشورى عامل من عوامل الجمع والتكاتف والتوحّد، ويمكننا أن نلاحظ كيف أستطاع أسلوب المشورة أن يوجد التلاحم بين أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وكيف أصبحوا يداُ واحدةً في مواجهة الأخطار والأعداء.

 

خامساً: مبدأ حرية الاختيار.

الثورات لا تتقبل الإجبار والفرض ، فالثوار يقبلون على اعتناق مبادئ الثورة عن قناعة كاملة، وإذا لم يكُن انتماؤهم عن قناعة فإنهم سوف لا يفدون بأرواحهم من اجلها، وهذا ما نلاحظهُ في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)  فهو لم يُجبر إنساناً واحداً على الالتحاق بركبه فكان رائده دائماً هو  إعطاء الأفراد حق الاختيار وقد تصرف بهذا المنطق حتى مع أقرب الناس إليه وهم أولادهِ.

وهذه نماذج تطبيقية عن هذا المبدأ.

1- كتب إلى بني هاشم برسالة جاء فيها: 

أما بعدُ فانه من لحق بي منكمُ أستشهد، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح والسلام. وجاء في وصيته لمحمد بن الحنفية: فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليًّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقِّ وهو خير الحاكمين.

2- عندما أتى التنعيم لقي عيراً قد أقبلت من اليمن فأستأجر من أهلها جمالاً لرحله وقال لأصحابها: " من أحبَّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كراه وأحسنا صحبته، ومن أحبَّ أن يُفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراه على قدرها قطع من الطريق، فمضى معهُ قومٌ وامتنع آخرون".

3- وقد تعلمّ منه أصحابه، عندما أعطى لزهير بن القين حرية الاختيار، فجاء زهير إلى أصحابه وانتهج النهج نفسه قائلاً لهم: من أحبَّ منكم أن يتبعني وإلاّ فهو آخر العهد، فلم يُجبرهم على المجيء معه حتى زوجته أعطاها حق الاختيار، فاختارت اللحاق بالإمام.

 

4- عبيد الله بن الحر.

دعا الإمام عبيد الله بن الحر إلى نصرته عندما التقى به في الطريق ولم يجبره على ذلك فقال له عبيد الله بن الحر" والله أني لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أغنى عنك، ولم أخلف لك بالكوفة ناحراً، فأنشدك الله أن تحملني على هذهِ الخُطة، فإنّ نفسي لا تسمح بالموت، ولكن فرسي هذهِ الملحقة، والله ما طلبت عليها شيئاً إلاّ لحقته، ولا طلبني أحدُ وأنا عليها إلاّ سبقته فهي لك(7) فرد عليه الإمام: ما جئناك لفرسك وسيفك، إنما أتيناك لنسألك النصرة، فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا في شيء من مالك(8).

5- عمرو بن قيس:

والتقى الإمام بشخصٍ آخر هو عمرو بن قيس وكان معهُ عمه، فقال لهما الإمام: جئتما لنصرتي؟

قال: لا، إنا كثيرو العيال، وفي أيدينا بضائع للناس، ولم ندرِ ماذا يكون ونكره أنّ نضيّع الأمانة.

فقال لهما الإمام: انطلقا فلا تسمعا لي واعية، ولا تريا لي سواداً(9).

6- علي الأكبر.

وأعطى الإمام حرية الاختيار لولده عليّ الأكبر عندما حمد الله فقال له ابنه علي الأكبر: يا أبتِ جُعلت فداك مِمَّ حمدتَ الله واسترجعت قال: يا بُنيّ إني خفقتُ برأسي خفقة فعنَّ لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم فعلمتُ أنها أنفسنا نُعيت إلينا قال له: يا أبتِ لا أراك الله سوءً ألسنا على الحق قال: بلى والذي إليه مرجع العباد قال : "يا أبت إذاً لا نبالي نموتُ محقين، فقال له جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده(10). فكان كلامه بمثابة اختبار لابنه وفي الوقت نفسه منحهُ فرصة لاختيار قراره وتوضيح موقفهِ.

7- الضحاك بن عبد الله المشرقي:

يقول عن تصميمه في اللحظات الحاسمة من معركة كربلاء: "لما رأيتُ أصحاب الحسين قد أصيبوا، وقد خَلُص له والى أهل بيته، ولم يبق معهُ غير سُويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي وبشير بن عمرو الحضرمي قلت له: يا أبن رسول الله قد علمت ما كان بيني وبينك قلتُ لك: أقاتل عنك ما رأيتُ مقاتلاً فإذا لم أرى مقاتل فأنا في حلَّ من الانصراف فقتلتُ لي نعم قال: صدقت وكيف لك بالنجاء إن قدرت على ذلك فأنت في حلّ قال: فأقبلتُ إلى فرسي، وقد كنتُ حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر أقبلت بها حتى أدخلتها فسطاطاً لأصحابنا بين البيوت وأقبلت أقاتل معه راجلاً فقتلت يومئذ بين يدي الحسين رجلين وقطعت يد آخر وقال لي الحسين يومئذ مراراً: لا تُشل، لا يقطع الله يدك جزاك الله خيراً عن أهل بيت نبيك (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط ثم استويْتُ على متّْنها ثم ضربتها حتى إذا قامت على السنابك رميتُ بها عُرْضُ القوم فأخرجوا لي(11). هكذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) عند وعده لهذا الرجل، وسمح له بأن يتركه، ويترك ساحة القتال، وهو أحوج ما يكون إلى الناصر، ذلك لأنه لا يريد إرغام أحد على اختيار الحرب معه، بل يريد أن يكون عند قوله ووعده مهما كلفه ذلك من ثمن.

8- عمرو بن جنادة.

فتى عمرة بعمر  الأزهار، وهو أصغر مقاتل في جيش الإمام لا يتجاوز عُمره أحد عشر عاماً، ولكنهُ كان أكبر من ذلك واكبر مِن هذا الجيش الفتاك الذي جاء إلى قتال الإمام الحسين (عليه السلام) ، جاء الغلام إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يطلب منهُ الأذن بالقتال،فقال الإمام: هذا غلامٌ قتل أبوه في الحملة الأولى ولعلّ أمه تكره ذلك، فخشي الغلام أن يمنعه الإمام فقال: إنّ أمي أمرتني، فالإمام لم يكتفِ بتحقق الرضى من جانب الغلام، بل أراد أن يتأكدّ أن رغبته في القتال ناشئة عن قرار شخصي أو قرار من أمه التي أصيبت لتوها بشهادة زوجها.

9- جون مولى أبي ذر الغفاري.

كان مولاً لأبي ذر ثم خدم في بيت أمير المؤمنين فالحسن، وجاءت به النوبة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ، وكان طاعناً في السنّ، وكان مع الإمام الحسين مِن المدينة إلى مكة، ومِن مكة إلى كربلاء، وفي يوم عاشوراء جاء إلى الإمام ليأخذ منه الأذن بالقتال، ولم يكُن يتوقع منه أكثر من الخدمة البسيطة التي يقدمها وهو شيخٌ كبير رافق الإمام كل هذهِ المُدَّة من أجل الخدمة وليس القتال. لم يسمح له الإمام في بداية الأمر قائلاً له: يا جون إنما تبعتنا طلباً للعافية فأنت في إذن مني... يعني أنت غير مُجبر على اختيار هذا الطريق، لأنك لم تأت معنا لهذهِ الغاية، فوقع جون على قدمي الإمام يوسعهما تقبيلاً مصراً على أخذ الأذن قائلاً: أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم، أنّ ريحي لنتن وجسمي للئيم، ولوني لأسود فتنفس عليَّ بالجنة ليطيب ريحي ويشرف جسمي ويبيض لوني لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا اللون الأسود مع دمائكم.

غاية الإمام من الكلام هي أن يكون القرار نابعاً من الذات، بدون أي تأثير خارجي فهو يُريد أن يكون قراره بالقتال معهُ عن تصميم وإرادة شخصية محضة.

10- عمرو بن قرظة الأنصاري:

هل فعلاً غرَّر به الإمام كما ادعى أخوه ذلك؟.

لنتابع أمره: خرج إلى المعركة وهو يرتجز ويقول:

قـــد علــمت كتيبة الأنصار*****أني سأحمي حــوزة الذمار

ضرب غلامٍ غير نكس شار*****دون حسين مهــــجتي ودار

كلمات تنبع من أرادة مستقلة لم تقع تحت تأثير أي ضغط غير الوعي الصادق والعقيدة الراسخة، وكانت نهاية عمرو كنهاية بقية الأصحاب، كسب الشهادة، ذكرنا هذا الصحابي الجليل لأنه كان له أخ اسمه عليّ حضر واقعة كربلاء، لكنه كان في الجناح المعاكس، فلما سمع بشهادة أخيه تألمَّ كثيراً وقال: يا حسين يا كذاب ابن الكذاب أضللت أخي وغررته حتى قتلته.

فرد الإمام الحسين (عليه السلام) على تخرصات علي وأكدّ انه اختار طريقه بمحض إرادته قال: إنّ الله لم يضل أخاك ولكنهُ هدى أخاك وأضلك(12) وقد كشفت أبياته الشعرية عن ذلك.

 

سادساً: مبدأ الإصرار على الهدف.

تستمدُّ أية ثورة قوتها السياسية من إصرار الثوار على أهدافهم وعدم تنازلهم أو تراجعهم عن أهدافهم، خصوصاً في المفاوضات التي يجرونها مع أعدائهم، فكل ثورة ستواجه ظروفاً تفرض على السلطات الموافقة على التفاوض . وطبعاً هدف كل سلطة من كل ثورة هو تنازل الثوار عن مبادئهم، ويكاد هذا الأمر يجري كقاعدة ثابتة في كل الثورات، وحتى ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) واجهت هذا الظرف الصعب، فقد قُدِّمت إغراءات كبيرة لقائد الثورة، ولعناصر الثورة الأساسية، فماذا كان موقفهم هل تنازلوا عن مبادئهم أو تراجعوا إلى الخطوط الخضراء التي تُريدها السلطات، لقد كان الإمام مصراً على أهدافه منذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها رفضة لبيعة يزيد بن معاوية، منذُ أن وقف قبال الوليد ليقول له: أيها الأمير: أنّا أهل بيتِ النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق شارب الخمرة ، قاتل النفس المحرمة، معلنّ بالفسق، ومثلي لا يُبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أينا أحقُّ بالبيعة والخلافة، ثم خرج (عليه السلام)(13).

وقد حاول مروان بن الحكم أن يُغيِّر موقف الإمام فبعد أن فشل في استخدام سلاح التهديد في تغيير موقفه، جاء إلى الإمام وقال له بطريقة هادئة: يا أبا عبد الله إني لك ناصح ، فأطعني تُرشد، فقال الحسين (عليه السلام) وما ذاك؟ قل حتى اسمع، فقال مروان: إي آمرك ببيعة يزيد أمير المؤمنين فإنهُ خيرُ لك في دينك ودنياك. فقال الحسين (عليه السلام): إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد ولقد سمعت جديْ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان، وطال الحديث بينه وبين مروان حتى انصرف مروان، وهو غضبان(14).

هناك مواقف تتسم بالصمود والثبات على الهدف وقفها الإمام الحسين وأصحابه نذكر منها:

1-  موقفه من عروض الحر بن يزيد الرياحي.

وقعت مشادة كلامية بين الإمام والحر، إذ قال الحر للإمام: قد أمرت أن لا أفارقك إذا لقيتك حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد، فردّ الإمام (عليه السلام) بعنف قائلاً: الموت أدنى من ذلك، فإذا كان الإمام قد رفض البيعة ليزيد فكيف سيرضى مبايعة عبيد الله بن زياد، وحاول الحر بن يزيد أن ينصح الإمام بكلام يُبطن شيئاً من التهديد قائلاً: إني أذكرك الله في نفسك، فاني أشهد لئن قاتلت لنقتلنّ، فغضب الإمام من كلام الحر فأسرع في الجواب. أبالموت تخوفني، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني وما أدري ما أقول لك ؟ ولكني أقول كما قال أخو الأوس لأبن عمه..

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى*****إذا مـــــــا نوى خيراً وجاهد مسلما

وآســـــى الــرجال الصــالحين بنفســه*****وخـــــالف مـــــثبوراً وفارق مجـرمــاً

فإن عشت لم أندم وان مت لم ألـم*****كفــــى بك ذُلاً أن تعيش وترغماً(15)

فعرف الحر أن الإمام لا يستسلم لهم، فهو يموت ولا يتراجع عن أهدافه.

 

2- أخذ الإمام يحمسّ أصحابه ويثبت عزائمهم قائلاً لهم: ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما(16).

وخطب في أهل الكوفة قائلاً: " ألا وأن الدعي ابن الدعيّ قد ركّز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذّلة يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنين، وحجور طابت وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبيه مِن أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

 

3- جواب رسالة عبيد الله بن زياد.

لما علم عبيد الله بن زياد بأنّ الإمام الحسين محاصرٌ حاول أن يستغلّ الموقف فبعث إليه برسالة تهديد لعله يستسلم ويُبايع يزيد جاء في الرسالة أما بعدُ: يا حُسين فقد بلغني نزولك بكربلاء، وقد كتب إلي أمير المؤمنين يزيد أن لا أتوسد الوثير ولا أشبع من الخمير أو ألحقك باللطيف الخبير أو تنزل على حكمي وحكم يزيد، وجاء الرسول بالرسالة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وطالبهُ بالجواب فقال له الإمام: ما له عندي جواب لأنه قد حقّت عليه كلمة العذاب.

وفي اليوم التاسع من محرم بعث عبيد الله بن زياد بآخر رسالة إلى عمر بن سعد جاء فيها: " أما بعدُ: فإني لم أبعثك للحسين لتكفً عنه، ولا لتطاوله ولا لتقيه السلامة، ولا لتكون له عندي شفيعاً، أنظر فإن نزل حسين وأصحاب على حكمي فأبعث بهم إلي سلماً وإن أبوا فأزحف إليهم حتى تقتلهم وتُمثِّل بهم فإنهم لذلك مستحقون فإن قتلت حُسيناً فأوطيء الخيل صدره، ولستُ أرى أنه يضر بعد الموت، ولكن على قول قلته لو قتلته لفعلت هذا به، فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فأعتزل عملنا وجندنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنا قد أمرناه بذلك(17) فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد، فقال له عمر بن سعد:لا يستسلم والله حسين إن نفساً أبيهً لبين جنبيه(18).

وبعث عمر بن سعد برسالة ابن زياد إلى الإمام الحسين (عليه السلام) ليؤكد له بأنّ الموقف لا يحتمل إلاً التنازل أو الحرب، فقال الإمام جواباً على هذهُ الرسالة: " لا والله ما وضعتُ يدي في يد ابن مرجانه(19).

 

الهوامش:

1- شلبي: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية،  2/201.

2- الإرشاد: ص205      .

3- المصدر نفسه: ص 206.

4- المصدر نفسه: ص 210.

5- الطبري: 4/ 305 ، ص 195.

6- الطبري: 4/ 318.

7- الدينوري: الأخبار الطوال، ص 249.

8- ابن الأعثم: الفتوح، ص 

9- رجال الكاشي : ص 72.

10- الطبري: 4/308.

11- الطبري: 4/ 339.

12- الطبري: 4/ 330.

13- المناقب: 4/ 88.

14- الملهوف: ص 25.

15- الكامل في التاريخ:3/ 281.

16- تاريخ ابن عساكر: 13/74.

17- الطبري: 4/315.

18- الطبري: 4/315.

19- الصراط السوى في مناقب آل: ص 87 .