mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 41.doc

خامساً: تأنيب الضمير.

كما وأنّ المريض النفسي لا تنفعه في أغلب الأوقات إلاّ حقنة من الدواء كذلك الأمة المريضة لا يعالجها إلاّ مثل هذه الحقن حتى لو كانت في وقتها مؤلمة، فقد استخدم الإمام هذا الأسلوب وأخذ يؤنب الضمائر النائمة علّها تستيقظ فكان يقول لهم: "لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، فالمغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم ومن نكث فإنما ينكث على نفسه".

وخطب في الجيش المعادي يوم عاشوراء قائلاً: "وأراكم قد اجتمعتم على أمرٍ قد سخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نعمته، فنعم الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أنكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم ولما تريدون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، هؤلاء قومٌ كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين، ثم ذكرهم بنفسه الشريفة وطالبهم بالتفكير والتحقيق والبحث عن الحقيقة وأن لا يكونوا ناعقين مع كل ناعق.

أيها الناس: انسبوني من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه، وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه، أوليّس حمزة سيد الشهداء عم أبي، وإن كذبتموني فإن فيكم من إذا سألتموه أخبركم سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لي ولأخي أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي..".

فقد اعتصم الإمام بالمنطق في التحاجج مطالباً أهل الكوفة بأن يستخدموا ما أعطاهم الله من عقل وفكر وأن لا ينساقوا كالهمج الرعاع، وبذلك وضع الإمام يده على الجرح عندما أراد أن يحررهم من استبداد القوة والدعاية والفكرة وأن يمنحهم قوة الشخصية لكي يفكروا ويتساءلوا ويبحثوا عن الأمور بأنفسهم، ولم ينسَ الإمام أن يستخدم أسلوب العتاب، لأن في العتاب علاج للكثير من حالات الانهزامية والازدواجية: "فهلالكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن والرأي لما يُستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الربا، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش ثم نقضمتوها ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون أجل والله غدر فيكم وشجت عليه أصولكم وتأزرت فروعكم(1).

 

سادساً: الوعظ بترك الدنيا.

كان السبب الأول لتردي أهل الكوفة هو حب الدنيا والطمع بما وعدهم ابن زياد، فقد ركّز الإمام خطاباته في هذا الجانب مطالباً أهل الكوفة بان ينزعوا عن قلوبهم حب الدنيا.

أيها الناس؛ إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناءٍ وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها وتخيب طمع من طمع فيها.

وكان الإمام ينطلق في موقفه هذا من رؤية ثابتة بأن حب الدنيا هذا الذي جمع هؤلاء وجاء بهم إلى حربه فقد ذكر هذه الحقيقة: "الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم".

وجذور هذه الظاهرة هي ضعف العقيدة وحب الدنيا ونتيجة هذه الظاهرة هي التضحية بالدين من أجل الدنيا، وليّس العكس.

وقد أثّرت هذه الطريقة التي استخدمها الإمام الحسين (عليه السلام) أثّرت في عدد كبير من جيش عمر بن سعد، فذكر المؤرخون عددهم زهاء ثلاثين نفراً، هذا هو الأثر المباشر لكلام الإمام الحسين (عليه السلام)، أمّا الأثر غير المباشر فنجده في يقظة ضمائرهم وتحريك وجدانهم فيما بعد، وهذا ما كان يتمناه الإمام الحسين (عليه السلام)، فكان يعمل على معالجة أمراض الأمة علاجاً طويل المدى، ويهيئها للمستقبل إذ كان على يقين بأن القيود التي قيدّت الأمة نفسها لا يجعلها قادرة على تغيير واقعها، وبمجرد أن تضمحل هذه القيود التي ما هي إلاّ أوهام سرعان ما تتبدد ستجد الأمة نفسها أقدر على القيام بالثورة ممّا سلف، وهذا هو بالضبط ما حدث فعلاً، فقد انقلبت الأمة على واقعها المريض بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، واستيقظت من غفوتها الطويلة، وذلك بتأثير كلمات أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، وبتأثير الخطب السحرية التي ألقاها كلاً من الإمام زين العابدين (عليه السلام) والعقيلة زينب وبقية العترة الطاهرة من أهل البيت الذين أسروا بعد واقعة كربلاء والذين كان لهم دور مهم في تحريك مشاعر أهل الكوفة، وفي تفجير مشاعر الغضب ضد الحكم الأموي فتحول العالم الإسلامي إلى بركان يفيض بالحمم المستعرة أدى في النهاية إلى سقوط الحكم الأموي.

 

المبحث الأول: الخطط السياسية.

لكل ثورة منهج سياسي تسير وفقه لتحقيق أهدفها، وبدون هذا النهج تضيع الأهداف وتختلف المبادئ ويصبح من العسير التحرك في المجتمع والمطالبة بأهداف الثورة.

وكان لثورة الإمام الحسين نهجاً سياسياً يتفق وأهدافها، وينطلق هذا المنهج من القيم الإسلامية الكبرى، التي جاءت متمثلة بالإمام الحسين  (عليه السلام).

ويقوم المنهج السياسي لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) على هذه المبادئ:

 

أولاً: مبدأ المشروعية الإسلامية.

لا شك أن مشروعية ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) محققه لكونه ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وانه الإمام بعد أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخيه الحسن، وإنه من الخمسة أصحاب الكساء، ومن الذين نزل الوحي في بيوتهم، فشخص الإمام الحسين (عليه السلام) هو نبع الشرعية وهو معيار لكل مشروعية سواء في الفكر أو السلوك.

وهذهِ حقيقة ليست بخافية على أحد حتى على أؤلئك الذين حاربوه وقاتلوهُ، فهم رفعوا سيوفهم بوجهه مع علمهم الجازم بأنه يمثل الشريعة الإسلامية. لكن وبغض النظر عن هذه الناحية فإن أهداف كل ثورة ومنطلقاتها هي أيضاً تمنح مشروعية لهذه الثورة أو عدم مشروعيتها، فما هي أهداف ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) .

جاء في وصية الإمام إلى أخيه محمد بن الحنفية: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلاّ الله وحدهُ لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، جاء بالحقِّ مِن عند الحقِّ وانّ الجنةِ والنار حقِّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في اُمة جدي (صلى الله عليه وآله وسلم) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي)(2).

وتتجلى في العبارة الأخيرة المشروعية الدينية لحركة الإمام في قولهُ (إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في امة جدي) ولما كان الإصلاح فرضاً واجباً،وأكدّ الإمام وجوبه بصورة قطعية عندما أعلن قائلاً أن الإصلاح يتمُ في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا في الإطار النظري أماّ في الإطار العملي فإنّ إعلان الإمام أكد على التزامهِ بنهج رسول الله ونهج أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) . وقد وَجَدَ الإمام (عليه السلام) نفسه مسؤولاً عن أداء هذهِ والفريضة.

ولو تمعنّا في أقواله التي قالها عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعرفنا مدى التزامه بهذه الفريضة الدينية، والكلام طويل في هذا الباب نقتصر على بعض الأحاديث.

1- إنما عاب الله ذلك عليهم ( بني إسرائيل) لأنهم كانوا يرون الظلمة الذين تبين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك فيما كانوا ينالون منهم ورهبة مما يحذرون والله يقول[فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ] وقال[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ] فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها قد أديت وأقيمت واستقامت الفرائض كلها هينّها وصعبها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعاء إلى الإسلام مع رد المظالم ومخالفة الظالم وقسمة الفيء والغنائم وأخذ الصدقات مِن مواضعها، ووضعها في حقها(3).

ولا جدال أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحدى الواجبات الأساسية في الإسلام فقد ورد في القرآن الكريم[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ](4) والمعروف يشمل كل أمرٍ فيه خير وصلاح الأمة، ومنه إزاحة الظالمين الذين يعيثون في الأرض فساداً، وقد اجمع المسلمين على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يقول التفتازاني في شرح المقاصد: (قد أطبق الكتاب والسنّة والإجماع على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( ، فالمراد بالمعروف الواجب، والمنكر الحرام.. ثم يقول.. أما الكتاب فقوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ] وقوله تعالى[وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ] ، وأما السنة فلقوله (عليه السلام) : (مر بالمعروف وأنه عن المنكر،وأصبر على ما أصابك)(5) وقوله (عليه السلام) : (لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطنّ الله عليكم شراركم ثم يدعوا خياركم فلا يُستجاب لكم) وقوله (عليه السلام) :(من رأى منكم منكراً فلغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه فإن لم يستطيع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان.

وأما الإجماع فهو أن المسلمين في الصدر الأول وبعده كانوا يتواصلون بذلك ويوبخون تاركه مع الاقتدار عليه.

ثم يقول: كان المسلمون في الصدر الأول وبعده يأمرون الولاة بالمعروف، وينهونهم عن المنكر مِن غير نكير مِن أحد ولا توقيف على إذن،فعلم أنه لا يختص بالولاة بل يجوز لآحاد الرعية بالقول والفعل، لكن إذا انتهى الأمر إلى نصيب القتال، وشهر السلاح، ربط بالسلطان، حذراً عن الفتنة، كذا ذكر إمام الحرمين، وقال: (إن الحُكم الشرعي إذا استوى في إدراكه الخاص والعام ففيه للعالم وغير العالم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا اختفى مدركه بالاجتهاد، فليس للعوام فيه أمرّ ونهي، بل الأمر فيه موكول إلى أهل الاجتهاد ثم ليس لمجتهد أن يتعرض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موضع الخلاف، إذ كل مجتهد مصيب في الفروع عندنا)(6).

والرجوع إلى المجتهد هو لمعرفة مدى الصلاح في تنفيذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أستدعى حمل السلاح، إذ لربما أدى الأمر بالمعروف إلى ارتكاب المنكر ولا يشك أحد مِن أصحاب المذاهب الإسلامية بأنّ الإمام الحسين (عليه السلام) هو مِن أهل الاجتهاد، فقد قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)(7) ويقول الغزالي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أن ذكر الحديث الشريف (أفضل الجهاد كلمة حقٍ عند سلطانٍ جائر) ولما علم المتصلبون في الدين أنّ أفضل الكلام كلمة حقً عند سلطانٍ جائر، وأنّ صاحب ذلك إذا قُتل فهو شهيد، كما وردت به الأخبار، قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك ومحتملين أنواع العذاب وصابرين عليه في ذات الله تعالى، ومحتسبين لما يبذلونه مِن مهجهم عند الله(8).

وذكر محمد رشيد رضا أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عدة مواطن في (تفسير المنار)، يقول في إحدى هذهِ المواطن: (وقد جرت سنة الأنبياء والمرسلين والسلف الصالح على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان محفوفاً بالمكاره، وكم قُتل في سبيل ذلك منهم مِن نبيّ وصديقٍّ)(9)

ثم يقول في مواطن آخر: (جملة القول أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض حتم على كل مسلم كما تدلُّ  عليه الآية [وَلْتَكُنْ..] في ظاهرها المتبادر وغيرها مِن الآيات، وكذلك عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه(رضي الله عنهم)، وكون هذا حفاظاً للأمة وحرزاً ظاهراً فإنّ الناس إذا تركوا دعوة الخير وسكت بعضهم لبعض على ارتكاب المنكرات خرجوا مِن معنى الأمة،وكانوا أفذاذاً متفرجين لا جامعة لهم(10).

بعد كل ذلك فلا حجة لأحد مهما كان مذهبه أن يؤاخذ الإمام الحسين (عليه السلام) على ما قام به من ثورة لأنه كان ينطلق مِن مبدأ إسلامي، إذ كان الواجب عليه الامتثال لواجب شرعي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

ثانياً: مبدأ احترام العهود والمواثيق:

ليست الثورة فوضى أو هياج لا ضابط لها بل هي التزام واحترام للقوانين والأعراف، وبدون التزام الثورة بالقانون لا تستطيع أن تتغلغل إلى أعماق النفوس ولا تتمكن مِن التأثير في الناس.

وقد رعا الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه المواثيق حق رعايتها، وإنه دفع ثمن التزامه بهذهِ المواثيق باهظاً، وأثبتتّ ثورته أنها تحترم نفسها باحترامها لها المواثيق والعهود وسنذكر بعض هذه العهود والمواثيق:

 

1- عهده لمعاوية بن أبي سفيان.

يقول الشيخ المفيد: روى الكلبي والمدائني وغيرهما مِن أصحاب السيرة قالوا: لما مات الحسن (عليه السلام) تحرّك الشيعة بالعراق وكتبوا إلى الحسين (عليه السلام) في خلع معاوية والبيعة له، فأمتنع (عليه السلام) : وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضهُ، متى تمضي المدة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك(11).

 

2- عهده للحر بن يزيد الرياحي.

التقى الإمام الحسين (عليه السلام) في الطريق بالطرماح فأقترح عليه أن يأتي إلى حيِّهم، ومنطقتهم وكانت حصينة ومنيعة بالجبال، وذكر له أنّ هناك عشرون ألفاً من الرجال على استعداد لأن يُقاتلوا معه، يذكر الطبري تفصيل هذا المقترح: (فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجأ امتنعنا والله به من ملوك غسّان وحمير ومن النعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر والله إن دخل علينا ذل قطُّ فأسير معك حتى أنزلك القرية ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ سًلمت من طيء فوالله لا يأتى عليك عشرة أيام حتى يأتيك طيء رجالاً وركباناً ثم أقم فينا ما بدا لك فإن هاجك هيجٌ  فأنا زعيمُ لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يُوصل إليك أبداً ومنهم عينِّ تُطرف(12).

فكرة مغرية سيما بعد أن ثبت للإمام الحسين خيانة أهل الكوفة،فماذا كان جواب الإمام على هذا المقترح؟

قال له: (جزاك الله وقومك خيراً إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولُ لسنا نقدر معهُ على الانصراف)(13) ويقصد بذلك الاتفاق الكلامي الذي تم بينه وبين حر بن يزيد الرياحي أن لا يغادر مكانه حتى يأتي الجوابّ من عبيد الله بن زيارة؛ إلى هذا الحد يحترم الإمام الاتفاقيات حتى لو كانت غير منطقية وحتى لو كانت شفهية.

 

3- امتناع مسلم بن عقيل عن قتل عبيد الله بن زياد.

أراد عبيد الله بن زياد أن يزور شريك لما سمع بمرضه، فأرسل إليه أني رايحٌ إليك العشية فقال لمسلم أنّ هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس فأخرج إليه فأقتله ثم أقعد في القصر ليس أحد يحُول بينك وبينه فإن برئت مِن وجعي هذا أيامي هذه وسرْت الى البصرة وكفيتك أمرها فلما كان مِن العشي أقبل عبيد الله لعيادة شريك فقام مسلم بن عقيل ليدخل، وقال له شريك: لا يفوتنك إذا جلس فقام هانيء بن عروة اليه فقال: اني لا أحبّ أن يُقتل في داري كأنهُ استقبح ذلك فجاء عبيد الله بن زياد فدخل فجلس، فسأل شريكاً عن وجعه، وقال: ما الذي تجدُ ومتى اشكيت، فلما طال سؤاله إياه ورأى أنّ الآخر لا يخرج خشي أن يفوته فأخذ يقول:

ما تنظرون بسلمى أن تحيوها*****اسقنيها إن كانت فيها نفسي

فقال ذلك مرتين أو ثلاثة فقال عبيد الله: ولا يفطن ما شأنه أترونه يهجُر، فقال له هانيء: نعم أصلحك الله ما زال هذا دَيدنه قُبيل عماية الصبح حتى ساعة هذهِ، ثم انه قام فأنصرف، فخرج مسلم فقال له شريك: ما منعك من قتله.

فقال: خصلتان أما إحداهما فكراهة هانيء أن يُقتل في داره وأما الأخرى فحديثُ حدثهُ الناس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) :"إن الإيمان قيد الفتك، ولا يُفتُك مؤمن".

فقال هانيء: "أما والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً غادراً، ولكن كرهتُ أن يُقتل في داري(14).

وهكذا وجدنا مسلماً وقد ضحى بفرصة ذهبية كانت لربما قد غيرت مجرى التاريخ، لكن التزامه بالعهود والمواثيق وتقيده بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يُعتبر قانوناً للمسلمين هو الذي منعه مِن قتل عبيد الله بن زياد وهو قادمُ إلى عيادة مريض.

وعلى فرض قيام مسلم بقتل عبيد الله بن زياد ربما كان الإمام الحسين قد انتصر في معركة مع يزيد بعد إذعان الكوفة والبصرة له، لكن كان يُسجِّل في التاريخ أنّ الثورة انتصرت بأساليب ملتوية، إذ كانت الغاية لا تبرر الوسيلة في ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) على ما جبل به أعدائه الذين لم يتركوا وسيلة غير مشروعة وغير إنسانية إلاّ واستثمروها في حربهم ضد الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، منعوا منهم الماء، وقتلوا الأطفال وروعّوا النساء.

ولم يتركوا أية فرصة في الغدر والمكر إلاّ واستثمروها. فلو كان الإمام قد أخذ بهذهِ الأساليب فما كان الفرق بينه وبين أولئك الغدَرة.

وهنا لا بُد من الإشارة إلى حادثة ذكرناها سلفاً، حيث ذكر بعض المؤرخين أنّ الإمام صادر أموالاً ليزيد في التنعيم بعثها واليه في اليمن ( بجير بن يسار).

والحادثة مختلقة، ولربما كان خلفها أصابع أموية تريد إظهار الإمام الحسين (عليه السلام) بمنظرٍ عدواني ، باغٍ وقاطع طريق، والرد على مثل هذا الادعاء بالإضافة إلى ما ذكرناه في الفصل السابق أن كل الذين أرخوا للحادثة لم يذكروا أية عبارة تشير إلى معنى المصادرة والاستيلاء بالقوة ، بل أكتفوا قائلين: " فأخذها الحسين فأنطلق(15) وهذه العبارة لا تحمل دلالة المصادرة والاستيلاء بالعنف.

 

ثالثاً: مبدأ الحوار:

الثورة ليست عملية انتقام، بل هي رسالة تغييرية وتنتهج سبيلاً إصلاحياً حتى مع أعدائها. فالثورة التغيرية هي التي تمنح الفرصة حتى لأعدائها، هكذا ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهكذا يجب أن يكون المسلك السياسي لكل الثورات فقد التزم الإمام بمبدأ الحوار مع أعدائه، وكان باستمرار يدفع بالاتجاه الإيجابي نحو فتح مجالات الحوار، وكلما آلت فرص الحوار إلى الانهيار أقامها الإمام مِن جديد، فلم يُضيع أية فرصة سنحت له في هذا المجال، وقد أفلح في جميع حواراته مع أصدقائه أو أعدائه، حتى لو فشلت حواراته مع البعض كعمر بن سعد مِن تحقيق كامل أهدافها إلاّ أنها حققت الكثير مِن الغايات، وسنتناول هذه، الحوارات بصورة منفردة.

 

1- الحوار مع الحر بن يزيد الرياحي:

ذكر لنا الطبري تفصيل هذا الحوار، فبعدَ أن ذكرّ الإمام أهل الكوفة بالرسائل التي بعثوها إليه طالباً منه الرحيل إليهم قال الحر بن يزيد: إنا والله ما ندري ما هذهِ الكُتب التي تذكر، فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان، اخرج الخرجَيْن اللذين فيهما كتبهم إليَّ فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنشرها بين أيديهم فقال الحر: فإنا لسنا مِِن هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك ألاّ نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد، فقال له الحسين: الموتُ أدنى إليك من ذلك، ثم قال لأصحابه قوموا فأركبوا، فركبوا حتى أركبت نساؤهم فقال لأصحابه انصرفوا بنا فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين للحر ثكلتك أمك ما تُريد؟ قال: أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذِكرْ أمه بالثكل أن أقوله كائناً من كان، ولكن والله ما لي إلى ذِكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن ما يقدر عليه، فقال له الحسين: فما تريد قال الحر: أريد والله أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد قال له الحسين: إذن والله لا اتبعك، فقال له الحر: إذن والله لا أدعك فترادّا القول ثلاث مرات، ولما كثر الكلام بينهما قال له الحرّ: إني لم أومر بقتالك وإنما أُمرِرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة لتكون بيني وبينك نصفاً حتى أكتب إلى ابن زياد وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه أو إلى عبيد الله بن زياد أن شئت فلعّل الله إلى ذلك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن ابتُلي بشيء من أمرك(16). واستمر الحوار بينه وبين الحر في مواقف أخرى والذي يهمنا في هذا الحوار الذي أخذ شكل المفاوضات الأمور التالية.

أ-  ثبات الإمام عند أهدافه وعدم تنازله عن حقه وعن مبدئهِ.

ب-التحاور بمنطق الإنسان القوي، وليس الإيمان الضعيف.

ح- الوصول إلى نتيجّة من الحوار هو الاتفاق الكلامي ابُرم بين الإمام والحر، وقد رعا الإمام هذا الاتفاق أفضل رعاية.

 

2- الحوار مع عمر بن سعد:

ذكر لنا الطبري تفاصيل هذا الحوار برواية هانيء بن شبيت الحضرمي: " بعث الحسين (عليه السلام) إلى عمر بن سعد عمرو بن قرُظة بن كعب الأنصاري أنِ اُلقني الليل بين عسكري وعسكرك، قال: فخرج عمر بن سعد في نحو من عشرين فارساً وأقبل حسين في مثل ذلك قال: فأنكشف عنهما بحيث لا تسمع أصواتهما ولا كلامهما فتكلما فأطالا حتى ذهب من الليل هزيعٌ ثم أنصرف كل واحد منهما إلى عسكره بأصحابه وتحدّث الناس من بينهما ظناً يظنون أن حسيناً قال: لعمر بن سعد أخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكريْن قال عمر: إذنْ تهدم داري، قال: أنا أبنيها لك قال: إذن تُوخذ ضياعي، قال: إذن أعطيك خيراً منها من مالي بالحجاز قال: فتكّره ذلك عمر، قال: "فتحدث الناس بذلك وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك  شيئاً ولا علموه(17)

يبدو مما ذكره الطبري في هذه الرواية أن القول بأنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) طلب من الجيش الذي جاء إلى قتاله بأن يتركوه ليذهب إلى يزيد مجرد سيناريو بثه الأمويون لإضعاف عزيمة الثوار، وهذا ما نلاحظه من عبارته "وتحدّث الناس فيما بينهما ظناً يظنونه أنّ حسيناً قال لعمر بن سعد أخرج معي إلى يزيد بن معاويةً، والراوي أيضاً يشكك بالخبر عندما أكدّ قائلاً ظناً يظنونهُ، أما الطبري فقد أورد رواية مغايرة لهذهِ الرواية عن عقبة بن سمعان وهو أحد المرافقين الدائمين للإمام، قال: " صحبتُ حسيناً فخرجتُ معه من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق، ولم أفارقه حتى قُتل وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة إلى مكة أو من مكة إلى العراق، ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلاّ وقد سمعتها ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس، وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية ولا أن يُشير إلى ثغرٍ من ثغور المسلمين(18) ويبدو أنّ هذه الدعاية الأموية قد تسربتِ وانتشرت حتى بعد وقوع الواقعة مما دفع بعقبة بن سمعان إلى تكذيبها ومع الأسف لا زالت أقلام البعض إلى يومنا هذا تنشر هذهِ الأكاذيب والدعايات المضللة التي منشؤها بنو أمية أنفسهم.

ومما يزيد من هزال هذه الدعاية ما ورد في رواية هانيء بن ثبيت {ثبيط} الحضرمي، فقد أشارت إلى مقترح  الإمام بأن يذهبا إلى يزيد ويتركا العسكر فقال عمر بن سعد: إذن تهدم داري. فكيف يا ترى من ممكن التوفيق بين هذا الجواب مع ذلك المقترح.

من هنا، فالمقترح الذي ينسجم مع جواب عمر بن سعد الذي رواه هانيء والذي يتضمن الخوف من هدم داره هو مارواه محمد بن أبي طالب والذي أورده السيد ابن طاووس في اللهوف نصهُ: " فقال له الحسين (عليه السلام) : ويلك يا ابن سعد أما تتقي الله الذي إليه معادُك أتقاطعني وأنا ابنُ من علمت؟

"ذرْ هؤلاء القوم وكن معي، فإنه أقرب لك إلى الله تعالى، فقال عمر بن سعد: أخاف أن يهدم داري(19) فهذا الجواب ينسجم مع هذا المقترح وليس المقترح السابق، أي الذهاب إلى يزيد، لأنّ الذهاب إلى يزيد يؤدي إلى هدم بيتهِ.

وقد أستمر التحاور بين الإمام الحسين وعمر بن سعد عدة مرات، فعن أبي مخنف أنهما كانا التقيا مراراً ثلاثاً أو أربعاً حسين وعمر بن سعد(20) حتى أن عبيد الله بن زياد اغتاظ كثيراً عندما بلغته أنباء هذهِ اللقاءات، فكتب إليه: "أما بعدُ فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه سلامة البقاء ولا لتقعد له عندي شافعاً(21) فأنقطع الحوار على أثر هذهِ الرسالة التي فيها توبيخ وعتاب.

 

 

الهوامش:

1- الطبري: 4/323.

2- الحراني: تحف العقول، ص168.

3- الحراني: تحف العقول، ص168.

4- آل عمران: ص110.

5- رواه أحمد في المسند: ح 299.

6- شرح المقاصد: 5/ 173- 174    .

7- الغزالي: إحياء علوم الدين، 2/371، دار الفكر   .

8- المصدر نفسه.

9- المنار: 4/32 ، دار الفكر   .

10- المسند: رقم 4/ 35

11- الإرشاد ، ص182.

12- الطبري: 4/ 307.

13- المسند ، رقم 4/ 307.

14- الطبري:4/ 271 .

15- المصدر نفسه، 4/290.

16- الطبري: 4/ 304.

17- الطبري: 4/312- 313 .

18- المصدر نفسه:  4/313.

19- ابن طاووس: الملهوف في قتلى الطفوف، ص79.

20- الطبري: ع/ 303.

21- المصدر نفسه: 4/ 313.